يؤدي المسرح وظائف اجتماعية وثقافية وتربوية متعدّدة الأوجه، تساهم تلقائيا في توعية الفرد وتنمية الفكر الاجتماعي، وعلى غرار المسارح العالمية، يواجه المسرح الجزائري، تأثير المد التكنولوجي ونفوذ وسائط التواصل الاجتماعي، متمسّكا بالبقاء رغما عن فترات الفتور والجمود التي مرّ بها، لأسباب متعدّدة منها التمويل المالي للمنتوج المسرحي، وضعف النصوص المترجمة إلى عروض مسرحية، ما نتج عنه فقدان فئة واسعة من جمهور أبي الفنون.
أهل المسرح من أبناء مدينة معسكر الذين ذاعت شهرتهم بالمسارح الجهوية والوطنية، يتحدثون إلى «الشعب» عن هموم أبي الفنون وواقع حاله، أمام ما تبذله الوزارة الوصية على قطاع الثقافة والفنون من جهود من أجل النهوض بالمسرح الجزائري.
سيد أحمد سهلة: وظيفة المسرح.. إبراز الهوية والمواطنة
يرى الصحفي والكاتب المسرحي سيد أحمد سهلة، صاحب نصوص مسرحية عديدة ترجمت على الركح، أن الكتابة المسرحية تحتاج إلى رصيد فكري وثقافي يتغذى من المطالعة والممارسة، موضحا أن الوظيفة الأساسية للمسرح تتمثل في إبراز المواطنة ومقومات الهوية، حيث لا يؤدي المسرح هذه الوظيفة كاملة، إن لم يعد إلى المجتمع المحلي بأبعاده وعناصره المختلفة، على غرار التاريخ والتقاليد واللغة وكل ما له علاقة بالتراث والثقافة المحلية.
وعلى هذا الأساس، يقول الكاتب المسرحي سيد أحمد سهلة، صاحب مسرحية «الحومة المسكونة»، «ذيك الليلة»، «الغبار ما يدرڤ جبل»، «الكدية» وأعمال مسرحية أخرى، أنه ضد اقتباس النصوص المسرحية من الروايات العالمية، إلا إن كان الأمر يتعلّق باقتباس الفكرة وحتمية العودة إلى الأصل، الذي يتمثل في الهوية المجتمعية، مشيرا أن الإنسانية جمعاء لا تواجه أي نوع من التحديات والتساؤلات إلا وتعود إلى المسرح الذي ينفتح على المدينة بمفهومها الفلسفي، لإنتاج الاخلاقيات والقواعد الاجتماعية، مستدلا بقول أحد عظماء المسرح العالمي وليام شكسبير: «اعطني مسرحا اعطيك شعبا عظيما».
وأوضح سهلة، أنه لابد من التعامل مع المسرح كملكية ثقافية جماعية مشتركة، فلا نقصي أحدا من الكفاءات القادرة على تقديم نصّ مسرحي قريب من بيئته الاجتماعية، وهو الأمر الذي يحدث غالبا للعديد من الكتّاب المسرحيين في الجزائر ومسارح دولية وعالمية، فضلوا الاجتهاد في التأليف المسرحي على الاقتباس من أجناس أدبية أخرى، مشيرا أنه يرفض مبدئيا الاقتباس في أعماله المسرحية.
وأشار الكاتب سهلة إلى أن الجزائر تشهد ولادة مسرح عالمي جديد، يدعى المسرح الانعكاسي، وثورة مسرحية جديدة تعطي ميزة تقنية عميقة لقواعد المسرح المعروفة، أبطالها ممثلون أمثال محمد فريمهدي، عبد القادر جريو، خوذي أحمد وغيرهم من الممثلين والأسماء التي قدّمت قيمة مضافة للتجربة المسرحية بالجزائر، والتي بدورها تفتقد إلى عنصر النقد التحليلي والتسويق الاعلامي.
محمد فريمهدي: الحركة النقدية عامل أساسي لتطوير الحركة المسرحية
من جهته، يرى الفنان الجزائري محمد فريمهدي، أن التكوين شرط أساسي لتطوير الكتابة المسرحية، لافتا أن هناك كثير من المتعلمين من حاملي الشهادات الأدبية أو شهادات أخرى لهم ميول للكتابة، لكن يفتقدون إلى تقنيات الكتابة المسرحية بالنظر إلى صعوبتها، ووجود اختلاف بين كتابة الرواية وكتابة القصص القصيرة والسيناريو السينمائي، والنص المسرحي الذي يعتبر من أعقد أنواع الكتابة.
