بين بُعد تاريخي وآخر تأويلي تتقوّم ماهية الفلسفة كنص، يُعتبر فيه هذا الأخير خيطاً ناظمًا لسلسلة لا مُتناهية من النصوص أو بمثابة قبس يتطاير منه الشرر. نصوص لا تكُف عن التناسل كلّما تجدّدت أسئلة الفلسفة وطروحاتها، سواء في ملاحقة معالم النصوص القديمة أو في رسم ملامح أخرى قادمة.
ولعل أسئلتها المزمنة هي الحافز على مواصلة هذا النشاط الذهني وإعمال العقل، حيال سؤالات الوجود والحقيقة والتاريخ واليومي والإتيقي منه بشكلٍ خاص.
وبتعبيرٍ موجز، الإنسان وكيف يصْنعُ نفسه وتاريخه؟ أو كيف يحضُر في هذا العالم؟ كلّ محاولة وكلّ مقاربة في هذا الاِتجاه ستجعلُنا أمام زخمٍ فلسفي صُنّاعه هُم: سقراط وأرسطو والفارابي وبن رشد وبن خلدون وبيكون وليبنتز وهيوم ومل وكانط وهيغل وماركس وكيركغارد وسارتر وراسل وديوي، ناصيف نصار ونصر حامد أبو زيد وفتحي التريكي والجابري وأركون وحنفي، أي أمام نصوص1 حرّرها فلاسفة، كُتّاب ومفكرون بمنهج نقدي ومضمون فلسفي.
عندما أُثير إشكال نهاية الفلسفة وموتها، عقب اِنتشار خطاب النهايات الّذي دشنّه نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر مع موت الإله، وتفاقم موجة النهايات في منتصف القرن العشرين مع البنيوية، وموت الإنسان وموت المرأة وموت المؤلف إلى نهاية الحداثة مع فاتيمو وموت التاريخ مع فوكوياما في نهاية القرن الماضي، تغيرّ مسار الفلسفة، وهو الّذي تجاذبته منعطفات، من البحث عن البدايات والأصول إلى الاِهتمام بالنهايات والمآلات.
في ظل أزمة النهايات التي طالت كلّ الموجودات والمفاهيم بِمَا فيها الفلسفة، نفى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي القول بموت الفلسفة* واعتبر أنّ حدّها وفهم النهاية فيها يدل على تحوّل من فلسفة إلى أخرى، وأنّ الفلسفة ستستمر في البقاء كنصوص يتوالد بعضها من بعض وفكرته أنّ الفلسفة أقرب إلى تناسل نصي من خلال اِستمرارية السؤال.
تساؤلات
لا تتقدّم إلينا الفلسفة ضمن تاريخها إلاّ على شكل تناسل نصي. فلا تُذكر الفلسفات إلاّ عبر نصوص وشذراتcorpus, fragments ، نصوص تتناسل وتتوالد، يُنتج بعضها بعضاً. بل إنّ الفلاسفة لم ينشغلوا ويشتغلوا إلاّ بنصوص، ومن اِشتغل منهم على نص لا يملك إلاّ أن يُبدِع ويُنتج نصاً آخر. كما أنّ الفلاسفة لا يذكرون إلاّ وهم متأبطين نصوصهم. وإذا ما اِستبعدنا هذا الطرح:
-ماذا يتبّقى من الفلسفة إذا جردناها من نصوصها؟
-وماذا يتبقى من النصوص إذا ما نزعنا منها مفرداتها ومفاهيمها؟
– وما ذا يتبقى من المفاهيم إذا تجاهلنا مُبدعيها؟
– بل ما يتبقى من الفلسفة في مجموعها؟ إن تخلت عن منطوقاتها وأشيائها وتاهت في دروب ومنعرجات اللسان والتأويل والشرح والحجاج.
-هل نقبل بشذرات ما بقيَ من نصوص ضائعة؟
– هل تُسعفنا هذه الشذرات في ترتيب معاني الحقيقة والفهم والمعرفة؟
– هل هي مساعي ومسالك قادرة على الإمساك بجواهر مزعومة وطبائع وهمية؟
– أليست هذه جميعاً وسائط للإجابة عن سؤال سرمدي أبدي، لم ينعتق منه الإنسان: ما الإنسان؟ أم إنّ هذا الكائن يظل تساؤلاً عصياً عن الجواب بل ويُفضل بقاؤه سراً دائماً مُحتفظاً بوهج السؤال وسرّ الكلمة.
