مازال العالم العربي يفتقر إلى سياسة ثقافيّة واضحة المعالم على التنوّع والثراء الثقافي الّذي يزخر به، والّـذي كان من الممكن أن يُستثمر كدعامة رئيسة لضمان سلمه القومي ووئامه الاِجتماعي ورخائه الاِقتصادي.
بخلاف عديد الدول والتكتّلات التي تستند إلى الثقافة في رأب صدوع بنيتها الاِجتماعيّة وتجاوز توتراتها الإثنية والدينيّة، مازال العالم العربي ساقطاً في دوامات التناحر الطائفي والتطرّف الديني لقيامه بالأساس على فكرة القوميّة العرجاء، التي تركن إلى الشعار وتعاف الجوهر.
وعلى الرغم من كون عديد الدول العربيّة قد اِنخرطت في اِتفاقيّة اليونسكو 2005 لحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي، هذه الاِتفاقيّة الملزمة لأعضائها بتبنّي سياسة ثقافيّة محدّدة قابلة للقياس والتقييم، تبقى أغلب الدول العربيّة تتعامل مع الملف الثقافي بصفته واجهة إشهاريّـة للنظام متى شاء أغدق، ومتى شاء حرم، لتسيطر ثقافة المهرجانات التي تُعلي من شأن الحاكم ولا تُلبّي حاجة المواطن، بما أنّها في الأصل غير موجّهة إليه.
وإن كانت دولة كسوريا مثلاً تُـعد من أوائل الدول الموقّـعة على هذه الاِتفاقيّة، فواضح جدّاً الأزمة التي تعانيها هذه الدولة كمآل لتهميش مبدأ “الوحدة في التنوّع” والاِرتكان إلى شعار قاصم “أمّـة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة”، والّـذي آل بالمنطقة ككل إلى اِقتتال طائفي يثأر – وبأكثر الوسائل فشلاً: العنف – لثقافات كُـبِتت وهُمّشت لعقود بدعاوي الوحدة المغلوطة.
ليس من قبيل المُبالغة إذن بأي حال القول بأنّ فشل الاِستراتيجيّات الثقافيّة العربيّة وعدم الاِهتمام بكتابة سياسات ثقافيّة نابعة من حاجات المواطن العربي؛ تُـثري من بناه الثقافيّة وتُعلي من شأن قيم هويّـاته، كان من الأسباب الرئيسة لاِختلال السلم القومي في عديد الدول العربيّة ولخيبة كلّ خُطط الوحدة العربيّة سواء السياسيّة أو الاِقتصاديّة أو غيرها.
فالسياسة الثقافيّة كفيلة بوضع معالم لطريقة اِستثمار الثورة الثقافيّة للمنطقة وإخراطها في مشروع التنمية الشامل، بحيث يدعّـم القطاع الثقافي القطاعات السياحيّة والتعليميّة والاِقتصاديّـة وحتّى الصحيّة والأمنيّة، ولنا في برنامج (VivaCultura) “الثقافة الحيّة”، الّـذي أطلقه وزير الثقافة البرازيلي الموسيقار جيلبرتوجيل∗سنة 2003، خير مثال عن إمكانيّة إشراك الثقافة في مشروع التنمية الشامل للمجتمع، بحيث تصبح الثقافة أسلوب حياة، بل ودعامة حقيقيّة لتحسين مستوى الحياة للطبقات الأكثر ضعفًا بالمجتمع وللأقليّات المهمّشة، بل ولدمقرطة الحق في الفرح بدمقرطة الحق في ممارسة الثقافة الأصيلة لكلّ مواطن.
والسياسة الثقافيّة لا يمكن بأي حال أن تُـفرض من فوق دونما اِستشارة للفاعلين الثقافيين وللمواطنين، إذ يُـفترض أن تكون هذه العمليّة نتاج مشاورات بين الحكومات والمجتمع المدني المراقب والمستفيد الحقيقي من كلّ السياسات، فوحدها هكذا سياسة ستكون كفيلة بتحقيق برنامجها على الأرض، بخلق معاييرها القادرة على تقييم الأداء وقياس النتائج.
