يرى الناقد والأكاديمي عبد القادر فيدوح، أن حضور الروائيات الجزائريات في المشهد الثقافي العربي، مدعاة فخر واعتزاز، خاصة وأن نصوصهن إشارة انعتاق من الرتابة والتمرد على التنميط الفني السائد والمفضي إلى التبعية الذكورية، مثلما يقول.
قال الأكاديمي عبد القادر فيدوح في حوار لموقع “فواصل”، إن للمرأة الجزائرية دورا رياديا في مجتمعنا العربي، مؤكدا أنها بحاجة إلى دعم أكثر من خلال نشر الوعي الثقافي، الذي من شأنه أن ينصفها أكثر، حتى تكون في مصاف نظيراتها في العالم.
بداية دكتور، لنتحدث عن آخر إصدار لكم بعنوان “المضمر ومجازاته في الشعر العربي المعاصر”..؟
شكري الوافر بما تستحقه علامات السعادة في مقام المشرفين على (فواصل)، وأُشيد بجهود مؤسسة الشعب بطاقمها الإعلامي والفني والإداري.
بشأن إصداري الأخير الموسوم “المضمر ومجازاته في الشعر العربي المعاصر”، وعطفا على سؤالك، أرى أن الإبداع بات في الآونة الأخيرة يعنى بما راج على تسميته بـ”المضمر” في الممارسة الإبداعية.
ولأن التسمية غالبا ما ترتبط بالمسمى، فقد قذف بهذا المصطلح في قلب شاعرية المسكوت عنه وبلاغة الصمت، وهي كلها إحالات إلى الذات المبدعة في ابتعادها عن الاعتراف والبوح، واتخاذها الصمت ملاذا إبداعيا، يتلبس بالغموض والغياب، وإلباس الواقع مسميات مختلفة، إما عمدا أو انزياحا، أو قناعة، كما جاء على لسان الفرزدق حين سئل: ما صيَّرك إلى القصار بعد الطوال؟ فقال: لأني رأيتها في الصدر أوقع، وفي المحافل أجول”، أو ما قد يرد تمويها بغير ما تصرح به الكلمات.
وإذا كان المبدع يتجه إلى ذاته بالمضمر في الصور التي يختار لها المستتر، المقدر غير المعلوم، فيما بطن من الصورة، فكأنما يدعو إلى التفكير بما ليس فيه دال، أو مدلول- حتى ولو بالإشارة – لاجئا إلى رمزية الصمت، حين يتحول اللامقول في القول إلى ما يكشف عن سريرة الذات المبدعة؛ لأن التصريح عن مكنون الذات غالبا ما يبِين عن حقيقة ما هو خفي، في وقت يحتاج فيه المبدع إلى الإدبار عن ذلك لدواعٍ كثيرة.
لعل أهمها دواعي همومه؛ لذلك يتعمد مجانبة محمولات المباح، ويتلافى الاستبانة والانكشاف، ويستبدل به محمول المستور، “وبَيِّنٌ إذن، كما يقول جاك دريدا إن المنطقية النظرية، والنظر بعامة، لا يتحكمان فحسب بتحديد العبارة والدلالة المنطقية، وإنما أصلا بما قد أُقصي منهما؛ أي الإشارة، والإظهار بما هو (Weisen)، أو [إشارة Zeigen] ضمن الإشارة بالبنان، أو الإحالة الإشارية.
يفهم من هذا أن يُطرّسَ المبدع العبارة بالمحو في البياض، يعني أن يفصل المعنى عما توضحه العبارة، وأن يغيِّب الإشارة عن المعنى، فإنه يوقِع المتلقي في الجَهد والمشقة؛ بتجاوز كل ما هو محتمل من محتوى النص، أي إجباره على التواصل التخييلي مع كنه النص، الذي ينحو باتجاه الملكة الحدسية، والممكن انكشافه، فيما يكتنه عالمه المتخفي لمساءلة ذاته، مُقصيًا بذلك آليات البصيرة، حين يولع بنشوة الفرح الماورائي بعيدا عن عالمه الأرضي، واحتفاء بالعالم الفني، الحدسي، هنالك حيث تنسجم الذات مع عالمها، وتسكن به في ألفة.
