إنّ الحديث عن حضور الأدب الجزائري في الحقل الأدبي الفرنسي، يحيلنا بالضرورة على عدة إشكالات ومفاهيم التي برزت في المجال النظري مثل أدب الأقلية (Littérature mineure) كما عرفه جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليسك قواتاري (Felix Guattari) والدراسات ما بعد الكولونيالية والأدب العالمي، و غيرها من المفاهيم والمصطلحات.
إن هذه المفاهيم والإشكاليات تدفعنا لا محالة إلى التساؤل عن الأدب الجزائري وبخاصة الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية التي وجدت صداها لدى القارئ الآخر في دور نشره ومؤسساته الأدبية، كما تدفع بنا هذه الوضعية إلى التطرق إلى تاريخ هذا الأدب في صيرورته وفي تعامله مع الآخر، وفي رؤيته للأنا في علاقته مع الغير.
تذكير تاريخي
وإذا حاولنا الانطلاق من البداية الجنينية لهذا الأدب، يمكننا القول إن هذا الأدب الروائي قد نشأ في أحضان المؤسسات الإيديولوجية الفرنسية المرتبطة بالوضعية المتروبولوبية أي ما يمكن تسمية بالمركز والهامش.
فحضور اللغة الفرنسية في الجزائر المحتلة، كان له عدة أهداف تدخل كلها ضمن محاولات إدماج نخبة معينة من الجزائريين لتشكل همزة وصل ووساطة بين الإدارة الاستعمارية والسكان الأصليين، وكذلك إظهار نجاح “المهمة الحضارية” لهذا الاستعمار، فكانت المدرسة من أشد الوسائل تأثيرا في مسار تكوين هذه النخبة التي بدأت تبرز على مستوى الكتابة والتأليف.
لقد توجهت هذه الكتابات منذ البداية إلى الفرنسي الذي يقيم بالمتروبول، باعتبار أن الفرنسي الكولونيالي هو العدو الذي يجب التخلص منه والقضاء عليه، بالاستعانة بذلك الفرنسي الذي يقيم خارج الأرض المحتلة والذي يتحدث المعمرون باسمه. ومن هنا يتبين “أن العلاقة التي يقيمها الكاتب المستعمر مع اللغة المفروضة عليه ومع اللغة المنسية، المكتوبة أو المحافظ عليها، أنه يقدم كتابة ذات طابع خاص لا يمكن إسنادها إلى فرنسا”.
وهكذا فحضور الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في حقل المنشورات الفرنسية ليس جديدا، فقد رافقت المؤسسات النشرية الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية منذ نشأته الأولى، أي في الفترة التي توسطت الحربين العالميتين.
وعلى الرغم من عددها القليل، فقد استطاعت هذه النصوص أن تعبر عن السياق الكولونيالي آنذاك، إذ تميز هذا الوضع بالهيمنة التامة على كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولم يبق للسكان الأصليين سوى الاستسلام والخضوع، فكل الثورات الشعبية والانتفاضات المقاومة (منذ الأمير عبد القادر إلى نهاية القرن التاسع عشر) لم تصمد أمام جبروت القوة المحتلة. وكان من الطبيعي أن تحاول الإدارة الفرنسية بعد أن سيطرت على الأرض، أن تسيطر على العقول وعلى المخيال.
وهكذا بدأت عملية الاندماج تأخذ مجراها من خلال التعليم المدرسي، فجاءت هذه النصوص الروائية لكل من ولد الشيخ محمد، والحاج حمد وشكري خوجة… وغيرهم لتعبر عن أدب مهيمن عليه وخاضع، أي “صغير” يمثل فئة من الجزائريين المحظوظين الذين انخرطوا في النظام الاستعماري وقبلوا به، فكان مقام أدبهم غامضا فهو من جهة يعبر عن “القبول بالأمر الواقع، ومن جهة أخرى هو تأكيد للذات مقرونة بإعادة نظر لاستغلال النظام، وعلى أية حال، لم يتم ذلك على المستوى الصريح.
كان تعلم اللغة الفرنسية آنذاك يشكل أحد السبل لإسماع صوت المستعمر إذ كان الملتقي في تلك الفترة، في أغلب فئاته يتشكل من الوافدين الجدد على الأرض الجزائرية.
وهو الأمر الذي جعل هذا الأدب يخضع في مجمله لهيئات النشر والتوزيع، وقد برز ذلك من خلال كتابة تقديم لهذه النصوص، حيث انبرى الكتاب الفرنسيون للقيام بهذه المهمة. وفي هذا المقام، أما الأدباء الجزائريون فقد كانوا على وعي تام “بأنهم دخلاء على عالم لا ينتمون أليه، فقد حاولوا قدر الإمكان إيجاد تدعيم من قبل عراب يمثل القوة الحامية لهم”.
كشفت هذه الممارسات عن تصورات كولونيالية بحتة تجلت في الإعلاء من شأن الاحتلال والاعتراف بمزايا “المهمة الحضارية” للاستعمار الفرنسي، إلا أن هذا الأدب كان يتأرجح بين انخراطه في النظام الاستعماري على المستوى الظاهر ولكنه ظل يدافع عن استقلال الذات والهوية على المستوى الباطن.