وأشار الفنان فريمهدي، أنه لابد من وجود معاهد متخصّصة في هذا النوع، وتنظيم ورشات على مدار السنة حول الكتابة المسرحية، موضحا أن محاولات الاقتباس من النصوص العالمية حققت فشلا ذريعا؛ لأنها تتعامل مع النصوص الأصلية، سواء كانت روايات أو قصصا ونصوصا مسرحية – شكليا فقط دون تناول للمحتوى الفلسفي العميق والفكرة الأصلية، من خلال التحوير السطحي للشخصيات والأماكن وإسقاط بعض الظواهر الاجتماعية على الخشبة.
واعتبر فريمهدي الاقتباس من وسائل إثراء الكتابة المسرحية، بتبني الفكرة وإسقاطها على الواقع المعيش بسلاسة وتقنيات عالية، موضحا – في سياق حديثه – أن الحركة النقدية هي عامل آخر مهم لتطوير الحركة المسرحية في أي مجتمع، متأسفا لافتقار الحركة المسرحية في الجزائر لنقاد متخصصين كمّا ونوعا، مشيرا أن المسرح الجزائري يعرف أسماء تعد على رؤوس الأصابع، مختصة في النقد المسرحي، وتنتمي إلى مدارس مسرحية وحقب تاريخية معينة، لا تقبل ما يقدم الآن على خشبة المسرح من أعمال مسرحية، وكأنها تترفع ولا تعترف بها أو تتجاهلها، كما نوّه بمحاولات الجيل الحالي للاقتراب من النقد المسرحي، والتي تصبّ في باب إبداء الآراء ولا ترقى إلى النقد المسرحي، مؤكدا غياب النقاد المسرحيين، وغياب الإنتاج المسرحي الحقيقي والعالي المستوى، بالإشارة إلى العلاقة العكسية بينهما، وباعتبار النقد المسرحي أحد وسائل بروز حركة مسرحية ذات جودة..
وتطرّق فريمهدي إلى مسألة بروز ظواهر فنية على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرا أن هذه المقاطع التمثيلية لا يمكن أن ترتقي إلى عمل مسرحي يملك شروطا وقواعدا، ويتطلّب تقنيات ضرورية لعمل مسرحي حقيقي، مؤكدا أن هذه المنصات لا يمكن أن تخلق حركة مسرحية، وتبقى كمحلات المأكولات السريعة، تتعامل سطحيا ودون عمق ولا تؤدي وظائف المسرح، إنما تقدّم جرعات من الفكاهة موجهة للكسالى، لافتا أن هذه الظاهرة أساءت إلى الفن عموما، ولو أنها تستعرض مواهب وحالات معزولة لمبدعين، بإمكانهم تطوير قدراتهم وصقلها وممارستها على الركح.
عبد القادر جندير: الاقتباس أداة العاجزين عن الكتابة المسرحية
من جهته، خاض الممثل والمخرج المسرحي السابق عبد القادر جندير، في مسألة الكتابة المسرحية وكيفية تطويرها، مشيرا إلى مساعي القطاع لتنظيم مبادرات تكوين كتّاب مسرحيين، على مستوى المسارح الجهوية، من خلال برمجة تربصات في هذا الشأن، بهدف اكتشاف مواهب، لافتا أن هذه التجربة عقّدت المشهد نوعا ما، حيث تحوّل كل من حضر التربص ونال شهادة المشاركة إلى كاتب مسرحي، في ظل غياب تام للنقد المعرفي، وتحوّل الدخلاء إلى نماذج في الكتابة المسرحية، وقال «أما الذي يجب برأينا أن يكون هو هامش من الحرية فقط! بمعنى، أن الكتّاب موجودون، وهم جلهم متخصّصون وصحفيون وجامعيون، تمّ تهميشهم وما يحتاجون إليه في سبيل عودتهم هو شيء من العدالة أمام تلك اللجان التي تدعى «لجان القراءة» أو في حالة ما تمّ خصخصة هذا القطاع برمته».
أما عن مسألة الاقتباس والتقطيع والتركيب، يقول: «ما هي إلا أدوات للعاجزين على القراءة الموضوعية لواقعهم الاجتماعي والثقافي ومتطلبات الجمهور المسرحي الجزائري، الذي شرد بكل الأدوات التدميرية التي أتيحت لهم، موضحا أن النقد المسرحي، هو إشكال آخر يعاني منه المسرح الجزائري؛ لأنه تمّ تغييبه حتى يتسنى الإبداع في نقش هذه الفوضى العارمة، ويستفيد منها من أراد أن يستفيد، متأسفا – في سياق حديثه – لغياب مجلة ثقافية نقدية متخصّصة، تهتم بشؤون المسرح، لوطن ثري بتاريخه ونضالاته ورجاله المبدعين، أمثال بشطارزي وتوري وكاتب ياسين ومحمد بودية وعلولة ومجوبي وكاكي وغيرهم..
