«عش أولا، ثم تفلسف».. هذه مقولة تمتد إلى عمق التاريخ، ولا تنفك تتردد للتعبير عن موقف «فلسفي» من الفلسفة، يمنحها المقام الثاني في «الحياة»، على أساس أن الأولوية لـ»العيش»، بكل الحمولة المعنوية لهذه اللفظة، أو ما توحي به من معان متعددة، فهي يمكن أن تقصد إلى «الحرص على تحصيل أسباب المعيشة المرتبطة بالحاجات البيولوجية من مأكل ومشرب وملبس وكل ما يتطلب البقاء على قيد الحياة، تماما مثلما يمكن أن ترمي إلى البحث عن «السعادة» واغتنام الوقت فيما يحقق الطموح من الوجود، ولا يختلف الأمر بالنسبة لـ»التفلسف»، فهو قد يرمي إلى «فعل التفكير» و»البحث عن المعرفة» و»تفكيك سؤال ما»، بقصد فهمه، تماما مثلما يتضمن معنى البحث عما يساعد على «ضبط النفس» و»التحكم في السلوك»، بل إنه يمكن أن يتحمل بمعنى دوني، يعتبره «مضيعة للوقت»، أو حتى «مروقا عن الملة»، مثلما هي الحال بحاضنتنا العربية التي تتخذ من التفلسف موقفا راديكاليا، لأسباب تاريخية موضوعية قد يتاح لنا أن نتناولها بقراءة في مقبل الأيام..
لم يختلف الفلاسفة والكتاب، كثيرا، في تحليل المقولة القديمة، إذ يذهب معظمهم إلى أنها تتضمن مغالطة منطقية، فهي تفصل بين «العيش» و»التفلسف»، مع أنهما مترابطين منسجمين ومتناغمين، ثم إن الناس جميعا يتفلسفون إلى حد ما– كما يقول أ.س. رابوبورت– مع تفاوت فيما بينهم، ويضيف في كتاب «مبادئ الفلسفة» الذي ترجمه أحمد أمين، قائلا، إن وصف فيلسوف «لا يطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانا، فيتأمله أو يفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيا يعتقده ويتمسك به (فنحن) لا نسمي «زجاجا» أو «قفالا» من أصلح في بيته لوح زجاج أو قفلا فسد، إنما الزجاج والقفال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته (…) فكذلك لا نسمي فيلسوفا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها».
وقد يكون سهلا توضيح ارتباط «التفلسف» بـ»العيش»، في الحاضنة الغربية، فهذه تمثل الحضارة المهيمنة، وتمتلك أسباب المعيشة والرفاه، كما تمتلك خبرة معتبرة في التعامل مع «الفكر»، ثم إنها لا تكف عن معالجة «سؤال جدوى الفلسفة» من أجل بث روح جديد في الاشتغال الفلسفي، غير أن «المغالطة المنطقية» التي تتضمنها المقولة، تبدو مقنعة للغاية في عالم يفتقد إلى أدنى مقومات العيش، أو في عالم يعتبر «التفكير في ذاته»، لونا من ألوان الردة والمروق، بحكم أن «الإنسان» تلقى المعرفة الكاملة عن طريق الوحي، ولا مجال لإعمال التفكير فيما هو ثابت متعارف عليه؛ ولهذا كان على الفلاسفة المسلمين أن يعملوا على توضيح الروابط الوثيقة بين «الشريعة والحكمة»، كما فعل ابن رشد في «فصل المقال»، وليس مثل هذا الانشغال ما يضيع وقتا على «التقدم»، وإنما هو سؤال الجدوى الذي ينبغي أن يطرح دائما من أجل تجديد العزم على الاشتغال الفلسفي، ومنحه الدينامية التي يقتضيها واقعه التاريخي المعيش..
تاريخ القمع..
