سياحتنا على هدى من أمرنا في اقتفاء أثر دروب من دبجوا تاريخنا بمعارفهم في الآداب و الفنون و العلوم، هي نزهة الخاطر من ناحية، و أداء الوفاء لأهله من ناحية ثانية.
تسعى مجلة “فواصل” لأن تكون منبرا حرّا للفكر تستعيض فيه بالجسور بين المفكرين و المبدعين على اختلاف مشاربهم عن الموانع و التمترسات المقصية لحوار الأفكار و الآراء.
فبعد أن أسهمنا بإطلالة سالفة الذكر متواضعة عن بعض أعلامنا في الفكر و الأدب مثل : محند تازروت ، عبد الرحمن بن الحفاف، وعلي الحمامي و تناول غيرنا بالعرض و التقديم لمحمد التيفاشي و محمد أركون ومن إليهم .
نقفي على من ذكرنا بعرض موجز عن عالم جزائري، نحسبه من كبار أعلام بلادنا، و من قادة الفكر في نهاية القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين ، إنه المفكر الموسوعي المتعدد الألسن و الفنون محمد بن شنب (1269-1929) ) رحمه الله.
– منشأه و ذووه
هو محمد العربي بن محمد بن شنب، أصيل منطقة المدية بأحواز حاضرتها في قرية عين الذهب، التي حباها المولى بما يسر الناظرين، يفيض عليها هواء زكي، و تخرج من بطون أرضها عيون من نمير، كأنه غدق، و ينساب عليها الأخضلال من غابات روض الإنسان بعضها فأتت ثمرا شهيا و فاكهة و أبّا، و استبسل بعضها الآخر في طبعه تِهراق ظلاله صيفا على كل من رام سياحة و إمتاعا في القمم و السفوح، تحتضن الأشجار شتاء نتف الثلج، يدثرها الضباب فيبدو القضاء كراهب صام عن اللغو ، و انقطع في خفر للتأمل و البوح.
احتفى هذا الفردوس الفياض بمولد محمد بن شنب في أكتوبر 1869، لأب من أهل اليسار من المزارعين، ولأم من أسرة ماجدة لأهل بشطارزي، فهو إذن تركي الأصل أبا و أما ، مسلم العقيدة جزائري الموطن، فجده لأمه محمد بشطارزي قائد عرش ريغة بالمنطقة، التحق بصفوف الأمير ، و ظل يرافقه إلى أن توفي.
بينما نذر جدّه لأبيه نفسه في صفوف الجيش التركي إلى أن قضى يوم هجوم الأمير عبد القادر على المدينة سنة 1840.
نشأ محمد بن شنب عما توارد إليه من فضائع المحتل ومقاومة مواطنيه له، ووقف في نعومته على حرمان الغزاة لشعبه في الحياة والكرامة وحق التعلم ونعمة المعرفة، فتماها بما قد تناهى إليه من فضائع، فركب للحياة خطوبها مستبسلا في التحصيل العلمي و السعي إليه في كَبدٍ ، حتى إذا نال بعض مآربه فيه ، سافر سنة 1886 وحيدا من المدية إلى العاصمة ، أيام كانت الدروب و المسارب تعمرها الكواسر و الأسود و الضباع القاتكة ، و كل ذي مخلب و ظفر.
التحق بمدرسة المعلمين ببوزريعة، و تخرج فيها برتبة أستاذ اللغة الفرنسية، إلى جانب دبلوم في النجارة عام 1888، و ما جاوز التسعة عشر عاما.
عاد محمد بن شنب إلى المدية، ليضطلع بمهمة التدريس في قرية سيدي علي تامجارت.
بعد بضع سنين عددا يمم وجهه ثانية إلى عاصمة البلاد ليواصل التدريس بمكتب الشيخ إبراهيم فاتح، و يَجِدَ جِدَه في تعلم اللغة الإيطالية، والدراسة بالثانوية و لازم الشيخ العالم عبد الحليم بن سماية ،الذي قال عنه ( ما علمت في حياتي كلها معلما يرجع إلى تلميذه غيري وأني معترف له بالفضل و النبوغ).