قبل أن يكون الإنسان إنسانًا كان كلمة.
ستكون الكلمة في الفلسفة هي البداية والبداية من الكلمة ومن اللوغوس: العقل الّذي صاغ الكلمة واللّغة والمنطق. ومن بداية النص: أي القصيدة وشِعر البدايات وفي البدء لم تكن سوى الكلمات. فبداية النص: هي قصدية الرسالة في مخاطبة الوجود والكائن.
قديمًا قال بارمنيدس في بداية نشيده وكلّ شيء قِيل ويُقال في البدايات لأنّها الحياة والاِنسجام والمعنى أمّا النهايات فإنّها الموت والخراب واللامعنى:2 إليك كلمتي أو ما أوحت به الإلهة ديكيه إلهة العدالة: هيا بنا إذن، سأقول لك، أمّا أنت فاسمع واحفظ كلمتي، عن اصور طريقي الوحيدتين في البحث: الواحدة، بموجبها يكون ولا يمكن أن لا يكون، هي طريق الإقناع، لأنّها تتبع الحقيقة، الأخرى بموجبها لا يكون واللاكينونة ضرورية، هذه الطريق، أقول لك، هي سبيل الجهل التام، لأنّ اللاكائن، لن تستطيع معرفته -هذا مستحيل- ولا الإفصاح عنه.
اِختصرت كلمات بارمنيدس صلة جوهرية للفكر (اللّغة) بالعالم (الوجود) وتكرست معها الفلسفة كمعرفة للوجود والحقيقة عبر اللّغة كوسيط وبوصفها نصاً يعج بالتصورات والكلمات.
تحديدات الفلسفة نصيا
تتغير تحديدات الفلسفة وتتنوع ولكنها تلتقي جميعاً عند بؤرة النصوص بحيث يُمكننا الجزم ألا فلسفة من دون نص. النص ليس بالتأكيد كلّ ما كُتب ودُوّن فقط إنّما أيضاً ما توارثته الأجيال شفاهةً وتواتراً إلى حين تدوين بعضه أو كله وضياع بعضه أو معظمه.
وقبل ظهور الكتابة في مراحل حاسمة من عمر البشرية وتطورها دخل فيها الإنسان التاريخ، كانت فيها ذاكرته وعاءً وملاذاً حقيقيًا لتمرس جيناته وخلاياه على الحفظ والقدرة على تذّكر ما سبق أن بلغته العقول من حكمة وهكذا رسخت الشفاهة النصوص التي اِندثرت وبقيت حاضرة في سرد الشهود على قراءتها وسماعها.
كلّ فلسفة هي توليد لنص وهكذا تتناسل النصوص في الفلسفة من بعضها مُشكلةً سلسلة تغذو معها النصوص التاريخية مرجعيات أبدية.
تتوالى النصوص الفلسفة في التوالد والتناسل والتناسخ كما يكون ذلك في التناسل البشري وتصير العلاقة بينها علاقة قرابة أو عشيرة، أكثر أو أقل قربًا، علاقة صداقة وتجاور بمثل ما تكون علاقة خصومة ومعاداة.
فالنصوص المُتشابهة تميلُ إلى التوالد من بعضها، مُشكلةً خطاً مُستمراً تستمر به النزعة المذهبية؛ كما أنّ النصوص المُتنافرة تبقي على مسافة أو منطقة تميّزها عن غيرها من التيارات وهكذا دواليك. لعلنا واجدين في الإستراتيجية التفكيكية لدريدا ما يُشير إلى هذا الفهم القائم في قراءة فيلسوف التفكيك للنصوص الفلسفية والأدبية على حدٍ سواء، ذلك أنّ “التفكيك يقوم في الحالين على المحاورة النّصيّة وعلى مساءلة النص الدريدي لنص سابق عليه أو معاصر له”3. ومثل ذلك كان يقوم به أرسطو في نصوصه المحللة والناقدة لأعمال سابقيه.
هذا ما يُخبرنا به تاريخ الفلسفة، جاعلاً من الفلسفة ذاتها مُجرّد نصوص مُتناسلة من بعضها. ولكن ما قبل الكتابة كيف كانت الفلسفة؟ هل نتمسك بالقول إنّها نصوص مُتناسلة؟ لعلنا واجدين في الإستراتيجية التفكيكية لدريدا ما يُقدم إجابةً عن هذه الأسئلة.
