يرى الباحث والأكاديمي ومدير كرسي بمعهد العالم العربي بباريس، الطيب ولد العروسي، أن المثقف العربي واعي، لكنه أصبح حاليا غائبا وغير قادر على تكوين نخبة حقيقية، وأشار إلى أن المثقف الحقيقي هو من ينقل النظريات إلى الواقع وليس ذلك الذي يطلّ على مجتمعه من برج عاجي، من جانب آخر، أكد أن الأدب العربي يحسب له ألف حساب في المؤسسات الثقافية الغربية، ويزخر بمكانة استثنائية في الغرب، وهو مفخرة للعرب.
يتحدّث الباحث الأكاديمي، الطيب ولد عروسي، في حوار خص به مجلة “فواصل”، عن معهد العالم العربي بباريس وتحوّله مع مرور السنوات، إلى فضاء رحب للثقافة والفن، على الصعيد الأوروبي والعالمي، والذي يزوره أكثر من مليون شخص سنويا، هدفه التعريف بالحضارة والثقافة العربيتين لجمهور واسع من الفرنسيين والأوروبيين بل ومن العالم أجمع.
ويتحدّث الطيب ولد العروسي أيضا في الحوار عن المثقف ورؤيته لبناء جسر بين النخبة المثقفة والبسطاء من الناس، إضافة إلى مواضيع حول غزارة الإنتاج الأدبي واعتباره ظاهرة صحّية تخدم المجتمع، وأشار إلى أن الكتّاب أو المبدعين، يخوضون معارك الوجود رغم التصحّر الثقافي الذي تشهده الجزائر التي تزخر بطاقات حفرت وفرضت مكانها في كل مكان من العالم.
للإشارة، استقر الطيب ولد العروسي في باريس منذ 1973، حيث تابع دراسته الجامعية، وتحصّل على شهادة في اللغة العربية وآدابها، والدروس المعمّقة في الحضارة العربية من جامعة السوريون، أيضا متحصّل على شهادة في علم المكتبات والتوثيق من جامعة “فانسين” له أبحاث ومقالات في العديد من المجلات والصحف العربية، وساهم في العديد من المؤتمرات والملتقيات الفكرية الدولية في اختصاصه في علم المكتبات والتوثيق، وفي الأدب، والترجمة، والتاريخ.
الطيب ولد العروسي مدير كرسي بمعهد العالم العربي بباريس، ماذا بإمكان معهد العالم العربي أن يضيف للغة والثقافة العربية في أوروبا التي توحدها اللغة اللاتينية؟
كانت الجزائر معروفة بكراسي البحث في مجالات متنوعة، لكن هذه الكراسي بدأت تحتضر، حتى أنّها لم تعد موجودة الآن، أما بالنسبة لكرسي المعهد، فقد تناول مجموعة من القضايا السياسية والفكرية والثقافية التي واكبت مرحلة ولادته (1994 – 1991)
لقد ساهم في إثراء المشهد الثقافي والفكري، لكنه توقّف عن مواصلة نشاطه حتى تعيين الصديق الدكتور معجب الزهراني مديرا عاما للمعهد، حيث استعاد الكرسي أنشطته في منتصف العام 2017، بعد تأمين شراكة مع مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة التي كان يديرها د. محمد شحرور، حيث انطلق مسار الندوات الثقافية للكرسي، لتعقد كل شهرين تحت عنوان عام هو – نحو فكر عربي جديد- ومعها سلسلة محاضرات واحتفالات تكريمية خصّصت لباحثين ومبدعين متميزين من الجنسين نظمت في باريس وفي عديد الحواضر العربية.
هذا فضلا عن ضيف الكرسي الذي يتمّ الاحتفاء به بشراكة مع مركز ثقافي عربي في باريس أو مؤسسة فرنسية، وكذلك إبرام شركات فعّالة مع جامعات ومعاهد ومؤسسات ثقافية عربية وفرنسية وأوروبية معتبرة.
علاوة على إنجازنا لسلسلة مائة كتاب وكتاب بالشراكة مع جائزة الملك فيصل في الرياض، تناولت شخصيات فكرية، عربية وفرنسية، تميّزت بأعمالها وانشغالاتها في التقريب الثقافي والحضاري بين ضفتي البحر المتوسط، الفرنسية والعربية، وذلك في مجالات فكرية وأدبية ونقدية وعلمية عدة.
