رسم المكان، الذي اقترضت الرواية منه اسمها، رينوار وألهم عديد المؤلفين، وها هو الآن يفعل ذلك معي. راقتني الكتابة بالحواس، أنها تنبض.. النص شدو وحفيف، عطر ونتْن، نحيب وجذل… وطنين سؤال البهجة، قبل أن تمزَّق حلتها، أشرقت وتجلّت من خلال عبيرها، لسانها، مأكولاتها، ألحانها، وشغفها بالحسون… المقنين الزين. أسهو، أغيب في محراب النص.
أشاهد حي «المدنية»، أسمع هاتفا يرنّ… آلو، آلو.. أطيل النظر أمام أحد صروح النضال البارزة: منزل إلياس دريش حيث اجتمع فيه 22 من القادة التاريخيين الذين فجروا ثورة 1954. «لعقيبة»، سوق الدلالة الشهير لحي بلوزداد (بلكور)، يضمني إلى حضنه.. أتوه وسط المارة والباعة.. هنا نشأ كامو، وفرناند إيفتون، الذي حُكم عليه بالإعدام وأُعدم، وهنري مايو الذي اعتبر نفسه جزائريًا.. مقهى «الشباب» يرعد، وكيف لا وقد دخل حسن للتو. أشم رائحة السكابش، البطاطا بفليو. أسمع نغما.. إنهم هنا، قريبون جدًا، شيوخ الشعبي: قروابي، الباجي، عمر الزاهي..
بقلم محمد بورحلة
لقد سافر بي المؤلف بعيدا، لكن البشاعة لحقتني وانتهت الرحلة بسرعة وعلى مضض. حدث ذلك لما كانت البهجة تتلألأ، أو لما كنت أعتقد أنها كانت كذلك.. لم يكن الناس وقتها كثيري الطلب، وكان يكفيهم القليل للعيش.. كانوا قد خزنوا الأمل، ورقصوا في يوليو، فلا يمكن الغد إلا أن يكون باسما. ثم… سمع «الدق في الرسام» ولم يحل بالحي ضيف الله… فلفظت حينذاك الحيّات سمّها، ومادت بنا الأرض، فسكرنا من غير مدام… وعجّت الريح فتعفرّت الأجساد وتلطخت بالوحل! لأجل النسيان أو السذاجة المفرطة، أو لأن العقل وقع في حب السبات، حشد الرعب جحافله، فحل الجحيم، وخيّم الوجوم، وارتفعت الجلبة، ولعلع الرصاص، وفاح الدّم، فتعثر الفهم، وتأجل الفرح لما اختلط العواء بالفحيح وعوض الأزيز فوق الجثث بوح الأوتار. بدأ حينذاك السير في الظلمة. في البدء، كانت المدينة وكانت الحياة. لِم يموت الناس في سن الأزهار؟ الأسئلة تتساقط. الكتاب هو الجاني. هل كنا، من قبل، على حافّة الهاوية، ممددين داخل شرخ عميق، هل بنينا الأخدود بأيدينا؟ فكأن الأسماء تخبئ في جوفها أسرارا عظيمة، لكننا نحب السطحي كثيرا. كنت قد نسيت لما شرعت في قراءة الرواية أن الهاوية اسم من أسماء جهنم، بل أسفل جزء فيها… بدأت أستطرد. لعله الخرف. أيمكن أن يكون السبب موت ولد البلد و»زحف الغاشي»؟ أمقت كل ما يمت بصلة للقرف. هل هي لعنة حلت بنا؟!
