يندرج آخر إصدار للدكتور مولود قرين الموسوم “النخبة الجزائرية: مرجعيات، تيارات، مواقف واهتمامات 1892- 1927م” الصادر عن دار ومضة للنشر والتوزيع، ضمن التاريخ الثقافي للجزائر، باعتبار أن المقاومة الثّقافية كانت جزءاً مهما من المقاومة الجزائريّة ضّد الاحتلال الفرنسيّ.
إن النّخبة على اختلاف أطيافها هي الّتي حملت لواء المقاومة الثّقافية، وحاولت بما طرحته من أفكار منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن تؤسّس مشروعا ثقافيا قادراً على التصدّي للمشروع الفرنسيّ الاستعماريّ. كما غرست بجملة مطالبها وعياً سياسيا بدأ يتبلور شيئاً فشيئاً، إلى أن نضج في شكل أحزاب سياسية منذ عشرينيات القرن الماضي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن مرحلة أواخر القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، تعتبر مرحلة مهمة في تاريخ الحركة الوطنيّة الجزائرية، ولبنة أساسية في بناء الوعي الوطني، وإطارا مرجعياً استمدت منه الحركة الوطنية توجهاتها فيما بعد، فلا يمكن فهم الحركة الوطنية الجزائرية بتشكيلاتها المختلفة إلا بفهم دقيق لهذه المرحلة، الّتي كانت بمثابة مرحلة المخاض الذي أدى إلى ولادة أحزاب واتجاهات الحركة الوطنيّة الجزائريّة منذ النّصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي.
الكشف عن ملامح النخبة الجزائرية
يحاول الكتاب الكشف عن ملامح النخبة الجزائرية، وتكونها الفكري والإيديولوجي، وكذا أصولها الاجتماعية، ونظرتها إلى عديد المسائل التي طرحت على الساحة الوطنية والعربية الإسلامية حينئذ. ومن بين التساؤلات التي يحاول الإجابة عنها، بداية بمفهوم النخبة في حدّ ذاته الذي لا يزال إلى يومنا هذا يشوبه نوع من الغموض، جعل الكثير من المهتمين يطلقون مصطلح “النخبة” على أقلية من الجزائريين تخرّجت من المدرسة الفرنسية، وتأثرت بشعارات الحضارة الغربية ونادت إلى تطبيقها في الجزائر، في حين أن النخبة تشمل كل الفئات الريادية من المسلمين الجزائريين، الذين أتاحت لهم ثقافتهم ومكانتهم الاجتماعية التعبير عن مطالب الجزائريين خلال أواخر القرن 19م وبداية القرن 20م.
كما حاولت هذه الدراسة الكشف عن ملامح التحوّل والانتقال من الجزائر القديمة (جزائر المقاومات والانتفاضات) إلى الجزائر الجديدة، ودراسة مطالبها، لاستنتاج مدى تماشيها مع
تطلعات الجماهير الشعبية
تضمن الكتاب بابين، الباب الأول جاء تحت عنوان: “تطوّر النخبة الجزائرية وملامحها”، وتندرج تحته أربعة فصول، الفصل الأول عبارة عن مدخل عام للدّراسة تحت عنوان: النخبة الجزائرية وسلطات الاحتلال (1830- 1892م)، حاول المؤلف من خلاله تحديد دلالات مصطلح النخبة، معتمدا في ذلك على مجموعة من النظريات الغربية والإسلامية التي حاولت أن تحدّد مفهوم النخبة. كما سعى إلى إبراز موقف بعض النخب الجزائرية من الاستعمار الفرنسي في بداية الاحتلال، وركز على وجه التحديد على “نخبة الحضر” في مدينة الجزائر، والنخبة الدّينية (المرابطين) ودورهم في المقاومات والانتفاضات الشعبية، وكذلك بعض الأسر النافذة وموقفها من الاستعمار، كما تطرّق الباحث في هذا الفصل إلى موقف الإدارة الاستعمارية من النخبة في بداية الاحتلال، ومصير النخبة في ظل قوانين الإدارة الاستعمارية.