مما يجعلنا نقول وبشكل بديهي، إن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية هو نتاج للفترة الاستعمارية، وقد بقي الأمر كذلك مع مختلف المراحل التي أعقبت العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
إذ شهدت هذه الفترة ميلاد الحركة الوطنية بأحزابها المختلفة التي دعت فيما دعت إلى استقلال الذات والوطن معا عن النظام الكولونيالي.
وقد شكلت نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 المنعطف الكبير الذي دفع بالحركة الوطنية إلى التجدر في مطالبها وفي دعوتها لإقامة القطيعة مع النظام الاستعماري، والدخول في عملية الخروج عن”الطاعة” وعن الهيمنة.
وتم ذلك بعد أن قابلت الإدارة الاستعمارية الشعب الجزائري، الذي شارك أبناؤه في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، بالقمع الرهيب والمجازر الجماعية.
وأثر ذلك برز في الحقل الأدبي ما يسمى بجيل الخمسينيات، ويمثله كل من الروائيين مولود فرعون، محمد الديب، مولود معمري، كاتب ياسين أولا، وفيما بعد مالك حداد، وآسيا جبار.. إذا يقوم هؤلاء “بإقحام الأهلي غير المنمط في المشهد الروائي وهو متمثل وفق رؤية من الداخل ذات جاذبية أو مقبولة أو منزوعة الوهم”.
لعل هذه النصوص التي نشرت فيما بعد الحرب العالمية ستعطي هوية جديدة تتميز بالمقاومة الواضحة للآخر إذ تتموقع بصفة جدية في الساحة الثقافية للنضال من أجل هوية مستقلة تريد الانعتاق وتسعى إلى تكسير الصورة النمطية التي ألصقها المحتلون بالسكان الأصليين، الذين تحولوا – في هذه النصوص- من موضوع إلى ذات تشارك في الفعل الاجتماعي، على خلاف النصوص السابقة التي اتصفت بنوع من التذبذب في المواقف والمواقع بهويتها المضطربة.
سمحت تلك المرحلة للمشروع الاندماجي بالسعي إلى ضم تلك “النخبة” التي اختارت تعلم اللغة الفرنسية في أحضانه، ليجعل منهم فرنسيين بالكامل، لكن المسألة لم تكن سهلة حيث سوء التفاهم والأحكام الجاهزة هي التي انتصرت في نهاية المطاف. كانت الكتابة باللغة الفرنسية والتوجه للآخر في لغته، بالنسبة لهؤلاء تمر حتما عبر ضرورة القبول بــ”صفقة” تنص على تأكيد “غياب ذات الأنا الجماعية وبالتالي التوصل إلى اندماج فردي في الآخر”.
إن الرغبة في تعلم اللغة الفرنسية أصبحت مطلوبة لدى الجزائريين الذين كانوا يطمحون لامتلاكها وجعلها وسيلة للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية والمدنية والانخراط في العمل السياسي الذي دعمته الأحزاب الوطنية الناشئة…
وقد انتبه الناشرون الفرنسيون (لو ساي Le Seuil، دينويل Denoel، بلون Plon وجوليارJulliard) لهذا الأدب المقاوم وتوجّهوا لرعايته وترقيته وإعطائه الشرعية الأدبية، إذ أصبح النص الأدبي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية “الذي يعيد النظر في المجتمع الكولونيالي وينتقد العادات القديمة والتناقضات الراهنة، يعتبر في نظر من يعرفونه على أنه “أخذ للكلمة” ، بعد تم تغييب رأيه في تدبير الأمور. فكان الأدب وسيلته المفضلة في إسماع صوته لدى الرأي العام الفرنسي، الذي كانت تقام باسمه العديد من المظالم، وهكذا ارتبط مصير هذا الأدب بالحقل الأدبي الفرنسي.
وبعد حصول الجزائر على الاستقلال، تحول الأدباء الجزائريون إلى تمجيد الثورة الجزائرية و”استعادة” الهوية المغتصبة، وقد كان على السلطة الوطنية أن تسطر برنامجا سياسي وثقافي يتمثل في نشر اللغة العربية لتأخذ مكان اللغة الفرنسية، إلا أن انتشار اللغة الفرنسية لدى الجزائريين قد تضاعف بسبب تعميم التعليم وغياب المدرسين باللغة العربية أو قلتهم.
فلجأت أجهزة الدولة إلى تهميش و تقزيم الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، إلا أن محاولات قلب المعادلة اللغوية في الجزائر لم تعرف نجاحا، بحكم أن الكتابة الروائية باللغة العربية لم تظهر إلا في السبعينيات من القرن الماضي ولم تستطع فرض نفسها في الحقل الأدبي الجزائري إلا في الثمانينيات.
وهو الأمر الذي جعل الأدب الروائي المكتوب باللغة الفرنسية يدخل في حالة تمرد مع الخطاب السياسي المهيمن. فرواية “المؤذن” لمراد بوربون ورواية “التطليق” لرشيد بوجدرة هما نموذجان للاحتجاج الأيديولوجي والسياسي الذي احتل مكان تمجيد الثورة التحريرية.
