صدر عدد جديد من مجلة «المصادر»، الصادرة عن المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954. وتضمّنت هذه المجلة الأكاديمية نصف السنوية مقالات متنوّعة، تطرّقت إلى مسألة الوقف والحبوس، والمسؤولية عن مجازر الثامن ماي، والسياسة الخارجية لجبهة التحرير الوطني ودبلوماسية الثورة الجزائرية في الفضاء الأمريكي والأوروبي، والبعد المغاربي والأفريقي لهذه الثورة.
مجلة «المصادر ــ دراسات في المقاومة الشعبية والحركة الوطنية والثورة أول نوفمبر 1954» هي مجلة أكاديمية نصف سنوية محكمة، تصدر عن المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، وتعنى بنشر المواد العلمية والأوراق البحثية من المقالات والبحوث، وكل ما له علاقة في محتوى مضمونه بتاريخ الجزائر المعاصر في كل جوانبه، سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، خلال الفترة الممتدة ما بين 1830 و1962، ضمن مجال التأريخ للمقاومة الشعبية المسلحة ضد الاستدمار الفرنسي، وكذا البحث في أصول الحركة الوطنية والعمل السياسي، ودراسة كل ما له علاقة بجذور الثورة التحريرية والعمل المسلح من أجل استرجاع السيادة الوطنية.
من جهته، يتمثل دور المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954 ــ جهة إصدار المجلة ـ كمؤسّسة عمومية ذات طابع علمي وتكنولوجي، في: إجراء الدراسات المتعلقة بالمقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة التحرير الوطني وتشجيع البحث فيها وترقيته، وجمع المعطيات والوثائق والمواد المتعلقة بموضوعه ومعالجتها، ونشر المعارف المتعلقة بميدان اختصاصه، واقتراح تدابير من شأنها إثراء برامج التعليم المتعلقة بالمقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة التحرير الوطني، وتنظيم الندوات والملتقيات الوطنية والدولية والمشاركة فيها، وإجراء الدراسات المتعلقة بالمقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة التحرير الوطني وتشجيعها.
كما نجد من بين الأدوار المنوطة بالمركز، تفعيل البحث على الوثائق المتعلقة بالتراث التاريخي والثقافي ذات الصلة بالحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، وتنشيط وتشجيع الدراسات التاريخية المتعلقة بميدان اختصاصه، وجمع المصادر غير المطبوعة كالشهادات الحية للأحداث التاريخية بواسطة الأجهزة السمعية والسمعية البصرية، والمشاركة في نشر المعلومات من خلال إصدار المجلات والكتب باختصار المشاركة في إثراء المنظومة التربوية والثقافية بإبراز الحقيقة عن طريق نزع بصمات الاستدمار من التاريخ، وإعادة كتابته بأقلام وطنية.
وعليه، فقد اختار «المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954»، أن تكون مجلة «المصادر» لسان حاله، نشرا للدراسات والأبحاث ذات العلاقة بالتاريخ الوطني الجزائري المجيد.
جرائم الاستعمار
أوّل ما افتتح به العدد مقالاته، كان مقال «الوقف في الجزائر بين وظيفة المنفعة في أواخر العهد العثماني إلى عملية المصادرة خلال الفترة الاستعمارية»، للباحث أحمد مريوش. وحسب هذا الأخير، فإنّ الوقف يمثل أحد المظاهر الحضارية في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، وقد أولت له الجزائر العثمانية أهمية كبيرة لما كان يساهم به من فوائد خيرية على مؤسسات مجتمعية دينية وثقافية منها أو اجتماعية وحتى سياسية، وكانت السلطة دوما تراهن على استمرارية بقاء مؤسسات الوقف وازدياد الحبوس على شكل أنماط متنوعة بداخل الوطن وخارجه كي تصب في تفعيل الخير ونشر ثقافة التماسك المجتمعي. لكن احتلال الجزائر عنوة في صائفة 1830 من قبل الاستعمار الفرنسي، جعل هذا الأخير منذ الوهلة الأولى يستولي على الوقف ويصادر أملاكه بغرض تمكين تواجده من الوجهة المادية وإزالة حواجز توسعه الاستيطاني، وقام بالمصادرة والحجز وكذا غلق مؤسسات الدعم الخيرية للجزائريين، واستمرّت تلك السياسة خلال مرحلة الحكم العسكري والمدني على الرغم من ردود الفعل الجزائرية المستنكرة لتلك السياسة من خلال كتابة العرائض وتمثيل الوفود ومطالب التيارات السياسية الوطنية على مختلف مشاربها.
