توطئة عن الروحانية: “سِفرُ العودةِ” وفاجعة السقوط في المنفى..
لن تكون مداخلتي هذه عن الروحانية بمفهومها السَّائد أو التقليدي الذي يضعها مباشرة في مواجهة المادية أو في صدام مع كل ما هو جسدي – حسي كما درجنا على ذلك.
لن تكون، بمعنى ما، انخراطا في النقاشات والمواقف المكرورة التي تستثمرُ في تلك القسمة المكرسة منذ فجر الفلسفة بين ما هو روحاني وما هو مادي، بين اللطيف والكثيف، بين البسيط والمركب، بين العلوي والسفلي.
تلك ثنائياتٌ مثلت براديغم النظر إلى العالم منذ أصبحت الأفلاطونية رؤية معقولة للعالم امتدَّ تأثيرُها حتى إلى الأديان. نتذكر في هذا مقولة نيتشه في كتابه “بمعزل عن الخير والشر” عندما أشار إلى المسيحية باعتبارها “أفلاطونية موجهة للشعب” كما يعبِّر. جذرُ الرؤية القديمة للعالم واحد في العمق.
لن أقفَ، بالتالي، على ذات الأرضية الميتافيزيقية التي أنتجت صراع الثنائيات المذكورة وإنما سأحاول أن أحرِّرَ النظر إلى الروحي من أصداء التمذهب المغلق الذي جعله شاحبَ الحضور في حياتنا وبعيداً عن مغامرة الذات الفعلية في اكتناه المعنى واحتضان السر والسَّفر المُضني إلى ردم الهوة بين الذات والعالم ممَّا يشكل جوهر الروحانية.
لن أنظر أيضا إلى الروحانية باعتبارها تجربة دينية بالأساس. فالروحانية قد تأخذ أشكالا كثيرة وتتمظهرُ في صور تفلتُ من الاعتقاد الديني في شكله المعروف.
هذا يعني أنَّ الروحانية لا ترتبط، ضرورة، بمنظومة العقائد المقرَّرة في البناء اللاهوتي المُبلوَر تاريخيا من قِبل كل طائفةٍ دينية. كما أنها ليست تقليداً وعقائديات جامدة تدَّعي امتلاك مفاتيح الحقيقة المطلقة.
إنها تجربة وسفرٌ إلى الأقاصي، وتحرُّرٌ من العالم لحظة يكشفُ عن محدوديته وعجزه عن تجاوز نفسه أو إخماد نار الأسئلة. الروحانية استسلامٌ لندَّاهة السفر إلى جنة البدايات. وهي، انطلاقا من ذلك، أبعدُ ما تكونُ عن الركون إلى الإجابة التي يقترحها الشرعُ أو العقل أو التعاليم الثقافية لمشكلات المعنى والحقيقة والقيمة.
هذا ما يتضاربُ مع اعتقادنا السائد بأنَّ الروحانية تدريبٌ على الامتثال والانصياع للأوامر والزواجر وكل أشكال إرادة محو الذات ورغائبها الكيانية العميقة لصالح الجماعة وتقاليدها. إنها أبعدُ شيءٍ عن ثقافة الأمر أو طمس الذاتية والفرادة والإصغاء إلى نداءات الكينونة المعذبة في منفى الوجود. الروحانية زادُ من ينتظرُ، في منفاه الوجودي، انكشافَ السر الأعظم والعودة إلى الرحم الأولى.
يبدو لي أحيانا أنَّ الروحانية يمكنُ النظرُ إليها وفهمُها من خلال استحضار أسطورة إيكاروس Icare اليوناني الذي صنع أجنحة من الشمع وأراد بلوغ الشمس بطيرانه فما لبث أن احترق الجناحان وسقط في البحر. هذه هي الروحانية كما أراها.
عذابٌ ورحلة تمثل، في أقصى تجلياتها وصورها، فشلا مقدسا في بلوغ الوحدة المأمولة مع ضوء البداية أو مع سر العالم والكون. يُذكِّرني هذا الأمرُ بما كتبه الراحل الكبيرُ محمود درويش في أبدع أعماله الشعرية، أعني بذلك حواريته العالية مع الموت، قصيدته “جدارية” عندما قال:
” سأصيرُ يوما طائراً، وأسل من عدمي
وجودي. كلما احترقَ الجناحانِ
اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من
الرماد. أنا حوارُ الحالمين، عزفتُ
عن جسدي وعن نفسي لأكمل
رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني
وغاب. أنا الغيابُ. أنا السَّماويُّ الطريدُ.”