فقد شعر الأدباء آنذاك بخيبة أمل كبيرة وفقد الاستقلال بريقه بسبب مصادرة السلطة للثورة وحرمانها للشعب من حريته المكتسبة بالتضحيات الجسام. فكل النصوص التي تم نشرها فيما بعد أخذت على عاتقها مواصلة الدرب والانخراط في هذا المسعى الاحتجاجي على السلطة السياسية وتعرية المجتمع وانتقاده في جوانبه السلبية.
ولكن هذا الأدب أصبح محاصرا ومهمشا بحكم أنه غير التوجه الأصلي الذي بنى عليه شرعيته والمتمثل في الاحتجاج على العنف الممارس من قبل الآخر، ليتحول إلى نقد الأنا والتنديد بممارساتها.
كان الاعتقاد السائد آنذاك أن هذه الكتابة ستعرف الزوال وتضمحل لتأخذ الكتابة باللغة العربية مكانها وفق الخطة المرسومة من طرف السلطة السياسية في تعريب الثقافة ووسائل الإعلام والتعليم، لكن هذا الأدب المكتوب بلغة الآخر ازدهر وعرف تقدما لا مجال لنكرانه، وبخاصة في الثمانينيات.
سيقدم هذا الأدب أسماء جديدة مثل رشيد ميموني والطاهر جاووت، تواصل نقدها للخطاب الرسمي الذي يستغل الثورة ورموزها لإضفاء الشرعية على حكمه، كما تسخر منه في خطاب أدبي حاد.
فهذا الأدب المهمش من قبل المؤسسات الأيديولوجية للدولة يرد بالمثل و”يواجه العنف الرمزي المتمثل في تقزيمه ونزع الشرعية منه بالتزام ممارسة احتجاجية للمقولات المؤسسة للشرعية الذاتية التي تتبناها الأيديولوجية الرسمية”.
فقد تنبأت هذه الخطابات الأدبية بالأحداث القادمة والانفجار الذي لا مفر منه، فكان أحداث أكتوبر 1988 التي أنهت بصفة عنيفة ما يمكن تسميته بالإجماع الوطني وحكم الحزب الواحد.
إذ تعرف الجزائر اثر ذلك، تعددية حزبية وانتخابات أدت إلى فوز الإسلاميين في تشريعيات 1991، مما اضطر السلطات العمومية إلى توقيف المسار الانتخابي وهو الأمر الذي جعل الجزائر تدخل في دوامة من العنف الهمجي.
فمس هذا العنف كل الفئات من رجال الأمن والجنود ورجال السياسة والفاعلين الاجتماعيين والإعلاميين والمثقفين والأدباء، وكانت البداية مع الأديب الفرانكفوني الطاهر جاووت، رمز الأدب الفرانكفوني المقاوم، لكن الاغتيالات لم تتوقف عند هذا الحد، بل شملت جميع المثقفين بمختلف توجهاتهم ولغاتهم.
عاش الجزائريون مرحلة كارثية بكل المواصفات، لكن من المفارقات الغريبة، أن الأدب عرف في هذه الفترة ازدهارا ذا شأن كبير.
وقد تمت تسمية هذه الكتابات بشكل متسرع بـ”الأدب الاستعجالي”، كانت الغاية وراء هذه النصوص تقديم الشهادة حول ما ترتكبه الجماعات المسلحة من فظائع شنيعة في حق الفئات الشعبية وفي نخبها، فهي “كتابة الرعب” كما يسميها رشيد مختاري.
صار الكتاب يكتبون من أجل “جمع شظايا هوية ممزقة، ولقول الذات ولإعلام الآخر، كل الآخرين. إن هذه المجزرة لا تساويها إلا ممارسات النظام الكولونيالي المنتصر، وكذلك ممارسات وحشية تم ارتكابها في أماكن أخرى وفي أزمنة أخرى”.
وقد كان وراء هذه النصوص مجموعة من الأدباء والصحفيين الذين امتهنوا الأدب، تم ذلك بعد هجرتهم من الجزائر تحت ضغط وتهديد الجماعات المسلحة. ولعل إقامتهم في فرنسا وعلى وجه الخصوص بمدينة باريس واستعمالهم للغة الفرنسية قد منحهم فرصة كبيرة للظهور ولتداول أسمائهم وكتاباتهم من قبل دور النشر وسائل الإعلام الفرنسية. كانت مدينة باريس تمثل بالنسبة للكثير منهم “عاصمة الجمهورية العالمية للآداب” حسب تعبير باسكال كازانوفا (P.Casanova).
وبحكم استعمالهم للغة الفرنسية، تم اتهامهم من قبل الإسلاميين بالتنكر للهوية العربية الإسلامية وبدعم طغاة النظام العسكري بالجزائر وكذلك بالولاء لفرنسا، عدو الأمس.
وخلافا لبلدهم الأصلي، حيث تغيب تماما هيئات التثمين والاعتراف، وجد هؤلاء في المؤسسة الأدبية الفرنسية القوية كل الدعم والتبني من خلال وساطات جد هامة مع القارئ عبر لقاءات البيع بالتوقيع التي تضمن التواصل المتكرر مع القراء ومع وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.
ستستمر دور النشر الفرنسية في مرافقة هذه الكتابات مثلما جرى مع الأجيال التي سبقت، كما أن إصدار مجلة “ألجيري، ليتيراتور/أكسيون” (Algérie, Littérature/Action) سيساهم بدوره في تسليط الضوء على الكتاب الجدد الذين وفدوا إلى الساحة الثقافية ولفت انتباه دور النشر الفرنسية لهذه الإبداعات النصية.
