هل هذا هو الجامع الجديد، أم الجامع الكبير؟.. طالما اختلطت الأسماء على الجزائريين، عامة وعلى النخبة وعلى السياح أيضا، إذ يسود اعتقاد أن الجامع الجديد الذي يقع بساحة الشهداء بمنارته المربعة التي تعلوها ساعة جدارية هو الجامع الكبير، نظرا لقربهما الشديد، فشتان بين الصّرحين الدينين كما هي الحال بين المذهبين المالكي والحنفي..
هنا تتوقف «الشعب» أمام تاريخ الجامع الجديد أو «جامع الساعة»، ووضعه الحالي، حيث لا يزال صرحا دينيا شامخا ينبض بالحياة إلى يومنا هذا، على بعد أمتار قليلة عن عدة معالم دينية بالقصبة، لترتسم معالم المحروسة، التي شهدت بناء 166 بقعة طاهرة خلال قرون خلت، قبل أن تنالها يد الغطرسة والطمس الاستعمارية، غير أن عظمة هذا الجامع التحفة بحي البحرية، لا يزال واحدا من بين أهم رموز ومعالم الجزائر التي تثير الإعجاب والانبهار.
دخلنا الجامع الجديد، وجلنا في أرجائه وحوله، وجدناه فعلا تحفة معمارية نادرة من خلال النقوشات والفسيفساء المرسومة على الأبواب والسقف، من حيث الهندسة والتصميم والشكل، معبقة بروائح الزمن الغابر. ومن يزور المكان، وقبل أن يلج الى المسجد تقابله منارة أو «مئذنة الساعة»، كما أضحت تعرف به، حيث تشير إلى الوقت والزمان، في كل دقيقة تمرّ بساحة الشهداء ــ الساحة الرمز.. وحول الجامع نشاط تجاري لا يتوقف، ينبض بالحياة كما ينبض الجامع إشعاعا وتوهجا بالإيمان والقرآن.
التطوّع لبناء المساجد في الجزائر.. الفكرة التي ولدت
في حديثنا مع إمام المسجد الشيخ بن زرقين رابح الذي كان بمثابة دليل لنا وهو يروي تاريخ المسجد وحاضره، حيث أكد أن الجامع الجديد الذي شيّد سنة 1660 ميلادي، الموافق لـ 1070 هجري، معروف بجامع الحنفية نظرا للمذهب الحنفي الذي يتمذهب به الأتراك، يقع بساحة المصيدة، وهي نسبة اليوم «للمسمكة» أو (لابيشري) بالعامية، وهو مكان مخصص لبيع السمك في تلك الحقبة، شيّد بطراز عثماني، حيث «يحتوي على القبة الرئيسية التي تحمل أربع عِراص – أعمدة – فيما يضم الجامع قبيبات فرعية وعددها ثمانية، مبرزا أن تاريخ بنائه مكتوب على يسار المحراب، مقابل القبلة بعبارة «الحمد لله وحده، ومن يريد الاطلاع إلى من يرجع الفضل في بناء هذا المسجد فإنه يرجع لوكيله الحاج حبيب»، ومكتوب تاريخ تشييده سنة 1070 هجري .
وأوضح الإمام أن «بناء المسجد تم بأموال تكفل بها من كان يطلق عليهم «المجموعة» في تلك الحقبة، وهذا على عكس ما كانت عليه العادة جارية حيث تترك المبادرة للأمراء وبعض الأثرياء الخواص، الذين يتكفلون ببناء المسجد في الجزائر العاصمة، ومن ثم بدأت العادة بأن يجمع الناس الأموال لبناء المساجد، وقد كتبت عبارة: «تم بعون الله تعالى في عهد الزاهر بناء هذا المسجد والله يسدد خطى جنودها المنتصرين ويجازي كل واحد منهم بألف جزاء» على أحد أبوابه على شكل دعاء للمجوعة التي تكفلت ببناء المساجد، ومن تم انطلقت فكرة بناء المساجد من قبل العامة عوض الحكام، والتي لا تزال سارية المفعول، حيث يتطوّع الجزائريون اليوم لبناء المساجد».
وأبرز الشيخ أن «الجامع اليوم يضم منبرين، الأوّل منبر مصنوع من الخشب تحدّث من خلاله الخطيب العثماني، حيث يمكن عبره من الصعود الى «السدة»، أما المنبر الثاني، فقد جُلب من جامع «السيدة» الذي دمرته القوات الاستعمارية، التي أرادت طمس كل ما هو مرتبط بالدين الإسلامي، في إطار حربها المعلنة على الدين، وهو مصنوع من رخام إيطاليا، حيث يتم إلقاء الخطبة من منبر جامع السيدة، أما المنبر الخشبي فترك في السدة».
وعن أهم المعالم الأثرية التي يضمها الجامع، شدّد المتحدث على أن الجامع يحتوي على مئذنة، جيء بها من «قصر الجنينة»، تم نقلها إلى الجامع الجديد سنة 1855.
