تعرفُ قضية الحرية اِلتباسات غير قليلة في عالمنا العربي ـ الإسلامي نظريًا وعمليًا، فكريًا وقانونيًا. يرجعُ هذا الأمرُ، ربّما، إلى تشابك القضية مع مُعطيات التاريخ والموروث الاِجتماعي/ الثقافي من جهة، ومع إشكالات الحداثة والعصرنة السياسيّة المرتبطة ببناء الدولة الوطنية الحديثة وما تتطلّبه من اِلتزامات من جهةٍ أخرى.
لذا نعتقدُ، فعلاً، أنَّ الحرية ليست قضية نظرية فحسب بقدر ما هي تصوّر يرتبط بأبنية الفكر والثقافة التاريخية المُتجذّرة والرؤية الثقافيّة العامة التي تقومُ عليها شرعية السلوك والنظر. من هنا نفهمُ كيف أنَّ الحرية ـ بمفهومها الحديث الّذي رسّخته الحداثة الظافرة في الغرب منذ عصر الأنوار تحديدًا ـ ظلت تُعاني من غربتها الثقافية والتاريخية عن مُجتمعاتنا التي لم تعرف نفس الحراك التاريخي الّذي عرفتهُ الضفة الأخرى من البحر المُتوسّط.
هذا الأمر يُبيِّنُ، بكلّ تأكيد، كيف أنَّ القيم لا ترتبط بسماء المعقولات وإنّما بالسياقات التاريخية للتحوّل الاِجتماعي وبالمطالب الناشئة ضمن ديناميكية إعادة ترتيب علاقات القوّة في المُجتمع.
وكمثل الحرية نجدُ الاِستبدادُ كذلك لا يمثل وضعًا مفارقًا للتاريخ وللوعي بالحرية باِعتبارها اِنعتاقًا مشروعًا مِمَا يُعتبرُ سلبًا لكرامة الإنسان.
لقد عاشت البشرية عهودًا طويلة على أوضاع كانت تشرِّعُ للخضوع والطاعة والرؤية الثقافية التي تكرسُ التراتب الهرمي للمجتمع وعلاقات الإخضاع. كان الاِستبدادُ، بالتالي، غيرَ مُفكر فيه باِعتباره وضعاً لا إنسانيًا وإنّما ظلّ، في أحايين كثيرة، يحظى بميزة خاصة باِعتباره أمرًا مشروعًا وسلاحًا ضدَّ إمكان السقوط في الفتنة.
وإذا رجعنا إلى الأدبيات السياسية العربية ـ الإسلامية في العصور الوسطى وجدنا هذا الأمرَ في مصنفات اللاهوت السياسي والآداب السلطانية المعروفة. وربّما تنبهنا، أيضًا، إلى أنَّ الحرية لم تكن مُفكرًا فيها اِنطلاقًا من مفهوم الإنسان باِعتباره فردًا يملك حقوقاً طبيعية لا تُنتهك، وإنّما ظلّت مُرتبطة دائمًا بنظام الفكر اللاهوتي الباحث عن علاقة الفعل البشريّ بالخلق الإلهيّ. لم تكن الحرية مفهومًا يرتبط بوجود الإنسان السوسيو – سياسي وإنّما باللاهوت.
لم تكن حقًا وإنّما حجة على العدل الإلهي أو القدرة الإلهية كما نجدُ في الفكر الكلامي الإسلامي منذ بواكيره في العصر الأموي. ولم يتعرَّف الفكر العربي على هذا المفهوم الحديث للحرية إلاّ بعد “صدمة الحداثة” كما يُعبَّر، وهذا بعد اللقاء الإشكالي بالآخر المُستعمر الّذي أنجز حداثته الأولى وثوراته المعرفية والسياسية الليبرالية.
هكذا كانت النُخب العربية منذ ما سُمّي “عهد النهضة” مأخوذة بالمُنجز الليبرالي الغربي، ورأت فيه النموذج الحضاري الّذي بإمكانه أن يُخرجَ الذات المُنهكة من عطالتها الحضارية. وهنا نعثرُ على بوادر الفهم الأوّل للحرية باِعتبارها حرية الفعل والتفكير والحق في الاِزدهار الشخصي والمُشاركة في الحياة العامة واستخدام العقل في مقابل التقاليد الرَّاسخة والمُؤسَّسات التي تمثلها.
إنَّ للتفكير في الحرية عندنا – باِعتبارها حقًا سياسيًا وكيانيًا للإنسان – منشأً تاريخيًا اِرتبط بذلك اللقاء بالآخر الغربي الحديث.