لا يكمن “دور هذه النصوص الروائية في وصف الواقع المفجع فحسب، بل الإسهام أيضا في التعريف بكتاب أجبروا على التنقل أو هم في الطريق إلى التنقل من بلدهم” . سيمكن استعمال اللغة الفرنسية هذا الأدب من احتلال مرتبة هامة داخل الحقل الفرنسي وقد ساعده في ذلك السياق السوسيو-سياسي الذي تميز بصخب إعلامي وسياسي و فكري ركز اهتماماته على الأحداث التي عرفتها الجزائر في تلك المرحلة.
ولهذه الأسباب مجتمعة نشأ الأدب الروائي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في ظل عملية قيصرية، لم تكن طبيعية، بل ذات خلفيات وأبعاد ثقافية ولغوية هيمنت فيها المؤسسات الاستعمارية (مدرسة، دور النشر، وتلقي..). وهو الأمر الذي يجعلنا نزعم أن هذه الآداب “صغيرة” والمقصود بذلك وهو “أنّ الأدب الصغير ليس أدب لغة دونية أو لم تبلغ سن الرشد، بل أدب أقلية تكتب في إطار لغة بلغت تمثل الأغلبية. وتتميز هذه الآداب بكونها تبتعد عن الإقليم أو للأقلمة أي أن الأدب أصبح يشكل ممرا لإيقاظ الوعي الوطني، أمّا الميزة الثانية التي تخص هذا الأدب الصغير، يتمثل في أنّ كلّ شيء فيه يتضمن السياسة، وأخيرا الميزة الثالثة وهي القيمة الجماعية التي يملكها هذا الأدب. ومهما غرق هذا الأدب في الذاتية وفي الغير ذاتية، فإنّ هذه الجوانب تختفي ليصبح لسان حال الجماعة سواء وعى ذلك أم لم يعه.
وإن اتفقنا مع هذا الطرح، أي النزعة المقاومة التي تميز الأدب الصغير، وفي مراحله السابقة، فإن الأمر يختلف مع الأدباء الذين ظهروا في التسعينيات ورافقوها واستمروا في الكتابة مع بداية الألفية الثالثة، من أمثال ياسمينة خضراء وبوعلام صنصال.
ولعل الاختلافات الذي تخص كل روائي على حدة، تجعلنا نتساءل عن حضور هذا الأدب في الحقل الأدبي الفرنسي، وعن الاستراتيجيات التي يعتمدها كل واحد لبلوغ القارئ، ونوعية الموضوعات التي يتطرق إليها كل روائي وعن كيفية معالجتها من قبله.
ياسمينة خضرة وإستراتيجية الانخراط في الأدب العالمي
يتميّز ياسمينة خضراء بمسار غريب نوعا ما، حيث بدأ الكتابة وهو جندي في صفوف الجيش، لكن هذه الوظيفة لم تمنعه من كتابة الأدب الروائي، وقد كان آنذاك يوقع نصوصه التي كانت تنشر في الجزائر باسمه الحقيقي محمّد مولسهول، قبل أن يتخذ لنفسه اسما مستعارا، والمتمثل في ياسمينة خضراء.
في واقع الأمر لم تلفت هذه النصوص الأولى، انتباه القراء والنقاد لأسباب متعددة، مما يدفع إلى التساؤل عن مكانة هذا الإنتاج الروائي الذي تم نشره في الجزائر في الثمانينيات والتسعينيات. أيكمن ذلك في المستوى الفني للكتابة الروائية لدى المؤلف؟ أم أن نقص تداول نصوص الروائي يخضع إلى حقل أدبي غير مكترث بالمواهب الأدبية؟
يبدو أن تلقى هذا الأدب يرتبط بالنظرة التي يحملها المجتمع لوظيفة الكتابة، وهي وظيفة قد فقدت قيمتها واضمحلت في مواجهة احتياجات اجتماعية ورمزية ينظمها ويرتبها ويتحكم فيها حقل اجتماعي وسياسي وثقافي، حيث يعيش الأدب والمكتوب منه باللغة الفرنسية خاصة، حالة من التهميش لأسباب سياسية ولغوية وإيديولوجية. ولعل النصوص العديدة التي يمكن تصنيفها في مجال الكتابة الأدبية “لا تملك، على ما يبدو، وجودا قانونيا، إلاّ لدى المختصين في علم البيبليوغرافية، لكنها تتجمع ضمن فجوات وهوامش تاريخ مكرس” فهو أدب يعيش حالة تأجيل حسب ملياني الحاج، وهكذا فتلقيه هو كذلك مؤجل إلى زمن غير مسمى. وهل سيتغير الأمر من حيث التوزيع والتلقي، بالنسبة لهذا الأدب؟
من الواضح، أن مجرى الأحداث بدأ يتغير بكل تأكيد، ولعل تجربة ياسمينة خضراء مثال صريح على هذا التغير. إن الظروف التي واجهت هذا الأديب في مسيرته كانت معقدة جدا، إذ كان عليه أن يجابه عدة تحديات ومنها التحفظ الملزم للعسكري: أي الكتابة والنشر ضمن محيط حيث يختفي الفرد أمام الانضباط المفروض من قبل القيادة، كان ذلك صعبا على محب للأدب يملك طموحا لا مثيل له.