وأكد جندير أن غياب النقد المعرفي اليوم سيطيل في عمر استفحال ظاهرة الركود الثقافي الفني، وبالتالي فساد الذوق، في غياب هامش معرفي يسمح للمتلقي بانتقاء ما يجب الاستمتاع به، لافتا إلى ما يقدّم على شبكات التواصل الاجتماعي، بالقول أنه آلية أخرى لضرب كل ما هو معرفي وعلمي وجميل، خاصة في غياب النقد وغياب إعلام مؤهل معرفيا وعلميا لتحليل واستنتاج الخلفيات الحقيقية من وراء كل ظاهرة، حتى يتسنى التقديم الجيد للوجبة الحقيقية والتي تليق بمقام جمهورنا، وهذا المتلقي الغيور على خصوصيته الثقافية، في وقت أصبح عدد المشاهدات وبعض التعليقات الانطباعية، مقياسا للأعمال الفنية.
خيرة بوعتو: النقد المسرحي مسألة مهمة للنهوض بالحركة المسرحية
من جهتها، أكدت الاستاذة الجامعية بقسم المسرح بجامعة مستغانم، خيرة بوعتو، أن حال النقد المسرحي مرتبطة – لا محالة – بحال وواقع الفنون في الجزائر، هما في النهاية وجهان لبعضهما، فإذا صلحت حال الفن صلحت حال النقد ـ كما تقول – والعكس صحيح، مشيرة إلى أن النقد هو المساهم الأول في كتابة تاريخ المسرح، وبالنقد، تطورت المدراس المسرحية وظهرت أخرى جديدة.
وقالت الاستاذة بوعتو، إن النقد يخدم القارئ أو المتلقي والمبدع، وكذا العمل الفني، فوجوده يعني استمرار الفن، وما عرفه تاريخ الفن من تحولات واتجاهات مختلفة، ما هو إلا صورة لما لعبه النقد، موضحة أن النقد يرتقي بمستوى الأعمال الفنية بالكشف عن معايب العمل وإبراز محاسنه سواء كانت أفكار أو عواطف أو أساليب، «لأنّ العمل الفني يمثل الشكل والمضمون، وجميع هذه العناصر يتناولها النقد، ويسلط الضوء عليها، حتى يتجنبها المبدعون، لتطوير قدراتهم الإبداعية»، مضيفة أن النقد ضروري متمم لوظيفة الفن، وبفضله يتقدّم الفن بتوجهاته ونظرياته.
وتطرّقت خيرة بوعتو، إلى مسألة النقد المسرحي في الجزائر، مشيرة أنه لاوجود له، سواء من خلال الإعلام المكتوب، أو السمعي، ولا حتى السمعي البصري، باستثناء محاولات أو بعض المشاركات التي تبقى غير مستمرة أو مناسباتية، بذكر الصحافة المكتوبة التي لا تهتم بتكوين الصحفيين في القسم الثقافي، إلى الأكاديميين الذين لا يمارسون العملية النقدية، بل عادة ما يكتفون ببعض المقالات العلمية التي يكثر فيها الجانب النظري، وهي بعيدة كل البعد عن الواقع الفني بالجزائر.
وأوضحت المتحدثة، أن انعدام النقد أدى إلى تدني المستوى الفني والمسرحي، لأنّ الأغلبية لم تتعود أن النّقد، فيظن كل واحد أنه الأفضل، أو أنه فوق النقد، حتى خلال فتح مناقشات حول أي عرض مقدم في مختلف المهرجانات المسرحية، في الأغلب ما يكثر النقد الذاتي، وتنعدم الموضوعية حتى من طرف متخصصين، فتكثر الحساسيات ويتم تصفية بعض الحسابات العالقة بين الفنانين خلال هذه النقاشات، ويغيب الجانب الفكري والفني المطروح، مما أدى ببعضهم ـ تقول المتحدثة – إلى هجر هذه المناقشات، لأنّ هدفها أصبح شخصيا وليس موضوعيا، فضلا عن أنها ـ غالبا – لا تعترف بجودة العمل.
وواصلت بوعتو تقول: بالتأكيد، مسألة النقد عنصر جد مهم من العملية الابداعية، خلاف ما يعتقده البعض أنه مسألة هينة وغير مؤثرة، فالنقد الموضوعي والبناء والنقاش المفتوح مع الفنان، وخصوصا المبتدئ، قد يحفزه ويشجعه على المواصلة وتطوير قدراته، ويجعله يتدارك أخطاءه، ليحسن مستواه في المستقبل، فيصبح النقد ضامن لاستمرارية هذا الفنان. أو العكس، النقد الهدام والذاتي، قد يدمر الفنان وخصوصا المبتدئ، كما قد يحطمه ويبعده عن الفن، ويجعله يشك في موهبته.