قال الدكتور فارح مسرحي في حواره مع «الشعب»، إن المثقف مطالب بإعادة إحياء دوره في تحمّل مسؤولية التفكير في الوضع الراهن، واقتراح مسارات التغيير نحو الأفضل، وأشار إلى أنه عليه التدخل في القطاع الذي يناسب قدراته وإمكانياته، وهذا ما أسماه مثقف ما بعد المشاريع أو المثقف المتخصّص، الذي لابد وأن يستشرف المستقبل انطلاقا من الواقع المعيش.
الدكتور فارح مسرحي، أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة، والباحث في التاريخ الثقافي صاحب الإصدارات الكثيرة في المجال، والفائز بجائزة محمد أركون العالمية للسلام.
«الشعب»: في كتاب «المهام الجديدة للمثقف في السياقات العربية الإسلامية»، أبرزت إشكالية المثقف ودوره في الراهن العربي، كيف يمكن قراءة إشكالية هذا الدور في ظلّ التحولات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي؟
الدكتور فارح مسرحي: صدر كتاب «المهام الجديدة للمثقف في السياقات العربية الإسلامية» بعد الأحداث المعقدة والخطيرة التي عرفتها المنطقة، والتي لم يتنبأ بها المثقفون باختلاف أطيافهم وإيديولوجياتهم، وهو ما يفرض علينا إعادة طرح إشكالية المثقف ودوره في المجتمع، ونحن نعلم أن المثقف بمختلف صوره كان حاضرا وفعّالا، بصورة أو بأخرى، في كل المجتمعات عبر التاريخ.
وتبعا لمعطيات الراهن العربي الإسلامي، فإن المثقف مطالب بإعادة إحياء دوره في تحمل مسؤولية التفكير في هذا الوضع واقتراح مسارات التغيير نحو الأفضل، ولكن – وهو المهم في اعتقادي – هناك زحزحة مفهومية من الضروري الانتباه لها، فإذا كان المثقف في مفهومه البسيط هو شخص ينتج أفكارا، فإن الزحزحة تتعلّق بنمط هذه الأفكار، فالمثقف في السابق كان ينظر إليه على أنه «شخص مخلص»، يمارس نوعا من الوصاية على الجماهير ويفكر بدلا عنها.
لذلك نجد أن الأفكار التي أنتجها المثقفون في السابق تبدو في شكل أنساق كلية أو منظومات للتغيير الشامل، وهذا النمط من الأفكار لم يعد مجديا في ظلّ تشظي المعارف وتعقد الوقائع، لذلك فهذا الكتاب يطرح بدلا عن المثقف المخلص، مفهوم المثقف المتخصص، بمعنى المثقف الذي ينتج أفكارا تقتصر على مجال اهتمامه أو اختصاصه فقط دون غيره من المجالات، لندع السياسة لأهل السياسة والدين لأهله والاقتصاد لأهله والرياضة لأهلها ..الخ.
وهذا حتى تكون الأفكار التي ننتجها أكثر دقة وقربا من حاجات الجماهير ومن ثم أكثر فعالية في التغيير.
إذا اعتبرنا هذا الكتاب هو مانيفيستو المثقف، كيف يمكن لهذا البيان النظري أن يجسّد واقعا؟ استعملت مصطلحي «مثقف الأنساق والمشاريع، ومثقف ما بعد المشاريع.. هل يمكن توضيح الفرق بينهما؟
عرفت الساعة العربية الإسلامية منذ ما سمي بصدمة الحداثة، بروز مثقفين من مختلف الأطياف والتوجهات، وغلبت على طريقة تفكيرهم نزعة بناء أنساق فكرية شاملة، تجلت في مشاريع الإصلاح والنهضة والتنوير في البداية، ثم تحوّلت منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى تطبيق لمناهج غربية في إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي وكذا الواقع المعيش، نذكر منها: التراث والثورة (طيب تيزيني)، التراث والتجديد (حسن حنفي)، نقد العقل العربي (محمد عابد الجابري)، نقد العقل الإسلامي (محمد أركون)، إضافة إلى مشاريع الوضعية المنطقية (زكي نجيب محمود) والوجودية (عبد الرحمن بدوي)..الخ.