أما الفصل الثاني المعنون بـ«انبعاث النخبة الجزائرية الجديدة ومرجعياتها الفكرية والسياسية” حاول الكاتب من خلاله مناقشة مفهوم النخبة الجزائرية وما طرحته من اختلافات بين المعاصرين لها والدّارسين لها على حدّ سواء، كما تناول فيه عوامل انبعاث النخبة الجزائرية وولادتها من جديد، مركّزا على دور المدرسة الفرنسية في ميلاد النخبة، وكذا دور المؤسسات التقليدية في الجزائر، إضافة إلى العوامل الخارجية والمتمثلة أساساً في دور الحواضر العلمية في المغرب والمشرق، وبين فيه كذلك ظهور البواكير الأولى للنخبة الجزائرية. كما تطرّق في هذا الفصل إلى مرجعيات النخبة والمؤثرات التي أثرت على فكرها محلياً وخارجيا.
في حين درس في الفصل الثالث الانتماءات الاجتماعية، والاتجاهات الفكرية للنخبة الجزائرية، تعرض فيه إلى الوسط الذي انحدرت منه النخبة الجديدة، وتطرّق إلى اتجاهاتها الفكرية، فقسمها إلى نخبة مفرنسة وأخرى معربة، وكل اتجاه تندرج تحته مجموعة من الاتجاهات الفرعية.
وتناول في الفصل الرابع وسائل النضال التي تبنتها النخبة الجزائرية للتعبير عن مطالبها خاصة الصحافة، والجمعيات والنوادي الثقافية، والوفود والعرائض والمسرح وغيرها من الوسائل.
مشاغل النخبة الجزائرية واهتماماتها
وجاء الباب الثاني تحت عنوان: “مشاغل النخبة الجزائرية واهتماماتها” وتندرج تحته خمسة فصول، في الفصل الأول من هذا الباب تعرض إلى موقف اتجاهات النخبة من الحضارة الغربية راصدا مواقفها، إماّ رفضاً وإماّ قبولاً وإماّ دعوة للتعايش الحضاري. أمّا الفصل الثاني فقد تطرّق فيه إلى مواقف النخبة من مختلف القضايا التي تسيّدت المشهد السياسي في الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كالتجنيس، والتمثيل النيابي، والتجنيد الإجباري، وقانون الأهالي وغيرها من القضايا.
وتعرّض في الفصل الثالث من الباب إلى نماذج من قضايا الإصلاح في اهتمامات النخبة الجزائرية، والمتمثلة في قضايا الإصلاح الديني والتربوي والاجتماعي. وجاء الفصل الرابع تحت عنوان “قضايا المغرب العربي”، حاول من خلاله رصد مواقف النخبة من بعض القضايا المغاربية، كإبراز اسهاماتهم في الحركة الوطنية التونسية، وعلاقتهم بحركة الشباب التونسي، وموقفهم من الغزو الايطالي لليبيا، وكذا الحماية الفرنسية على المغرب الأقصى، كما بين مظاهر ايمان النخبة الجزائرية بالوحدة المغاربية، وتطلعاتهم إلى تحقيقها. وعالج في الفصل الخامس مواقفها من قضايا الدولة العثمانية والمشرق العربي، موضحا موقفها من المسألة الشرقية، وكذا دعوتها إلى الجامعة الإسلامية، وموقفها من حركة الشباب التركي، وحاول أن يبرز مواقف بعض النخب الجزائرية من إلغاء الخلافة العثمانية، كما تعرّض فيه إلى موقفها من الحركة الاستعمارية في المشرق.
للإشارة، مولود قرين أستاذ محاضر في التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة يحيى فارس بالمدية، له كتب ودراسات ومقالات متخصّصة في تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ الثورة التحريرية.
ماشاء كتاب قيم يزيل الكثير من المناطق المظلمة من تاريخ الجزائر ولا سيما اسباب وظروف تشكل الحركة الوطنية والاصلاحية في الجزائر