وتضعنا روايته “الكاتب”(2001) في الصورة عن المتاعب التي عانى منها الجندي الصغير الذي دفعه أبوه، وهو عسكري التكوين، إلى الانخراط بشكل كلي في هذه المؤسسة، فقد نشر في البداية ثمان روايات، دون أن يعرف النجاح الذي كان يصبو إليه، ولم تتحقق أمنياته وأحلامه. ومن ثم لجأ إلى كتابة الراوية البوليسية لتوسيع دائرة قرائه في جزائر التسعينات، لكن لم يستطع الأديب التواصل مع القارئ الفرنسي إلاّ في سنة (1997) بعد أن نشر روايته “موريتوري” في دار بالين (EditionsBaleine) وهي عبارة عن رواية بوليسية تمزج بين مغامرات شرطي يحارب تجاوزات نظام سياسي وهو في خدمة هذا النظام في ذات الوقت.
لقد نالت هذه الرواية نجاحا باهرا، وشكلت بداية لمغامرة ثقافية في حقل أدبي يعد بالكثير، فيواصل نشاطه الأدبي بنشره تباعا “خريف الأوهام” و”الأبيض المزدوج” في سنة (1998)، تمكنه هذه الثلاثية من ولوج الحقل الأدبي الفرنسي والتعريف بأدبه في عالم الآداب الذي كان يحلم به، لكن مع الاحتفاظ بالغفلية والتستر عن هويته الحقيقية.
لقد لعب الدعم الذي لقيه رجال الأدب الجزائريين المهددين بالانقراض في بلدهم، من قبل المثقفين ووسائل الإعلام ودور النشر الفرنسيين، دورا كبيرا في التعريف بهذا الأدب.
كان الجو الثقافي والسياسي آنذاك مناسبا للأديب ولغيره من الأدباء، وكان عليه استغلال الظرف والاستفادة مما يمنحه من فرص، فكان عليه أن يغير من موضوعاته واختيار ما يناسب الأحداث وما يستجيب لطلب القراءة، فينشر روايتين حول العنف في الجزائر “خرفان المولى” (1998) و”بم تحلم الذئاب” في (1998) في دار جوليار(Editions Juliard) .
وهكذا تتحول رهانات الكتابة بشكل جديد وتأخذ منعطفات مع دار النشر جوليار، كما ستعرف معها استراتيجيات الانخراط في النموذج الفرنسي للنشر.
فينشر ياسمينة خضرا، ثلاثية جديدة تعالج موضوع العنف الذي تعرفه بعض البلدان حيث تتكرر النزاعات المسلحة وتحدث العديد من الضحايا: أفغانستان بالنسبة لرواية “سنونوات كابول” (2002)، إسرائيل بالنسبة لرواية “الاعتداء”)2005 (والعراق بالنسبة لرواية “صفارات إنذار بغداد” (2006).
وقد شهدت هذه الثلاثية نجاحا تجاريا وإعلاميا باهرين، تجاوز الحدود الفرنسية، ولقد تزامن نشر هذه النصوص مع فترة عرف الإرهاب الإسلامي ذروته وبخاصة مع أحداث سبتمبر (2001) التي صدمت بعنفها الكبير البشرية جمعاء.
اختار الكاتب هذا التوجه، المتمثل في وصف هذه الحركات المسلحة من أجل فهم الآليات التي تتبناها في الممارسة الميدانية وفي التعبئة الإيديولوجية. وبعد خصومة لم تدم طويلا مع مجموعة كبيرة من الإعلاميين والمثقفين الفرنسيين بسبب خرجته العلنية بصفته “عسكري سابق” في صفوف الجيش الوطني الشعبي، ليدافع عن هذه الهيئة في النقاش الدائر حول “من يقتل من؟” في الجزائر، و يوضح الأديب ذلك في كتابه “مكر الكلمات” (2002)، لكن هذه المتاعب لم تثنه عن مساعيه في توسيع قاعدته من القراء، من خلال التواصل مع القراء ومن خلال رغبته في فرض نفسه في حقل أدبي بوصفه فاعلا اجتماعيا.
وفي هذه الفترة سيستقر ياسمينة خضراء بفرنسا بعد إقامته القصيرة بالمكسيك، من أجل الاقتراب من الجو الأدبي الفرنسي. ويتضح من خلال مسعاه في الكتابة، أنه تحول إلى عوالم أخرى للتواصل مع الآخرين، بعد أن تناول التهديد الإرهابي خلال التسعينيات بشكل كبير، إذ يرى أن هذا التهديد لا يستثني أحدا.
ولتبليغ ذلك للقارئ والتواصل معه يلجأ الأديب إلى منهجية تتخذ من النجاح إستراتيجية، وتنطلق اختياراته الموضوعاتية والاجناسية من دراسة مسبقة لأفق انتظار جمهور القراء، وباختيار دار جوليار للنشر، فقد انخرط في حقل الإنتاج الواسع، حسب تعريف بيير بورديو، لأنه يريد أن يتصل بأكبر عدد من القراء لتوعيتهم بخطورة الوضع وتفكيك أسبابه وعوامله الرئيسية للظاهرة الإرهابية، التي تعددت مصادرها، منها الإيديولوجي والسياسي أو الإنساني.