أما عن تصميم المسجد – يقول المتحدث – فهو عبارة عن صليب لاتيني من بناه أراد ترك البصمة، يشبه تصميمه هندسة «القديسة صوفي» بتركيا، حيث يصل علو البرج أو المنارة البرج الذي هو عبارة عن قاعدة مربعة مغاربية البناء 24 مترا، بينما صممت منارة المسجد على شكل مربع، طولها كان 29.5 مترا، لكن أعمال الهدم وقت الاستعمار قلص هذا الطول إلى 25 مترا.
وجهة للسلك الدبلوماسي بالجزائر
وأبرز ذات المتحدث أنّ المسجد يشهد اليوم إقبالا كبيرا من قبل السياح، خاصة من قبل السفراء لدى الدولة الجزائرية، حيث يقصدون المعلم الديني بشكل لافت، مبرزا أن السفيرة الأمريكية كانت قد حلّت بالمكان قبل فترة «وباء كورونا»، وعبرت عن إعجابها الكبير به، بل وانبهارها به، وبكل مساجد القصبة، كمثال فقط وعينة عن السفراء الذين قصدوا هذا المعلم الديني، بينما لا يتوقف الأتراك عن زيارته، فيما لا يتوانى الزائرون له من أخذ صور تذكارية، ويسألون عن كل كبيرة وصغيرة حول الجامع، معبرين بذلك عن اندهاشهم بالكتابات في السقف وبكل ما هو موجود داخل الجامع الشاهد على العصر، ليوّضح أن «مختلف مرتادي الجامع، يعبرون عن الراحة النفسية التي تختلج في صدورهم وهم داخل هذا الصرح الديني الفريد من نوعه».
الشيخ بن شيكو.. بابا عمر واليعقوبي.. مرّوا من هنا
وعن أهم الأئمة الذين تداولوا على منبر الجامع الجديد، أكد لنا زرقين، منهم الشيخ محمد بن محمد وعلي بن أحمد المعروف بالشيخ محمد بن شيكو، الغني عن التعريف، حيث عيّن إماما بالجامع الجديد سنة 1943م، والشيخ المفتي العلامة الإمام سيدي محمد بابا اعمر الجزائري، حيث عين إماما بالجامع الجديد بالجزائر العاصمة سنة 1940م، إلى جانب مرور الشيخ إبراهيم اليعقوبي الحسني الدمشقي، من منبر هذا الصرح الديني، وغيرهم من أئمة الجزائر.
300 مصلّ.. في رحاب المسجد..
أما عن دور المسجد حاليا، بعدما كان قديما يخصّص للحكم والقضاء، فهو مساحة يتم فيها قراءة الحزب الراتب ــ أي قراءة القرآن جماعة ــ، وختم صحيح البخاري كل سنة، حيث يبدا في شهر رجب ويختتم في ليلة 27 من شهر رمضان وهي ليلة القدر، بينما تقام فيه الصلوات الخمس، التراويح الجمعة، والأعياد.
وذكر نفس المتحدث أن « الجامع يسع نحو 300 مصل من النساء والرجال، من مختلف الفئات الكبار والصغار والشباب، حيث يفتتح مصلى النساء كل جمعة وصلاة التراويح في رمضان وفي الأعياد وهو ما يعرف بمصلى «السيدة».
وخلال دردشة مع أحد رواد المسجد بمحيطه، أكد لنا أحدهم أن المسجد عبارة عن مكان آمن لعابري السبيل خاصة وأنتم تعلمون موقعه في ساحة الشهداء، فالكل يرتاح فيه ويأخذ قسطا من الراحة بعد أداء واجب الصلاة، قادمين من مختلف المناطق بالعاصمة أو حتى ولايات مجاورة.
وفي السياق، يؤكد الدكتور حامدي محمد لعروسي مفتش التوجيه الديني بالجزائر العاصمة ومهتم بتاريخ الجزائر والمعالم الدينية والثقافية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، في لقاء مع «الشعب» أن «الجامع الجديد تحفة معمارية أصيلة، ورمز من رموز الحضارة العثمانية الأصيلة التي سادت العالم الإسلامي منذ قرون خلت، حيث عرف في العهد العثماني بالمسجد الحنفي نسبة إلى المذهب الحنفي الذي يدين به الأتراك، كما اصطلح على تسميته بالجامع الجديد، وفي العهد الاستعماري شاعت تسميته بجامع الصيادين (لابيشري) لأن موقعه بمحاذاة سوق السمك وباب السردين».
جامع الجميع..
ويقول المتحدث إنه «خلال سنة 1070هجري و1660ميلادي، تم إنجاز هذا الصرح الديني الضخم الذي صمم هندسته مهندس مسیحي جلب أسيرا إلى مدينة الجزائر بأمر من الداي وأمواله تكفلت بها جمعية خيرية تدعى» سيل الخبرات» وهي مؤسسة وقفية ترعى المذهب الحنفي في الجزائر، وتسير الأموال الوقفية خدمة لهذا المذهب، ومؤسساته الدينية، ويؤكد ذلك خلال العثور على كتابة منقوشة على محراب المسجد ترجع أشغال إنجاز المسجد إلى شخص يدعى «الحاج حبيب» وهو مسلم تركي الأصل قد راعي هندسته وتصميمه وإنجازه وكانت الأموال التي أنجز بها الجامع هي تبرعات جماعية شاركت فيها الإنكشارية والوجهاء والأعيان وكبار التجار، ومنه لم يسم الجامع بشخص بعينه كما جرت العادة في تسمية المساجد بأسماء بناتها، مثل جامع سفير ومسجد بتشين وغيرهم».