وفي هذا الإطار، نظّم كرسي معهد العالم العربي بالشراكة مع مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة، أول محاضرة افتتاحية للدكتور محمد شحرور، ساهم فيها مجموعة من المثقفين والأكاديميين والأساتذة الجامعين، وكانت بعنوان “آليات تحديث الفكر الإسلامي” أدارها الدكتور غالب بن الشيخ، وافتتحها الدكتور معجب الزهراني الذي أكّد أن “هذه المبادرة تأتي ضمن رؤية عامة تبنّاها منذ مباشرته العمل لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية، وهي: تعزيز حضور اللغة العربية في معهد العالم العربي، والانفتاح على المثقفين العرب غير الناطقين بالفرنسية، وكذلك البحث عن فرص جدِّية لشراكات تسمح بالحضور الفعّال للمعهد على الضفة الأخرى للمتوسط”.
وقدّم الدكتور شحرور في هذه المحاضرة أطروحاته بصدد المفاهيم المؤسسة للفكر الإسلامي الجديد، وأسهمت فيها إلى جانبه الدكتورة الباحثة آسية عقيل وطارق أوبرو الكاتب المعروف وإمام مسجد بوردو.
وقد أشارت إذاعة فرنسا الثقافية الفرنسية إلى أن “عالم الأنثروبولوجيا ديل إيكلمان منح محمد شحرور لقب مارتن لوثر الإسلام”، وهذا صحيح، يوجد لوثر في هذا المهندس السوري المتخصّص في ميكانيكا التربة، والذي كان شغوفًا بالتفسير القرآني”.
وقد عمل على إعادة قراءة النص التأسيسي لدينه، ثم توالت اللقاءات والتكريمات، حيث أنشأ الكرسي جائزة منحها للعديد من المفكرين والمثقفين، وفي هذا الإطار تمّ تكريم المفكر الكبير إدغار موران Edgard Morin) الذي بُرمج ضمن لقاء الكرسي الثاني وكان بعنوان :”حرية الفِكر في العالَم العربي: رهانات وتحدّيات.”
نذكر منها على سبيل المثال: “ثلاثون عاما من الفكر العربي: معطيات وآفاق” شارك فيها مجموعة من الباحثين والأكاديميين من مختلف التخصّصات والاتجاهات الفكرية، تلاها تكريم المستعرب الفرنسي الكبير أندريه ميكيل André Miquel ، ونظم الكرسي ندوة بعنوان: “الفكر، العلم والدين في العالم العربي: القضايا والإشكاليات” تبعها تكريم البروفسور رشدي راشد، أحد أبرز المتخصّصين في تاريخ العلوم العربية الإسلامية.
وختم الكرسي أعماله سنة 2018 بتنظيم لقاء بعنوان: “من أجل إعادة التفكير الثقافي النفسي في الفرد في المجتمعات العربية”، شارك فيه مجموعة من الباحثين والأكاديميين والمتخصّصين في علم النفس، حيث تمحور النقاش حول الأسباب الحقيقية لاهتزاز الفرد هل هو راجع إلى الدين، أم إلى غياب الحرية والديمقراطية؟ أم إلى السلطة العربية التي تملي وحشر بالمواطنين في دائرة عدم التفكير خارج منظورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ أم ذلك عائد لعدم تحرّر الإنسان العربي من النظريات الغربية وتوظيفها بشكل يخدم الإنسان العربي انطلاقا من ثقافته وهويته؟ يمكن متابعة هذه اللقاءات والتكريمات، معظمها متوفر على اليوتيوب.
ما هي المكوّنات الثقافية لمعهد العالم العربي وهل هناك إستراتيجية ما يعتمدها؟
فرض معهد العالم العربي نفسه على الساحة الثقافية الباريسية والأوروبية وحتى العربية بفضل أنشطته ومشاريعه الثقافية المتنوّعة، وهو مؤسّسة ذات نفع عام خاضعة للقانون الفرنسي تشرف عليها فرنسا والدول العربية.