وقد ساعدته في ذلك التغطية الإعلامية الكبيرة لهذه الأحداث، مما شكل لديه فرصة سانحة للإجابة عن العديد من الأسئلة ولفت انتباه القراء وترغبيهم في تناول أعماله. فالظاهرة الإرهابية التي تتبنى الخطاب الديني الإسلامي قد أصبحت موضوعا طاغيا في كل الخطابات السياسية والإعلامية. إذ اجتاحت الأيديولوجية الإسلاموية كل المناطق، ولم يعد لها حدود، فهي لا تملك سوى الأعداء لتحاربهم ولتقضي عليهم بكل الوسائل التي تملكها تكنولوجيا الرعب. فإن نمت وتطورت هذه الأيديولوجية في بلدان الشرق الأوسط أو بلدان الشرق الأقصى، فإنّ أهدافها موجودة في كل مكان، و حتى داخل البلدان التي عرفت نشأتها ونموها و وسائلها الأيديولوجية، وكذلك في البلدان البعيدة مثل أوروبا وأمريكا.
فمنحت معالجة مثل هذه الموضوعات لصاحبها بعدا عالميا إذ تمت ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات وتم اقتباسها للسينما، كما تدفقت عليه الجوائز والتشريفات، فأصبح يحظى بالاعتراف وتمكن من احتلال مكانة معتبرة ضمن النقاش العالمي حول القضايا الساخنة.
ولعل الحوار الذي خص به جريدة الوطن الجزائرية في 11جوان 2006، والذي تحدث فيه عن روايته “الاعتداء” التي أثارت جدلا واسعا، يوضح لنا مسعاه، إذ يصرح بأنه يريد التوجه مباشرة إلى القارئ الغربي الذي يخلط بين الإسلام والأصولية (…) أي الحديث عن الأشياء التي لا يريد الغرب سماعها على الإطلاق.
ولا يتوقف الإنتاج الأديب لهذا الكاتب عند هذا الموضوع، فالعلاقة الحساسة التي تجمع بين الجزائر وفرنسا نالت حظها وقد كان عليه أن يقرأ التاريخ من وجهة نظر غير مألوفة، حيث ألف “فضل الليل على النهار (2008). إذ يقوم بفحص ذاكرة الشعبيين (الجزائري والفرنسي) اللذين يعيشان في الفترة الاستعمارية على أرض واحدة، فتحمل الرواية في طياتها رسالة صداقة للشعب الفرنسي، بغض النظر عن الصراع والاختلاف والخلاف، وهو بذلك يحطم العديد من الطابوهات التي ظلت مصدرا لسوء الفهم في الكثير من الأحيان. فالدعوة للمقاسمة وللحوار وللتسامح وتبني القيم الإنسانية التي تتضمنها رواياته، تجعل من هذا الكاتب وسيطا قويا بين الثقافات العالمية.
وتنحي المنحنى نفسه روايته “المعادلة الإفريقية” التي صدرت سنة (2011) التي تجري أحداثها بالفضاء الإفريقي حيث القرصنة واحتجاز الرهائن موضوع نص روائي، حيث يشير إلى رؤية مختلفة للأشياء مما هو سائد في الغرب. “فالحدود لا تقبع سوى في الأذهان، لكن في الواقع الميداني، كل تهديد يعلن عن نفسه في مكان ما يتحول إلى خطر مشترك يجب أن يستفيد الجميع من كل ثروة” بالنسبة إلى هذا الكتاب. فالخطاب الأدبي -في هذا المقام- يكون الوسيلة المفضلة لكل تواصل متداخل ثقافيا، حيث أنه يسلط الضوء على جوانب خفية من حياتنا البشرية.
إن تجربة ياسمينة خضراء تؤكد مرة أخرى أنّ الأدب الجزائري يطمح لتسجيل مكانته في الحقل الأدبي الفرنسي وكذلك الطموح لاحتلال مكانة هامة في الأدب العالمي.
بوعلام صنصال والرغبة في الاندماج الفكري
إنّ تجربــة هذا الروائي فريـدة من نوعهــــا وهي غريـبـــة في مسارها، إذ تختلف عن التجربة السابقة بعدة مميزات، إذ جـــاء هــذا الروائـــي إلى الكتــابــة الروائيــة متأخــرا، إذ نشـــر أوّل روايـــة وهــو في الخمسيــن من عمــره تحت عنـوان “قســم البـرابـــرة” وقد نــال جــائـزة الروايــة الأولــى وجـائزة تروبيـك، وهمــا جــائزتـان عــاليـتان القيمــة. وتدور هذه الأحداث في مدينة رويبة الجزائرية التي تعيش أجواء الإرهاب والتقتيل، وبطله الرئيسي ضابط شرطة، يحاول لغز جريمة، ليصل إلى متاهات غريبة، فيقتل بدوره. وإن طغى التحقيق البوليسي على أجواء الرواية، فإن إشكاليتها هي سياسية في العمق، إذ يطرح الكاتب قضايا ذات بعد تاريخي يرتبط بالماضي والحاضر ويحاول فك لغز الأحداث القائمة من خلال تاريخ الثورة التحريرية ونتائج الصراعات الداخلية التي عرفتها.