بمرور الزمن، كان من المفروض أن نعتاد على اللعنات. عرفت الأم الهمجية من قبل لكنها صمدت ولم تنته. لعل الحسون كان يبكي على الأيام القادمة، واللون الأحمر الذي يلطخ جبهته كان يُنذر بالدم، وأزهار الشوك التي يحبها كانت تنبئ بقدوم زمن الأتراح. لم لم أنتبه لذلك، ونسيت أن ألسنة اللهب تصاعدت من قبل من مخزن مُنسيرا بديار الشمس لما أحرقه المتظاهرون في أكتوبر 1988؟
في هذه الرواية، التاريخ الحديث، الذي وصف من طرف البعض بأنه أسود، أو أحمر قان من قبل آخرين، يقتحم الذهن ويدخله عنوة.. القصة تشبه حبلين محبوكين يشكلان حبل مشنقة يحيط بالحلق ويضغط. إنها حكاية قصتين، قصتا مرزاق ودحمان، وهما شخصيتان رئيسيتان تعيشان، بالجزائر العاصمة، بالقرب من المكان المسمى «هاوية المرأة المتوحشة». تعيشان قربها بالمعنى الحرفي والمجازي. الأول سيرى حياته تتغير مع اغتيال أحلامه وأصدقائه، ويتم احتجازه بسبب انهيار عصبي لمدة عام في مستشفى للأمراض النفسية. كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا آنذاك، ويشعر وكأنه يشبه شحرورا جميلا خلق للتغريد والتحليق. لذلك سوف يطير ، ولكن بعيدًا عن «الهاوية» مكان شبابه، ليعيش في ضباب المنفى بلندن حيث تضرب له كوابيسه موعدا. سيعرف هناك تطرفًا وتعصبا آخرا يحاول سلبه سيلفيا البديعة التي كان حبها وراء تذوقه الحياة من جديد إلى درجة أنها استطاعت أن تجعله يبدو مثل «الهاوية»، وأن تحول قلبه إلى حديقة غنّاء ومساحات خضراء، وإلى هديل طيور نادرة وجداول لا تجف أبدًا. معجزة الحب… إذا ما أعطى، أذهل. الثاني تمتصه دوامة لم يتخيل وجودها أبدا وتلفظه بعيدا، كأنه جثة غريق، على ضفاف نهر التيمز، بصحبة مخاوفه وأشباحه، فيلتقي هناك مرزاق. دحمان الذي عرف «الهاوية» سيختبر الحفرة المظلمة.
لن يستطيع المنفى إزالة الشعور بالضيق، الكامن أو الظاهر، الذي يحس به الشتات. يثقل كاهل دحمان سر خطير سيرعب مرزاق، فكم هي هشّة الحياة لما تكون معلقة بخيط سترة رقيق.. الماضي متسلط، لا يفلت حبل الحاضر المتذبذب، أما المستقبل، فلم يعد مرئيًا.
المنفيون ينقصهم دائمًا شيء ما: لحن، رائحة، عطر، شاطئ صخري. ودائمًا ما يعود إليهم شيء ما: ذكرى، تساؤل، كابوس، حيرة.. لا يزالون غير قادرين على فهم عدم قدرة شعوبهم على صناعة عالم البهجة. قصتان، مأساتان، غمّان، خيبتا أمل تولد في نفس المكان والوقت، تُروى بضمير المتكلم المفرد. «أنا» الذي من خلاله يبدو أن المؤلف يحل محل الراوي لمخاطبة القراء والاعتذار عن عدم الإفشاء بكل الأسرار.. «أنا» الذي يمكنه أن يتحول إلى «نحن» أو «أنت»، فيعني أننا جميعًا في نفس المأزق، نفس النفق، نفس مصيدة الفئران… وأن الذي حدث يمكنه أن يحدث لكل واحد منا، وأن لا أحد بمأمن.
الرواية تذكرني بالمأساة اليونانية حيث تحرك خيوط الحبكة من قبل قوى تتجاوز أبطال القصة. هناك مأساتان متوازيتان، تسيران جنبا إلى جنب دون رؤية بعضهما البعض.. تتلامسان ثم تنتفضان على الهندسة فتلتقيان وتشتركان في الوجع.. يبدو الأمر فيهما محسوما مسبقا، تشبه أسماء الشخصيات فيهما طباقا مركبا.. الاسم يقول شيئا، والواقع يفيد العكس، شيئا مناقضا.. «مرزاق»، الذي يصاب بالجنون ويرى أصدقاءه يموتون، هو المحظوظ، المبارك، من يحب الحياة.. «سعيد» – المسرور – يغتال، و»خيرة»ـ صاحبة الاسم المرادف للثروة المادية، ستختطف وتسجن وتموت وهي تدوس على قنبلة.