ولقد ألقى الأستاذ واسيني الأعرج مقولة مضيئة في مقال له وسمه بعنوان: «كتابان في محرقة التكفير»، وذهب إلى أن «الزمن العربي لا يتحرك، وإذا تحرك، لا يفعل ذلك إلا لمزيد من التقهقر»، ليلخص مسيرة التقهقر في المواقف الراديكالية من ابن المقفع وكتابه «كليلة ودمنة»، إلى طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي»، كي يصور – بأسلوب رائع – سيرورة تاريخية ظلت تناوئ الفكر بحاضنتنا العربية، حتى كأن «المسافات التي تقاس بالقرون لا قيمة لها» يقول الأستاذ واسيني، غير أننا ينبغي أن نسجل بأن «تاريخ قمع التفكير» لم يكن حكرا على حاضنتنا العربية، وإنما هو طبع تاريخ الإنسانية، بدءًا من كأس السم التي تجرعها سقراط، إلى الهجومات القاسية التي تعرض لها رونيه ديكارت، فتراجع عن نشر كتاب «بحث في العالم»، بعد أن بلغه نبأ الإدانة التي أصدرها الديوان المقدس البابوي بروما، في حق غاليلو غاليلي القائل بأن «الأرض تتحرك حول الشمس»، وكانت النتيجة نفسها التي توصل إليها ديكارت في كتابه، وغير بعيد عن صاحب الكوجيتو، نجد باروخ اسبينوزا الذي وقع تحت طائلة بيان من الكنيس اليهودي بأمستردام، اتهمه بالإلحاد، وأصدر قرارا بطرده من حظيرته، ثم يأتي الدور على إيمانويل كانط وما عاناه في قلب الجامعة حين تحدث عن «النشر الأفقي للمعرفة»، وفريديرش هيغل وما عاش من عنت حين عدل الرؤية إلى التاريخ، وفريديرش نيتشه الذي ألقي به إلى مستشفى المجانين، ما يعني أن الحال لا تختلف بين الحاضنتين الغربية والعربية، سوى في أصل «القمع وأسبابه»؛ ذلك أن جميع من يشتغلون اليوم بـ»الفلسفة» يدركون أن الفلاسفة الغربيين اصطدموا بـ»العقيدة الدينية» مباشرة، فكانت الكنائس هي نفسها التي تتخذ قرارات القمع في حقهم، بينما لبس «القمع»، بالحاضنة العربية، لبوس «العقيدة الدينية»، كي يخفي المواقف السياسية المباشرة، ومن ذلك أن كتب ابن رشد – على سبيل المثال – لم تحرق لأنها خالفت عقيدة، أو أحدثت بدعة، وإنما لأنها فكرت في «شكل الدولة»، وكانت «جناية» ابن رشد الأولى «مدينته الفاضلة»، تماما مثلما كانت «جناية» ابن خلدون نفي مفهوم «الخلافة» في بناء الدولة، وهو ما ألب عليه بايزيد الثاني، فأمر بطمر الكتاب، ولم تختلف الحال مع ابن المقفع؛ ذلك أن مشكلته لم تكن مع العقيدة ولا مع الفقهاء، وإنما كانت مع شكل السلطة، أو لنقل كانت مع سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، والي البصرة، كما يقول الأستاذ واسيني.
فلسف أولا..
السؤال الآن.. هل يمكن أن نقارن ما تعرض له طه حسين بسبب كتاب «في الشعر الجاهلي» مع ما سبق من «تاريخ القمع»، خاصة وأن الكتاب لا علاقة له بـ»فلسفة» ولا بفكر، وإن قرر مؤلفه بأنه اختار له «منهج الشك الديكارتي»؛ ذلك أنه لا وجود في الفلسفة لـ»منهج» يسمى «منهج الشك»، وإنما هو إجراء يسمى «الشك المنهجي» الذي نجد له تفاريق كثيرة – كما يقول عبد الرحمن بدوي – عند كثير من الفلاسفة من أمثال أفلاطون وبعض الشكاك اليونانيين وأوغسطين والغزالي، ولقد وضع ديكارت لـ»شكه» أربعة قواعد، اتخذها لايبنتز هزؤا، وقال إنها «تشبه تعليمات كيميائي صنعوي: خذ ما تحتاج إليه، وافعل ما عليك أن تفعله، هنالك تحصل على ما تريد»، ولقد أحس ديكارت نفسه بحصافة رأي لايبنتز، فقال في كتاب «حديث الطريقة»: «ليس غرضي هنا تدريس الطريقة التي يجب على كل واحد أن يتبعها ليقود عقله قيادة حسنة، بل إظهار الكيفية التي سعيت إلى قيادة عقلي فحسب».