” معهد العالم العربي .. فضاء رحب للثقافة والفن“
وبدأ كمشروع آخر سبعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس الراحل جيسكار ديستان Valéry Giscard d’Estaing، وتمّ افتتاحه سنة 1987 من قبل الرئيس فرانسوا ميتران Francois Mitterrand، خاصة أنّه كان من ضمن مشاريعه الثقافية الكبرى والمنجزة في عهده والتي أشرف عليها جاك لانغ Jack Lang وزير ثقافته آنذاك، حيث يؤكد في حوار إلى تلفزيون الجزيرة قائلا: “عندما كنت وزيرا للثقافة في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، أقنعته بأهمية هذا المعلم من أجل بناء جسور الحوار والتلاقح الثقافي الحضاري بين العالم العربي وفرنسا، ورحّب بالفكرة، ومنذئذ أصبح للفرنسيين والأوروبيين مكان معروف، في قلب باريس، من أجل التعرّف عن قرب، على الحضارة العربية الإسلامية، التي أبدعت وقدّمت الكثير للإنسانية في كل المجالات.”
وتحوّل المعهد، مع مرور السنوات، إلى فضاء رحب للثقافة والفن، على الصعيد الأوروبي والعالمي، يزوره أكثر من مليون شخص سنويا”.
هذا ويجدر القول بأن معهد العالم العربي يُدار مناصفة بين الدولة الفرنسية والدول العربية، حيث يعيّن رئيسه من قبل رئيس الجمهورية الفرنسية والمدير العام يرشحه بلده ويعيّنه مجلس السفراء العرب.
هل ترك زوار المعهد بصمات في سير ونشاطاته؟ وما نسبة إقبال العرب من بين المترددين عليه؟
أثبت المعهد نفسه بفضل أنشطته المستمرة والمتجدّدة، حتى غدا فضاء ثقافيا بامتياز، خاصة أنّ عدد زواره من كل الشرائح الاجتماعية والثقافية في تزايد، إذ يتجاوز عدد زوار المليون شخص في السنة، وأن عدد المستفيدين من معارضه يفوق المائة ألف شخص.
وحسب التقارير الثقافية فهو يحتل المرتبة الخامسة، بعد متحف اللوفر وبوبورغ والمكتبة الوطنية الفرنسية، ومتحف لافيلات الخاص بالعلوم والتقلّبات الجديدة، وفي المعهد ننظم ما بين 300 و350 نشاطا ثقافيا سنويا في كل المجالات الثقافية مكتبة متحف المعارض الكبرى والصغرى والمتوسط، علاوة على اللقاءات الثقافية التي لا تتوقف والسينما .. إلخ.
طبعا أصبح للمعهد أصدقاء، وهم منظمين في جمعية أصدقاء المعهد، واحتفى بمرور 30 سنة على افتتاحه وهو يواصل أنشطته خارج وداخل جدرانه لأن الكثير من معارضه يعاد برمجتها في الكثير من المؤسسات الثقافية العلمية في العالم العربي وفي الغرب، يلتقي في المعهد كبار المثقفين العرب والغرب، ما جعله فضاء حقيقيا للحوار الثقافي والحضاري.
أما إستراتيجيته فهي التعريف بالحضارة والثقافة العربيتين لجمهور واسع من الفرنسيين والأوروبيين بل ومن العالم أجمع، وهو مؤسسة فريدة من نوعها، باعتبارها تقدّم العالم العربي بأقلياته الدينية والأثنية، وكل مكوناته الثقافية والحضارية، عن طريق الكتاب والسينما والمسرح والمعارض وتدريس اللغة العربية ومختلف اللقاءات الثقافية، من ندوات ثقافية وفكرية وأيام دراسية، وتاريخية.. الخ.
ما دور المرأة في تكوين الطيب ولد العروسي وفي مسيرته؟
++ بالنسبة إلى المرأة، فأنا أحترمها كثيرا لأنها رسول سلام حقيقي، وبدونها لا يستطيع العالم العربي بكل مؤسساته الثقافية والسياسية أن يتطلّع إلى غد مشرق.
لقد لعبت المرأة في حياتي أدوارا استثنائية، وذلك بداية من جدتي وأمي رحمهما الله، لما فتحت عيناي وجدت نفسي معهن، لأن الوالد رحمه الله كان يقبع في سجون الاستعمار الفرنسي. لقد تحدّت هاتان الأيقونتان العواصف الاجتماعية والنفسية والمادية، وعانت الكثير من مداهمات العدو، وكافحتا، وتحدّتا الطبيعة، وغرستا فيّ التحدي والتفتح على الآخرين.