وضمن نفس السياق أتذكرُ جيِّداً ما افتتح به شهابُ الدين السهروردي كتابه “عوارف المعارف” مناجيا الذاتَ العلية: “يا من أحرقت سبحاتُ وجههِ الكريم أجنحةَ طائر الفهم”. في الحالين معا نقفُ على رمزية النار والاحتراق والتلاشي دون بلوغ السر أو عناق شمس الحقيقة الأولى.
في كلتا الحالين سفرٌ وتجربة خيبةٍ تراجيدية في بلوغ مقام المعرفة الكلية أو التأله بمعنى ما. من هنا ارتباط الروحانية في تراثنا العربي – الإسلامي بالتجربة الصوفية تحديداً وهي التي جعلت من المعرفة شأنا قلبيا ومعاناة ومكابدة وتدرجا في المقامات حتى الفناء في المحبوب. ما أردتُ أن أقول من خلال كل ذلك هو أنَّ الروحانية لا يمكنُ تناولها باعتبارها تراثا ثقافيا أو تقليداً اجتماعيا أو إكراها عقائديا لأنها بالأساس تجربة ترتبط ببحث الذات عن الألفة في عالم يمثل مسرحا للسقوط من جنة الوحدة البدئية. الروحاني، بمعنى آخر، آدم آخرٌ لا تسَعهُ أيُّ أرض وهو يجتهدُ دوما في الرجوع إلى فردوسه الأول.
ربما كان من المفيد أن نُشيرَ إلى أنَّ الروحانية ارتبطت في الماضي بهذا النزوع إلى الخلاص من سجن الجسد. فمن المعروف أنَّ النظامَ المعرفيَّ وأفقَ المعرفة عموما في العصور القديمة والوسطى ظل أسيرَ التصور الكوسمولوجي الذي يعرضُ العالم في صورة تدرج ينتقل من الأدنى إلى الأعلى ومن كثافة المادة إلى لطافة الروح. لقد كانت الروح، بمعنى ما، سجينة الجسد
وكان إنكارُ الجسد بالتالي علامة على التحرر من عبودية الشهوات ومن السدود التي تقفُ حائلا بين المرء ورؤية الحقيقة أو الاتحاد بها. نتذكرُ في هذا فلسفة أفلاطون وأتباعه وكيف استعادها بعضُ مفكري الإسلام كالشيخ الرئيس ابن سينا.
إنَّ قصيدته العينية شهيرة في هذا الباب وهو يعرضُ بصورةٍ بديعة لقصة الحمامة البيضاء التي سكنت الخراب البلقع وظلت تحنُّ دوما إلى الفضاءات الوسيعة التي هبطت منها. هذه هي قصة الروح في المدونات الفلسفية والدينية والغنوصية القديمة برمتها. إنها حكاية العودة إلى الأصل والتحرر من سجن المادة.
قرأتُ، يوما ما، في “طبقات الصوفية” لأبي عبد الرحمن السلمي أنَّ أحدهم سأل بايزيد البسطامي “بمَ بلغت هذه المعرفة؟” فأجاب “ببطن جائع وبدنٍ عار!”. لقد كانت مجاهدة الرغبة وقمع الجسد مدخلا ضروريا لبلوغ درجةٍ تشف فيها الروح ويتمُّ فيها عتقُ جذوة النور الداخلي من بحر الظلمات المرتبطة بالنفس وغواياتها.
ولكن ماذا عن الروح في الفكر المعاصر؟ من الملاحظ أنَّ الفكرَ الراهن لا يتبنى دون حذر مفهوم الروح التقليدي الذي عراه الشحوب منذ بداية انهيار التصور الكوسمولوجي التراتبي القديم للكون.
إنَّ ميلاد المكان الفيزيائي الموحَّد المنسجم الخاضع لنفس القوانين حرَّر الروحَ ذاتها من اغترابها في الميتافيزيقا الكلاسيكية وجعلها تعود إلى الأرض من خلال قلب المعادلة حيثُ أصبحت تتولد من إكراهات الصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي لتُصبحَ، بدورها، سجنا للجسد وعائقا أمام التحرر الفعلي للذات الخاضعة التي يجتهدُ المجتمع المعاصر في إنتاجها وإعادة إنتاجها كما يذهب إلى ذلك ميشال فوكو مثلا في بعض تأملاته.