لم يكن كتاب «في الشعر الجاهلي» فلسفة إذن، ولا التزاما بمنهج فلسفي واضح، وإنما استعاد ما قال القدماء، وبالغ بعض الشيء في إنكار الثوابت التي ترفع اسبينوزا عن الخوض فيها، حين قال صراحة إنه لا يمكن أن يطبق منهجه التاريخي على «سفر التكوين» في نقد التوراة، لأن مضمون السفر ليس تاريخيا، وهو تقريبا ما وقع فيه طه حسين، ولكنه لم يحس بأي التفاف على مبادئ العقل، حين أنكر وجود النبيين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، رغما عن ذكرهما بالتوراة والقرآن، كما قال في «الشعر الجاهلي»، ثم استغنى عن مقولته في كتاب «في الأدب الجاهلي» ولم ينقص منه شيئا؛ فإذا أضفنا أن «كتاب في الشعر الجاهلي» ليس من بنات فكر طه حسين، وإنما هو إعادة كتابة، تكاد تكون حرفية، حتى لا نقول سرقة أدبية واضحة، لمقال «أصول الشعر العربي» لصاحبه دايفيد صمويل مارغليوث، يتبين لنا أن المسألة مع طه حسين ليست متعلقة بـ»الفلسفة» ولا بـ»التفكير»، وإنما هي متعلقة بسيرورة تاريخية أخطأت مسار التاريخ الطبيعي، فصارت تتطور بـ»أثر رجعي»، ووقعت في صلب المغالطة التي تصطنعها مقولة: «عش أولا، ثم تفلسف»، حين خرجت من دهليز «عصر ما بعد الموحدين» لتؤسس لعصر النهضة، مع أن تأمل «النهضة» – كما يقول فيصل دراج – «يكشف عن نزوعات حداثية أنجزتها جهود فردية أو جماعية، لم تستطع (…) أن تغير من بنية المجتمعات العربية»، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري حين يتحدث عن أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ «الجاهلية» إلى اليوم، ويقول إن تلك الأشياء «تشكل في مجموعها ثوابت الثقافة (العربية) وتؤسس – بالتالي -بنية العقل الذي ينتمي إليها»، بينما يصف محمد أركون الفترة بين 1850م و1940م بقوله إنها فترة بشرت بالخير وأرهصت بإمكانية استيعاب عقل التنوير وتمثله في العديد من المجتمعات والأوساط الإسلامية، ولكنه – في المقابل – عبر عن حيرته من الشعور بأن تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية هو تاريخ معكوس، يسير عكس تيار الحضارة والرقي، وهذا ما يعني أن أركون لا يرى أي معلم لـ»نهضة» مفترضة، بل إنه يلاحظ بأن مأساة السير عكس التاريخ، عامة في التاريخ العربي والإسلامي، وتتكرر منذ قرون.
أين المشكلة؟!
ولا نعتقد أن مشكلة «التفلسف»، بالحاضنة العربية، تكمن في إثبات أولويته على «العيش»، ولا حتى في المواقف الصارمة التي يتعرض لها «الجديد»، فهذه طبيعية جدا في تاريخ الإنسانية، كما أوضحنا آنفا؛ ذلك أن «الجديد» يكون صادما كما هي عادته، وهو لا يتحقق إلا باصطناع أزمة بين فريق من المحافظين، وآخر من التطوريين، يحددان معا، في أثناء الأزمة، مسار الانتقال، وهذا ليس مما هو في متناول كتاب بسيط جدا، مثل كتاب «في الشعر الجاهلي»، سواء قال به طه حسين أو دايفيد مارغليوث، ولعل كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» يمثل نموذجا أفضل من كتاب طه حسين، إن قدرنا أن العمل يؤسس لفكر معين قد يكون محفزا لسيرورة انتقالية معينة.
ليكن سؤالنا الآن: لماذا لا يتحرك الزمن العربي إلا باتجاه التدهور؟! وهل تمكنت الحاضنة العربية من السؤال الذي يكفل لها استعادة رونقها الحضاري، أم أن السؤال ظل مصرا على معالجة قضايا وهمية، مثلما هي قضية «الشعر الجاهلي»؟!
قبل أن نحاول تقديم مقترح إجابة على السؤال، نود أن نلقي نظرة على الفلسفة الإفريقية، فهذه ولدت في صلب معاناة عجائبية؛ ذلك أن معنى «الإنسان» نفسه بإفريقيا ظل محل شكوك، وكان على الإنسان الإفريقي أن يمتلك من المعرفة ما يستعيد به حقه في الحرية، بعد أن تواطأت الحضارات المتتالية – بشكل ما – على نظرة دونية ألصقتها بكل ما يرتبط بالقارة السمراء، ولعل هذا كان دافعا للأفارقة كي يعودوا إلى الأصول، ويكون منطلقهم أن «الفلسفة» ليست علما بقدر ما هي نشاط فكري، وأن هذا النشاط يرافق الحياة اليومية ولا ينفصل عنها، وأن الطريقة الفلسفية للتفكير إنما توضح الغامض من المفاهيم، وتحدد النظريات، وتصف السلوكات والعقائد الملهمة لما هو غير فلسفي، ولقد توطن في الفلسفة الإفريقية أن «التفلسف» ليس مجرد «زائدة»، بل إنها لا تفرق بين «تقدم الرياضيات وتقدم فلسفة الرياضيات»، وتراهما متلازمين سواء كان منجزهما منتجا من قبل الفلاسفة أو الرياضيين»، كما يقول إسياكا بروسبر لاليي (Issiaka-Prosper L. Lalèyê) كي تصل إلى قناعة مفادها أنه «من الوهم تصور أولوية للعيش على حساب التفكير»، حتى إن قدرنا أن الواقع الاقتصادي اليوم،– على سبيل المثال -في إفريقيا وخارج إفريقيا، يطرح إشكاليات قد توهم من يعالجها بأنها ليست في صالح الفكر.