” من لم يفهم أو يتغابى عن دور المرأة .. جاحد“
نعم لقد عاشتا حياة ضنكا، رغم أنّهما قد أثبتتا وجودهن، وهذا هو الدرس الأوّل، وفيما بعد وجدت أهم وأروع مساعدات من المرأة، مثلا جئت من الجزائر بشهادة ضمان اجتماعي لمدة شهر فقط، ولكن إحدى الطبيبات الفرنسيات، وقفت معي لأواصل علاجي وهي من كانت وراء تسجيلي في جامعة فانسان التي بنيت إستراتيجيتها في الأصل على منح العمال الالتحاق بالجامعة، لمواصلة دراساتهم، وكانت تفتح أبوابها لطلبة في نفس مستواي.
لقد كانت مساعدة الطبيبة هذه هي انطلاقة جديدة لي، لأنها وفّرت لي أوراق الإقامة والتأمين الصحي، مما سمح لي بمواصلة علاجي، وساعدتني المرأة في الكثير من الحالات، وأنا ممتن لها، وبالتالي فإنّ من لم يفهم أو يتغابى عن دورها فهو جاحد ولم يفهم سرّ الوجود، المرأة حامية وصديقة وحبيبة ورفيقة، ما أروع أن يحظى الإنسان بثقتها.
وكم أكون حزينا حينما أسمع أو أقرأ لبعض من يدعون بأن الإسلام وضعها في فضاء معيّن، وأنّها خلقت لتخدم الرجل وغير ذلك من السخافات والحماقات، هؤلاء لم يفهموا لا رسالة الإسلام العميقة، ولا فلسفة الحياة، المرأة مبدعة عظيمة، انظروا إلى كل المؤسسات الغربية فهي مسيّرة بصراحة من المرأة.
والمرأة كائن استثنائي، وعلينا أن ننظر إليها، على الأقل، من خلال دور الأمهات اللواتي كنا وراء تربية عظيمات وعظماء في مختلف مجالات الحياة.
وكانت والدتي رحمها الله تسعد كثيرا حينما تراني أقرأ كتابا، ومع مرور الزمن تفتخر بمتابعة بعض لقاءاتي في وسائل الإعلام، وأنا أزعم أن بعض من نجاحي، هو تحقيق لحلمها الذي راودها ولسوء الحظ لم تستطع الذهاب إلى المدرسة، ما عدا في الفترة الأخيرة من حياتها حينما التحقت بمحو الأمية، أهديتها محفظة وحينما أكون في البلد أصاحبها إلى القسم ثم أعود إليها بعد انتهاء حصة الدراسة. منعها الطبيب من بذل جهد في الكتابة والقراءة، ولكنها كانت تمارس ذلك خفية على والدي، وأعتقد أن حب القراءة والخروج من شرنقة الجهل، وتمسّكها بالقلم كان وراء تعجيل مرضها، رحمها الله رحمة واسعة.
“المثقف الحقيقي هو من ينقل النظريات إلى الواقع”
ما تعريفك للمثقف؟ وكيف يمكن بناء جسر بين النخبة المثقفة والبسطاء من الناس؟
المثقف، في رأيي، وباختصار، هو ذلك الذي يستعمل عقله بشكل متفتّح ومستنير وعقلاني، يساهم في اكتشاف الحقائق دون الاعتماد على رجل السياسة أو رجل الدين، وهو ينير الطريق لشعبه وأمته، شرط أن يتمتّع بثقافة واسعة وبحنكة في رؤيته وطرحه للأفكار، وهو واحد من الشعب، وبالتالي عليه أن يحتكّ بهمومهم ويعيش قلقهم ويزرع الأمل لديهم، وأن يفكّر في مجتمعه انطلاقا من هويته، وثقافته ولا يأتي بنظريات جاهزة تزعزع هويته وتبدّد فكره.
فالمثقف الحقيقي هو من ينقل النظريات إلى الواقع وليس ذلك الذي يطل على مجتمعه من برج عاجي، يأكل في كل الصحون، ويبيع نفسه ويصبح بوقا لخدمة أكاذيب أو مخادعات، أو مراوغات، باسم التقدمية، من أجل أن يصبح نجما، أو يشار إليه، كما يقال، بالبنان، وعلى المثقف أن يعي بأن لديه رسالة تسهم في تقدّم وتطوّر مجتمعه.
في رأي الطيب ولد العروسي، هل المثقف العربي عنصر فعّال ومؤثر أم مؤدلج ومتعال وألعوبة في يد من يملك المال؟
المثقف العربي الواعي هو عنصر فعاّل لا شكّ في ذلك، وهو دون شكّ يشجّع كل ما يخدم مجتمعه، فالواقع العربي محرقة كبيرة، والمثقف فيها ينتظر إرادة سياسية وإستراتيجية نمو فعّالة لكي يندمج فيها.