فربما لم تكن الروحُ إلا خدعة ومظهراً أو عنصراً من عناصر تكنولوجيا السلطة في المراقبة والتأديب وتطويع الذوات. لذا يبدو لي، انطلاقا من ذلك، أنه من غير الدقيق أن نتحدَّث عن الروح هكذا بإطلاق دون فهمها باعتبارها نتاجا خطابيا أيضا أفرزته سياقاتٌ ثقافية وحضارية متباينة ومختلفة.
فالروح القديمة كانت مفهوما ملتبسا بثقافة العصور الوسطى والبناء اللاهوتي – الفلسفي الذي اقترح رؤية للعالم ونظاما قيميا يقوم على التراتب الأنطولوجي بين الأدنى والأعلى والمحسوس والمعقول.
إنَّ هذا المعنى الذي عرضناه للروحانية يعني أنها لا تعيشُ خارج العالم فهي تتأثرُ بالسياقات التاريخية والثقافية المختلفة التي تستثمرُ فيها أو تحد من تطلعاتها. هذا ما جعل من الروحانية – في شكلها الصوفي عندنا مثلا – مدارَ حرب تأويلية كبيرة خاصة في العصر الحديث ومنذ بدايات نشوء وعينا النهضوي ونحن نعيش ما سمَّاه أدونيس “صدمة الحداثة”.
وربما وجدنا أنفسنا أمام “صدام قراءات” إن جاز التعبير في هذا المجال. ولكنَّ الأهمَّ، على ما أرى، هو تحريرُ نقاشاتنا عن الروحانية والروح من التمذهب المغلق وأنظمة المعرفة التقليدية التي لم تتعرض عندنا بشكل كاف إلى التفكيك.
كما أرى أنه من الملح إحداثُ ذلك التمييز بين القيم الروحية والقيم الأخلاقية. فكثيراً ما يتمُّ الخلط بينهما عندنا ونحن نعتقدُ أنَّ عالمَ القيم لا ينفصل عن الروح وعوالمها كما تمَّ إنتاجها في الخطابات القديمة التي تدعو إلى الطهرانية وقهر الجسد والاستعداد للموت.
وربما وجدنا أنفسنا نستأنسُ، هنا، بما يقوله المفكر والفيلسوف الفرنسيُّ المعاصر لوك فيريL. Ferry وهو يفصل بين القيم الروحية والقيم الأخلاقية مُبينا أنَّ الروحانية ستظل بحثا عن المعنى حتى في عالم حُلَّت فيه جميعُ المشكلات الأخلاقية.
فالروحانية ليست حربا على العالم وليست رغبة في التطهر منه فحسب بقدر ما هي مجابهة بطولية لمشكلات المعنى والموت والضجر الوجودي والشقاء في الحب والتطلع إلى العلو وكل ما يتعلقُ بالحكمة أو” بالحياة الطيبة للفانين” كما يعبر. هذا الأمرُ لا يرتبط بدائرة الأخلاق وإنما بحياة الوعي التي يمكنُ تعريفها بالروحانية.
يؤكد هذا الفيلسوف على أنَّ روحانيته علمانية لا دينية بمعنى أنها لا تتأمل في وضع الإنسان مروراً بفرضية الله وإنما تكتفي بالعُدَّة العقلية الإنسانية في هذا لا غير.
أبو العلاء المعري: شوكةُ الوعي في مواجهةِ مَسرح العَبث
هذا ما يجعلني أتناول “شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء” من هذه الزاوية مؤكداً على أهميته البالغة في تراثنا الشعري والفكري القديم. إنَّ أبا العلاء عاش بعمق شقاء الوعي ومشكلة المعنى والجدوى والقيمة وأسئلة فقر الحياة إلى ما يجعلها جديرة بالعيش.
إنها جسرٌ هش يقود إلى الأبدية، وهي خيط دخان لا يمكن الاعتصامُ أو الاحتفاء به. فلتكن الأبدية هاجسا وليكن الموتُ بوابة التحرير من كابوس الحياة ومنفذاً إلى الخلاص. بل ليكن الموتُ عيداً يختمُ ويُنهي حياة شاحبة فقيرة تفتقرُ بشكل موجع إلى الامتلاء:
أنا صائمٌ طول الحياة وإنما فطري الحمامُ، ويوم ذاك أعيِّدُ!