وهي دعوة لمجافاة الواقع الخارجي، واستلهام العالم الباطني، بوصفه قوة خفية لا تتجلى إلا لأكثر الناس نفاذا في بواطنهم؛ بما يحملونه من رؤى كشفية، وما يتمتعون به من تبصَّر، ورويَّة؛ ولذلك فهم يجدون في ذواتهم من الامتلاء والغبطة ما يغنيهم عما هو موجود في الخارج، أو التعبير عنه بالجلاء، إنهم مزودون بطاقة لا متناهية من الاكتفاء الذي لا ينضب.
والمبدع حين يميل إلى المضمر في البياض فإنما يسعى دائما إلى التواصل مع المتعالي، حيث لا يحفل مطلقا بالظاهر من الأشياء والحياة، ويصبو إلى تقمص لحظة تتلاشى فيها الذات، حين تستلهم وجْدَها البدئي، الذي تنهله دونما ريب من السريرة.
وتحيل سيطرة الدلالات المضمرة في لغة الشاعر إلى رغبته في التعبير عن كينونته الدفينة في المسكوت عنه باللغة الواصفة إلى ما يريد حجبه عمدا عن كل من يقف حائلا في وجهه بالحظر، ومن ثم يصبح معنى النص مبنيا على مسارين، مسار علاقة اللغة بالدلالة الموصوفة، في حين يكمن المسار الثاني في علاقة اللغة الواصفة بالمضمر، على الرغم مما قد تسببه هذه الأخيرة من تعمية في رسم المعنى، وإبراز الدلالة الملازمة للفهم والإفهام.
“النشر في الجزائر يزحف ببطء شديد..”
هل ترى أن الشعر الجزائري المعاصر بحاجة إلى نبض جديد وإبداع فكري؟
وثبًا على الجهود المبذولة لمفهوم الهوية من قبل المفكرين والفلاسفة والمثقفين الجزائريين، كل بحسب رغبته في الدفاع عن انتمائه، أو طريقة تناوله لهذا الموضوع العسير، ووثبًا على مقولة سقراط الفلسفية الشهيرة [اعرف نفسك بنفسك]، أو منذ أن طرح سؤال الفكر اليوناني عن ماهية الوجود، وتحديد الحق على أنه [ما يكون هو ذاته بما هو ذاته]، ووصولا إلى البحث عن هويتنا الذاتية التي نجمل رؤيتها فى مقولة هيدغر: ” كيف يجب أن نكون نحن أنفسنا، والحال إننا لسنا نحن أنفسنا؟ وكيف يمكن لنا أن نكون أنفسنا، دون أن نعرف من نكون، حتى نكون على يقين من أننا نحن الذين نكون”.
وثبًا على كل ذلك، فإن رهاناتنا هي فعلا بحاجة ماسة إلى نبض جديد وإبداع فكري مضاعف من منظور إمكان معرفة ذاتنا الفكرية والثقافية، بوصفها مصدرا للتواصل مع واقعنا ومع الوجود في جميع أشكاله، وكأن المبدع يستقصي في إبداعه مسار “كونية الاتصال”: [وأسئلة لم تصل لجواب] من الوجود المغيب في هذا الفضاء الإنساني، بوصفه منبعا للرؤيا، صحيح أن مطلب هذه الحاجة ليس بالأمر الهين في ظل مثبطات العزائم، ومحبطاتها، ولكن غالبا ما تكون الإرادة مخبرة عن الأفق والألق فيما يضيئه الوعد الأوفى، أو على حد قول الشاعر عبد العشي:
لم نُجِدْ بعدُ أرضًا تليق بأحلامنا
كل معنى يخبئ قافية في فضاءاته
هي أرض لنا
كل نبض تفيء إليه الحقول
هي أرض لنا
وأملنا كبير في أن نجد في وجهة رؤيا أجيالنا الواعدة ما يجعل هويتنا الفكرية والثقافية تسمو بطرائق متعددة، عسى أن تخبرنا عن حالة اليقين.
أضف إلى ذلك أن راهن الشعر الجزائري في ظل التغيرات المتسارعة لا يختلف عما تجود به قرائح الشعراء في أي مكان من المعمورة، فيما يبتغونه من طموحات وبكل أنواع الطيف، تجاوبا مع التسليم بحتمية المصير المشترك، والبغية المتنامية حسب متغيرات العصر.
