إنّ المُتأمل في تاريخ المسرح يجده بأنّه تطوّر بعكس النظريات التي يطرحها المسرح اليوم، أي أنّه قد بدأ مع موكب العابدين في الاِحتفالات الديونيسية التي كان يُقدّمها العباد في فصل العصر والخصب (فصل الربيع) حيث تكثر كذلك التمثيليات الساتيرية والديثرامبية في شكل عرض أمام الجمهور المُشاهد لتلك الطقوس والأعياد التي تُنظمها الأسطورة اليونانية.
نريد هنا أن نقول أنّ المسرح لم يتدرج من النظري إلى العملي بل وُجِدَ أوّلاً مع الاِحتفالات الدينية والأعياد الرسمية والوطنية التي تُخلّد مآثر البطولات عند الإغريق لتأخذ هذه الاِحتفالات حيزًا من الاِشتغال الفلسفي عند كلّ من أفلاطون وأرسطو وهنا بدأ التمييز في شكل تلك الأعياد والاِحتفالات. فقسم هؤلاء الفلاسفة تلك الأناشيد والغنائيات إلى شكلين:
1-شكلٌ أعلى يرتبط بالثقافة الرسمية وأطلقوا عليه التراجيديا (المأساة) وهي الفن الّذي يُعنى بالخوارق وبطولات الأبطال القوميين والآلهة وأنصاف الآلهة.
2- الشكل الأدنى وهو الكوميديا (الملهاة) وهي الفن الّذي تكوّن عند طبقة الأدنياء وهي في العموم طبقة الفلاحين والضُعفاء من النّاس. والكوميديا عبارة عن تسلية يومية لهذه الطبقة من قدر الحياة اليومي وتأسس عليها أشكال وأنواع من فلسفات الضحك والمرح والسخرية.
هذا التنظير هو الّذي أدى بأفلاطون إلى أن يطرد الشعراء من جمهوريته إلاّ فيما اِرتبط بالمأساة، بينما عند أرسطو فقد اِستطاع أن يكتب كتابًا كبيراً يُسمى (فن الشِّعر) تناول فيه الأشكال الشِّعرية المختلفة وخصوصاً ما يتم عرضه على خشبة المسرح، مسرح الحياة أو المسرح اليوناني وحاول أن يعطي رؤيته الخاصة للموضوع لذلك تعدّ رؤية أرسطو من أهم التصورات الجمالية والفنية للمسرح بشكلٍ عام.
وهكذا تلاحقت الكِتابات والنقاشات حول المسرح ليغرق هذا الأخير في عدد من النظريات التي لا تجد لها تخريجاٌ على الخشبة، ما أُريد طرحه أنّ المسرح في بداياته كان من الخشبة إلى التنظير ولكن المسرح الحديث قلب الموضوع فأصبح التنظير أكبر من الركح، فكيف يمكننا أن نتحدث عن هذا الإشكال؟ أي ما تطلبه الخشبة كخشبة من المسرحية بعيدًا عن التنظير الّذي لا نفهمه كمسرحيين في كثير من الأحيان.
هنا يلزم أن نتحدث عن مقومات المسرح وقبله أن نتحدث عن مقومات المسرحية، لأنّ المسرح بشكلٍ عام اِنتقل من الطابع الاِحتفالي والمهرجاني أو الكرنفالي إلى الكتابة، بمعنى أنّ المسرح أصبح يعتمد على النص، فهل ما يُكتب للخشبة يُراعي مقومات الخشبة؟ أو أنّ النصوص عبر تاريخ الكتابة المسرحية غيّرت في شكل الخشبة المسرحية؟ فأصبحنا نتحدث عن المسرح التقليدي وعن مسرح الهواء الطلق وعن المسرح الفقير وعن مسرح العبث وعن مسرح الحلقة فهل هذه العوارض أو الطوارئ هي جزء من ثقافة الخشبة؟ أو أنّها إضافات لها؟ ومحاولة لمتابعة التطوّرات الاِجتماعية والثّقافية التي حصلت للمسرح؟
وما هو حال المسرح عندنا في الجزائر؟ هل فعلاً هناك اِنسجام بين الخشبة والنص؟ ولماذا هناك هوة بين الكاتب المسرحي والمخرج المسرحي؟ ألا يخدم كلاهما المسرح؟ أم أنّ الرؤية هي التي تُحدّد طبيعة الكتابة المسرحية؟ فالكاتب ينطلق من التصور بينما المخرج ينطلق من الركح، إذا أيّ تطور للمسرح هو ناتجٌ بالأساس عن هذا الجدل: الخشبة والنص المكتوب، فما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في النص المكتوب؟ وما هي المقومات التي يجب أن تتوافر في العرض البصري؟
أوّلاً على مستوى النص المكتوب، تشهد الساحة المسرحية اليوم عدداً من الكُتّاب المسرحيين الذين لم يتخرجوا من أقسام الفنون الدرامية بل أغلبهم بدأ الكتابة المسرحية كهواية، وفي كثير من الأحيان نجدهم قد ولجوا للمسرح في البداية كممثلين في فرق هاوية ثمّ اِختاروا الدخول للكتابة الدرامية اِنطلاقًا من تجربتهم فوق الخشبة.