من جهته، يؤكّد الباحث حسان مغدوري في مقاله «مأساة 8 ماي 1945 بين الواقع التاريخي والادعاءات السياسية على ضوء نماذج من الأرشيف»، يؤكّد أنّ مجازر 8 ماي 1945 تبقى، بعدد ضحاياها، محطّة لافتة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، فهي تعبر عن مرحلة تاريخية كان فيها العالم يمر بتحولات عميقة في النظم السياسية وفي المفاهيم الفكرية، وتزامنت مع توقيع الهدنة لوقف الحرب العالمية الثانية ومع الاستعداد للاحتفالات، ويتساءل الباحث: «وهل كان بالإمكان معاقبة شعب تقدم بمشاركة ما يناهز 300 ألف جندي حاربوا إلى جانب فرنسا في جبهات القتال ووطن عد خزانا للثروة ومستودعا لسواعد الرجال من أجل إنقاذ «فرنسا الأم» على حد وصف أحدهم؟».
ويضيف: «وعلى أيّة حال فإنّ هذه الحرب قد كشفت عن اختلالات عميقة في النظام الاستعماري الفرنسي بالجزائر، وعن تصاعد وعي وطني لافت كان يتغذى من رصيد الماضي في المقاومة، واستحكم في ظل تفاقم أزمة الجوع والمرض وأخذ يتبلور في تقارب نوعي بين التيارات الوطنية وفي ارتفاع سقف المطالب مع تأسيس أحباب البيان والحرية، وكشف عن حجمه في الثامن من ماي 1945، غير أنّ فظاعة الجريمة تطرح سؤالا جوهريا عن الأسباب القوية لموقف فرنسا العنيف»..ثم «من يتحمل مسؤولية الضحايا؟»، يتساءل الباحث.
ويقترح علينا مصطفى سعداوي مقالا تحت عنوان «قراءة سوسيو-تاريخية في ترقيم وإعادة ترقيم الوحدات الإقليمية للولاية الثالثة أثناء الثورة الجزائرية (1956-1962)»، وتتمحور هذه الدراسة حول ظاهرة استخدام الأرقام أو الأعداد بدل الأسماء في تعيين الوحدات الإقليمية أثناء الثورة الجزائرية، وتنطلق من فرضية مفادها أن الرقم كما يعبر عن الكم والمقدار والترتيب، هو أيضا بوصفه مقولة اجتماعية، يعبر عن أحوال كيفية صرفة تنبع من جوف المجتمع وتسبح في فضائه الثقافي وتتشابك مع بنيانه العميق. وبما أنّ حجم الدراسة لا يسمح بمعالجة مجمل الظاهرة، فإنّها ركّزتْ على مشكلة محددة وهي ترقيم وإعادة ترقيم الوحدات الإقليمية للولاية الثالثة (1956-1962).
وفي هذا المسعى، حاولت الدراسة تجاوز المستوى السياسي-الإداري المتجلي حيث تؤدي الأرقام وظيفة تقنية محددة، لسبر الأغوار السوسيو-تاريخية العميقة بحثا عن المعاني الأنثروبولوجية الأعمق والدلالات التاريخية الأعقد لظاهرة الترقيم الإقليمي.
القضية الجزائرية في أمريكا وأوروبا
وفي مقاله «السّياسة الخارجية لجبهة التحرير الوطني تجاه بلدان أمريكا وأوروبا الغربية (1955-1960)»، يتناول عمر بوضربة السياسة الخارجية للثورة الجزائرية تجاه بلدان القارة الأمريكية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أمريكا الجنوبية، إضافة إلى سياستها تجاه بلدان غرب أوروبا والتي، في مجموعها، تشكّل حليفا طبيعيا (عسكريا واقتصاديا) لفرنسا، حيث ساندتها منذ بداية الثورة، ورغم ذلك لم تهمل جبهة التحرير الوطني هذا المجال الدبلوماسي الحيوي، وذلك بغية إحداث اختراقات في بعض أوساط الرأي العام الغربي، وبالتالي الحصول على بعض أوجه الدعم المادي للاجئين والطلبة الجزائريين، وحاول كاتب المقال التطرق إلى الاستراتيجية التي تعامل بها ممثلو بعثات جبهة التحرير مع هذه الأوساط الغربية.
كما تقترح علينا المجلة مقالا باللغة الإنكَليزية، تحت عنوان (قرار كينيدي لعام 1957 بشأن الثورة الجزائرية)، تتطرّق فيه الباحثة ليندا بلعبد الوهاب فرنيني إلى الخطاب المثير للجدل، الذي ألقاه السيناتور جون كينيدي أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 2 جويلية 1957، وكان عنوانه «الإمبريالية – عدو الحرية»، وانتقد فيه الاستعمار الفرنسي وأعلن دعمه لاستقلال الجزائر من خلال تقديم قرار لتحقيق حل في هذا الاتجاه. ولهذا السبب، أصبح خطابه هذا معروفًا باسم «خطاب الجزائر».