وبلـغ بوعلام صنصال شهــرة لا مثيـــل لهــا منذ نشره لروايته الأولى، فقد أصبح كاتبا معروفا ومعترفا به وبعـد نشــره لثلاث روايــات، هي كالتالي: “الولد المجنون الساكن بالشجرة المقعرة”(2000) ورواية “تكلم لي عن الجنة”(2003) ورواية “حراقة”(2003) وقد صدرت هذه الروايات كلها عن دار قاليمار، وهي دار نشر لها وزنها في الحقل النشري الباريسي. وتتحدث هذه الروايات الثلاث عن الوضع السياسي والاجتماعي في الجزائري وتنتقده بشدة.
وفي سنة2008 ينشــر رواية تحت عنوان “قريــة الألمــانــي أو مذكــرات الإخــوة شيللـر”، التي تدور أحداثهـــا في الضاحية الباريسية وفي قرية عين الدب بالجزائر. ويعـيد بــوعلام صنصـال بهذا النص إلى الذاكــرة فصلا من فصــول الثــورة الجـزائــريــة وعلاقــة جبهــة التحريـــر الوطنــي بالحركـة النازية. ويتم ذلك من خلال مذكرات راشيــل ابن هـــانس شيللــر الذي هـرب من ألمـانيـا بعد هزيمــة النـازيــة ليستقـر بمصر. وبعد مدة ينتقل لمساعدة جيش التحريــر الوطنـي بواسطة المخـابرات المصرية في عهد جمـال عبـد النـاصر. ويصبح، بعد حصول الجزائر على الاستقلال، رمـزا للثورة ولكنـه يقتـل خلال فترة التسعينيات مع زوجته الجزائـريـة الأصل.
يسافر راشيل إلى قرية الدب للوقــوف على قبر والديـه، فيكتشف حقيقة أبيه، ويشعر بالعار، فيقبل على الانتحار. أمـا أخوه مالريش الذي يسعى إلى معرفة الحقيقـة من مذكرات أخيه يقرر محـاربة الحركة الإسلاميـة بالضاحية الباريسية التي تحولت إلى تهديد للنظام العـام، لتبنيها الأطروحات النازية.
إن مثل هذه الموضوعات، ستلقي حتما الحفاوة المطلوبة في فرنسا، لما يجده اليهود في الغرب عموما وفي فرنسا على وجه الخصوص من استعطاف وتضامن. والمتتبع لمسار بوعلام صنصال يلاحظ أن هذا الروائي قد سخر قلمه للخوض بشكل مستفيض في النقاش حول تاريخ الثورة الجزائرية. ومن البديهي القول أن هذا الموضوع لم يحظ بالدراسة اللازمة والمعمقة لدى المؤرخين الجزائريين والفرنسيين، وهو الأمر الذي يدفع بالعديد من التساؤلات حول العقبات التي تقف أمام المختصين في التاريخ سواء من حيث المنهجية وتوفر الأرشيف والوثائق. ويمكن القول في هذه الحالة، أن الروائي بوعلام صنصال في روايته “قرية الألماني” قد تأثر كثيرا بكتاب “الهلال والصليب المعقوف” لصاحبيه روبير فاليقو(Robert Faligot) وريمي كوفر(Rémy Kauffer) الذي صدر سنة1990عن دار البين ميشال (A. Michel) وهو كتاب تاريخي يشير إلى التحالف بين الإسلاميين المتطرفين والقوميين العرب مع المخابرات النازية ولهذا تطرح مثل هذه الكتابات عدة إشكاليات حول أهدافها ومراميها، باعتبار أن لكتابة التاريخ وظيفة إيديولوجية تؤسس لعقد اجتماعي ولإجماع اثني أو وطني.
ومن هنـا يقيـــم بـوعلام صنصال العلاقــة بين الثورة التحريرية والحركـة النازيـة من جهــة، ومن جهة أخرى العلاقــة بين الحركة الإسلاميـة والحركة النازية إذ يرى أن العلاقة بصعود الحركة الإسلامية في الجزائر ونموهــا في الضواحي الفرنسية له ارتبـاط واسع وهنا دور السلطة الجزائرية في قمعها للحريات، وعدم التفاتها إلى الاشتغال على الذاكرة وبخاصة عدم التوعية بجرائم المحرقة مما تسبب في تدهـور الأوضاع السياسية وبالتالي سيطرة الإسلامييـن على الساحة الجزائـرية ومن ثم في الضواحي الباريسيـة.
إنّ تجربة بوعلام صنصال تختلف عن تجربة ياسمينة خضراء، وعلى الرغم أنّ الأوّل يملك موهبة كبيرة في الكتابة، إلاّ أنّ الثاني عرف كيف يتعامل مع القارئ، إذ حافظ على مكانته الأدبية في الجزائر، بينما فقدها الأوّل وأصبح أدبه يعكس صورة “أدب مندمج” مثلما كان عليه الحال مع الأدب الجزائري الذي تمت كتابته في العشرينيات من القرن الماضي، وهو وجد ضالته في الخطاب الكولونيالي. لقد اختار الروائي هذا التوجه بكل وعي وتحمل مسؤوليته. ربما يريد إعادة إنتاج تجربة أدباء بلدان أوروبا الشرقية في فرنسا من أمثال سيوران (Cioran) وكونديرا (Kundera) أو تجربة الأدباء الايرلنديين من أمثال صمويل بيكيت (S. Beckett) ، مع اختلاف الجغرافية والتاريخ لكل واحد منهما.