يجب أوّلاً أن نُشير إلى أنّ النص لا يحمل في طياته دلالة الكتابة فقط إذ يُشير أيضا إلى الشفاهة وبالنظر إلى بروز الكتابة كتطوّر جديد في تاريخ الإنسانية اِهتدى إليه الإنسان باِكتشاف الرسومات والحروف وخطها على دعائم اِختلفت عبر العصور إلى أن طوّر الكتابة على الورق وعلى الشاشات كما هو الحال اليوم.
وفي تحليل دريدا لنص روسو حول أصل التفاوت يُحيلنا على هذا التطوّر الحاصل من النُطق إلى الكتابة وكأنّه تطوّرٌ من لغة إلى لغة ويُذكر “إنّ صيرورة اللّغة إلى كتابة هي نفسها صيرورة اللّغة إلى لغة”4.
وفي هذا الأصل اللغوي يتحدّد النطق كجوهري إنساني حوله التقدم صوب الكتابة.
إنّما النصوص مواقف كالتي خلدها التاريخ عن سقراط وديوجين وكلاهما لم يترك أثراً مكتوباً. بيد أنّ ما خلفاه كان أعمق وأوثق من جميع النصوص القديمة. إنّ مواقفهما رسختها الألسن والآذان، وها هي إلى اليوم ماثلة في عقول المُتفلسفة ومُحبي الفلسفة قبل أن تُسجل وتُخط على صفحات الكُتُب. بِمَا يُفيد أنّنا “إذا كُنا نقول كلّ شيء كما نكتبه، فإنّنا بذلك لا نصنع شيئاً سوى القراءة ونحن نتكلم”5.
وبتعبير دريدا دائمًا الكتابة هي المُكمل باِمتياز6. بوصفها تجسيداً للنُطق وفعلاً وأثراً.
كانت النصوص الفلسفية ولا تزال شذرات وفقرات تُقرأ وتُحفظ وتُؤول. وفي هذا التواتر تتناسخ وتتناسل وتمّ لاحقاً التمييز بين ما هو أصيل وما هو منتحل منها. فالروايات التي كانت تحكى عن نصوص الفلاسفة شاهد على حضورها بعد اِختفائها واندثارها.
ومن المعروف أنّ النصوص الفلسفية كانت في بلاد الإغريق تُقرأ ويجد المستمعون لذة في سماعها (كما هو الحال اليوم مع النصوص والكُتُب المسموعة) وعُرِف عن أرسطو على أنّه كان قارئاً في أكاديمية أفلاطون وكان يُسميه أفلاطون بالقارئ Le liseur. وقبل ذلك كان سقراط قد خلّد أفكاره ضمن أقوال تداولتها وتناقلتها الألسن فبقيت أثراً بعد عين حتّى ترسخت كتابةً مع أفلاطون.
فيما بعد ومع اِعتماد الكتابة أصبحت النصوص المكتوبة مرجعية ومنطلقاً للفلاسفة في خوض مغامراتهم الفكرية. ذلك ما نجده مثلاً عند غادامير لَمَا يُبرر بداية التأويل من نصوص أفلاطون وأرسطو لأنّها تشتغل على النص المكتوب.
متعة النصوص والترجمة
إذا كانت للنصوص العلمية والأدبية والتاريخية والسردية متعٌ تختلف فيما بينها بحسب الحقل المُنتمية والمندرجة فيه ووفقاً لخيال المبدع ورغبة المُتلقي فإنّ نصوص الفلسفة تتفرد بمتعة الفضيلة العقلية. “فمن النّاس [يقول الفارابي] قومٌ يسمّون المتعقّلين حكماء.