“المثقف العربي لم يعد قادرا على تكوين نخبة..”
هناك مثقفين دخلوا مع السلطة وأصبحوا ينظرون إلى التغييرات من منظورها، وهذا غلط، وهو يعي ذلك، لكن في رأيي أغلب المثقفين الذين سايروا بعض الأنظمة وهم يعرفون متاهاتها، كان أملهم أنهم سيحاولون تغيير الأمور من داخل السلطة وليس من خارجها، لكنها ابتلعتهم وأصبحوا جزءا منها، وهي حالة يمر بها المثقف العربي في كل دولة.
طبعا، المثقف الحقيقي هو من يحافظ على استقلاليته وهو ليس بالأمر الهين، فعندما نعود إلى الحراك على سبيل المثال يبدو وكأن النخبة كانت على الهامش، ولم تكن ضمنه عدا بعض المثقفين وهم قلائل ساندوا الحراك منذ بدايته، فهل أنجزوا رؤية أو إستراتيجية للمساعدة في إنارة الحراك على بناء مشروع؟ سؤال مطروح بإلحاح.
يبدو أن المثقف العربي غائب أو لم يعد قادرا على تكوين نخبة حقيقية تساهم في تشجيع الحراك على المواصلة وعلى مدّه ببديل يعتمدون عليه، لأن الحراك فرصة جادة لتغيير الأوضاع المزرية ووضع حد للفوضى والعبث.
هل أنت مع أم ضد الكتابة بالعامية ولماذا؟ وهل يجوز كتابة السرد بالعامية؟ وهل كتابة الحوار بالعامية تفسد الذوق العام؟
على المبدعين والمبدعات أن يكتبوا بلغة تسمح لهم بالانتشار، لأن أي كاتب أو مبدع يريد أن يكون مقروءا من قبل أكبر شريحة اجتماعية، وأنا مع المفكر عبد الله العروي حينما سئل عن “المشكلة في العامية أو المحكية بحسب تعبيره ليست في اعتبارها لغة وطنية أو غير ذلك من المسمّيات،» العقبة الكأداء «تتمثّل في الحرف، والخيارات المتاحة مستحيلة في منظوره.
فالعامية إن كتبت بالحرف العربي لا فائدة فيها ولا تحقق المبتغى المأمول منها، وإذا كتبت بالحرف اللاتيني نكون قد ابتعدنا تماماً عن موروثنا الثقافي العربي، أزعم أنه أهم وأنبل موقف.
والكتابة بالعامية تبقى محصورة في نطاق ضيق وتتنافى مع فلسفة الكتابة الذي تعني الانتشار، لأنها تحمل أفكارا وتأملات. هل يمكننا أن نكتب على ابن رشد أو شحرور أو ابن سينا أو محند تازروت بالعامية، إما أن نكتب عنهم بعربية فصيحة أو بلغة أجنبية، لكن من الصعب أن نكتبها بلغة عامية، أما ان كانت تعنى بالحكاية الشعبية والأنثروبولوجيا والشعر المحكي فلما لا، ولكن يجب أن لا تكون قاع.
ما هي أهم المعوقات التي يصطدم بها الكتّاب الشباب؟ ما هو تقييمك لظاهرة غزارة الإنتاج الأدبي؟ وأيضا ظاهرة الأكثر مبيعا؟
إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يجري في الجزائر على سبيل المثال، فإننا نلاحظ غياب توزيع الكتاب، وغياب المكتبات وغياب الترويج الإعلامي للكتاب، وهي معوقات يجب على الدولة أن تجد لها الحلول المناسبة، وهي معروفة.
“نعيش واقع ثقافي مخيف..”
بعد الاستقلال كان الكتاب عند صدوره يوزّع غدا في جميع المدن الجزائرية، كانت هناك فضاءات لاستقبال الكتاب، وكانت وسائل الإعلام تحتفي بهم، أمّا اليوم فقد عدنا إلى الوراء.