من هنا طفقنا نُدينُ الاِستبدادَ السياسي ونُبشّرُ بضرورة عتق العقل من مرجعيات الماضي ومن تقاليد الفكر الموروثة، كما طفقنا نحلمُ بدساتير تُحدّدُ الحقوق الإنسانية والواجبات وتجعل من السلطان السياسي تعبيرًا عن الإرادة العامة في العيش المُشترك والاِزدهار والمناعة. كان هذا في العهد الليبرالي الّذي تعرَّف على فولتير وروسو ومونتسكيو ومبادئ الثورة الفرنسية.
ولكنَّ تعقيد التاريخ أجهض هذه الأحلام أو قُل ضيَّق من فُرص نجاحها. فقد كانت تبدو يوتوبيا اِرتبطت بتطلعات النخب التي درست في الخارج وأرادت فرض نموذجها الطليعي التقدّمي على مُجتمعات ظلت، في بنياتها الأساسية، بطريركية / تقليدية تُمارسُ نوعًا من المُمانعة أمام كلّ مُحاولات التغيير كما هو معروف.
ولكن تجبُ الإشارة إلى أنَّ الليبرالية شكّلت مهدًا للحديث عن الدستور والحقوق المدنية الحديثة وبينها الحرية بمفهومها الشامل كما أسَّست لها النزعات الفردانية المُنبثقة في الغرب الحديث منذ القرن السابع عشر. نجدُ هذا عند لطفي السيد وطه حسين تمثيلاً لا حصرًا.
لا يُمكننا أبدًا تناول مسألة حضور الحرية في الدساتير العربية والغربية دون مُقاربة تاريخية تقرأ هذا الأمرَ ضمن سياق من التحوّلات والصِّراعات التاريخية التي اِنبثقت معها مشروعية هذه القيمة اِجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا.
فنحنُ نعرفُ مثلاً كيف أنَّ مسألة الحقوق في الغرب الحديث مرَّت بلحظتين كبيرتين: اللحظة الليبرالية التي تمحورت حول حقوق الفرد وتأسيس فكرة المُواطنة على أساس من العقد الاِجتماعي، واللحظة الاِشتراكية التي تمحورت حول حقوق الجماعات. ظلّ هذا الأمرُ تجسيدًا لصراع إيديولوجيّ طبع القرن العشرين وتجلى في دساتير الغرب وهو ينقسمُ على نفسه عقائديًا اِنطلاقًا من رافدين تاريخيين كبيرين: جون لوك وروسو وميراث عصر الأنوار من جهة، وكارل ماركس من جهة ثانية.
ونُلاحظ في عالمنا العربيّ أنّه بعد أن عرفنا الدستور الليبرالي الّذي ركّز على الحقوق وبينها الحرية كان لنا أن ندخل مُغامرة إيديولوجيا “الثورة العربية” بتلويناتها القومية والاِشتراكية التي ولدت بعد مخاض الصّراع مع الغرب الإمبريالي ومع بنيات الرجعية العربية الآفلة. هكذا اِحتل الاِهتمام بالعدالة والمساواة والتنمية والبناء القومي كلّ الفضاء المُخصّص للحقوق على حساب الحرية الفردية بكلّ تجلياتها. وهكذا شهدنا، أيضا، نمذجة الفكر وقمع الحرية الفكرية. كان هذا اِستبدادًا معاصرًا يختفي وراء غنائية العدالة والمساواة وهو ما جسَّدتهُ الأنظمة العربية في أشكالها القومية والبعثية تحديدًا.
لقد ظلّت الحرية بهذا المعنى ـ منذ نصف قرن على الأقل – ذات حضور مُحتشم في الحياة السياسية العربية وفي الدساتير التي قامت على الأحادية الحزبية، وركزت على مبدأ السيادة والاِستقلال وعدم الركون إلى إيديولوجيات الغرب الفرداني/الليبرالي المُعادي لحرية الشعوب واِستقلالها التاريخي من التبعية الموروثة عن الأزمنة الكولونيالية.
ظلّ الفرد العربي غائبًا عن تشكيل ملامح مصيره لغياب المُجتمع المدني الّذي لم نكتشف ضرورته العظيمة إلاّ بعد اِنهيار المنظومة الإيديولوجية الاِشتراكية أواخر القرن العشرين، ما عجّل بالمُطالبة بدساتير مدنية حديثة تعترف بالتعدّديّة السّياسيّة والفكرية وبحق المُشاركة السياسية للمواطن العربي في الشأن العام على غرار ما شهدنا في الجزائر بعد اِنتفاضة تشرين الأوّل (أكتوبر) 1988.
كذلك يجبُ ألا ننسى أنَّ بعض الدول العربية لا تملكُ، إلى اليوم، دساتيرَ تضمنُ المواطنة وتُحدّدُ حقوق الفرد العربي وواجباته، وإنّما تعتمدُ على سلطة التقاليد الموروثة وحكم العائلة وفضائل الوفرة المالية البترولية في اِجتراح آفاق تنمية تخلو، بطبيعة الحال، من بُعدها الإنسانيّ العميق.