والحكمة هي أفضل علمٍ لأفضل الموجودات. والتعقّل إذا كان إنّما يدرك به الأشياء الإنسانية، فليس ينبغي أن يكون حكمة اللّه إلاّ أن يكون الإنسان هو أفضل ما في العالم وأفضل الموجودات.”7. بل وأفضل ما في حكمة الموجودات ما اِجتمع في عقل الفيلسوفين وسعى الفارابي إلى التنبيه إليه في الجمع بين رأيي الحكيمين وكأنّه تخيل لمتعة عقلية كامنة في مصدر حكمتهما، وإن بدا الاِختلاف بينهما في الحُكم على الموجودات ومع ذلك فقد “كان هذان الحكيمان هُمَا مبدعان للفلسفة، ومنشئان لأوائلها وأصولها، ومتممان لأواخرها وفروعها، وعليهما المُعوّل في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها. وما يصدر عنهما في كلّ فن إنّما هو الأصل المُعتمد عليه، لخلوه من الشوائب والكدر”8. في قول الفارابي ما يُفيد بتسلسل النصوص سواء السابقة على سقراط لدى أفلاطون وأرسطو أو اللاحقة عليهما باِعتبارهما مرجعاً وأصلاً ومتعة نصية.
ومن هذه المُتع أيضا توالد نصوص في سلاسل بين سقراط وأفلاطون وأرسطو قديماً أو بين نيتشه وهيدغر ودريداً حديثاً.
بقدر ما كانت المشكلات الفلسفية تترائى أمام الفلاسفة بقدر ما كانت أسئلتهم أيضاً ونصوصهم حولها تتراكم وتتابع فمن نص تتولد نصوص، بعضها يُبدع وبعضها يستفيض في الشرح وهكذا.
وبقدر ما كانت النصوص تتوالى في لعبة الظهور والاِختفاء، بقدر ما كانت رغبة الكتابة الفلسفية تتزايد عند الفلاسفة، أصحاب الرُؤى الفكرية المنهجية للحياة وللإنسان والعالم. بنفس القدر أيضاً كانت المُتعة في تدارس هذه النصوص تلقيًا وشرحًا.
أفضت المُتعة إلى التقاسم الّذي يتجاوز حدود اللّغة الواحدة. كانت النصوص تدور في فلك اللسان الواحد وتتداول في مجال لساني كُتبت به وحُظيت بقوله لكن اِندثار الإمبراطورية (الدولة، السلطة،…إلخ) واستمرار الثقافة تُحافظ النصوص على بريقها كما حدث مع اليونان قديمًا والعرب وسيطيًا والألمان في الحقبة المعاصرة.
في اِنتقال النصوص من لغةٍ لأخرى حفاظاً لها من النسيان والإهمال وقدمت لتلك اللّغة وثبة أخرى لثقافتها ذلك أنّ كلّ ترجمة هي خطوة نحو العالمية، عالمية تلك اللّغة المنقول إليها بِمَا هي إمكانية لاِستقبال النص الآخر وضيافته لغويًا وثقافيًا.
ذلك ما تحقّق على سبيل المثال في الثقافة العربية عندما تُرجمت نصوص الفلاسفة الإغريق لتتحوّل بدورها حاملاً أنيقاً لثقافةٍ ما ثمّ بعد ذلك تتكرس وسيطاً بين تراثين أو هو اِستمرار لصورة قديمة تستمدُ حضورها الآني من جذور الماضي تبعًا لِمَا يُوحي به كلام بارت: “إنّي لا أتصورني على طريقة اليوناني قديمًا، تمامًا كما وصفه هيجل: يقول، إنّه كان يسأل باِنفعال، ومن غير اِنقطاع، هسهسة أوراق الشجر، والينابيع، والرياح. وبإيجاز كان يسأل قشعريرة الطبيعة لكي يُدرك قدر العقل. أمّا أنا. فإنّي أسال قشعريرة المعنى وأنا أسمع هسهسة اللسان-إذ من هذا اللسان طبيعتي، أنا، الإنسان المعاصر.”9. وفي هذه العلاقة التواصلية بين اللسان والسمع تكمن متعة النصوص وتناسلها.
في تحقّق ترجمة النصوص الفلسفية تتجلى مُتعة اللغتين والثقافتين، متعة التثاقف الإتيقي والجمالي. في تحقّق متعة التثاقف ما يُحيل إلى تناسل نصي يزيد من وهج الترجمة والتفاعل اللغوي الإنساني ويُتيح إمكانيات أخرى للتأويل واستعمال النص في لغته أو بلغات أخرى. وهنا “سيكون فضاء المُتعة قد خُلق”10. كما يقول رولان بارت، أي فضاء لعب لا ينتهي من التناسل النصي مليء بالفجائية والغرائبية والمتعية والاِستعمالية.
