تعتبر قضية الأصالة والمعاصرة، من القضايا التي كثيرا ما يعود إليها الباحثون في ثقافتنا العربية التي لا تستطيع التنكر لعديد الدراسات التراثية زمانيا، المعاصرة في موضوعاتها وأفكارها، فما كتبه إخوان الصفا في العصر العباسي يمكن أن نستقرئه في عصرنا الحالي، وما كتبه مداوروش النوميدي أو لوكيوس ابوليوس في الجزائر يمكن أن نجده في عجائبية العصر الراهن، وكأن كلمة التراث تعبير عن التريث والانتظار.
«الشعب» تساءلت عن إمكانية إعادة بعث بعضٍ من عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا الجزائري في عصر الألفية الثالثة وتفتح النقاش مع مجموعة من الأساتذة والباحثين المختصين في الأدب والأنثروبولوجيا، الذين تناولوا الموضوع من جوانب مختلفة.
يقول الدكتور حبيب مونسي، في حديث مع «الشعب» أنه «وجب البدء أولا من كلمة (تراث) لنعرف ما المراد منها في وعي السائل أولا، هل يقصد منها التركة المعرفية التي خلفها السّلف على اختلاف مشاربها ومدارسها ومذاهبها، في قربها من روح الدين أو ابتعادها عنه؟ وأنّ التراث في ذلك يشمل القرآن الكريم وما صحّ من الحديث النبوي الشّريف. أم أن التّراث هو فقط من أنتجه العقل الإسلامي في مراحل تطوره عبر الأزمنة، وما صاغه من فهوم مختلفة انطلاقا من وعيه بالواقع الذي يشمله في الزّمان والمكان».
التراث مادة شديد التّعقيد
ويوضح الاستاذ، أنه إذا استطعنا أن نفكّ هذا الترابط بين القرآن الكريم وما صحّ من الحديث النبوي الشّريف، وفصلناهما عن التّراث بمعنى الإنتاج الفكري المرهون بالزّمان والمكان والنّوازل، أمكننا الحديث عما يمكن إعادة إنتاجه اليوم لتغذية الفكر الحديث وتثويره، وتمكينه من التّجدد والتّطور. فالقرآن الكريم كلام الله، وما صحّ من الحديث الشّريف مفسّرُه وشارحُه وموضِّحُه. وهما بذلك خارجان عن نطاق الزّمان، منعتقان من ربقة المكان. قائمان في الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لأنّ فهم حقيقة الإسلام على هذا النحو، تجعلهما بمنأى عن التاريخانية التي تربط النّصوص بأزمنتها وأمكنتها، وتفرض عليها تفسيرا مُنَاسَبَاتِيا يرهنها في ربقة الحادث المنتهي، ولا يسمح لها بالتّمدد خارجه أبدا. ومن ثم لا يجوز معاملة القرآن الكريم، وما صحّ من الحديث الشّريف معاملة التّراث، ولا تسميتهما به. فليس القرآن الكريم، ولا ما صحّ من الحديث الشريف ( تراثا) بالمعنى الذي نُعرّف به التّراث في الدراسات الفكرية الحديثة. ما أنجزه العقل الإسلامي من معارف وعلوم فيه من الأفكار ما يمكن تحيينه لتغدو قواعد أساسية تُبنى عليها تصورات جديدة، تستلهم منها روح الأصالة.
ويذكر حبيب مونسي، أن ما بقي من الاجتهادات الفكرية التي انطلقت من القرآن الكريم، ومن الحديث الشّريف، وما بني على الجدل والرّدود والمناظرات، وما أنجزه العقل الإسلامي من معارف وعلوم، وما قرّره من قيم، وسطره من حكم، وما أبدعه من آداب وفنون. فهذا كلّه (تراث) تزخر به المكتبات العربية والإسلامية، وفيه من الأفكار ما يمكن تحيينه لتغدو قواعد أساسية تُبنى عليها تصورات جديدة، تستلهم منها روح الأصالة، لتنطلق بها في إطار النّظريات الجديدة، والفهم المعاصر، إلى تشكيل بدائل فكرية ونظرية تضاهي ما ينتجه الآخر في الحقول المعرفية العلمية والإنسانية.
ويضيف المتحدث، صحيح أنّ كثير من الدارسين يرون أنّ التراث بهذا الاتساع يشكل مادة شديد التّعقيد، شديدة التّشابك نظرا لما سكن التراث من أفكار متعارضة متنافرة، بين اتجاهات فكرية، وأخرى عقدية، وسلوكية، ومذهبية، إلا أن هذا الاختلاف لا يزال إلى اليوم ساريا في ثقافة الحاضر، مستمدا من أصول الخلاف مادته التي تغذي بحوثه وجدله. ولكن الاستفادة من كلّ ذلك مهمة بالنسبة لمن يحاول أن ألاّ يعيد تدوير الأفكار كما كانت، على الهيأة التي كانت عليها من قرون، وإنّما يمضي بها في رؤى جديدة تتخطى أسباب الاختلاف إلى ضرب من التّعايش الذي يجعل الاستفادة ممكنة شكلا على الأقل. وهذا ما حاول ضبطه ونشره كلّ من كتب في موضوع تجديد الفكر العربي والإسلامي، وكلّ من اجتهد في تأسيس نظريات جديدة ذات أبعاد أصولية، ليعرضها على الثّقافة الجديدة.