ثورة تنبثق من رحم الأحزان..
وأضاف محدثنا يقول: «يقع هذا الصرح في ساحة الشهداء قبالة البحر أقيم عمرانه على أنقاض زاوية قديمة تنسب إلى شخص يدعى «مولاي بوعنان» مؤسس الزاوية التي سميت باسمه العنانية، وكانت تضم مدرستان ‘ المدرسة السنانية» و»مدرسة بو عنان» وهذا الموقع يعد من أفخر المواقع في العهد العثماني في ذلكم العصر، حيث يضم أرقى الأحياء، وكان ملتقى المثقفين من العلماء والطلبة والفقهاء والأدباء والشعراء، حيث كثرة المكتبات والورقات والناسكون، والحي هذا ملتقى لعدد من الحرف الفاخرة مثل الصباغة، وتواجد المقاهي الشعبية والفنادق الكبرى التي يؤمّها الزوار والقاصدون، وهذه البقعة كانت قلب المدينة النابض العامر بالحركة التجارية والثقافية والدينية».
آية الجمال وروعة العمران
وعاد المتحدث للحديث عن خصائص هندسة الجامع الجديد المعمارية، حيث أكد أنه «آية في الجمال، وروعة في البنيان والعمران، أراده العثمانيون أن يرمز إلى عبقريتهم الفنية والجمالية في الهندسة المعمارية، فهو يجمع بين الفن المعماري البيزنطي المجسد في كنيسة آيا صوفيا التركية، وبين خصوصيات الفن المعماري العثماني الشائع عندهم في ذلك الوقت، وأهم نقاط قوته تظهر في قبته الجميلة الضخمة التي ترتفع على طول 24 مترا، ومنبره المرمري الذي صنع في إيطاليا بأمر من الداي والذي حول إليه في العهد الاستعماري سنة 1932م من جامع السيدة بعد قدوم من قبل الإدارة الفرنسية، كما ورث الجامع الجديد عن جامع السيدة أيضا السقف المزخرف الموجود حاليا فوق الباب الرئيسي والساعة الجدارية الضخمة التي وضعت على مئذنته سنة 1952م، ومن جامع كتشاوة ورث مصحفا تاريخيا فاخرا قدم هدية من السلطان العثماني في القرن 19م لداي الجزائر، وهو اليوم محفوظ في إدارة المتاحف والآثار منذ عام 1962م».
محتوياته وخصائص عمرانه
حسب المتحدث، يحتوي الجامع الجديد على منارة علوها 25مترا، ونصبت الساعة التي كانت في قصر الإمارة في أعلاها وتحت المئذنة سنة 1875م، منبر الجامع من الرخام الأبيض المنقوش المجلوب إليه من جامع السيدة، وداخل المسجد مزخرف ملوّن بألوان مختلفة، فمحرابه مزين بالخزف البديع، وفي مقصرة الشيخ المفتي مصحف أهداه السلطان العثماني إلى باشا الجزائر، وفي داخل قاعة الصلاة يلفت انتباهك منبره الخشبي كان مخصصا للإمام الحنفي لإلقاء الدروس والخطب، ومن خلاله يمكن الصعود إلى سدة مربعة الشكل محمولة على أربعة أعمدة كانت تستعمل للدروس وحلقات الذكر وقراءة القرآن، وهي مخصصة لعلية ووجهاء القوم من الأئمة والعلماء الأعلام، كما يتميز الجامع بوفرة النقوش والفسيفساء وهو يضم مجموعة نادرة منها الكراسي الخشبية الأربعة يتربع عليها العلماء والمشايخ أثناء إلقاء الدروس العلمية والوعظية، وشمعدان من النحاس الخالص، وهو هبة من السيد علي خزناجي سنة 1141هجري».
صمود في وجه الضربات الاستعمارية
وأكد المهتم بالتراث والمعالم الدينية، أن «الجامع هُدد بعدة برامج استعمارية قصد تهديمه وازالته من الوجود، حيث أغرت الإدارة الفرنسية الجزائريين بأن قصرها من هدم هذا المعلم هو إقامة مدينة حديثة يتطاول فيها البنيات، ويتناطح فيها العمران، غير أن القدر سمح للجامع الجديد أن يصمد في وجه هذه المؤامرات التي حيكت من أجل مسحه من الوجود، كما حماه الله ورعاه من ضربات الحملتين العسكريتين الإنجليزية في 1816م، وفي سنة 1928م بقيادة اللورد ايكسموث، كما سلم أيضا من مخططات شاسيريو في منتصف القرن 19». وخلص الدكتور الى التأكيد على أن «الجامع الجديد لا يزال مستمرا في أداء رسالته بخصائصها المتميزة الموشحة بالتقاليد الجزائرية».