وكأنّ الروائي يريـد أن يثأر لنفسـه من “تعسف” النظام الجزائـري ضدّه، وبالتالي لكل ما يؤسس هذا النظام من تاريخ المتمثل في الثورة التحريرية التي قادتها جبهة التحرير الوطني التي نتج عنها هذا النظام. ويريد أيضا أن يقف موقفا نقديا حادا من الديـن الإسلامي الذي أنتج الحركـة الإسلاميـة المتطرفـة والعنيفـة. ولعل ما لحق الجزائر من إرهاب وتدميـر وحرق اغتيــالات وقمـع للحريــات، سمح ببروز رؤى جديـدة، ترفض هذا الوضع وبشكل راديكالـي وبذاتية عميقة لا تخضع لأية عقلانية، إلـى حد التشكيـك في كل شيء. هذا بالإضافة إلى أن هذا الروائي، وكأنه يسعى إلى “اختصار الزمن” في مسيرته الأدبية وربح الوقت الذي فاته، فحاول الاقتراب من المراكز النافذة في الحقل الثقافي والسياسي في باريس ونعني صحيفة “نوفل أوبسافتر” (Nouvel Observateur)، بعد أن وجد الرعاية الكاملة من قبل دار نشر قاليمار التي تعتبر من أهم المؤسسات النشرية في فرنسا.
هذا بالإضافة إلى أنّ الروائي يحاول إيهام القارئ بحقيقة وواقعية أحداث الرواية، وأنّ كتبه ممنوعة في الجزائر وأن السلطات قد عزلته من وظيفته. وهي إستراتيجية “الضحية” التي يعتمدها الكثير من مثقفي العالم الثالث من أجل لفت الانتباه والرعاية لدى الأوساط الثقافية والإعلامية في الغرب، ولكن هذا لا يعني أن بعض أولئك المثقفين لا يعانون من حصار و قمع في بلدانهم، إذا فالمسألة تحتاج إلى تدقيق ودراسة حالة بحالة. وقد تعتمد هذه الإستراتيجية في بلوغ النجومية، ووظف ذلك الروائي ليظهر في صورة “الضحية” وفي ذات الوقت “المصلح” للأضرار. وقد نجح في تسويق اسمه ورواياته ونال العديد من الجوائز وبلغ مرتبة عالية في الإعلام الفرنسي لما زار الصالون الدولي للكتاب في باريس على الرغم من المقاطعة الشاملة له من قبل المثقفين العرب وحضر أيضا ندوة دولية للأدباء بإسرائيل.
إنّ مثل هذه النصوص لا تؤسس لحوار هادئ بين الشعوب، بل تعمق الفجوة أكثر، بما تزرعه من أحكام مسبقة أو تثبت ما هو قائم من أحكام جاهزة وتصورات مقولبة، بحكم انخراطه في صراع الحضارات والديانات.
خلاصة
يحاول هذا الأدب الصغير (Littérature Mineure) تجاوز مراحله الأولى، أي من الانخراط الغامض في الهوية الكولونيالية فالتحول إلى أدب مقاومة في الخمسينيات والستينيات، إلى أدب يعيد النظر وبقوة في البنية السردية المؤسسة للنظام السياسي في السبعينيات والثمانينيات، ومن ثم إلى الدخول في صراع حاد مع الحركات الإسلامية، وبخاصة المسلحة منها في التسعينيات. ويمكن القول أن مرحلة “ما بعد الإرهاب”، ستسمح للأدباء الذين كانوا “يجمعون” في كتاباتهم حول موضوع مركزي، أي الإرهاب الإسلامي، إلى الانتقال إلى ما يمكن تسميته بــ”الانفجار الموضوعاتي”، ليأخذ عدة سبل مثل رواية السيرة الذاتية والرواية التاريخية والرواية العائلية، لكن ضمن الخروج عن الدوكسا والحس المشترك والاحتجاج عليه وانتقاد كلّ الرموز التي اكتسبت شرعيتها من القصص المؤسسة للدولة الوطنية والتحليق بعيدا عنها، إلى محاولة الانخراط في العالمية بأشكال مختلفة. والجدير بالذكر أن هذه الحركية التي يشهدها الأدب الجزائري سواء المكتوب باللغة الفرنسية أو ذلك المكتوب باللغة العربية لا يخرج عن إطار التحولات التي أحدثتها الشوملة والتهجين (Hybridité) التي تجد أسسها الإبيستيمولوجية في مفاهيم ونظريات ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية.
إنّ هذا الأدب “الصغير” يحاول أن يتجاوز وضعه لكي يكون “كبيرا” ويخضع بالتالي لآليات “اليد الخفية” حسب آدم سميت، بكل وعي ومسؤولية، ولكل أديب يخوض مغامرته الأدبية انطلاقا من إستراتيجية محكمة ومدروسة.