هل تمكنت القصيدة الجزائرية المعاصرة من فك الارتباط مع الرؤية الإيديولوجية؟
هذا صحيح، بالنظر إلى أن حدس الرؤيا قد تغير، ومن ثمة بادرت الذات إلى ممارسة التطلع؛ لأن أية مساعٍ لا تَعْبر نوافذ وشرفات المقبل هو موت مجاني مشوّه، ومن ثمة سعت الذات مع مبدعي الألفية الثالثة على وجه التحديد إلى البحث عن البديل الرمزي للنّفي الخارجي في معاناتها المتكررة، لتعوضه بغربة يبنيها الشاعر في داخله، ويشيدها من أضلعه، وهكذا لم يكن بوسع جيلنا الواعد من الشعراء أمام وهم الرؤيا، إلاّ التحدي من القبضة الإيديولوجية عن طريق إنشاء عالم من الرؤى المتجددة في أجواء من معطيات الرؤية الذاتية بممارسة قوى الإبداع في تخومه الخارقة عبر مستويات المعاناة، التي من شأنها أن تحدد الهوية الحقيقية كما عبر عن ذلك ” نيتشه ” الذي يؤمن « بأن اليقين الحقيقي هو طريق المرء إلى الجنون » في طاقة إبداعه الهائلة.
وهكذا أصبحت الحاجة إلى السؤال أكثر من الحاجة إلى الوضوح بالمنظور الإيديولوجي، والرغبة في الغموض أضخم من الرغبة في المكاشفة الصريحة، وبالتالي ظل إلحاح الشاعر على السؤال الذي يفجر كوامن حقيقة الوجود حتى يزوّد في رحلة يشكل فيها تضاريس بلاده، ويعيد تحت ترابها كي تولد ياقوتة العمر، أو كما قال المرحوم الشاعر عياش يحياوي:
قد صنعت بلادي وهيأت قافلتي للسؤال..
لكن هذه الولادة لكي تبقى ممتلئة بالمشعِّ، وطافحة بالممتلئ، ينبغي أن تقدم لها القرابين، ويظل فعل المضارع الاستشرافي يؤدي دورًا استطلاعيا في حركيته المتصاعدة، بعيدا عن الرؤية المعلبة بالحس الإيديولوجي
السياسة “فن الممكن” و الرواية “فن الخيال”
في كاتب “التاريخ والسياسة في الرواية الجزائرية”، سلّطت الضوء على علاقة الرواية بالسياسة والتاريخ واقتحامها هذا المجال، هل تعتبر أن الرواية تستمد مكوناتها من المنظومة والواقع السياسي؟
حقيقة كنت قد أشرت في هذا الكتاب إلى أن السياسة “فن الممكن”، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الرواية “فن الخيال” والحال هذه، ما الذي يقرن العلاقة بين الممكن المَخض بتضاعيف تدبير الرأي وتقلبه، والخيال المحض في ظنِّ التصور وتفرُّسه؟ وقبل ذلك كيف يمكن الجمع بينهما؟ وبالنظر إلى هذه المفارقة، ما الذي يجعل الرؤية بينهما قادرة على توصيل الرسالة نفسها؟.
أو على حد ما جاء في سؤالك: هل تستمد الرواية مكوناتها من منظومة الواقع السياسي؟
أتصور أنه إذا كانت قيمة الخطاب السياسي قائمة على الأسلوب الرحيب، والتعابير المجازية بغرض التلاعب بالعقول لدى جميع السياسيين منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، فإن الرواية محكومة بالشطر الخيالي لمناشدة عوالم ممكنة، تفيض بالنسق الوصفيِّ الجمالي، بوصفه ملفوظًا منفتحًا على قراءات متنوعة، تمنح الرؤية ثقة مطلوبة في تبني فحوى محصلة مفاصل الأجناس المعرفية، التي من شأنها أن تنتج معاني متعددة، بحسب أفق انتظار المتلقي.
إذ الأسلوب الرحيب في السرد الخيالي يروم الظفر بالمطلق، لأنه تصورًا شاملا، ويتطلع إلى الرؤية من وحي الخيال المجنَّح، وليس بمنظور التصور كما هو على الواقع، مهما بلغت عظمته، في حين يتطلع المعطى السياسي إلى التخاطب بما يريده المتلقي من سبل الإقناع لإثارة المشاعر، ومن هنا يكون الارتباط بين هذين الحقلين مبنيًا على ما أوجبته طبيعة متطلبات الحياة اليومية المستحدثة، التي أدخلت مجال الوعي في جاذبية التنسُّم والحساسية في كل شيء.