غاص بن شنب في كنوز الأثر الأصيل لتراث أمته في العلوم التقليدية، فقها، و تاريخا، وفلسفة، وفي علوم العربية، و آدابها بالجامعة الفرنسية بالجزائر، وكان يعود إذا أشكل عليه أمر مسالة إلى بعض أساتذته مثل باسي. و فانيا.والشيح أبي القاسم بن سديره ومن إليهم.
فنال عن استحقاق سنة 1894 دبلوم اللغة العربية بالرغم مما أصابه من علة أرهقت كاهله، ثم افتك شهادة البكالوريا التي كانت وقتها وقفا على أبناء المستوطنين ، و على الندرة من أبناء الذوات.
لم يقنع باللسان العربي و الفرنسي و الإيطالي فحسب، إذ بعد أن شفي و استعاد عافيته، سعى إلى تعلم الألمانية رغم عسر نحوها ، و الإسبانية كذلك ليعزز، علمه بمآثر الأندلس و ينهل من معينها ، و اللاتينية أم اللغات الغربية ليقف على فلسفات اليونان و الإغريق، و ما تهادى منها إلى العصور اللواحق من أثر و ذكر طيب، ثم العبرية بعد أن تعرف إلى الأستاذ ” فانيا بجامعة الجزائر الفرنسية، الذي جسر له علاقة مع رِبي يهودي يسر له من أمرها عسرا و الفارسية و ما اكتنزت من فنون و آداب و ديانة زرادشتية مجوسية ، حتى إذا دانت له هذه الألسن على كثرتها ، و على تنوع مستغرقاتها ، حصن نفسه بالمعارف، فبلغ منها مبلغ المكين، الذي لا تهزّه عواصف المسخ و الاستلاب.
عينته الأكاديمية أستاذا بمدرسة الكتانية بقسنطينة سنة 1889 على الأرجح، خلفا لقامة جزائرية أخرى ذات باع و صولجان في العلم الشيخ عبد القادر المجاوي إلى سنة 1901، درس خلالها علوم العربية و الفقه الإسلامي و يمم وجهه ثانية إلى العاصمة ليحط رحله بمدرسة الثعالبية ، و يحظى بزواج سعيد من كريمة الإمام الثاني للجامع الكبير الشيخ” قدور بن محمد بن مصطفى”، التي سيرزقه المولى منها تسع بنين ذكرانا و إناثا.
أقام ” بن شنب” مدرسا و باحثا و مؤلفا بهذه المدرسة ما لا يقل عن ثلاث و عشرين سنة أفاد و استفاد.
– عصر ” محمد بن شنب“
تدعونا الأمانة التاريخية ، و الصدقية العلمية إلى موضعته، ضمن مجال عصره، و لو باقتضاب شديد، و ذلك لنتمكن من فهم فكره و موقفه المعرفي و السياسي في تفاعله مع عصره، إن فاعلا أو منفعلا.
إن ” بن شنب ” الذي عاش ستين عاما من 1869- إلى- 1929- قضاها جميعا تحت ظلمة ليل الاستعمار الهمجي الفرنسي، و التي يمكن تقسيم مرحلتها الأولى إلى محطتين متكاملتين حسب تقدير المؤرخ ” أبي القاسم سعد الله” غمره المولى بشآبيب رحمته إذ يقول:”…. حكما عسكريا من 1830- إلى 1870، و حكما مدنيا فيما بعد…”
و إن كان الدكتور سعد الله يتحدث هنا عن شمال الجزائر فقط ، لأن جنوبها خضع لحكم عسكري إلى زمن متأخر، و ثمة إجماع توثيقي أساسه قادة الاحتلال أنفسهم من العسكريين و المدنيين و المؤرخين، على أن هذه المراحل باختلافها هي منظومة تراجيدية مكتملة الأركان، تعجز عن توصيفها جميع أدوات التعبير الفني و الأدبي و العلمي.