ولا أعرف متى نعود إلى الوضع الطبيعي، عندنا جامعات في كل ولاية ومخابر ودور نشر، ولا رواج لما يكتب ولا ما ينجز من معارض وأفلام سينما، بل إنّ الأدهى أن أغلب القاعات أصبحت محلات “ساندويتش”على مرأى ومسمع من الوزارات المعنية، وهو أمر مخيف وإشكالي في نفس الوقت، لماذا هذا الصمت وعدم أخذ الأمور بجدية؟ أسئلة محيرة، وواقع ثقافي مخيف.
هل ما هو رائج الآن من قصة وشعر ورواية يعبّر عن الإنسان العربي وأزماته وصراعه مع ضغوط الحياة ومع ذاته؟
إنّها مفارقة كبيرة يعيشها الوضع الثقافي في الجزائر، فعلى سبيل المثال في مجال النشر يبدو أن الجزائر منذ سنوات وهي تحتل المرتبة الأولى في العالم العربي، في عدد الكتب المطبوعة، رواية وشعرا ونقدا وفكرا، ولكن الناشرين يعانون من قلّة أو عدم وجود آلة توزيع تعرّف بانتاجهم، وهذا ينعكس على الكتاب وخاصة الشباب الذين يقتحمون الساحة بأعمال جيدة، والمسؤولون يبدو أنهم يقومون بنفس الملاحظات وأعتقد أنهم واعون، ولا حياة لمن تنادي.
لا توجد نقاط بيع ولا مكتبات اللّهم البعض منها في العاصمة، والمفارقة هناك إنتاج ضخم من حيث الكم والكيف، وفي المقابل لا بديل ملموس يحتوي هذه المنشورات.
” المكتبات والكتاب في وضع مزري..”
وهنا لا بد أن أذكّر بالعمل الذي يقوم به الصديق المبدع، عبد الرزاق بوكبة ومجموعة من زملائه وأصدقائه في كامل التراب الوطني على التحريض لإنشاء مقاهي ثقافية، وهي فضاءات يبدو أن الشباب يتردّدون عليها، لكنها لا تجد حسب ما قيل لي، أي تشجيع من المسؤولين في كل القطاعات، وحتى وإن وجدت تشجيعا، فهذا لا يكفي، يجب على الوزارة المعنية أن تأخذ الأمور بجدية وبسرعة، كفانا خطابات ونظريات، يجب مصاحبة هذا التحرك الثقافي بمد جسور حقيقية متعارف عليها عالميا، والتصرّف بحكمة وبسرعة، وإثراء المكتبات ووضعها على الشبكة وإنشاء شبكة توزيع تتكلّف بها الدولة، أو تتركها للقطاع الخاص، شرط أن يحترم أصحابه المقاييس المتخذة في هذا المجال، يجب أن نمنح هذا الجانب الأولوية القصوى، وسيكون ذلك في صالح الجميع القراء والكتّاب.
ويجب أن تُنشر المعرفة، وتؤسس نوادي ثقافية، ونقابة مهنية تدافع عن الناشرين وعن كتابهم، أؤكد نقابة مهنية مسلحة بالمقاييس الدولية تفهم في أن هذا العمل ليس “بريكولاج” وليس في متناول أي كان، بل رسالة وواجب تمليه أخلاقيات.
وهنا أركّز على أخلاقيات المهنة، إذ لا شكّ أن هناك أصواتا جديدة مميزة، غير أن تقييمها يبقى ضعيفا ما دام الكتّاب يعانون من التوزيع التهميش، و- أصارحك – لا أعرف إن كان لدينا مجلة أو نشرية، على الأقل تقوم بعملية جرد لكل ما ينشر.
وأرسلت منذ سنوات باقتراح (للنقاش والإثراء) لتحريك وضع الكتاب، لوزارة الثقافة وهي مساهمة متواضعة مني للخروج من هذا الجمود والبؤس، أوصلت صديقة لي المشروع إلى الوزارة ولكن لاحياة لمن تنادي.
أنا شخصيا كمهني، في مجال المكتبات والتوثيق، أرى أنّ المكتبات والكتاب في حالة مزرية وأعلنت عن ذلك في العديد من المرات في اجتماعات وفي حوارات ولقاءات مع بعض المسؤولين ولا جديد يذكر .
ما هو رائج يبقى في حلقات صغيرة وغير معروف، وبالتالي فهي معاناة يمكننا معالجتها بسرعة شرط أن تتوفّر إرادة سياسية، أما ما يصلني من كتابات جديدة ففيها أشياء مهمة، خاصة في ميدان تحليل الخطاب والنقد والنظريات الحديثة، والفلسفة، أما في مجال القصة والشعر فهناك نوابغ.