وإذا كانت نصوص الفلسفة مُتعدّدة ومُتنوعة في الفضاءات الجغرافية فإنّها بالمُقابل مُمتدة في الزمن والفضاءات التاريخية وهو ما يجعلها تتسم بالتناسل والتناسخ والاِستعمال. فإلى أي مدى يمكن اِعتبار التأويل اِستعمالاً للنصوص؟
اِستعمال النصوص
اِعتمد غادامير في كتابه حول تاريخ الفلسفة بداية التأريخ للفلسفة اليونانية من النصوص وبشكلٍ خاص النصوص الأفلاطونية والأرسطية ويبدو أنّ سبب اِعتماد هذا المعيار يرجع إلى إمكانية التأويل التي يُتيحها توّفر النصوص.
ويذكر في كتابه بداية الفلسفة أنّه يُعالج موضوعة الفلسفة قبل سقراط من خلال نصوص أفلاطون وأرسطو ويقول: “إنّ الشيء الأساسي في محاضراتي عن الفلسفة قبل سقراط هو إنّني لا أبدأ بطاليس ولا بهوميروس ولا أبدأ باللّغة الإغريقية في القرن الثاني قبل الميلاد؛ إنّني أبدأ بدلاً من ذلك بأفلاطون وأرسطو.
وذلك بحسب تقديري، هو المدخل الفلسفي الوحيد لتأويل الفلسفة قبل سقراط. وأي مدخل آخر يُمثل نزعة تاريخية دون فلسفة.”11. وهو الأمر الّذي يتوافق فيه غادامير مع هيدغر. هذا الأخير يذهب إلى القول بالنسبة إلينا ما يهم هو الذكاء الفلسفي، فلا يتعلق الأمر بجانب تأريخي إنّما بفلسفي وهو ما لا يُفيد: التفسير دون أخذ بعين الاِعتبار المُعطيات التاريخية”.12.
تُفيدنا الفيلولوجيا في التنقيب عن معاني الكلمات في نصوصها الأولى، وكذلك كان دأب شلايرماخر وجلّ فلاسفة ألمانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لفحص مقولات الإغريق وأفكارهم.
ولم يكن ذلك مُمكناً لو نصوصهم -خاصةً الأفلاطونية والأرسطية- التي جعلها غادامير مُنطلقًا لعمله التأويلي فهي فضلاً عن كونها وثائق تاريخية، تنفتحُ أمام الباحث كميدان يقبلُ الفحص وتوليد نصوص أخرى جديدة من نصوص كما جرت عادة الدراسة الفلسفية وإن اِختلفت الرُؤى والمناهج في إنتاج النصوص.
غادامير سعى كذلك إلى إنتاج نص فلسفي بجعل التأويلية فلسفة أو بتحويل التأويل إلى نص من خلال الصلة القائمة بين الفكر واللّغة والتي يتمحوّر حولها التأويل ويقول: “إنّ مُشكل الاِرتباط الوثيق بين الفكر واللّغة لا يمكنه إلاّ أن يجبر الهيرمينوطيقا أن تصبح فلسفة. وينبغي علينا أن نفكر دوماً داخل اللّغة، حتّى وإن كُنا لا نفكر على الدوام بنفس اللّغة.
ولا يمكن للتأويلية أن تفلت من الزعم بالكونية لأنّ اللّغة لا تنفصل عن العقل.”13. فكأنّ كونية العقل من كونية اللّغة والعكس صحيح. وعليه فمشروع الهيرمينوطيقا تبعًا لهذه الكونية المُعلنة أكبر من أن يكون مسألة منهج لعِلم أو لمجموعة علوم بل إنّ ما يتناسب مع هذه الكونية هو اِعتبار الظاهرة الهيرمينوطيقية فلسفة.
لا تنتج النصوص إلاّ اِنطلاقًا من كلمات. كما تستعمل الكلمات في الجُمل وتستعمل الحروف في الكلمات كذلك تستعمل الكلمات في النصوص وتستعمل هذه الأخيرة في التأويل وما التأويل في عُرف بعضهم سوى ضربٌ من التأويل.
فحينما نعود إلى نص ما فإنّنا نُوظّفه بكيفية معينة نرغب من ورائها وفقاً لرؤية الفيلسوف ريتشارد رورتي لا تكون الفلسفة فلسفة حقّة إلاّ عبر نصوصها، ولا يتوقف الأمر عند إنتاج النصوص أي في حالات إبداعها في تلقيها والكشف عن مكنوناتها إنّما في اِستعمالها وهو ما يراه رورتي نوعًا من التأويل.