لونان من ليل وصبح لــوَّنا شَعري، وأضعفني الزمانُ الأيِّـدُ
والناسُ كالأشعار ينطقُ دهرُهم بهم، فمطلقُ معشر ومُقيِّدُ
إنَّ أبا العلاء ليس فيلسوفا نظريا بالمعنى المعروف يعرضُ لنظام فلسفي متماسك كما لاحظ أدونيس، وإنما هو شاعرٌ ميتافيزيقي متأمل يرسل خواطره وأسئلته وقلقه في مقطوعات شعريةٍ كثيفة، أو يتحدَّثُ عن غربته في وجودٍ يشعرُ أنه لا يستحق العناء والمكابدة لافتقاره إلى المعنى المليء والجدوى. لا يرى أعمى المعرَّة سببا كافيا لتأسيس أخلاق قد تمنحُ الحياة أبهة ما لاعتقاده بفساد البشر:
شرُّ أشجار علمتُ بها شجراتٌ أثمرت ناسا
حملت بيضا وأغربة وأتت بالقوم أجناسا
كلهم أخفت جوانحُه مارداً في الصدر خنَّاسا
يقول أيضا:
تواصل حبل النسل ما بين آدم وبيني، ولم يُوصل بلاميَ باءُ
تثاءبَ عمرٌو إذ تثاءبَ خالــدٌ بعدوى، فما أعدتنيَ الثُؤباءُ
وزهَّدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأنَّ العالمين هبـــاءُ
بل إنَّ أبا العلاء يتمنى أن يغمرَ الأرضَ طوفانٌ جديدٌ يقتلعُ جذورَ الفساد المتأصل في نسل آدم:
كل، على مكروهه، مُبسَلُ وحازمُ الأقوام لا يُنسِلُ
فسلٌ أبو عالمـــنا آدمٌ ونحنُ من والدنا أفـــسلُ
والأرضُ للطوفان مُشتاقةٌ لعلها من درنٍ تُغســـــــلُ!
إنَّ شاعرَنا لا يرى سببا كافيا للاعتقاد بإمكان إنقاذ الحياة وقيمتها عن طريق البطولة المأساوية التي ترمِّمُ نقائص الحياة وتعلو بها كما يمكن أن نعثرَ عليه عند سلفه العظيم أبي الطيب المتنبي مثلا. إنه، خلافا لذلك، يُشيحُ بوجهه عن الحياة الفاسدة أصلا ويستعجل الغياب:
جسدي خرقة تُخاط إلى الأرض فيا خائط العوالم خِطني
لقد مثل أبو العلاء في تراثنا الأدبي القديم تجربة روحية بالمعنى الذي ذكرناه باعتبارها مجابهة بطولية – وبعُدَّة الإنسان العقلية – لمشكلات الوجود والمصير والمعنى. وتنضحُ لزومياته الشهيرة بالقلق الوجودي وشعوره الحاد بعبثية الحياة وغياب المعنى.
بل إنه يجهرُ بقصور الأديان وممارسات التنجيم عن ذلك. فكأنه يتصوَّرُ الإنسان سجينَ اللامعنى ترتطمُ حياته بجدران الظلام السميكة، وتتأرجحُ بين هذا اللامعنى وحتمية الغياب القسري:
نفارقُ العيش لم نظفر بمعرفةٍ أيُّ المعاني بأهل الأرض مقصودُ
لم تعطنا العلمَ أخبارٌ يجيءُ بها نقل، ولا كوكبٌ في الأرض مرصودُ
وابيضَّ ما اخضرَّ من نبتِ الزمان بنا وكل زرع إذا ما هاج محصودُ
لقد أدرك أبو العلاء من خلال تأمله في الحياة والأحياء أنَّ العبثَ هو جوهرُ الحياة. ولكن ما العبثُ إن لم يكن غيابَ الدلالة العلوية المفارقة التي أجمعت عليها كل الأديان والشرائع؟
نهارٌ وليل عُوقبا، أنا فيهما كأني بخيطيْ باطـل أتشبَّثُ
أظن زماني: كونـه وفسادَهُ وليداً بتُرب الأرض يلهو ويعبثُ!
إنَّ تجربة أبي العلاء جديرة بالتأمل من زوايا عديدة. وهي، في اعتقادنا، لا تصدرُ عن مزاج متشائم فحسب وإنما، بالأساس، عن تأمل عميق في الوضع الإنساني، وسؤال عن المصير والمعنى مُتحرِّر من الدوغماتية التي يلجأ إليها البشرُ كلما أضناهم البحث.