حينذاك، اعتبر كينيدي أنّ الإمبريالية هي العدو الرئيسي للحرية، وأنّ «نسختها الغربية كانت فظيعة مثلها مثل الشكل السوفياتي». وفي سياق الحرب الباردة، أثار الخطاب ردود فعل متباينة فورية من أمريكا وفرنسا والجزائر وأماكن أخرى. بل إنّ البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية وحلفاء أمريكا والصحافة انتقدوا خطابه. أمّا في العالم العربي، وفي الجزائر بشكل أكثر تحديدًا، فقد تم الترحيب بالخطاب بحرارة، لأنّه مثل دعمًا سياسيًا رسميًا لصالح استقلال الجزائر، دعم قادم من سياسي بحجم كينيدي.
وتضيف الباحثة أنّه، حتى وإن صار موقفه أقلّ حدّة حينما تولى الرئاسة، إلاّ أنّ كينيدي قد لعب دورا هاما وجب الاعتراف به في تدويل قضية التحرر الجزائرية، في وقت كان ينظر إليها كثيرون على أنها شأن داخلي فرنسي.
ثورة الجزائر في الفضاء المغاربي
وتطرّقت نفيسة دويدة، في مقالها «البعد المغاربي والإفريقي للثورة الجزائرية (دراسة من خلال المواثيق الرسمية)»، إلى المواثيق الرسمية للثورة التحريرية، التي تعدّ مصدرا هاما يمكن للباحث أن يستند إليه باطمئنان في دراسة عدة مواضيع تتعلق بالثورة؛ باعتبارها نصوصا ذات صبغة رسمية، وهي صادرة باسم الثورة؛ أي أنها تحظى بالإجماع (أو على الأقل التوافق)، وكذلك بالنظر لمحتواها ومضامينها التي تعكس المنحى التطوري النظري والإيديولوجي للثورة، وهي ترصد مختلف القضايا والمواقف والرؤى المتعلقة بالجزائر، ليس خلال فترة الثورة فحسب، وإنما حتى ما قبلها وما بعدها. وعليه فقد اختارت الباحثة أن يكون موضوع هذه الدراسة ممثلا في البعد المغاربي والإفريقي للثورة من خلال المواثيق الثورية، وحاولت تبيان اهتمام الثورة بمحيطها الإقليمي، سواءً على مستوى المغرب العربي، أو حتى على صعيد القارة الإفريقية، ومتابعة تطور هاذين الجانبين – وفقا للمواثيق – مع تطور الثورة، وذلك بدراسة وتحليل المضامين الكثيرة الواردة فيها، وأخيرا محاولة إعطاء مقاربة بين البعدين من حيث الأهمية والفوارق الزمنية والمكانية.
من جهته، يتطرّق عبد الله مقلاتي، في مقاله «أحمد التليلي ومهمات الدعم التونسي للثورة الجزائرية»، إلى الزعيم التونسي أحمد التليلي الذي يعدّ من بين الشخصيات الفاعلة في العمل التحرري المغاربي، وقد ارتبط بحركة التحرر الجزائرية وبمشروع وحدة المغرب العربي، وكان بذلك أنموذجا للنخبة المغاربية التي تؤمن بفكرة التحرر والوحدة والديمقراطية في المغرب العربي. وتتبع هذا البحث مواقفه من الثورة الجزائرية، وقد تبين من خلال الاطلاع على كثير من المصادر الجديدة أن التليلي سخّر جهوده لدعم الثورة الجزائرية وربط علاقات وثيقة مع قادتها، وكان أمله واسعا في نجاح الثورة الجزائرية لتكون خير تجربة تحررية عربية وعالمية تحقق آمال الشعوب في التحرر والعدالة والديمقراطية.
أمّا مقال الباحثتين رانية مخلوف ومليكة بلقاضي، الذي حمل عنوان «دور المرأة الليبية في الثورة الجزائرية»، فنجد فيه كيف كان الشعب الليبي من السباقين لدعم كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت مواقفه بارزة ومميزة من حيث أن علاقته مع الشعب الجزائري كانت لها خصوصية مميزة، تحدد وتبرز قوة اندفاع الشعب الليبي واحتضانه للثورة. وفي هذا الجانب تظهر مدى روعة صور تضامن المرأة الليبية مع شقيقتها الجزائرية، بحيث كانت النسوة الليبيات يقدمن حليهن ومجوهراتهن ويتبرعن بها إلى الثورة الجزائرية، ومثل هذه المواقف الوطنية عبّرت بصدق عن دعم المرأة الليبية للثورة الجزائرية، وجعلتها جزءاً من حياتها اليومية.