بمعنى تأويلها وإذا كانت النصوص تُكتب لتُقرأ وتُفهم فلا محيد من المرور عبر التأويل لبلوغ مرام الفهم. يأتي التأويل كخطوة أساسية في سبيل إدراك مقصد النص والّذي من دونه يظل مُستغلقًا ومُبهمًا وبحاجة إلى آلية إيضاح يطلبها العقل كلما اِستعصى عليه الولوج إلى كنه النص.
كثيراً ما يكون تصورنا للتأويل على أنّه كفيل باِعتباره “منهجًا” أو “مجرّد رؤية” في اللحظات التي نُخضِع فيها أقوالنا وقضايانا إلى آلياته ونلجأ إليه فإنّما ذلك بغرض الوصول إلى الحقيقة. وعلى ذلك فإنّنا نقّر بعلاقة متينة بين التأويل والحقيقة من جهة وأيضاً بين الحقيقة والفهم من جهة أخرى.
فما يكون موضع تأويل يتوقف على معاييرنا المُستعملة بكيفية متذاوتة للحقيقة في إطار جماعة معينة من البشر تمامًا كما تتوقف معاييرنا نفسها على مدى الفهم الّذي يكون متداولاً ومتواصلاً بين أعضاء تلك الجماعة.
ضمن هذا السياق، الّذي يدفعنا إلى اِختزال التأويل إلى نوع من الاِستعمال وفق تصور براغماتي، يدعونا معه رورتي إلى تجاوز “التمييز بين المظهر والحقيقة لصالح تمييز آخر يكون بين طُرق التعبير الأقل والأكثر نفعًا.”14. يقوم هذا التمييز الّذي يُحبّذه رورتي على أساس من الاِستعمال ولذلك فهو يُقربنا من ترادف بين التأويل والاِستعمال أو إن شئنا إدراج التأويل في الاِستعمال لأنّ «الشيء الوحيد الّذي يمكن لأي كان أن يفعله بالنص هو اِستعماله»15.
وإذا كان الاِستعمال هو المسموح أو المُتاح به في النص، فذلك يعني فيمَ يعنيه أيضاً تأويله، الّذي سيكون مُختلفًا تبعًا للغاية من الاِستعمال، فلا اِستعمال وهو بمثابة قراءة إلاّ أن يكون قراءة مغرضة”.**
تبعاً لهذا تتكاثر النصوص من النص الواحد تبعًا لمُختلف التأويلات التي تشتد حدتها لتبلغ ذروتها في التناقض وصراع التأويلات بتعبير ريكور. التأويل بقدر ما يظهرنا على المُختلف فإنّه يزودنا بإمكانية الاِختلاف والتسامح المنهجي والإتيقي في إقراره. وفي هذا الإقرار ما يحيلنا على مبدئي: الحرية والاِستعمال.
ذلك أنّ لا تأويل دون ضمان مبدأ الحرية في فهم حر بعيد عن قيود المنهج واقتضاءات المذهب وفي مبدأ حرية التأويل ضمان لموضوعية القراءة النّصية وحياديتها. أمّا الاِستعمال فهو التطبيق العملي لمبدأ الحرية في التأويل بحيث يكون الاِستعمال وليد فهم مقارباتي لفكرة أو تصور أو فتح جديد يُحيل أو يُشير إليه النص ولذا وجب اِستعماله في هذه الغاية.
خاتمة
في القول باِعتبار الفلسفة مجرّد تناسل نصوص ما يُوحي بأنّنا إزاء مُنتج طبيعي أو هي مُنتج لكائن طبيعي، يُفترض أن تَلعب فيه الوراثة دوراً حاسماً والأمر كذلك إذا ما تمعنا بالنصوص ذات الطبيعة المذهبية في توارثها لأفكار وتعاليم المذهب أو الطريقة المتبعة في النظر لمشكلات الوجود والمعرفة والأخلاق.