ويبقى الوطن العربي مفتقداً لمثل هذه الحركيّة التواصليّة التي تجعل الحكومات في تماس حقيقي ومجتمعها المدني، ولهذا السبب الرئيس اِرتأت مجموعة من الفاعلين الثقافيين – وبدعم من مؤسسة المورد الثقافي – في بلاد كالجزائر ومصر واليمن والمغرب وتونس وموريطانيا والأردن وفلسطين .. أن تُـطلق مبادرات مدنيّة لكتابة سياسات ثقافيّة لبلادها مستندين إلى عمليّة تشاور عميقة وكلّ الفاعلين في الميدان الثقافي ولأبحاث في واقع السياسات والتدابير الثقافيّة المطبّقة، وكان أن نجحت بعض المبادرات بالخروج بسياسات ثقافيّة مكتوبة بعد سلسلة من اللقاءات المفتوحة وجمهور المهتمين على الرغم من حملات التشويه والتخوين التي طالتها، كما حصل لــ”مجموعة العمل حول السياسة الثقافيّة بالجزائر”، لكنها نجحت في أن تكون أوّل مجموعة عمل تطرح سياسة ثقافيّة مكتوبة لبلادها رغم جلّ التحديّـات التي اِعترضتها، وفي اِنتظار اِستجابة السلطة لمقترحات هذه المبادرة تبقى هذه المجموعة وفيّة لبرنامجها القائم بالأساس على مشروع بناء وتعزيز قطاع ثقافي مستقل بالجزائر يكون همّه الرئيس تقديم منتج ثقافي يحترم تطلّعات المواطن الجزائري ويقدّر جميع مكوناته الثقافيّة.
يبقى أنّ تبنّي أو كتابة سياسة ثقافيّة لا يعني حتمًا تطبيقها والوفاء لمبادئها، خاصّـةً في ظلّ أنظمة لا تمنح للمجتمع المدني فرصة مُراقبة آدائها أو انتقاده، لهذا يبقى على كاهل الناشطين الثقافيين والمؤمنين بضرورة إرساء تقاليد ثقافيّة جديدة بالمطنقة المضي قُـدمًـا في حشدهم للتأييد سواء الحكومي أو الإعلامي أو المجتمعي…، وفي بنائهم للقدرات في مجال التسيير والإدارة الثقافيّتين الّـذي سيكفل خلق جيل متمكّن من طرح البديل والمُراهنة عليه.
وفي ظلّ غياب أي اِهتمام رسمي بالتكوين أو البحث الأكادميين في مجال السياسات الثقافيّة بالمنطقة، لتخريج الإطارات القادرة للتخطيط لمستقبل الثقافة العربيّة مع كلّ ما يتحدّاها من سيطرة للفكر المُتطرّف ومن تناحر طائفي وإثني.. تبقى مُـبادرة مؤسسة المورد الثقافي الساعية لإطلاق ماجستير للإدارة والسياسات الثقافيّة في مشروع تعاون بين كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بنمسيك المغربيّة وجامعة هيلديسهيم الألمانيّة (University of Hildesheim) المتخصّـصة في مجال السياسات الثقافيّة أوّل مبادرة جديّـة لخلق مناخ أكاديمي مُـتخصّص في مجال الإدارة والسياسات الثقافيّة في المنطقة العربيّة، هذا المشروع الّـذي خطط له مؤسسة المورد الثقافي منذ سنوات، وهو يعمل على تكوين باحثين وإطارات متخصّصة في هذا المجال مستفيداً من التجربة الألمانية المُتميّزة في تسيير القطاع الثقافي، القطاع الّـذي اِستندت إليه ألمانيا في دعم مشروع تصالحها مع ذاتها.
الأكيد ستبقى الجهود التي يبذلها الفاعلون الثقافيّون المستقلّون المؤمنون بضرورة الترسيخ لتقليد تبنّي سياسات ثقافيّة شفافّـة قابلة للمُراجعة والتقييم والنقد كلّ فترة تطبيق، كفيلة بأن تسهم في خلق مناخ يعمل ويطالب بتحديد الإستراتيجية الثقافيّة المستقبليّة لمنطقتنا باِعتبار الثقافة رابع عمود من أعمدة التنميّة المُستدامة.
** شغل جيلبرتو جيل منصب وزير الثقافة بالبرازيل من 2003 إلى 2008، وأطلق هذا البرنامج المبدع كترجمة عمليّة لانخراط البرازيل في اتفاقية اليونسكو 2005، يقوم هذا البرنامج بالأساس على اعتبار الثقافة تعبيرا رمزيا سواء أكان جماليّا أو أنثروبولوجيّا، وعلى الاستناد إلى مبدأ دمقرطة الحق في ممارسة الثقافة والمواطنة لكلّ البرازيليين، وعلى استثمار الثقافة كمورد اقتصادي وإنتاجي للتنمية، وقد عرف هذا البرنامج نجاحا باهرًا لدرجة أن عديد الدول الأوربيّة شرعت في استنساخه على بلادها.