مِمّا لا شكّ فيه أنَّ الغرب ظلّ المُلهمَ الوحيد للفكر السياسيّ الحديث منذ ثوراته السياسية الكبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إنكلترا وفرنسا تحديدًا. لقد تحدَّدت، تبعًا لذلك، فلسفة الحكم باِعتباره أمرًا يقوم على الإرادة العامة والتعاقد الاِجتماعيّ، وعلى فلسفة لحقوق الإنسان الطبيعية التي يجبُ صونها وعدمُ اِنتهاكها.
هذا هو الجذر التاريخي والفلسفي لدساتير الغرب الّذي قطع مع اللاهوت السياسيّ وهيمنة الكنيسة والصّراع الطائفي ودشن عهد العلمنة السياسية والحقوق المُتساوية والمُواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب.
لقد اِستقلت السياسة عن البُعد العقدي وترسَّخت الحرية باِعتبارها جوهر الكائن الإنساني، وهو ما أخذ أبعادًا أخرى فيما بعد، اِجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا أيضا، مع حركات الاِحتجاج الكبيرة التي مثلها الجناح الاِشتراكي لتطوّر الحقوق في مجابهة اِنحرافات الليبرالية التاريخية.
ولكنَّ الأمرَ الّذي لاحظناه في عالمنا العربيّ – منذ قرنين تقريبًا ـ هو تلك المُمانعة السوسيو – ثقافية لمُحاولات التغيير والاِنتقال إلى الحداثة الحقوقية والاِجتماعية والسّياسيّة. لقد ظلّ تاريخنا الباطني المُرتكز على بنية المُجتمع العربي البطريركية/الذكورية في جوهرها سدّاً منيعًا أمام التجديد الاِجتماعي والسياسي، وظلّ التغيير يُراوحُ مكانه داخل دائرة الفعل الثقافي والإبداعي دون أن يتجذّر، هو الآخر، في بنية الوعي الثقافيّ العام.
من هنا سيادة الاِستبداد في الحياة العربية. وهو اِستبدادٌ لا يرجعُ في عُمقه، على ما نرى، إلى أهواء المُستبد العربيّ فحسب وإنّما ـ أيضاً ـ إلى بنية الثقافة السائدة اِجتماعيًا في اِرتباطها ببنيات سوسيولوجية قائمة على الإخضاع وبنية العلاقات الهرمية التي تعيقُ اِنبثاق الفرد. ونحنُ نعلمُ أنَّ “ثورات الربيع العربيّ” التي أزاحت المُستبد العربي لم تستطع أن تدشّن عهدًا جديدًا كليًا في مسائل الحقوق والحريات وقضايا وضع المرأة والدولة المدنية.
فقد خرج ماردُ الأصولية من قمقمه مُجدَّداً وأصبح يُهدّدُ ـ كعادته ـ كلّ مسعى إلى الديمقراطية الفعلية التي قام من أجلها التمرد الشبابيّ.
ونحنُ نرى ـ اِنطلاقًا من ذلك ـ أنَّ الدين السياسي عندنا مظهرٌ من مظاهر شهوة الهيمنة على مقادير المُجتمع وقد لبس عباءة المُقدَّس في مُواجهة خطر التغيير الّذي تنشدُه الفئاتُ الأكثر تقدمًا في المُجتمع العربي وبخاصة الشباب. ولكن هل اِنعكس هذا على التشريع العربي قانونيًا ودستوريًا؟
من المعروف أنَّ لائحة الحُريات ضيقة في عالمنا العربي وإن كان هناك تفاوتٌ بين بلدٍ وآخر في هذه المسألة. ولكننا ما زلنا نُلاحظ أنَّ بعض الحريات الأساسية التي ترسَّخت في الغرب ما زالت تُعتبَرُ “تابو” عندنا كحرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير والحق في المعارضة.
هذا ما يكشفُ عن بعض مآزقنا الثّقافية التي لم نفصل فيها إلى اليوم في ظلّ غياب تفكير جدي في قضية العلمنة الإيجابية، وفي ظلّ إصرارنا على وضع دساتير تبدو حديثة في ظاهرها وإن كانت تخفي إرادة تأبيد الاِنقسام الطائفي في مُجتمعاتنا أو تكريس هيمنة الطائفة الغالبة.
ولكنَّ هذا الأمر نفسه يكشفُ عن عجز فكرنا، إلى اليوم، عن تناول المُشكلات خارج مدار العقل الديني/ الفقهي الّذي لم يتجدَّد بصورة كافية منذ قرون. وربّما أشار هذا إلى غياب التجديد في مرجعية عمل المُجتمع وبقائها أسيرة لثنائية العسكريّ والمُعمَّم، أو الاِستبداد والماضوية.