وتأسيسا على هذه الحالة، يكون الارتباط بين ما هو سياسي وما هو خيالي ماثلا في تحقيق الاكتفاء بكل المهارات المعرفية، وتضافر الجهود؛ لتفسير الظواهر الإنسانية بشتى السبل، واستفادة العلوم والمعارف بعضها ببعض، سعيا إلى تحقيق التطور المعرفي بهذا التكافل.
أضف إلى ذلك أن هناك عوالم كثيرة تغيرت مع إطلالة مفاهيم العولمة بصيغها المتعددة الأوجه – في جميع المجالات – نظير مسوغات تداخل الأجناس المعرفية، وتفاعلها مع المجالات الثقافية، وبموجب مؤثراتها على الوعي المعرفي، وعلى القوى الاجتماعية، بخاصة منها هويات الأطراف.
ولم تثر مسألة ترابط الأجناس المعرفية في واقعنا الثقافي ما أثارته موضوعات الرواية من جدل في تبنيها ثيمات معبرة، تنتمي إلى الرؤية المتكاملة، التي تجاوزت منظور الاقتفاء إلى نسق الانجلاء، واستبدال الطرح التفاعلي بالسؤال [الكانطي] التنويري، الذي يتطلع إلى الشيء، ويتساءل عن الوجود بأسمى معانيه، بما في ذلك طرح المحمول في فهم المراد المطلق برؤية التابع – وإبداله – بالطرح الفعلي في سؤاله [السقراطي] الداعي إلى بلوغ حقيقة الموضوع.
وهما سؤالان يكملان بعضهما في العمق، أحدهما يبحث في نسيج التخلق والتألق، في حين يبحث الثاني في مرجعية تثبت المعرفة؛ وعلى هذا النحو تسير المنظومة المعرفية بجميع أطيافها، بما في ذلك ما يجري في الحياة اليومية، ثقافيا، واجتماعيا وسياسيا.
ما رأيك في النشر في الجزائر اليوم، وفي الثقافة بشكل عام؟
مازال النشر في الجزائر يزحف ببطء شديد، على الرغم من تطور تكنولوجيا المعلومات، وسبل الاتصال والتواصل، ومع ذلك مازال يحبو، ولم يصل بعد إلى المهنية المتوخاة بالاحترافية؛ لأن فلسفة النشر مرهونة بالتسويق والمقروئية، وهذا غير وارد بالمرة في واقعنا الثقافي والمعرفي، إلا في المدة الأخيرة وبشكل محتشم، على الرغم من إسهامات الجهات المعنية، حيث خصصت السلطات الجزائرية أموالا طائلة لقطاع صناعة الكتاب.
وتقوم وزارة الثقافة – بحسب معلوماتي المحدودة – بشراء ألف وخمسمئة نسخة من كل كتاب تتم طباعته.
ويجري ذلك بعد موافقة لجنة القراءة بالوزارة، المكلفة بانتقاء الكتب التي «تستحق» الدعم؛ على أمل أن تسود النزاهة.
“المرأة الجزائرية لها مكانة مرموقة في المحافل الدولية”
في تصريح سابق، قلت إن الثقافة الفقهية الزائفة قللت من مكانة المرأة في العالم العربي. كيف ذلك؟
وهل في ذلك ضير على الثقافة المجدية؟ أعتقد أن ما قلته في لقاء لي مع إحدى الصحف الإماراتية في المدة الأخيرة كان بباعث الدفاع عن هوية المرأة الجزائرية، والمثقفة منها على وجه الخصوص، حينذاك اعتبرت أن المرأة في الوعي الثقافي العربي الدَّعيِّ، والصوري منه على وجه الخصوص “غير مؤهلة لأن تكون مبدعة، أو عالمة، أو قائدة…” وهي “موصومة – في نظر هذه الثقافة – بالعديد من الصفات السلبية النمطية، التي تُنقصها من قيمتها الحقيقية” كما أن معظم ما جاء في “موروثنا الثقافي قائم على الثقافة الذكورية التي تظلمها” ما جعلها “لا تأخذ نصيبها بالقدر الكافي، الذي يجعلها في مصاف المرأة العالمية”.