أما الأنفع مما يمكن أن نستخلصه من الفلسفة الإفريقية، فهو مساءلتها الدائمة للأصول، والعودة إلى منابعها الأولى، فلا ترى بأسا في اعتبار كوخ بارما (Koch Barma) واحدا من مؤسسي الفكر بإفريقيا، رغم أن مقولاته الأربع لا تعبر بالضرورة عن فلسفة واضحة، فهي أشبه ببعض مقولات «الشيخ المجذوب» عندنا، ونعتقد أن هذه العودة هي التي سمحت للأفارقة باستيعاب الفوارق الأصيلة بين الحضارة الشفاهية والحضارة الكتابية، ما انتهى بالصرح الفلسفي إلى «نقد العقل الشفاهي» الذي وضعه السنغالي ماموسي ديانيي، ليعبر فعلا عن شكل من المصالحة أو التوافق أو الانسجام مع مسار التاريخ العام الذي نفتقد إليه بالحاضنة العربية التي خرجت من دهليز «ما بعد الموحدين»، وبحثت عن الانسجام مع واقع ليس واقعها، فسارع الجهد الفلسفي إلى «المطابقة» مع الضفة الغربية، واقتفاء آثارها بقصد تحقيق الطفرة التطورية، دون استيعاب الثغرة التاريخية الهائلة بين الضفتين، وهذا بالضبط ما اختلق إشكاليات وهمية تحول دون معالجة الواقع..
وبناء على هذا، نعتقد أن البداية الفعلية تكون بطرح أسئلة الواقع المعيش، بخطوات إجرائية تتوجه إلى تحقيق المصالحة مع الذات أولا، ونحن نقول هذا، ونتصور مدى العناء الذي كابده الأستاذ الدكتور عبد الحميد بورايو من أجل التأسيس لدراسة الآداب الشعبية بجامعة الجزائر، تماما مثل مكابدة آخرين عبر مختلف البلدان العربية، ولهذا ينبغي أن نوجه جهودنا نحو الأصول وليس نحو الآفاق التي نعتقد أننا نمتلك ناصيتها، ولكننا نكتشف أنها تبعد عنا كلما اقتربنا منها، وليس من نموذج أمامنا حاليا، سوى الفلسفة الإفريقية التي ينبغي أن نكتشفها ونشتغل عليها، وهو ما يعني أن مساءلة الأصول لا يمكن أن تكون بعقل «مارغليوث» الذي بنى موقفه من لغات العرب، مثلا، على معرفته السابقة بتطور لغات الرومانس عن اللاتينية، رغما عن الفوارق الشاسعة بين الواقعين، ما جعل رأيه في «الشعر الجاهلي» يصطنع إشكاليات وهمية، لا تضيف شيئا إلى واقعنا المعيش.
خلاصة القول..
نعيش، لا تختلف مطلقا عن «نتفلسف»، فهما معا متلازمان في الحياة اليومية، والحاجة إليهما ماسة، وقد ننتفع بموقف الفيلسوف الفرنسي إميل بريهيي (Émile Bréhier) الذي يرى أن أصول الفلسفة إفريقية وليست يونانية، حتى وإن لم تكن طبيعة التفكير بإفريقيا فلسفية دائما، فلماذا يصر الاشتغال الفلسفي على تقفي آثار الغرب، ويهمل الحاجة الفعلية إلى استيعاب الأصول، فنحن – في واقعنا – لم نبلغ شيئا مما بلغه الفكر في عصر الجاحظ والمعري والفارابي وابن رشد، ولو أننا استوعبنا المستوى الذي تحقق لنا قبل الثغرة التاريخية المهولة، لتمكنا من مسايرة الفكر في حداثته، دون حاجة إلى «مطابقة» للمسار الغربي، ولا لتقفي آثاره في التاريخ؛ ذلك أن التاريخ لا يعيد نفسه..