بحيث قد نتجاوز الحديث عن إبادة ملايين الجزائريين قتلا ، و نفيا ، و تجويعا و مصادرة أراضيهم ، و نزع أملاكهم ، و حرمانهم من حرياتهم و أدنى حقوقهم في الوجود.، لكن ما هو أبشع و أنكى هي إبادة مقومات الذات ، بمحاولة مسخ الإنسان الجزائري في كل أبعاده و مسح وجوده، كما فعل الرومان من قبلهم مع القرطجنيين. و أن المغول و وحشيتهم لأهون على الخليقة من الفرنسيين و أرحم.
1-Abou .Al Kacem Saad Allah .La Montée du Nationalisme Algérien (1900-1930).
EAAL . 1985-P.10
مقاومة وجود
حتى تفكك أوصال الشعب، و تمزق نسيجه الاجتماعي، و تخرب وحدته الشعبية و الترابية، عمدت فرنسا إلى تشظية الجزائريين عبر علوم عنصرية مختلفة فنمطت المناطق على أوهام عرقية و لسانية و عقدية، و أقامت المتاريس بين النخب و شعبها، فَاصْطَفَتْ لنفسها المريضة رهطا قليلا من أبناء الموالين لها من الأهالي، مكنت لهم من تعلم لغتها و تمثل ثقافتها بمقدار، حتى استُلب بعضهم وظنوا أن فرنسا هي المأوى و إليها الرّجعى.
كان لسياسة الفصل العنصري المنتهجة ردود أفعال متباينة، تأثر بعض المتخرجين من مدارسها ومخابرها، حتى غدا همهم الاندماج في حضارة المحتل، و السعي إلى تحقيق هذا المأرب عبر تمجيد فضائله، و التبشير بأنواره، و المغالبة في سبيله للحظوة بالاندماج الذي ظل مطلبا عسيرا، و أملا مؤجلا لكون فلول المستوطنين حالوا دون ذلك، خوفا من أن يزاحمهم هؤلاء على نفوذهم المطلق، و منافعهم غير المحدودة، وماطلت الإدارة لإثنائهم عن مآربهم.
و من بين الوجوه الاندماجية لما يعرف “بحركة الفتيان الجزائريين” على منوال حركة الشباب التونسي ( التي كتب عنها شارل أندري جوليان ومن رموزها البشير سفر و علي باش حامبه و غيرهما وتركيا الفتاة، و من إليها من لفيف الفتيان الذين طفت كتاباتهم و مواقفهم المنتصرة لهذا المنحى مثل: الشريف بن حبيلس، و صاحب ..كتاب ” مساهمة في مسألة الأهالي في الجزائر سنة 1884، الدكتور “مرسلي بن الملازم” في وحدات السبايس الفرنسية.
لئن نافح هذا الاندماجي عن مواطنيه الجزائريين مبرزا نكد عيشهم تحت نير الاستعمار، قد راح يستجدي فرنسا أن ترفق بالأهالي و تحسن لهم حتى” يدخلوا في الأسرة الفرنسية العظيمة”، على حد قوله.
بينما زعم الاندماجي و الترجمان الرئيسي للحاكم العام الفرنسي في الجزائر ” حامت إسماعيل” في كتابه ” المسلمون الفرنسيون في الجزائر”،( أن الاستعمار في الجزائر أحدث تطورا اجتماعيا و فكريا و أخلاقيا لدى المجتمع الإسلامي) و طالب بالمزج التدريجي لكل العناصر العرقية، من أجل اختلاطها مستقبلا بالسكان الأوروبيين قائلا:”( إن الشعبين يكملان بعضهما البعض، بحيث أن تطور أحدهما بدون الآخر مستحيل تماما).