وعلى الرغم من ذلك، للمرأة الجزائرية دور ريادي في مجتمعنا العربي، وعلى هدي ذلك هي بحاجة إلى دعم أكثر من خلال نشر الوعي الثقافي، الذي من شأنه أن ينصفها أكثر، حتى تكون في مصاف نظيراتها في العالم، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة من علو المرأة الجزائرية، ورفعتها في المحافل الدولية، وليس ذلك بعزيز عليها حين تكون سفيرة لهويتها.
هل ترى أن الموروث الثقافي قائم على الثقافة الذكورية؟
دعيني الأخت سارة أفصل الحديث في هذا الشأن حتى أضع الأمور في نصابها. ولعل أول ما يمكن الإشارة إليه هو مفهوم الفحولة المهيمنة على الذكورة، المتسلطة بالاستبداد في الكثير من المجتمعات العربية، وهنا أشير – أيضا – إلى أن عبد الله الغذامي حين يستعمل مفهوم الفحولة إنما يستعمله ليختصر به النسق الثقافي للمجتمع الذكوري، الذي بنت عليه مؤسسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومؤسسات أخرى في المجتمعات العربية، التي رسخت فكرة مجتمع التدين (أركز على التديُّن، وليس الدين) بوصف مجتمع التدين جزءا من المجتمع الذكوري المهيمن على نشر ما يسمى بالقوامة، ومن هنا جاء تصريحي عن (الثقافة الفقهية الزائفة) لأميز بين ما هو ديني جدير بالقداسة، و(تدين) بحاجة إلى فحص أكثر، لدى البعض من فقهائنا.
وبالعودة إلى الإجابة عن سؤالك، فإن قوامة الرجل على المرأة هو فهم مغلوظ في تقديري؛ إذ القوامة معناها السعي، وحين يكون الرجال في مستوى القوامة فهم بذلك سعاة، والحال هذه قد تكون المرأة من السعاة، أو لا تكون، والعكس صحيح بالنسبة إلى الذكورة.
وفي ضوء ذلك حرص الوعي الراشد دوما منذ الأزل على ألا تكون المرأة رهينة المركزية الذكورية المتعالية؛ بفعل سلطة القوامة في فهمها المغلوط.
وحين نتصفح موروثنا الثقافي نجد شهرزاد – على سبيل المثال – قد كسرت هذا الطابو، كما سيأتي الحديث عنها بعد قليل.
وعلى الرغم من الوعي الراشد المطلوب فإن هناك إشكالا؛ كأن تمارس المرأة قمعًا على نفسها، تبعا لفكرة النسق المضمر المهيمن عليها، وذلك حين تدافع – من دون وعي منها – عن فكرة المجتمع الذكوري ضد نفسها؛ بحكم أن الفكرة راسخة في اللاوعي، لذلك نجدها تنافح عنه دون وعي منها، كون المضمر يمارس سلطته بالفطرة المهيمنة، كأن تدافع عنه بالصمت ألم تقل ثقافتنا: (الصمت دلالة على الرضا)، أو أنه (فقد الخاطر لوجد حاضر) أو أن (السلامة في الصمت) لماذا؟ لأن النسق المضمر يوجد في الذهن، بينما النسق الظاهر يوجد في الواقع.
وحتى أبقى في سياق سؤالك في علاقة الموروث الثقافي القائم على الثقافة الذكورية، يجدر بي في هذا المقام أن أعطي بعض الأمثلة من تاريخنا الأصيل مع نصوص ليالي ألف ليلة وليلة، بوصفها جزءًا من ذهنياتنا التخييلية التي شكلت ميتولوجيتنا، بالنظر إلى ما جاء في هذه الليالي من تعبير عن عالم يَحكي ما وراء العالم المدرَك، وقد حملت الكثير من المعاني المضمرة منها السخرية بالملوك، ومنها ترجيح العاطفة على العقل في الاهتداء إلى الحقائق الكبرى؛ إذ إن شهرزاد قد أرشدت الملك إلى إنسانيته، وردّته عن غريزته الوحشية،لا بوساطة المنطق، بل بالعاطفة، فصارت رمزا للحقيقة التي يعرفها المرء عن طريق هذا الشعور والحب.”