أبو العلاء روحٌ تائهة في الوجود لم تعثر على بيتها وألفتها في الأرض وظلت على اعتقادها المُضمَر أنَّ الخلاص ليس رحلة إلى النهايات السعيدة وإنما يكمنُ في عدم الإفاقة على شوكة الوعي الفاجع الملازم للحضور في العالم.
إنَّ المأساة، بالتالي، تكمنُ في فداحة اقتراف البداية والسقوط من جنة العدم في مسرح القسوة والوضاعة والعبث: التاريخ. ولعله في هذا أن يكون من أسلاف الفيلسوف المعاصر سيوران صاحب كتاب “مثالب الولادة”. فقد تحدَّث أبو العلاء في لزومية فريدة في تراثنا الأدبي كله متخيلا محاورة بين بطن الأم الحامل والجنين قبيل مجيئه ناصحا إياه بعدم النزول ضيفا على العالم:
نادى حشا الأمِّ بالطفل الذي اشتملت عليه: ويحك لا تظهر، ومُتْ كمـدَا!
فإن خرجت إلى الدنيا لقــيت أذى من الحوادث، بله القيظَ والجمدَا
وما تخلَّصُ يوما من مـكارهها وأنت لا بُدَّ فيها بالغٌ أمـدَا
وإن سعدتَ، فما تنفك في تعـبٍ وإن شقيتَ، فمن للجسم لو هـــمـــدَا؟
ثم المنايا، فإما أن يُقال مــضى ذميمَ فعل، وإمَّا كوكبٌ خمــدَا
والمرءُ نصل حُسام، والحياةُ له سلٌّ، وأصونُ للهنديِّ أن غُـمـدَا
فلو تكلم ذاك الطفلُ قـال لـه: إليك عني! فما أنشِئتُ مُعتَمِدَا!
أدونيس: صوفية وثنية في محراب الجَسد
يُعتبرُ أدونيس، في اعتقادي، من أبرز المثقفين والمبدعين العرب الذين حاولوا التنبيه إلى حضور “شهوة المطلق” في تراثنا العربي – الإسلامي من منظور يبتعدُ كليا عن القراءات المبتسرة الجامدة.
فالروحانية لا ترتبط قطعا بالمنظومات العقدية المُبلورة تحت إلحاح الحد من مغامرة العقل والروح أو تدجين الذوات ومراقبتها وقمع صبواتها وتطلعاتها. الروحانية مغامرة ومحاولاتٌ لا تفتر في مدِّ الجسور نحو اللامرئي والبعيد.
إنها التشوفُ الذي يخترقُ الحجُب ويصل بين المرئي واللامرئي ويُعيدُ للإنسان وحدته العميقة مع العالم. من هنا اهتمامُ أدونيس بالتصوف – منذ بدايات نشاطه الإبداعي والفكري – على اعتبار أنَّ هذا الجانبَ من التراث لم ينل نصيبه من القراءة المُحرِّرة التي تستكشفُ أبعادَه ولا تلجمُ ضوءَه داخل قمقم القراءات السائدة.
لقد خصَّص لذلك بعض دراساته الشهيرة التي حاول من خلالها إعادة الاعتبار للتجربة الصوفية بوصفها تجربة في المعرفة وفي الكتابة معا.
كما حاول أن يُنبِّهَ إلى أبعادها الإنسانية التي تجعلها في تقاطع وتَجاوُر مع تجارب إبداعية أخرى كالسوريالية مثلا. يبدو جليا، انطلاقا من ذلك، أنَّ أدونيس يبتعدُ كليا عن تناول الصوفية باعتبارها مدوَّنة عقدية مذهبية، وإنما بوصفها حركة تجاوز لثقافة الظاهر والشرع والقوانين والعلم الذي يقفُ على أعتاب المنطق العقلي الجامد لا يتجاوزه.
يقول عن الصوفية إنها “تجاوزت تراثَ “القوانين” لكي تُقيمَ تراثَ “الأسرار”. ويُضيف “لقد أسَّست لشكل آخر للمعرفة، ولحقل معرفيٍّ آخر”.
إنَّ كون أدونيس شاعراً بالدرجة الأولى جعله منذ بداياته في علاقةٍ مع فتوحات الحداثة الشعرية في الغرب وما تأسَّست عليه على اعتبار أنها نهلت من ينابيع مثلت مجابهة لحضارة التقنية والعقل والاستهلاك والتدجين وطمست أبعادَ الإنسان الحميمة وطاقة الرغبة والحلم فيه
فنوفاليس ورامبو والسوريالية – تمثيلا لا حصراً – كانوا ينابيعَ لمساءلة حضارة العقلنة الأداتية والتقنية التي قامت على الكوجيتو الديكارتي ومَجدِ الإنسان الحديث الذي ابتهج لطلاقه مع الطبيعة الأم منذ أصبح سيِّداً عليها
سيكون الشعرُ العظيمُ، بالتالي، محاولة مضنية لاستعادة الإنسان وحدته مع العالم وضوءاً يقودُ إلى فردوس أضاعه يوم جعل ذاته في مواجهةٍ صداميةٍ كارثية مع الوجود.