بيد أنّ للطبيعة أيضاً طفرات وتحويرات وتغيرات تطرأ على النوع بِمَا يحفظه ويُمزه عن غيره من الأنواع وإن اِختلفت وتباينت بعض الخصائص في أفراده. كذلك الحال في النصوص الفلسفية بقدر ما تُثبت وتجذر وتؤصل فهي بالقدر نفسه تنتقد وتُخالف وتتجاوز ضمن منطق جدلي، حينما تخضع للتطور والتحوير والإضافة عبر التحليل والنقد والتأويل لكن دومًا في إطارها (جنسها) الفلسفي المُميز لها عن الأدبي والعلمي والتاريخي.
إنّ اِعتبار الفلسفة تناسلاً نصياً يفتح آفاق المُستقبل أمام إبداع وتجديد نص الفلسفة بِمَا ينفي ويستبعد معه كلّ قول بموت الفلسفة بل ويضعنا أمام تقدم تتجدّد معه أدوات التفكير الفلسفي ومفرداته صانعةً في كلّ مرّة معجمًا لمعالجة المشكلات الثاوية في نصوص الفلسفة.
هوامش المقال
1-أحمد الأمين، النقد الفلسفي العربي المعاصر بين الإيديولوجيا والفلسفة/ضمن محمد المصباحي(تنسيق): رهانات الفلسفة العربية،(منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط) مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى،2010،ص.91.
*يُخطئ من يعتقد بأنّ رورتي كان من القائلين بنهاية الفلسفة والذين تؤولوا كتابه العمدة: الفلسفة ومرآة الطبيعة الصادر سنة 1979 وفق هذا الرأي فهم مخطؤون. وإذا كان المقصود بالنهاية الموت فإنّ هذا ما ينفيه رورتي بعبارات صريحة ضمن ردّه على فانسن ديكومب Vincent Descombes حيث يقول: «لا يمكن للفلسفة أن تعرف نهاية، لأنّ الحياة والثقافة معقدتين إلى درجة أنّ عدداً من الأمور الجديدة التي نريد قولها لا يمكن فهمها بدقة إلاّ بتأقلمنا مع الأشياء القديمة التي نرغب في الاِحتفاظ باِستخدامها.»(3). وإذا كانت مهمة الفلسفة إثارة تساؤلات وتقديم حولها رُؤى عامة وشاملة تُشكل نصوصًا مُلهمة لإجابات جزئية في العلوم وفروعها، فإنّها ستظل كذلك ومن دون أن يسند لها رورتي مهمة خاصة أو نوعية.
2-ميشبين سوفاج، برمنيدس، ترجمة، د. بشارة صارجي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، لبنان، الطبعة الأولى،1981،ص ص54.55
3-جاك دريدا، في عِلم الكتابة، من مقدمة المترجمين، أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الثانية،2008،ص.26.
4-جاك دريدا في عِلم الكتابة،ص.422.
5-المرجع نفسه،ص.516.
6-المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
7-الفارابي، فصول منتزعة،ص.17.
8-الفارابي،الجمع بين رأيي الحكيمين، قدم له وعلق عليه، الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية،1968،ص.80.
9-رولان بارت، لذة النص، ترجمة، منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، سوريا، الطبعة الأولى، 1992،ص.21.
10-المرجع نغسه، ص.25.
11-غادامير، بداية الفلسفة، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى،2002،ص ص 6. 7.
12 . Martin Heidegger, concepts fondamentaux de la philosophie antique, traduit de l’allemand par Alain Boutout, Editions Gallimard, p25.
13 .Hans-Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, Avant-propos, traduction et notes par Jean Grondin, Presses Universitaires De France, 1re édition, 1996, p.42.
14 .Georgia Warnke, Gadamer, Herméneutique, tradition et raison, traduit de l’anglais par Jacques Colson,(Bruxelles, De Boeck –Wesmaels.a., 1991),p.179
- Richard Rorty, Truth and Progress : Philosophical papers,Cambridge, Cambridge University Press, 1998, p. 1.
**لا تُفيد عبارة قراءة مغرضة أنّها بالضرورة سلبية وغير صحيحة، مثلما يُفهم عادةً، بل هي وفق ما يذهب إلى ذلك عبد الفتاح كليطو قراءة بها غرض أو هدف أو غاية، لا بمعنى نية مُبيتة ومقصودة في تشويه النص وتحريف فهمه فهمًا صحيحًا أو التشويش عليه؛ وبالتالي لا نتصوّر أنّ قراءة تخلو من الغرضية، التي تُفيد التقاعل مع النص والاِستجابة لبعض مُتطلبات اِستيعابه.