فسلطة الكلام التي فرضتها شهرزاد لم تكن تعبيرا مجانيا لكسر الوقت، بقدر ما كانت سلاحا فطريا لاحتواء الزمن، وقد جاءت قصص ألف ليلة وليلة على وفق ما اهتدى إليه جيرار جينيت لما سماه بالمتعاليات النصية transtextualité، كما جاءت مضامين هذه القصص معبرة عن المضمر بامتياز، في إشارة إلى إرسال رسائل مشفرة، نأخذ منها – مثلا – حكاية أبي الحسن وجاريته تودد مع الخليفة هارون الرشيد، التي تسرد قصة رجل شديد الثراء بدّد كل ما ورثه ما عدا وضيفة (جارية) اسمها تودّد، وهي التي اقترحت على سيّدها أن يبيعها إلى الخليفة هارون الرشيد، ويطلب مبلغا كبيرا مقابلا لها.
وحين استكثر الخليفة المبلغ عليها، طلبت منه أن يختبرها ليعرف أنه لا نظير لها. ويفعل الخليفة ذلك. اجتازت تودد امتحانات العلماء المدعوين لاختبارها ومنهم: الفقيه شيخ الاتجاه الاعتزالي إبراهيم بن سيار النظام، الذي أجابت عن أسئلته بكل اقتدار، فسلّم أمام الخليفة أنها أعلم منه.
لكن تودد لم تكتف بهذا، بل قلبت الطاولة عليه، وجعلت تسأله، حتى وصلت إلى مسألة خلق القرآن عند المعتزلة لم يعرف جوابها. وكان ثمن إعلانها للتفسير أن ينزع ثيابه، فبادر الخليفة قائلا “فسّريها وأنا أنزع لك ما عليه من الثياب”، وحدث هذا فعلا! وحين تصدى لها رجل آخر من الحضور، فعلت به الأمر نفسه، فأقرّ لها بالتفوق. وفي هذا عدة دلالات:
1- استخلاص حقيقة مؤداها أن خطاب السلطة في هذه الحكاية يسعى إلى اكتساب شرعية دينية وسياسية في آن، لأن المناظرة تجري في قصر السلطة الحاكمة (هارون الرشيد).
2- نلمس تحاملا مسبقا وثقة لا حدود لها في كشف تهافت معتقدات النظام المعتزلي ومع ذلك يعترف في نهاية المناظرة بانهزامه وانتصار الجارية تودد.
3- انتصار الجارية على النظَّام لا يعدو كونه تمثيلا لانتصار خطاب أهل السنة على المعتزلة.
4- المطالبة بخلع النظام ملابسه في حال انتصارها دلالة على أن الفعل يؤشر على الفضح المنظومة المعرفية السائدة.
5- أرادت أن ترسل رسالة مفادها عدم وجود الاختلاف في الرأي، لأنهم متساوون في تهافت الرأي الواحد وضحالة المعرفة واستقالة العقل لصالح سلطة النقل.
6- أرادت أن تضرب خطاب السلطة الذي يحرص بداهة على تغليب طرف على آخر وإكسابه حُجية أوفر في أفق الإخضاع والتطويع.
7- أرادت أن تضرب منطق التعجيز باعتباره مرادفا لغياب الحوار الحقيقي.
8- أرادت أن تستنكر تغييب السؤال الحقيقي وتجذير سلطة الإجابات الثابتة، واستنكارها تغييب جوهر العلم والإشكاليات الرئيسية.
9- أرادت أن ترسل رسالة مفادها استقالة الذات الإنسانية من العقل في المنظومة الثقافية وتحفيزها الركون إلى الإتباع، خاصة العزوف عن طرح الأسئلة الأساسية والمحاججة العقلية.
10- إلى جانب ذلك إسباغ الشرعية على المعرفة كما يراد لها أن تكون من قبل خطاب أهل السنة والجماعة.
طيب، والحال هذه ألا يكون هذا انتصار للأنوثة وضرب للذكورة. ثم قبل ذلك، ألا تبيِّن هاته المناظرة تجسيد العنف الشمولي الذي يمارسه الخطاب السائد ووجد سبيله في المتخيل.
أكثر من ذلك ألا تكون هذه المقدرة في مضمرات دلالة الوعي العربي آنذاك بحاجة إلى الانفتاح وإعادة ترتيبه لأنه جاء من وصيفة ليس لها نظير في الحسن والجمال والبهاء والكمال والقد والاعتدال، ولم يأت من شهرزاد ( والفرق واضح).