في الدولاب المسنن للعنف، المرأة تعاني مرتين: الأولى من الرعب، والثانية من البلادة. ذكرت الرائحة.. هناك واحدة نسيت أن أحصيها أو لا أستطيع أن أذكرها دون وجل: رائحة العبث.. إحساس ينشأ من المواجهة العنيفة وغير المتوقعة بين الأسئلة والغياب التام للأجوبة. ومع ذلك، أرفض تصديق ذلك، وأقنع نفسي بأن أنفي وفهمي مسدودان، وأنه من أجل أن ينجلي المشهد، يجب أن أصاب بالعمى وأخرج من قماطي، وأعنّف نفسي. أحاول. الأمر صعب بعد قرون من الشخير والوهم، والنفق والنفاق، والطريق المسدود. الزغاريد التي تنبعث من الكتاب، والتي لا أعرف مناسبتها، تهزأ مني. أتذكر قصة ذلك المعتوه الذي كان يقول لما شهد الشعب يرقص في 5 يوليو 1962 أننا مسرورون لكننا لسنا سعداء.. «مرزاق» و «دحمان» يقفان تائهين، أتوه معهما. يؤكدان لي أن الجنون إجابة اليأس لغياب الإجابات. المتن مليء بالفراغات، أحاول ملء بعضها حتى ينطلق قطار النص وتظهر سكة الفهم.
هذه الرواية، من خلال استحضار مكان رمزي – لقاء للمهمشين ومهد للثورات – يتم تفكيك قصته من طرف إحدى الشخصيات، تطرح أيضا مشكلة غياب أقسام كاملة من ثقافتنا أو تهميشها أو حصرها عبر التاريخ الرسمي.
«الهاوية» فضاء مضاد يذكرنا بأن الثقافة والتاريخ كانا دائمًا قريبين من المجال السياسي، حتى أنهما كانا يداران من طرفه. عندما يتم استغلال التاريخ، والثقافة، استغلالا سياسيا، لم يعد الفضاء متجانسا، بل يبتعد بعضه عن المركز والمعيار.. أبتعد أيضا عن الرواية، لكنها سبب شرودي.. لم أعد أعرف إذا ما كانت تلك العادة فضيلة أم تصرفا سيئا حيث تصبح الرواية ذريعة للتأمل الشامل.. يؤدي هذا الوضع إلى ظهور تاريخين: الأول رسمي ولامع، يتجلي من خلال الإلقاء والتكرار، والثاني، باهت ومسكوت عنه، مهموس، ومخفي تحت الجناح، يتداول كسلعة مهربة. في الرواية، حكاية تولد في «الهاوية»، وأخرى، بعيدة عنها. حالة تؤدي إلى انفصام الشخصية حيث يشعر الإنسان بالضياع، والتيه، والتمزيق، وأنه فريسة للكرب. أشعر بالقلق، هناك مبرر لذلك. أكثر من الفرضيات التي توحي بها الرواية، ضمنيًا أو صراحة، فإن الأسئلة التي تثيرها هي التي تستوقفني. في الواقع، سؤال واحد. سؤال مضايق ومرعب: لم انتقلنا من الترنيمة الشجية إلى النعي؟ فما سبب مشاكلنا؟ هل، كما يظن «دحمان»، تحدث خسائرنا مما جنته أيدينا من ماضينا العفن، أم، كما يعتقد «مرزاق»، تعود معضلاتنا لاعتقادنا «أننا وحدنا مع الله، ولا أحد معه غيرنا، ثم ما لبثنا اعتبرناه واحدا منا، ولأن الحقد والضغينة والرغبة في الانتقام تملأ قلوبنا، فقد تصورناه مثلنا، ثم في الأخير استأثرنا بم يختص به وحده، واستعملناه على بعضنا، فصار الواحد منا رُبيبا يحرم ويحل، وفي أحيان كثيرة، يكفّر ثم يقتل…» هل هناك سبب آخر ؟ لأن، بكل بساطة، الملائكة لا تسكن الأرض، ومن الصعب على العيون أن تفتح ؟ لن تخبرنا الرواية. إنها تريد فقط أن تكون تعبيرًا عن ذاتية جريئة أحيانًا، وأخرى متحيرة أو قلقة.
منشورات «ميم»، الجزائر، 2021