ويشير مونسي، إلى أن المكتبة العربية والإسلامية عامرة بمثل هذه البحوث، تحتاج فقط إلى من يعيد الإشارة إليها حتى نتمكن من إعادة إنتاج وجه أو وجوه مستجدة من التّراث.
ثقافتنا العربية الإسلامية وتراثنا غني
من جهته، يؤكد الدكتور احمد التجاني سي كبير، أن ثقافتنا العربية الإسلامية وتراثنا غني بما يحيا المجتمع حياة الطمأنينة والاستقرار على المستوى الفكري والروحي والمادي.
ويشير التجاني سي كبير، إلى أن كل ما يمكن أن يعيد وحدة الإنسان وتجمعه حول إنسانيته يكون مصدرا من مصادر التراث التي يجب احياؤها وبعثها بقوة. ومن بينها التويزة التي تعد مظهرا من مظاهر التعاون الاجتماعي والتكافل الإنساني والدعم الاقتصادي بين أفراد المجتمع، وفيها يكون ازدهار الاقتصاد كما أنها تكفل تلاحم الفقير بالغني وتوحيدها روحيا واجتماعياً. كما يجب احياء مظاهر اللباس التقليدي التراثي لإبراز عناصر الهوية القوية والدينية والوطنية.
نمتلك إرثا حضارياً وثقافيا ضاربا في عمق التاريخ
ويقول المتحدث، «نمتلك إرثا حضارياً وثقافيا عربياً وإسلاميا ضارب بعمق في تاريخ البشرية، ولنا أن نحييه عن طريق بعث مظاهره في المجتمع من خلال:
أ: اللباس: يعد اللباس التراثي المكتسي طبيعة جمالية من جهة ورمز هواياتي من جهة أخرى أحد أهم المقومات التي يجب بعثها من خلال تنوعيها بحسب المناطق والمواسم، فمن العباءات النسائية بأشكالها وألوانها المختلفة إلى القندورة والبرنوس الرجاليين. وفي بعثهما اكتساب للهوية وبعث للتجارة والربح والترويج الاقتصادي.
ب: المركبات: تتنوع الأطباق التراثية في الجزائر بحسب المناطق المترامية الأطراف من الساحل بأسماكه إلى الهضاب بقمحها إلى الصحراء بتمورها، وكل ما يتشكل من غذاء صحي يضمن الحياة السلمية بصحية الغذاء وكذا ضمان التجارة والربح الاقتصادي والتقليل من الأمراض المصاحبة للمصبرات الحديثة.
ج: الصناعات التقليدية: والتي تعتمد على المواد المحلية كالطين والفخار للصناعات الأواني المختلفة وبقايا النخيل والحلفة للصناعة الاثاث والديكور». ويضيف المتحدث، أن كل هذه العناصر التراثية يكون في بعثها واحيائها انتعاش للاقتصاد والسياحة وضمان السلامة الصحية للمجتمع لكثير من الأمراض والأوبئة، كما أنها تعطي للفرد والمجتمع قيمة ذاتية متفردة ومظهر هواياتي يبعث على الفخر والاعتزاز.
ثقافتنا لا تحتاج لمن يصنعها
ويؤكد الدكتور ابراهيم بن عرفة، أن ثقافتنا جد غنية وثرية لفرض نفسها كهوية محلية تقارع عروش العالمية ولا تحتاج إلى إعادة إنتاج، لأنها متجذرة متأسسة في تركيبتنا الاجتماعية وتبرز إلى العلن في الأفراح والأتراح، قائلا: «إنها لا تحتاج لمن يصنعها لأنها غنية عن كل أنواع الصناعة، أليست جداتنا وأمهاتنا اللاتي يقمن بتحويل المادة الطبيعية كالقمح إلى طحين ومن الطحين إلى مختلف أنواع الخبز والحلوى والمعجنات، واللاتي يقمن بتحويل الصوف من شكله الأولي الخام إلى مختلف أنواع اللباس، ألسن أكثر منا ثقافة وابتكارا في غياب أدنى الوسائل المتوفرة اليوم».
ويشير المتحدث، إلى أن موروثنا يحتاج إلى إعادة دفع وإعادة تنشيط وليس إحياء، لأنه لم يمت بل يسري فينا مسرى الدم في العروق ونستحضره في كل مناسبة. ويحتاج الموروث إلى تشريحه وتحليله لفهم مقاصد حضوره وأسباب أفوله.
ويضيف بن عرفة، «تقول مارغريت ميد أننا عند البحث في ثقافة من الثقافة ولتحديد درجة حضارتها، لا نبحث عن ما تركت من آثار ملابس وأكواخ، وإنما نبحث عن آثار علاج وجبر الكسور فإن وجدناها، عرفنا أن تلك الثقافة وصلت من القوة بما كان إلى أن تعالج مشاكلها الصحية دون الاعتماد على الغير، وثقافتنا وموروثنا يحتاج لذلك العلاج، ويحتاج لجبره من كسور الزمن واعتداءات المتزمتين الذين يرمون الموروث بالجهل، فإن كانت الامم بالأخلاق فهي كذلك بمآثرها وتراثها الذي يبعث هويتها».