أشرع في القراءة..عنوان: سارة بنيامين..شرطة متبوعة بجملة مرقّمة، مكتوبة بخط غامق..الاثنين..الساعة السابعة مساء..تسلسل زمني بدون سنة ومكان..ثم، بلغة شعرية وصيغة المتكلم المفرد، ما يشبه اعترافا يشعر بألم الضّياع..ساعة حائط متأخّرة..قراءتي متخلّفة..أتعرّف على أسلوب الكاتبة..قرأت مجموعتها القصصية: «أطياف شهرزاد»..أخشى أنّني ذاهب للقاء نص قد بلّل الدمع متنه..أن أجد أسلوبا جله مجازيًا، غامضا..أتوق إلى أدب ثائر، يصدر ضوضاء، يصرخ حتى يوقظ الموتى.
بقلم محمـد بورحلـة
أريد قصصًا تتحدّث فيها الشخصيات مثل الأشخاص العاديين، لا تكبح جموح الحروف، وترفرف فيها الكلمات في مهب الريح مثل علم شامخ متمرد. أرغب في لقاء كاتب يكتب بأمعائه، لا يحكم، لا يتخاذل، لا يخاف العرق، لا يكون درهما زيفا… يتجشّأ، يبصق، يتمخّط، يتقيّأ بين الجذع واللحاء. لم أقول ذلك؟ هل أنوي، مثل الساردة، أن أعترف؟ فما أنا إلا مجرد قارئ ولذلك، بالضبط، أرخّص لنفسي كشف ما يختلج فيها. ثم، ببساطة، إن هذا الفضاء مكان لقراءة بدون سياج يعيق كتابة بوحي ونصي وهوسي. يمكن تسمية الفضاء: «أنا وقراءاتي». لي فيه رأي خاص، أبحث فيه عن الجمال وعن الإنسان في الأدب، ليس عن جثته. هنا أقرأ بشغف، بكل جوارحي، ربما بطريقة مشوشة..أبتعد. هذه الرواية مخالفة عن تلك التي، منذ البداية، يمكن الاستغناء عن المؤلف.
ما زالت الساردة تتساءل..المساء شرس..الجدران صامتة، تبدو خالية من الذكريات. الظلال التي كانت ترقص عليها غادرت. الشخصية لا تيأس، إنها تعتقد أن الماء البارد والقهوة المرة قد يبدّدان ضباب عقلها. ليس هذا سوى أمل عديم الجدوى، يتجاهله التساؤل بكبرياء. ما زلت في الظلام، لا أشاهد رأس الخيط، انتباهي يتفرق. مثل هذه الراوية الغامضة التي تتحدث إلى نفسها، أحتاج إلى القليل من الماء البارد، إلى قهوة مرة وفترة استراحة. تبحث الساردة عن الطريق الذي من شأنه أن يساعدها على التصالح مع نفسها، وإعادة بناء لغز هويتها. هوية كان يمكن أن تكون واحدة، هوية الإنسانية…ولكن ذلك موجود فقط في الروايات، في عالم الخيال، تقول لنفسها الساردة التي تكشف عن اسمها: سارة. سارة الممزقة تحذر سارة أخرى تريد أن تعيش بين الواقع والخيال، وتؤكد لها أن هناك فجوة عميقة بينهما. تتواصل القصة على وجع سارة الممزقة حتى ثلاث علامات نجمية تتمحور أفقيًا للإشارة إلى تغيير القسم. يبدأ القسم الجديد بنفس الطريقة التي بدأ بها الأول. ملاحظة مكتوبة بين قوسين كما لو أن شخصية خارجية كانت تدوّن الملاحظات. لا أعرف أي شيء عن خصائص سارة الجسدية أو الاجتماعية. التركيز كله على شخصيتها الممزقة. أود أن أقول لسارة أنني أشعر بالتمزيق سواء كتبت من اليسار إلى اليمين أو العكس. يحضر جوزيف وراشيل. جوزيف. عقلي يتوه. راحيل ابنة لابان الصغرى، وزوجة يعقوب، أنجبت له يوسف وبنيامين، وماتت بولادة الثاني. ويلفظ الاسم راشيل. أين تريد المؤلفة أن تأخذني؟ راشيل، مثل سؤال مضايق، تتربع على المساحة، ماتت في التسعينيات من عمرها. كل ما مر مجرد مقدمة تتخللها الأسئلة. جوزيف رومان، العسكري الذي جلب «الحضارة» إلى الجزائر، وراشيل. هل يكونان والدا سارة؟ بعد وفاة زوجها، لن تتزوج راشيل. رأت في هذا «خيانة للأسرار التي تم إفشاؤها على الوسادة». ستعيش بعد ذلك، منعزلة عن العالم، مع التمثال النصفي لزوجها.