هذه المشاريع بالرغم من أهميتها النظرية، إلا أنها بقيت نخبوية ونوعا من حوار / صراع المثقفين فيما بينهم، دون أن يكون لها صدى واضح في الواقع العربي الإسلامي، حتى أن الكثير من أصحاب هذه المشاريع لا يكاد يعرف خارج المكتبات والمؤسسات الأكاديمية، ولتفسير هذا الوضع هناك أسباب عديدة، لعلّ من بينها: ذلك التجريد والطابع النظري الذي اتسمت به، سواء تعلق الأمر بلغتها أو مناهجها أو أهدافها، وكونها مشاريع شاملة سعت لتغيير كل شيء، جعل تحقيق أهدافها أمرا بعيد المنال، إذ توفي جل أصحاب هذه المشاريع دون أن يكملوها، انطلاقا من دراسة نقدية لهذه المشاريع واستراتيجيات أصحابها اقترحت ضرورة التحوّل من حيث الاستراتيجية من المشاريع والأنساق الكلية الشاملة، إلى التدخلات الجزئية القطاعية، كل مثقف يتدخّل في القطاع الذي يناسب قدراته وإمكانياته، وهذا ما أسميته مثقف ما بعد المشاريع أو المثقف المتخصّص.
عطفا على السؤال السابق، هل يعني هذا موت المشاريع أو موت مثقفيها؟
لا يتعلّق الأمر بموت أو حياة، المثقف مفهوم تاريخي، وهذا يعني تبدله بتبدل المعطيات، ومثقفو المشاريع قاموا بدورهم وهم مشكورون، وقدموا منظومات فكرية مهمة، أسهمت في ضخ دماء جديدة للفكر العربي الإسلامي، وحفزوا من خلال الإشكاليات التي طرحوها عقولنا على التفكير، كما نقلوا العديد من المفاهيم والمناهج من الثقافات الغربية إلى ثقافتنا، وبالتالي فالتاريخ يحتفظ لهم بمكانتهم وأهمية أعمالهم.
ولكن، الواقع يزداد كل يوم تغيرا وتعقدا، وكل شيء في تغير مستمر، بما في ذلك مفهوم المثقف، وبالتالي، فالمثقف مطالب بمسايرة هذه التغييرات، وبدل الاجتهاد في بناء الأنساق النظرية الشاملة، لم لا يتحوّل إلى تحليل الوقائع الجزئية وفقا لقدراته، وبالتالي تكون الفعالية أكبر وتكون العلاقة بينه وبين الجماهير أكثر متانة وتجاوبا.
بربط إشكالية المثقف بالفكر الأركوني، كيف قرأ أركون واقع المجتمعات العربية؟
من بين النقاط التي يصرّ أركون في العديد من كتبه على التذكير بها لتمييز أعماله عن أعمال المستشرقين، الارتباط بواقع المسلمين، على خلاف المستشرقين الذين يكتفون بدراسة حيادية باردة لماضي المسلمين دون أدنى التفات لواقعهم، وقراءة أركون لواقع المسلمين، إذا شئنا التعبير عنها بشكل مختصر، يمكن تلخيصها في أننا نعيش قطيعة مزدوجة.. قطيعة على مستوى التراث العربي الإسلامي في عصر ازدهاره، وقطيعة على مستوى الحداثة الغربية التي نشأت بعيدا عنا ولم نشارك فيها بأي شيء؛ لهذا، فنحن نعيش «فوضى» أو «تيه» يتداخل فيه بشكل غير مفكر، فيه ما هو تراثي مع ما هو حداثي، وهو ما سماه البعض بالحداثة المعطوبة أو الحداثة المغشوشة..الخ.
لدينا دول، ولكنها بعيدة عن مفهوم «دولة القانون»، لدينا مواطنة لكن الفرد-المواطن في مجتمعاتنا لا يحصل على كل حقوقه ولا يؤدي كل واجباته، لدينا مجتمع مدني، لكننا نمارس القبلية، لدينا انتخابات لكنها لا تفرز ممثلين حقيقيين للشعب، نتغنى بتراثنا، لكننا لا نعرف منه إلا الفتات، بل نجد أنفسنا عاجزين حتى عن قراءة نصوص هذا التراث..الخ، لذلك كان مشروع أركون هو الفكر بعد تحرير الوطن، ومن ثم دعا إلى ضرورة نقد العقل الإسلامي وتحديث طريقة تفكيره بما يسمح بانبثاق معرفة حداثية ومؤسسات حداثية تمكننا من مسايرة التقدّم الحاصل على مستوى الأمم الأخرى.