إنَّ المعرفة لا تقتضي أن نحارب العالم ونسيطرَ عليه بل أن نفهمه ونحبه من خلال السَّفر إليه في رحلةٍ تقودُ إلى معرفة الذات أكثر واكتشاف أنَّ الآخر ليس إلا بُعداً من أبعادها.
بداية، يوضحُ أدونيس أساسَ مقاربته المعرفية والهدف منها في هذه اللحظة العولمية التي تشهدُ انكفاءً على الذات وتغول خطابات الهوية والانغلاق ونبذ الآخر باسم الدين التقليدي وبعض تجلياته التي عرفها ومثلت أزمة من أزماته الإنسانية والأخلاقية الكبرى.
يقول في كتابه “الصوفية والسوريالية” موضحا منشأ التصوف ومساره العميق ” … الاتجاه إلى الصوفية أملاه عجز العقل (والشريعة الدينية) عن الجواب عن كثير من الأسئلة العميقة عند الإنسان – وأملاه كذلك عجز العلم.
فالإنسانُ يشعرُ أنَّ ثمة مشكلات تؤرقه، حتى عندما تُحل جميعُ المشكلات العقلية، والشرعية – الدينية، والعلمية، أو عندما تُحل جميعُ المشكلات بوساطة العقل والشرع والعلم…والهدفُ الأخير الذي يسعى إليه الصوفيُّ هو أن يتماهى مع هذا الغيب، أي مع المطلق. ويهدفُ السوريالي إلى أن يُحقق الأمرَ نفسه.
وليس المهم هنا هو هوية هذا المطلق، بل حركة التماهي معه، والطريق التي تؤدي إلى ذلك، سواء كان هذا المطلق الله، أو العقل، أو المادة نفسها، أو الفكر أو الروح … إلخ. هناك في جميع الحالات عودة إلى أصل الخلق، أيّاً كان هذا الأصل.”
إنَّ في هذه الاعتبارات الأدونيسية إشارة إلى أوجه التآلف والتقارب التي تجمع بين حركات الفكر والروح عبر الثقافات وعبر الأزمنة بمعزل عن هوية ما تسعى إليه دينيا أو فلسفيا. فالأهم هو حركة الفكر والروح في مقاربة الوجود والعالم مقاربة تتجاوز الظاهر المرئي إلى الباطن الخفي والسعي إلى الاتحاد بالمطلق، أيّاً كان هذا المطلق، بعيداً عن “شهوة الهيمنة” التي كرَّسها الكوجيتو والعقلانية الأداتية المعاصرة التي برعت في الفصل بين الذات والموضوع أو بين الأنا والآخر مقيمة بينهما حواجز وعلاقات سيطرة وإخضاع. هذا هو البعد الإنساني والمعرفي الذي مثلته الصوفية في تراثنا.
لقد كان من اللازم والضروري التمييز بين التاريخ والدلالة أو بين الحركة التاريخية والمعنى العميق بخصوص التجربة الصوفية في التراث العربي – الإسلامي.
إذ قد يعترضُ الكثيرون على وصف بعض التجارب الفكرية والروحية الكبرى في عصرنا بالصوفية لاعتقادهم أنَّ التصوفَ يرتبط بالدين الإسلامي ويخضعُ لعدة اعتبارات سلوكية وعقدية لا تخرجُ عمَّا تقرَّر تاريخيا لدى أهل التصوف.
كأنَّ التصوف مذهبٌ مغلقٌ ومدرسة تعاليم جاهزة تقوم على التقليد والانصياع وامتثال المُريد للشيخ. ربما كان هذا صحيحا إلى حدٍّ ما لو أخذنا في الحسبان ما آل إليه التصوف في القرون الأخيرة بعد أن تصلبت شرايينُه مع الطُرقيَّة وخمدت جذوته الأولى التي أنتجت مغامراته الكبرى فأصبح تقليداً ونظاما سلوكيا وانعزالا عن العالم.