ولعل ما يعنينا هو أن العلاقة بين الذكورة والأنوثة في نص (تودد) يشير إلى إنصاف المرأة، وأن كل النصوص الموظفة في الليالي تصب في خانة التصدي للذكورة بخاصة للقوة المتسلطة في رمزية شهريار الذي عجز كل الناس عن أن يوقفوه، فجاء سلاح الأنثى والمعرفة معًا
فأين نحن من تودد على الأقل؛ فضلا عن شهرزاد، بوصفهما رمزين لدور المرأة في الحياة الاجتماعية الند للند مع الذكورة.
كيف تصف حضور الروائيات الجزائريات في المشهد الثقافي العربي؟
حضورٌ غني، ومدعاة للفخر والاعتزاز؛ لأنها تمارس الوظيفة نفسها التي يمارسها السرد الذكوري، ومن ثمَّ تمارس الروائيات الجزائريات السرديات المتناقلة في إحداث التناغم بين الشخوص وبين الواقع؛ لتعبر كل روائية بهذه السرود عن الائتلاف والاختلاف مع قضايا الواقع المريب بكل تفاصيله عبر الواقع، مع التركيز على إظهار حجم الاستلاب الكبير الذي يقع عليه المجتمع العربي برمته؛ حتى أنه لم يعد قادرا على المساهمة في خلق الفعل الحضاري.
ومن هنا جاءت نصوص الروائيات الجزائريات كإشارة للانعتاق من الرتابة والتمرد على التنميط الفني السائد والمفضي إلى التبعية الذكورية.
أضف إلى ذلك أن السرد عن الروائية الجزائرية – شأنها في ذلك شأن السرد الذكوري – تعيد قراءة الواقع في ظل المتغيرات اللاهثة في المجتمع الجديد، والمجتمع الجزائري ليس بمنأى عن هذه التحولات المدهشة لتضعنا في عدة مفارقات مهمة ومثيرة، ولأنها مهمة لأنها أسهمت في رسم الواقع العربي كما ينبغي أن يكون، أما أنها مثيرة فلأنها اخترقت اجترار مرارة الانكسار الفني الذي تربع على عرشه جنس الشعر.
ما الذي يشغلك هذه الأيام، وما عملك القادم؟
ما يشغلني هو ما يشغل كل باحث ومثقف، غيور على هويته الثقافية، ومن ثم فإن المشاريع كثيرة، والمطالب التي قد تعطل تحقيق هذه المشاريع أكثر، ومع ذلك أحاول قد المستطاع تحقيق ما في حدود الإمكان.
ولعل أكثر ما يشغلني الآن هو الاهتمام بالإبداع الجزائري الذي غبت عنه بعض الوقت لأسباب هيمنت عليَّ في أثناء وجودي خارج الوطن، ولم أحتسب لذلك في البداءة.
كاتبك المفضل؟
القرآن الكريم، وبعده كتب أبي حيان التوحيدي
شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
أتمنى، و(ما كلّ ما يتمنّى المرءُ يدركه)، أمنيتي أن أزور الأستاذ الدكتور علي عقلة عرسان، رئيس اتحاد الكتاب العرب (سوريا) من الثمانينات إلى بداية الألفية الثالثة، ولماذا هذه الشخصية بالذات؟ لأنها أعطت للجزائر الحب الوافي، والقدر السابغ من الاحترام، وحين كنت أستمع إليه – في أثناء زيارتي له – وهو يشرح لي علاقته بالثورة الجزائرية، أصغي إليه مندهشا، نظير ما كان يقدمه للجزائريين حتى بعد الاستقلال من نشر الكتب في الاتحاد.
وليس لي في هذا المقام إلا أن أسأل الله له بأن يحفظه، ويرعاه، بموفور الصحة والعافية.
عبد القادر فيدوح، ناقد وأكاديمي من مواليد 1948 بمدينة معسكر في الجزائر، عمل سنواتٍ طويلة في جامعة وهران، وجامعة الفاتح بليبيا، وجامعة البحرين، ثم في جامعة قطر. يهتمّ في دراساته بالنظرية النقدية المعاصرة، وبنظرية السرد، والدراسات السيميائية. له ما يزيد على خمسين كتابًا، كان آخر إصداراته (التاريخ والسياسة في الرواية الجزائرية الصادر عن دار ميم – الجزائر 2022).…