حينما اِكتشفوا ميولهم للكتابة خاضوا هذه التجربة دون رسوخ في تقنيات الكتابة المسرحية وعزاءهم في ذلك أنّهم يبحثون عن نصوص تتناسب وقدراتهم الأدائية أو اِقتباساً لنصوص عالمية وجعلها تتناسب مع ظروفهم المادية والمسرحية، هذا النوع من الكُتّاب لا يعوّل عليهم كثيراً في تخريج مسرحيات تتناسق ومبدأ العرض وإنّما هي مجرّد نصوص طامحة لأن تكون مسرحيات تحتاج إلى إعادة كتابة مع ما يتناسب ومُمكنات هذا الفن واستراتيجياته في الكتابة.
كانت أغلب تلك النصوص تنتمي إلى ما عُرف بمسرح القوال أو مسرح الحلقة التي بدأت مع كبار المسرح الجزائري أمثال الراحلين عبد القادر علولة وكاكي ولد عبد الرحمان اللذين ركزا بشكلٍ كبير على توظيف الحكايات والقصص الشعبية ومسرحتها في طابع فرجوي أو ما يُسمى في العادة بحركة جزأرة المسرح ومعناه إعطاء المسرح طابع الخصوصية الثّقافية الجزائرية.
وهنا نجد أنّ المسرح الجزائري في بواكيره كان واجهة جمالية للفنون الشعبية في مستوى القول والأداء أي أنّ الأسواق التي كانت هي بيت الفن عند الجزائريين والتي كان يجتمع فيها الشعراء والحكاؤون والقوالون ويعرضون فنون القول في شكل درامي وهناك تكونت اللبنات الأولى لِمَا نُسميه المسرح الشعبي الجزائري.
وهو المخاض الأوّل الّذي دفع هذا النوع من المسرح إلى الوجود في الفضاءات الشعبية غير أنّ “عبد الله الركيبي” في كتابه “تطور النثر الجزائري الحديث” تناول في الفصل الرابع من الكِتاب المراحل المُختلفة لتطور المسرح الجزائري أوّلاً ما يُسمى بالأشكال البدائية مثل عرائس الكراكوز أو خيال الظل.
حيث تكشف “أرليت روت” و”بوكلير موسكو” على أنّ هذا النوع من المسرح كان له وجود في الفضاءات العامة سواء بالجزائر العاصمة (1843) أو قسنطينة (1862) وبسكرة (1930) لكن الإدارة الاِستعمارية منعت هذا النوع من الاِنتشار لأنّه يُشجع على النقد وعلى تأليب الجماهير ضدّ هذه الإدارة وهو ما جعل المسرح يتطوّر إلى ما يُسمى بالمسرح الفكاهي العربي .
وكذلك يلح عدد من الباحثين في الشأن المسرحي أمثال جروة وهبي علاوة ومحي الدين بشطارزي على أنّ الزيارة التي قام بها “جورج أبيض” للجزائر بداية عشرينيات القرن الماضي كانت دافعًا قويًا في نشوء وتكوين بعض الفِرق المسرحية في الجزائر وبدأ جيلٌ من هؤلاء المسرحيين في الاِقتباس من الأدب العالمي خصوصاً المسرح الفرنسي “وذلك لأنّ صفوة المثقفين الجزائريين كانوا إذ ذاك يتوجهون بفكرهم وأرواحهم نحو فرنسا.
فلم تكن المسرحيات العربية تهمهم في كثير أو قليل بينما لم تجد جمهرة الشعب الجزائري في مسرحيات تعرض بالفصحى كثيرًا من المتعة وهذه الظاهرة الأخيرة، ظاهرة إعراض عامة الجزائريين عن المسرح الأدبي الّذي لا يحوي عناصر الفرجة الشعبية هي ظاهرة بعيدة الغور والأثر في المسرح الجزائري” .