نعم هذا صحيحٌ نسبيا. ولكنَّ التصوف، في العمق، ليس تاريخا وإنما هو روحٌ معذبة تتطلع إلى التجاوز وإلى كسر كل الحدود التي تجعل الذات تعيشُ منفاها الوجودي بعيداً عن الكل. التصوفُ يصدر عن شعور مرير بالمنفى وكأنَّ الإنسان يستعيدُ فاجعة سقوطه من جنةٍ ما، فيحاول أن يسردَ قصة بحثه عن أمومةٍ كونية ووحدةٍ مع العالم في محاولة للظفر بتلك الجنة من جديد. بهذا المعنى يكون التصوف مسلكا إنسانيا لا إسلاميا فحسب.
فقد عرفت كل الثقافات هذا الأمر كما يكشفُ عن ذلك التراثُ الشعريُّ والديني والثقافي بعامة عند كل الشعوب. هذا ما قصده أدونيس عندما تناول الصوفية مع السوريالية باعتبارهما حركتين تشتركان في هم واحد – بمعزل عن المضامين الفكرية والإيديولوجية لكل حركة – كما تشتركان في المسلك الباطني الرؤيوي الذي يعتمدُ الحدس والقلب وتجاوز الظاهر المرئي الذي يكرس الثنائيات إلى نوع من الوحدة.
إذ من المعروف أنَّ أقسى ما يواجهه المتصوف هو شعوره المرير بالطلاق مع جوهر الوجود في ظل عالم تتنازعه الثنائياتُ وينهضُ فيه الوجودُ المرئيُّ على التناقض الظاهريِّ الذي يقفُ سدّاً أمام إدراك كنه وحدته العميقة. فإذا كان السورياليُّ يبحث، بحسب بريتون، عن “النقطة العليا” التي تزول معها التناقضاتُ والخلاص من عالم لا يزال “تحت هيمنة المنطق” كما يُعبر في بيان السوريالية الأول، فإنَّ الصوفيَّ يريد اختراقَ حجب الظاهر نحو الباطن الذي يكشفُ عن وحدة الذات مع الآخر أو المطلق أو الله من خلال الفناء. هذا ما يجعل من التجربة الصوفية تجليا إسلاميا تاريخيا لهاجس إنساني عام يُسمَّى الروحانية في شكلها الذي ذكرنا ملامحه العامة آنفا.
يتناول أدونيس علاقته بالصوفية ضمن هاجس سيطر على تفكيره وتجربته الشعرية معا هو هاجس الهوية.
لقد رأى في التجربة الصوفية إمكانا لتجاوز المفهوم التقليدي الثابت للهوية والذي يحصرها في مطابقة الذات لذاتها بمعزل عن الصيرورة – أي قانون الوجود. إنه يجابه أرسطو طاليس بفتوحات الرائي هيراقليطس في هذا المجال.
فالهوية، بهذا المعنى، ليست أقنوما ثابتا وإنما هي صيرورة واغتناءٌ ووعدٌ بالاكتمال من خلال حضور الآخر في الذات.
إنها “الهوية غير المكتملة” دوما كما يحب أن يسميها. عدم الاكتمال هو ما يميِّز، في العمق، كل ما له علاقة بالصوفية بما يشي أنها “حركة نحو” وليست وصولا إلى يقين جامد ثابت أو هوية منغلقة على ذاتها تستبعدُ الآخر المختلف من دائرة الحقيقة والخلاص. هكذا يبحثُ الصوفيُّ عن التماهي مع المحبوب والمعشوق والفناء فيه.
إنها روحانية تجدُ أساسها في الحب لا في علاقات الهيمنة والسيطرة التي تقيمها العقلانية الأداتية أو الدين في أشكاله الشرعية التقليدية مع الآخر. وهنا تكمنُ قيمة الصوفية تحديداً في جوانبها الإنسانية. فهي، من هذا الجانب، فرصة عظيمة لإنسانية مريضةٍ بالانغلاق الهوياتي تدعوها إلى مراجعة نفسها ووضعها الذي لم يعُد إلا مَعينا للعنف ورفض الآخر المختلف.
معرفيا وأنطولوجيا يتموضعُ أدونيس في موقع يجعله مختلفا عن التأويل الديني النصي التقليدي السائد للغيب. يقول “تخلو صوفيَّتي من المحتوى الديني.