لكن أعمال هؤلاء وأولئك غير موزعة وغير معروفة بين القراء والمهتمين، الكثير من يعيد ذلك إلى قلّة المقروئية، هذا صحيح نوعا ما، لأن هناك إحصائيات مخيفة، من ضمنها أن القارئ العربي لا يقرأ أكثر من نصف صفحة سنويا، وأن الأستاذ الجامعي لا يقرأ كتابين في السنة، وأن بعض الطلبة يفتخرون – نعم يفتخرون – بأنّهم حصلوا على شهادة ليسانس ولم يقرؤوا أي كتاب، وأن هناك آلاف من الدكاترة المزيفين، وأن ما يترجم من والى اللغة العربية لا يتعدى واحد في المائة وأنّ اليونان تنشر تقرأ وتترجم أكثر من العالم العربي كله، وهذه معروفة لدى الكثير من المسؤولين السياسيين، وفي هذا الإطار، تم إنجاز نوع من قراءة عميقة مع اقتراحات حكيمة في تقرير الثقافة عن مؤسسة الفكر العربي عام 2013، ولكنّه بقي في أدراج المسؤولين.
المشكلة تكمن إذن في عدم وجود رؤية تنهض بهذا القطاع، ومن العيب أن تبقى الجزائر في نفس الوضع المزري بعد 60 سنة من الاستقلال.
“الأدب العربي يحسب له ألف حساب في المؤسسات الثقافية الغربية”
ما هي نقاط التميّز التي يمتلكها الأدب العربي؟
ميزة الأدب العربي هو تاريخه الطويل وحقبه المختلفة، وكشف المستور والتعبير عن المسكوت عنه، والمكتبة العربية غنية بهذا الإنتاج الضخم والمتماسك والمكمل لبعضه البعض، وله ميزات كثيرة كالتعبير عن الأوضاع السياسية، والرفض، والإبداع في كل تجلياته، والسخرية.
هناك تاريخ طويل حافل بالقول وبالتمرد، الأدب العربي خاض في كل تيمات الوجود، وترك لنا صفحات مبهرة أثرت آداب العالم بلغتها وخيالها وشجاعتها واستشرافها لكثير من الأحداث، الأدب العربي يحسب له ألف حساب في المؤسسات الثقافية الغربية، ويزخر بمكانة استثنائية في الغرب، وهو مفخرة للعرب.
هل الكتابة هدف أم وسيلة؟ وهل الموهبة وحدها تكفي ليكون الكاتب قادرا على صياغة نص جيد؟
الكتابة ليست هدفا ولا وسيلة، الكتابة عصارة تجربة فكرية أو إبداعية وهي ليست موضة، بل هي مثل الأوكسجين.
فهي عمل نبيل ورسالة تساهم في تطوّر المجتمعات وتشارك في نمو العقل الإنساني، الكتابة ليست لعبة، بل هي سلاح مقاومة تعبّر عن حيوية المقتنعات، لا أعرف ماذا تريدين القول بالموجة، لكن إن كنت تقصدين الكم الهائل من المنشورات فهذه ظاهرة صحية، يجب مصاحبتها وليس تركها كما هي، وهي ظاهرة تعبّر عن صرخات من المطلوب تحليلها من طرف المسؤولين.
هي ظاهرة تعبّر عن التمرد على الأوضاع السلبية، ويجب أن تُدرّس وتقيّم وبالتالي تشجيع ما هو جيد منها على المواصلة، هؤلاء الشباب أو المبدعون وراءهم أهدافا نبيلة، إنهم يبدعون ويكتبون في صحراء جرداء، بسبب غياب الوسائل التي ذكرتها، المواهب تشجّع وعلينا أن نقرأ أعمالهم حتى نفرّق بين الغث والسمين.
الكتابة فعل حضاري، ولا أعتقد أن أي كاتب مهما كان يقدم على طبع أعماله لمجرّد الإشهار، بل هو يريد المساهمة في الحركة الفكرية والنقدية والإبداعية، وعليه فالمسؤولية على عدم وجود رؤية للنهوض بهذا القطاع وليست على الكتّاب أو المبدعين، فهؤلاء يخوضون معارك الوجود رغم التصحّر الثقافي الذي تشهده بلدنا الذي يزخر بطاقات حفرت وفرضت مكانها في كل مكان من العالم.