ينساب من القصة ماء العزلة، يدفع القارئ لكسر قفل صندوق الذاكرة وفتح القبور المنسية على الرغم من الرائحة الكريهة التي تخرج منها..النتانة تخنقني وسارة..هذه، بعد حياة مليئة بالصمت وسوء التفاهم، تشعر بفظاعتها، وأنها عالقة مثل فأر ضائع في متاهة. دعتها راشيل، وهي تحتضر إلى تحريك مياه الذاكرة الراكدة..الشك يعذبها. تعتقد أنها ملزمة باستعادة هويتها الحقيقية، بالقيام بذلك بمفردها. بمجرد موت راشيل، ستغادر سارة باريس وأضواءها، والمسرح ودور بينيلوبي، وصديقها جاك الذي لا تبقى من ذكراه إلا قصيدة أبولينير «جسر ميرابو». في مرسيليا، ستعيش بين الأجانب الموجودين هناك لكنها تهتم فقط بالجزائريين. هناك ستلتقي أحمد، الطباخ الأسمر الذي ستتزوجه وتنجب منه طفلين: فاطمة الزهراء وأوراس. فاطمة اسم قطة راشيل. جاك اسم كلب عائلة أحمد. الكلمات التي تعبر عن النظر إلى الآخر لها تارة مخالب لامعة. رغم مليكة الجزائرية التي هربت من بلادها بسبب التهديدات الإرهابية. والأستاذة جوزفين التي حذرتها من آكلي لحوم البشر القادمين من إفريقيا أو الصحراء، المغرمين بالجلد الأبيض، ستطير سارة إلى الجزائر العاصمة. تعود إلى الأرض التي ولدت فيها، بحثًا عن امرأة تدعى نوارة، وعن الرحم الذي تشكلت فيه.. تعود إلى شمس قسنطينة الرائعة التي شهدت زفاف راشيل. أتذكّر مالك حداد وقوله: «السماء ليست زرقاء كما في قسنطينة». أتذكّر ستندال وما قاله عن مناجم الكريستال في سالزبورغ. أرغب في التوقف عن التفكير، ولو ثانية. لم تعد قسنطينة تتذكر راشيل. لا غرابة في ذلك…لكن مالك، وسيم الطلعة!
أحلم مثل سارة، ومثلها أعلم أن حلمي لن يتحقق أبدًا. «أحلم- تقول – لو كنت نجمة ساطعة، لا حاجة لها إلى الانتماء إلى أم وأب وإلى أرض وقوم ولغة، نجمة تكتفي ببريقها دون أن تشتبك في مآزق الهوية!»..لكن إرادة المعرفة تسود على الرغبة في الهدوء..أحمد وسارة، التي أصبحت حورية، موجودان على متن الطائرة التي تهبط بمطار الجزائر. يتجهان إلى قرية كهف الحمام، أحمد يلعب دور المترجم. يخبر السكان أنهما يبحثان عن نوارة، والدة حورية. لا يرحب بالطلب. أحيانًا، يربك طرح الأسئلة الطقس؛ فكأنه سحب لغطاء مجرى أو تحريك قاع قدر بملعقة كبيرة. تارة، ينفجر المجهول في وجوهنا، وأخرى يسمم الجو، ودائما يغير حياتنا إلى الأبد. تتسارع وتيرة القصة، لا يتحاور الحاضر مع الماضي دون احتكاك. في بعض الأحيان، يوجد ماضيان باقيان عبر الحلق. عندما يتحرر المسكوت عنه، يتجشأ بقوة، ينتفخ وادي الجمل فيصير مثل سيل متهور ويتقيأ كل ما في مجراه. تعرف العجوز ذهبية أن النار لا زالت مشتعلة تحت الرماد.
أتذكر سلسلة «الجذور» (Roots)، كل شيء يختلط في رأسي، لم كلمة enfumade غير موجودة في القواميس الفرنسية! لم ننس بسرعة؟ تبحث سارة حورية بنيامين عن الجذور. يجب على بنيامين ستورا قراءة الكتاب. المستعمرون أراضٍ لا يملكها أحد…أو الجميع. على كل، لا يملكون أنفسهم. ذلك ما يمكن أن يحدد نقيض الاستقلال.