إنَّ الله، بمعناه الديني، لم يعُد يتكلم، وإنَّ اللامرئي قيل مرة واحدة وإلى الأبد. غير أنَّ اللامرئي، في صوفيتي يتكلمُ دوما، وعلى نحو لانهائي … لهذا ليس في صوفيتي فرق بين الكائن الإنساني وما يُسمَّى الله، حيث نبلغ هنا حالة من الوجد تصلنا بجوهر الكون، متجاوزين كل الحجب وكل العوائق المادية، ويغدو المرءُ في تلك البرهة واحداً مع الله … وهو ما يُمكن تسميته بالاتحاد، أو وحدة الوجود.
” يضيف أدونيس – مُشيراً إلى الجسد باعتباره معبراً إلى الضوء في عتمة الوجود – قائلا “في صوفيتي، تُعطى الأهمية المباشرة والقصوى للجسد بوصفه مثولا متصلا مباشرة بالأشياء، وبالعالم، وبالنور.
يقول أحد الصوفيين: من أجل بلوغ اللامرئي، أي الله، لا بد من المرور بالجسد. وأكد على الجسد الأنثوي، لأنَّ العالم الذي لا يؤنث لا يُعول عليه.” هكذا يتمُّ استحضارُ الجسد – مُفعما بكل الإنجازات والفتوحات المعرفية التي أزاحت النقاب عن وجه قارة اللاشعور والمكبوت – من أجل تحرير التجربة المعرفية من أشكالها التقليدية القائمة على قمع الجسد وعلى استبعاد اللامعقول.
فمن غير الممكن البحث عن الإنسان الكلي المكتمل المتصالح مع ذاته ومع الكون دون الالتفات إلى الجسد والتجربة الجسدية باعتبارها تجربة صوفية بالأساس تمثل دخولا في ليل العالم – عبر الجنس – بحثا عن لحظة الانخطاف والتماهي مع المطلق الذي يجاورُ الفناءَ والموت. يضيف قائلا “إنَّ فعل الحب يعني التوحد مع الكون، عبر الجسد، إنه يعني التوحد مع جوهر الكون.
” هكذا يعطي أدونيس للحب معنى ميتافيزيقيا كاشفا عن أبعاده التي تربطه بينابيع الكون وبالمعرفة التي تتجاوز عتبة الظاهر المباشر إنقاذاً له من الابتذال الذي أصبح سِمة لحضارة الاستهلاك والمتعة العابرة في عهد شيخوخة الليبرالية. إنَّ الحب، بهذا المعنى، كالشعر كيمياء ترومُ البحث عن النور في إغفاءةٍ لذيذة يكون فيها الموتُ صنواً لحياةٍ أعلى وأكثر شفافية. وهل ثمة طريقٌ أخرى للمطلق؟
لن يُنقذ الروحانية اليوم، في اعتقادي، إلا انفلاتها من قفص المذهبيات التي أوقعتها في الطقسية والتكرار وجعلتها سلعة معلبة ومومياء جفَّ في أوصالها ماءُ الحياة. لن يكونَ للروحانية شأنٌ جديد متجدد إلا من خلال صلتها بالنداءات البعيدة الغور في الذات – تلك التي كانت في أساس انبثاقها.
قال المتصوف أبو بكر الشبلي “الصوفية أطفال في حِجر الحق.” ولكن ما دلالة الطفولة هنا؟ أليست إشارة إلى البكارة: بكارة الرؤيا؟ أليست إشارة إلى براءة الكيان؟ إلى البداية؟ إلى الدهشة في حضرة ما لا ينتهي؟ إلى النسيان العظيم المُطهِّر من ثقل التقاليد وإملاء المؤسَّسات الوصية على الروح؟ هذا ما يمنحُ التصوفَ عظمته باعتباره تطلعا لا يفتُر إلى السر وسفراً وإبحاراً دائما إلى شواطئ قد تومئ من بعيد ولكن لا يمكن بلوغ تخومها بصورةٍ نهائية.
كتب الفرنسيُّ أندري جيد في يومياته “لن أكونَ رجلا أبداً، بل طفلا شاخ!” وكأنه يستعيدُ ما كتبه الصوفيُّ المسلم قبل قرون. ولكنني سأختمُ بما قاله أدونيس نفسُه يوما ما عندما كتب “ما أحوج شيخوخة الكلام إلى طفولةِ الأبجدية”. هذا جوهرُ المشكل: التحدي الذي يواجه الروحانية اليوم هو أن تستعيدَ طفولتها وبداياتها قبل أن تسقط في شيخوخة التمذهب والدوغماتية.
أحمد دلباني/ كاتب
للموضوع إحالات