بين المسرح الجزائري والمقاومة الشعبية وثورة التحرير الوطني، علاقة وطيدة جدا، يميزها انتماء صنّاع الفن الرابع إلى الجزائر، تدفعهم روحهم الوطنية وتوجههم الرافض للتواجد الاستعماري على الأرض الغالية، ناهيك عن انخراطهم في عملية الدفاع المستميت عن الحرية والسيادة الوطنية، وفي مقاومة كل مشاريع طمس الهوية الوطنية والثقافة والتاريخ.
يعدّ أبو الفنون من الوسائل التي اعتمد عليها الشعب الجزائري كثيرا كوسيلة للتعبير والنضال والتحدي، وأيضا لتمرير رسائل التوعية والتعبئة بهدف إفشال مخطّطات المستعمر الغاشم ومشاريعه التدميرية.
«القراقوز» لمجابهة فرنسا الاستعمارية
تبدأ قصة النضال الركحي، حسب د. محمد بوكراس، المدير العام للمعهد العالي لفنون العرض السمعي البصري ببرج الكيفان بالعاصمة، بـ»مسرح القراقوز»، أو «مسرح العرائس» الذي كان يعتمد ممارسوه الأسلوب الساخر والتهكمي، للرد على جرائم فرنسا الاستعمارية إبان الاحتلال.
وأشار د. بوكراس إلى أن «مسرح القراقوز» استعمل قبل التواجد الفرنسي في الجزائر، وبالتحديد في أواخر حقبة التواجد العثماني بالجزائر.. حيث كان الوسيلة التي «اتخذها الفنانون الجزائريون، آنذاك، للتعبير عن سخطهم وعضبهم ضد التجاوزات التي كان يرتكبها بعض العثمانيين ضد الجزائريين، وكانت عروض «القراقوز» تقدّم بطريقة ذكية استعملت لفضح تلك السلوكيات المجاورة.. فقام العثمانيون بمنعها ومعاقبة أصحابها».
وأرجع الفنانون الجزائريون، يضيف د. بوكراس، إلى استعمال عروض القراقوز لمجابهة فرنسا الاستعمارية وعملائها في الحقبة بين 1930 و1940، وقامت السلطات الاستعمارية، هي الأخرى، بمنع العروض والتضييق على أصحابها؛ إذ كانت هذه العروض لسان حال الشعب الجزائري «الذي عرف منذ القدم بعيشه في حالة من التدافع مع القوى الوافدة على أراضيه، وفي مدّ وجزر بين الاحتلال والمقاومة والنضال من أجل الحق في الاستقلال وتقرير المصير».
وتأسّف المحاضر «لكون مسرح القراقوز لم يحظ لحدّ اليوم بدراسات أكاديمية وأبحاث تاريخية، تنصف ما قدّمه أصحابه من عطاء وتضحيات، والتعريف بالأساليب التي كان رواد هذا الفن يستعملونها، خاصة في اختيارهم للشخصيات ورمزية الأزياء، وقوة النصوص التهكمية اللاذعة».
مسرح سياسي ملتزم جابه جبروت العدو
لم يدخلوا مدارس عليا للفنون الدرامية، ولم يمتلكوا شهادات جامعية، كما لم يتلقوا تكوينات خارج الوطن، بل كان مؤهلهم الوحيد الموهبة الفطرية في الفن والتمثيل، إلى جانب النضج السياسي والروح الوطنية الراسخة في عروقهم.. إنهم رواد المسرح الجزائري الذين كان لهم شأن كبير في معاكسة تدابير فرنسا الاستعمارية الرامية إلى تجريد الشعب الجزائري من أصالته وثقافته وتراثه وهويته، وأيضا، القضاء على كل روح قتالية فيه بالتفقير والتجهيل والنفي والتهجير.
في طرحه لمسار هؤلاء، قال د. بو كراس إن «العروض الأولى التي ظهرت قبل اندلاع ثورة التحرير الوطني، كانت تحارب الآفات الاجتماعية، مثل الطلاق، الزواج من الأجنبيات.. إلخ.. وكان لرواد المسرح، آنذاك، مستوى من الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي والنضالي جعلهم يتفطّنون إلى مخططات فرنسا الاستعمارية والسعي إلى إفشالها».
وأكد د. بوكراس، في هذا الشأن، أن «الهدف من النضال المسرحي الثقافي كان إبراز الخصوصية الجزائرية، فبعد ظهور مقولة «الجزائر الفرنسية» أمام الجيل الثالث بعد قرن من تواجد فرنسا في الجزائر، وسعيها إلى تعميق الهوة بين أفراد المجتمع الجزائري، لجأ الرواد الأوائل إلى الرد باستعمال اللهجة الجزائرية، والنهل من التراث الجزائري والأدب الشعبي والاعتماد على اللباس الجزائري لتقديم عروضهم».
وأبرز عبد الحليم رايس – على سبيل المثال – من خلال مسرحياته «لوحات نحو النور»، أن الشعب الجزائري «له ثقافة مختلفة عن الاستعمار الفرنسي».
الأسطورة “بشطارزي”.. ونضال العروض الهادفة
يعتبر المؤلف والمخرج والممثل المسرحي الراحل محي الدين بشطارزي من رواد المسرح السياسي، فقد عُرف – يقول المتحدث – «بسلسلة مسرحياته الهادفة الملتزمة، وعلى رأسها مسرحية «فاقوا» التي كتبها أول مرة الفنان الراحل رشيد قسنطيني، ليعيد هو كتابتها ويضمنها أغان تحمل رسائله الساخرة القوية، شديدة التهكم بالمنتخبين «الانديجان» الذين دخلوا في خدمة فرنسا الاستعمارية».
وأشار بو كراس إلى أن بشطارزي «كان يتعامل بذكاء شديد مع النصوص والكلمات والألفاظ للتملص من الرقابة، لكن حين كان الممثلون يقدمونها ويتفاعل معهم الجمهور يقومون بالارتجال والتعبير عن سخطهم ضد الاستعمار، مما كان يلفت أنظار أجهزة المراقبة التي تقوم بالتضييق عليهم، ومطاردتهم أحيانا، أو منع العروض نهائيا أحيانا أخرى».
«فاقوا»، «بني وي وي»، «دولة النسا»، «زيد عيط».. أعمال أقلّ ما يقال عنها أنها تترجم الوعي السياسي الكبير للراحل محي الدين بشطارزي الذي وجد في عناوينها الصارمة، ولهجتها الساخرة، وسيلة للتعبير عن صوت الشعب الجزائري، وأيضا، طريقة لإيقاظ الضمائر وإخراجها من الغفوة التي فرضها أكثر من قرن من زمن استعمار فرنسي بسط الجوع والفقر والظلم والجهل.. وهو ما حملهم على الانخراط في ثورة نوفمبر المجيدة.
للإشارة، شكّلت احتفالية الذكرى الـ68 لاندلاع الثورة التحريرية، مناسبة لاستعراض دور رواد المسرح في المقاومة، وعلاقته بثورة التحرير الوطني من خلال ندوة النقاش التي نظمها المسرح الوطني الجزائري «محي الدين بشطارزي» ضمن سلسلة من الأنشطة الثقافية الأخرى.