كما أنّ هناك محاولات فردية في الكتابة المسرحية على رأسهم المسرحية التي قدمها محمّد العيد آل الخليفة “بلال” في عمق الرؤية الإصلاحية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، كما أنّ هناك بعض المسرحيات التي لم يشر إليها النقد الجزائري وأشارت إليها بعض المقالات والأبحاث خصوصاً الكِتاب الّذي قدمه “خثير ذويبي” حول شخصية “حسان بلكيرد” الّذي اِستطاع بعبقريته الشديدة أن يكتب جملة من النصوص المسرحية أهمها “الزواج المغضوب”، “اليتيمان”، “أصحاب الحِرف”، “المشعوذون أو القصاب والطالب”، “الشايب والشباب” التي تعدّ نواة جديدة تنضاف إلى أخرى في الكتابة المسرحية كـــ”حنبعل” لتوفيق المدني. وعمومًا فالمسرح الجزائري مر بمجموعة من المراحل المضطربة من الناحية الإنتاجية ولا يمكن اِعتبارها البتة مراحل إنتاج مسرحي بقدر ما يمكننا أن نقول أنّها أرخت لظهور المسرحية في الجزائر لذلك يعدد الكاتب مصطفى كاتب سمات المسرح الجزائري فيما يلي: ”
1-إنّه ظهر من خلال العرض الشعبي مرتبطًا بذوق الجماهير الشعبية الغير مثقفة حيث كانت الاسكاتشات الأولى تُقدّم في مقاهي الأحياء المزدحمة بالسكان.
2-إنّه مسرح اِرتبط بالغناء وبلغة خفيفة قادرة على توصيل الفكرة والتعبير الفني وإرضاء ذوق المتفرج
3- إنّه مسرح شعبي غير مثقف بقي بعيدًا عن رجال الأدب حتّى أنّ بعض هؤلاء حينما جربوا الكتابة المسرحية لم تكن نصوصهم صالحة للتقديم ولذا بقيت أعمالاً أدبية نُشرت في الكُتُب والمجلات
4- إنّ الممثلين أنفسهم هم الذين اِضطلعوا بمهمة كتابة وإعداد النص المسرحي وكان بعض هذه النصوص يُوضع شفهيًا بواسطة أحد الممثلين ثمّ تجري كتابته في وقت لاحق من قِبل زملاءه كما كان يحدث في حالة رائد المسرح الجزائري رشيد قسنطيني ولهذا اِرتبط المسرح الجزائري اِرتباطًا عضويًا بالعرض وبالعرض فقط” .
ولم يبقى الحال كما هو الحال عليه فيما بعد حيث انتشرت الصحافة الثقافية كما اِنتشرت معها الجامعات والمدارس وكونت جيلاً مفصولاً عن العرض قريبًا من النصوص خصوصًا نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات حيث سقط البيان الاِشتراكي وانفتحت الساحة على دراما الصراع بين النماذج الثقافية المختلفة فظهر جيلٌ جديدٌ يقوده عبد القادر علولة، صونيا، محمّد بن قطاف، عز الدين مجوبي وغيرهم.
بدؤوا يكتبون اِنطلاقًا من رؤية تجريبية مع تكون مدرسي مهم في المسرح الواقعي والفانتازي وانفتحت التجربة من ثمّ على أسبقية النص على العرض وتحرك المسرح بشكلٍ خافت جدًا نتيجة الأوضاع الأمنية والاِقتصادية ليتعزز النص على حساب العرض ليخوض المسرح الجزائري تجربة جديدة خالفت فيها المنظور المسرحي للسبعينات لتتعزز الرؤية المسرحية بأسماء ومدارس وأقسام فنية في الجامعات الجديدة لتُزاحم الكتابة المسرحية أجيالٌ جديدة تملك رؤية مأساوية عن البطل كما تُقدّم نصوصًا منفصلة تمامًا عن الواقع.
نصوص تنفتح على التجربة الكونية والعالمية أكثر منها تجربة تخصّ الأزمة الجزائرية، يمكننا أن نقول هنا أنّ المسرح الجزائري في عمومه عاش مرحلتين، مرحلة أسبقية العرض على النص نتيجة الضرورات السياسية والثقافية لمرحلة الستينات والسبعينات ومرحلة أسبقية النص على العرض نتيجة الأزمة الأمنية والإغلاق التام والشلل الّذي أصاب دور المسرح في تلك الفترة.
وهذا يجعلنا نستنتج أنّ المسرحية التي تنطلق من الخشبة قبل النص برغم قيمتها الفنية والجمالية إلاّ أنّها تفتقد إلى الأرشيف الّذي يُخلدّ ذاكرة العرض كما حصل مع عديد المسرحيات التي تمّ عرضها ولكنّنا لا نملك عنها وثيقة مكتوبة بالرغم من النجاح الّذي حقّقه العرض حيث ماتت بموت الممثلين.
بينما المسرحية المكتوبة نجدها لا تحمل رؤية جمالية لتقنيات العرض المسرحي فهي منفصلة عن الخشبة ولا يمكن في كثير من الأحيان أن تتوافق مع رؤية المخرج المسرحي إلاّ بعد أن تتم إعادة كتابتها أو معالجتها دراميًا نتيجة أنّ هؤلاء الذين يكتبون للمسرح تفتقد نصوصهم لتقنيات الكتابة الدرامية والمسرحية على وجه الخصوص لأنّهم لا يملكون ثقافة الخشبة أو العرض المسرحي، هذا ما يجعلنا نؤكد على أنّ مسرحية جيدة معناها نصٌ جيّد برؤية إخراجية جيدة.