من بحث سارة الاستقرائي إلى غوص لالة ذهبية في ذكريات تتخللها أجوبة لاذعة وغضب مكتوم، أشاهد سعيين متوازيين. الأول، معلن، والثاني مكبوت. العجوز، التي لا تريد أن تتذكر، تلجأ إلى ضمير الغائب المفرد وكأنه يبرئ ذمة المتحدث. المرأة ولدت وعاشت في قبيلة. هنا، المسؤولية ليست فردية أبدًا لأنه لا يوجد أفراد. هل مجتمعاتنا قبائل؟ لا أستطيع أن أتفهّم عدم الاكتراث، أو الازدراء، الذي تبديه هنا العلوم الإنسانية حيال الأدب. أعود إلى الكتاب، أسماء كثيرة، غالبًا لا أعرف من يتحدث، أحب هذه المقاطع حيث تجعل الكاتبة شخصياتها تتحدث مثل عامة الناس…تلك السطور التي تفوح منها رائحة قمح البليوني وشعير بوسنينة، والتي تذكرني بالكانكي، المغزل، الخلالة والحنبل…باللوح ودواة الصمغ وقطعة الصلصال. الأرض بليغةǃ الذئاب تمتلك أيضا بلاغة…هل يحتاج ذلك إلى تذكير؟ الجندي في خدمة الاستعمار لا يقتل، وإنما يتفاصح..يهذب الأهالي باستخدامه حجج الحربة والكهرباء والسوط والماء والصابون. جوزيف رومان جندي سادي كان يقود عمليات التمشيط في كهف الحمام..قسوته ليست خطأ فادح، بل أسلوب من أساليب الإقناع المتمدنة..كان ينظر إلى نوارة كذئب جائع على الرغم من القشابية البالية والسخام على وجهها بهدف إبقاء نظرته الشهوانية والمتعطشة للدماء بعيدة عنها..نحن الذئاب، كان يقول…فيحق لنا التبول على المبادئ، وباسم تفوق أكلة لحوم البشر على البشر، يجوز لنا صنع الأيتام والثكالى واللقطاء والأرامل في كل مكان من المعمورة. قطيع الجزائريين؟ لا يصلح إلا للذبح والتعذيب والاغتصاب كما حدث لنوارة. والآن، بعد 40 عامًا، تأتي «سارة بنيامين» لقلقلة الماضي، فتعيد إلى الأذهان الكلمى عذاب رابح «العربي القذر» الذي شبهه الجنود الفرنسيون بالقملة الملعونة، بينما كان يقهقه الخائن عيسى القومي. رابح، الذي عذب بزجاجة مكسورة العنق..جوزيف رومان، الضابط المتعطش للدماء، مارس العذاب بنفسه، لكن لما لم يشف ذلك غليله، لجأ إلى الكماشة ليقتلع أظافر يديه. يعتقد جوزيف – والد سارة البيولوجي – أن السكان الأصليين كلاب، وبالتالي أنهم ولدوا للتنكيل. رابح، الذي خبر نكهة البلاغة الاستعمارية، يعرف من هم أكلة لحوم البشر. على كل، ليسوا على الإطلاق هؤلاء الذين تحدثت عنهم البروفيسور جوزفين فالي التي تحمل نفس اسم مالك المزرعة التي أحرقها «الفلاقة»..نعم، كانت الوحوش المتعطشة للدماء موجودة. دنسوا كل ما لمسوه: الأرض، السماء، الجبال، أشجار الزيتون والأرز، الوديان، الكلاب، الدجاج، النساء، بالأخص النساء. كل شيء شاهد على ذلك. هل النسيان ممكن، هل هو خيانة؟ نوارة المصابة بانفصام الشخصية تتحدث إلى دمية من خرق. عادت سارة إلى فرنسا، عدت إلى أسئلتي، قلبت تمثال جوزيف، أثناء تفتيش المنزل، اكتشفت سجلاً فيه اعترافات المجرم. تنوي محاكمته حتى تكشف الوحوش، يليق بالكتاب أن يُترجم إلى اللغة الفرنسية، وأن يكون عملاً سينمائيًا. أشعر بالحرج عند الانتهاء من قراءة الكتاب، وكأنّني ارتكبت خيانة.
«رائحة الذّئب»، إصدارات دار ميم للنشر، 2015، الجزائر.