إن هذه الإنتليجينسيا الاندماجية، إن صح التعبير، احتوت على عدد معتبر ممن كانوا يسمون أنفسهم المتنورين مثل: أحمد بن بريهمات، العربي فخار، الدكتور بن جلول فيما بعد،” و الصيدلي فرحات عباس الذي سيتنامى وعيه بحقائق التاريخ و بصدمات الواقع الكولونيالي، وآثاره المدمرة على الجزائريين ليتحرر بتؤدة من وزر الاندماج إلى الانتخاب إلى الثورة التحريرية فيما بعد.
لم يفلح تيار” الفتيان الجزائريين الاندماجيين” في كسب الرأي العام الوطني ولا في تليين موقف الكولونيالية وختم مسيرته بكتاب” الجزائر الفرنسية كما يراها الأهالي” لمؤلفه القاضي الشريف بن حبيلس المنشور سنة 1914 و يستحق الكتاب دراسة مستفيضة لما حواه من آراء ، يمجد بعضها فضائل فرنسا على ما حققت للجزائر من أمن و رقي ، بعد الاضطراب و الفوضى و الجهل..
1-Hamet Ismail، les Musulmans Français dans le nord de l’Afrique Paris 1906
التيار الجنيس و المعاكس
نقصد بالتيار الجنيس ذلك الطيف الذي يمكن أن نعده من الفتيان الذين نهلوا من معين الاندماجيين ، أي من لغة و ثقافة و قيم فرنسا على خلفية فكر و فلسفة ثورتها… و لكنهم ظلوا مرابطين على الثغور الوطنية، رافضين الاندماج و الذوبان في الذات الفرنسية ، و محافظين على خصوصيتهم في الهوية مطالبين بالعدالة الاجتماعية و بالحقوق الكاملة في الحرية و المساواة ، و نبذ القوانين الجائرة كقانون (الأنديجينه و سيناطوس كونسيلت )، و مطالبين بحق مواطنيهم في التعلم و التملك و المساواة مع المحتل …
و نحسب زعيم هذا التيار هو ” الأمير خالد” حفيد” الأمير عبد القادر ” ، الذي نشرت له صحيفة ” همزة وصل” للكاتب الفرنسي المناهض للظلم الكولونيالي ” سبيلمان” سنة 1924، حزمة من خطب ألقاها في ديار الغربة، و كذلك رسالته المفتوحة إلى الوزير الأول الفرنسي آن ذاك ” إدوارد هيريو” ، و التي تضمنت جملة من الإصلاحات الجريئة لصالح السكان الجزائريين فضلا عن رسالته التي رفعها إلى الرئيس الأمريكي ” ويلسن ” مطالبا إياه بدعم مبدأ تقرير المصير للشعب الجزائري.
لئن التقى هذان التياران في مصادر المرجعية الفكرية الواحدة ، فقد اختلفت رؤاهما في المقاربة و الأهداف ، بين مستلب مغترب ، و بين آخذ بثقافة المحتل لكنه رافض لمسخه و مظالمه. و يعتبر هذا الطيف أب التيار الوطني الذي أعلن صراحة في أدبياته و مواقفه منذ البدء عن ضرورة انفصال الجزائر عن فرنسا، و إقامة الدولة المستقلة، و تجسيد نظام ديمقراطي…تجلى ذلك في مواقف حزب نجم الشمال الإفريقي ، و حزب الشعب الجزائري، و حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، و انتهاء بحزب جبهة التحرير الوطني الذي قاد الثورة التحريرية
حركة الفتيان الجزائريين، في مطلع القرن العشرين، نيكولاي دياكوف ، ترجمة عبد العزيز بو باكير، تقديم د . احسن بشاني الجزائر 2012.
أما التيار الثالث و نعني ذاك الذي يتخذ من الإسلام مرجعا و من علوم العربية أداة و الماضويّة مثلا ، فبقدر ما كان تأصيليا، منبثقا من ماهية الأمة منافحا عن كيانها ، مترجما لآلامها و معاناتها كان قاصرا عن مجاراة حركة التاريخ ، عاجزا عن محاورة الأفكار الحداثية للآخر بأفكار عصرية بديلة ، تُخرج الأمة من حالة السكونية و التخلف الموروث عن عهود بالية إلى استنهاض الذات بوعي ذاتها و بموضوعها ، و ذلك لسبين أساسين في اعتقادنا:
1- ترسب التخلف العام في المجتمع الإسلامي و ركوده لعديد القرون ، في مواجهة نهضة غربية تلتها عصور الأنوار التي أحدثت طفرة في العلوم و التكنولوجيا و نظم الحكم، هيأتها للتوسع و الانتشار عبر منظور جيوب سياسي و تسابق نحو ما يعرف بالسيطرة على مناطق النفوذ الحيوي في العالم أدى بالقوى الغربية إلى احتلال ما لا يقل عن ثلثي كوكب الأرض .
2- إضمار المحتل لهذا التيار كل الشرور ، إدراكا منه لما يمثله من مشروع رغم ماضويته ، كفيل باستنهاض الهمم و تجنيد الجماهير المرابطة على معالمها الحضارية و المتمسكة بمثلها، و الرافضة لهيمنة المحتل الأجنبي في صليبيته و فرنسته و همجيته، و سرقته لقوت الشعب عبر عقود .
إلا أن هذا التيار سيتخذ مناحي أكثر تنويرا و وعيا مع جمعية العلماء المسلمين فيما بعد ، لاسيما مع المفكر المصلح ، الشيخ ” عبد الحميد بن بأديس” صاحب الرؤية الجديدة في الإصلاح التي تضارع بين النظري و التطبيقي، و بين الكلمة و الفعل بأسلوب علمي هادئ .
وسط هذا المشهد العام أين يمكن وضع ” محمد بن شنب”؟
– موقع ” محمد بن شنب” في المشهد الثقافي و السياسي
من حيث السياق العام يمكن اعتبار بن شنب من الفتيان الجزائريين في أطيافهم المختلفة ، لكنه نأى بنفسه عن كل تموقع إيديولوجي أو سياسي، و قد نسب إليه ترديد ما قال الإمام الشيخ ” محمد عبده” في زيارته للجزائر سنة 1903 :
” إن شئت أن تقول أن السياسة تضطهد الفكر أو الدين ، فأنا معك من الشاهدين… أعوذ بالله من السياسة و من لفظ السياسة “.
نذر بن شنب كل حياته للعلم و التحصيل و التدريس و التأليف والتحقيق، الأمر الذي مكنه من أن يخلف وراءه أثرا علميا قلما أنجزه غيره في عصره.
كما أن حياده هذا أدى إلى رضى الإدارة الاستعمارية عنه ، حتى منحته وسام فارس جوقة الشرف.
كما كان يرسل من قبلها في مهمات علمية إلى الخارج، كما ليس من الصدفة أن يحظى بكرسي التدريس في الجامعة الفرنسية في الجزائر كأول دكتور في علوم اللغة و الآداب خليفة للأستاذ ” كولان كولين” المتوفى سنة 1924.
و قد غلب على منهج تدريسه الأسلوب الإفرنجي بما في ذلك تدريس اللغة العربية لطلابه ، و تم انتخابه بالمجمع العلمي الاستعماري بباريس، كعضو عامل . في سنة 1928 انتدبته الولاية العامة و مجلس رئاسة الأكاديمية الفرنسية نظير كفاءته و علمه ، ليمثل الحكومة في المؤتمر السابع عشر للمستشرقين في مدينة ” أوكسورد”، أين التقى باقة من فطاحلة العلم و الأدب و رؤساء المجامع مثل الأستاذ محمد كرد من سوريا و رئيس المجمع العلمي بدمشق، و الدكتور طه حسين مندوب الدولة المصرية، و الشيخ محمد عبد الرحمن الهندي و المستشرق الشهير مار غوليوث، ونالينو الإيطالي، و هؤلاء و غيرهم من قهارمة العلوم و الآداب.
ألقى بن شنب في هذا المؤتمر محاضرة عن “أبي جعفر أحمد بن خاتمة الأندلسي” و شعره، أذهل مجامع العلماء من عرب و عجم في ذلك المحفل، حتى قال فيه أحدهم : ” لم أر طيلة حياتي من بلغ في النبوغ مبلغ هذا الأستاذ الجليل، و أقول هذا عن غير مبالغة و لا إطراء، لأني متحقق بأن لو أدركه العالم ” قليوم كانادو” الإيطالي المتوفى سنة 1576، لجعل رسمه رمز كتابه الذي جمع فيه 12 عبقريا من الذين حازوا على قصبات السبق في العلم و الذكاء منذ ابتداء العالم إلى أواخر القرن 16 عشر”.
و لا يضيرنا القول فيما وقف عليه من قولة طه حسين في ذلك المؤتمر لما تعرض لاستعمال الضمائر الواردة في القرآن الكريم ، والتي ليست لها ميعاد من قبل مستشهدا بقوله تعالى: “كل من عليها فان”صدق الله العظيم.
فقال بن شنب عن طه حسين”: نعم هذا قول طه حسين لكن ما أغفل الرجل عن لغة العرب . ” إنما قوله عن طه حسي قرينة على تبحره و إلمامه بمختلف علوم النقل و العقل.
تعددت مراسلات و علاقات بن شنب مع كبار العلماء في مشرق الوطن العربي و أوروبا، و جميعهم كان ينزله مقام العالم الحصيف.
أما المستشرقون فيعدونه معينا لا ينضب، أدركه في ذلك علمه بعديد اللغات التي ملك ناصيتها، حتى أنه كلما تحدث في إحداها خاله السامع من لدن أهلها، غير أنه لا يخاطب عربيا ولا مستعربا إلا بالعربية، و يسمو بذكرها الطيب فوق جميع اللغات.
دقق في مؤلفات الأولين و صوب و قوم و ارتد إلى غيرها مقارنا و مصححا كما يفعل إلا من ندر. من ذلك تصحيحه الأخطاء المطبعية في لسان العرب التي أرسلها إلى الأديب الشهير” أحمد تيمور” ، و منافحته عن “الجاحظ “المتوفى سنة 255 هــ، عظيم المعتزلة و ذلك في مؤتمر بمدينة الرباط يوم 12 أبريل 1928.
قال أمام محفل من العلماء الكبار: “قد طلب مني أن أتكلم أيها السادات و الرؤساء و العلماء الأجلاء في مسألة مناسبة للفطاحل و رائقة للنياطل، كأنني وحيد مصري و فريد عصري مع أنني معترف بالقصور و التقصير، لا علم لي و لا معرفة و لا خير ، فصرت أقدم رجلا و أأخر أخرى فيما يلقى أو يقرأ..”، و إذ نعذر لعدم إتيان مجمل كلام بن شنب ، الذي سامه بكل ما في رقائق الأدب و العلم و الفقه، من معرفة نلج الآن إلى بعض الجمل التي تفيد ما قد نسب إلى “الجاحظ” عن جهل أو عن دس أو بهتان:” من أن المعارف كلها ضرورية، و ليس شيء من ذلك من أفعال العباد و إنما هي طبيعة، و ليس للعباد كسب سوى الإرادة، و أن العباد لا يخلدون في النار بل يصيرون من طبيعتها، و أن الله لا يدخل أحدا النار و إنما النار تجلب أهلها بنفسها و طبيعتها و أن الله لا يريد المعاصي، و أنه لا يرى و أن الله يريد بمعنى أنه لا يغلط و لا يصح في حقه السهو فقط، و أنه يستحيل العدم على الجواهر من الأجسام. و أن القرآن المنزل من قبيل الأجساد، و يمكن أن يصير مرة رجلا و مرة حيوانا”.كما ذكر ذلك ” شهرستاني” .
لقد بزّ بن شنب المتقولين عن “الجاحظ” بالحجة ونزهه بعلم عما نسب إليه. نعتقد من جهتنا بكل تواضع ، أن الجاحظ احد أقطاب المعتزلة مع “أبي الهذيل” و”العلاف” و” النظام ” و “الحافظ”….أقاموا مذهبهم على النظر العقلي ولهم تأويل للدين بما يتفق و العقل على خلاف جمهور السنة الذين يأخذون بظاهر القرآن والحديث.
ومن أخطر ما طرق هؤلاء من المسائل، الحرية و الجبرية في الفعل الإنساني. ولعل المعتزلة هم أهم من نبه إلى مسؤولية الإنسان عن أفعاله بما هو مخير و حر الإرادة، وان الله تعالى عادل لا يصدر عنه شر. حتى قيل عنهم ( المعتزلة)، أهل عدل وتوحيد وما خلافهم مع غيرهم من الفرق إلا في العرض لا الجوهر، ومن عِلَلِ نكبتهم، السياسة والحكم العضاض، إن من فضائل الجاحظ بعد علمه الواسع و الأدب، تصديه للشعوبية ودونيتها المستشرية إلى اليوم ضد الأمة.
ومن بدائع ابن شنب فيما ترجمه على صفحات المجلة الإفريقية سنة 1901 إلى اللغة الفرنسية “رسالة في التربية للأطفال من لدن ” أبي حامد الغزالي”، أبان فيها عن قدرة هائلة في هضم رؤية هذا الفيلسوف فيما يعنى بكل ما تستوجبه الطرائق التربوية للأطفال في التنشئة و التغذية و التعليم و السلوك. قال فيه الأستاذ الشيخ عمر راسم” الجزائري: ( لقد كان رحمه الله معجما لغويا يمشي على وجه الأرض).
1–Revue Africaine ، numéro 45 – année 1901 ،office des publications universitaires
. place centrale de Ben Aknoun ( Alger)
وقال فيه عميد كلية الآداب في الجزائر” مارتينو” يوم تأبينه : ” حقا إن حياة” ابن أبي شنب” العلمية جديرة بأن يقدمها النظام الديمقراطي الفرنسي كمثال و دليل على ما يفعله الذكاء و الإرادة و العمل في رفع الإنسان من أدنى المراتب إلى أعلاها”.
وقد اعتبره حجة في الإستشراق الفرنسي و الأوروبي و الأمريكي و الآسيوي ، إلى أن يقول:” لقد شرف فرنسا عندما كان على هذه الأرض الجزائرية واحدا من ألمع أولادها بالتبني و من أكثرهم اعترافا بالجميل”.
مؤلفات محمد بن شنب
ذكر الشيخ بن محمد عبد الرحمن الجيلالي في كتابه القيم الذي كثيرا ما عدنا إليه في معرفة هذا العالم :” محمد بن شنب” (حياته و آثاره) ، ملخصا مآثر هذا الرجل الإنسانية و الفكرية، و أحصى ما لا يقل عن خمسين مؤلفا و قد تأخر بعضها عن النشر، كما خلف بن شنب نفسه سردا بحياته ومؤلفاته ، نشرت في ذكرى وفاته بمجلة المجمع العلمي العربي بدمشق.
و دون توسعة تحيط بكل ما ألف هذا العالم ، نلخص في مقتضب الفنون الكبرى التي قاربها بحثا و تأليفا:
1- علوم العربية و آدابها
2- الفقه و الفلسفة و المنطق
3- أصول الكلمات و الأمثال المأثورة وتلك التي تسربت من لغات أجنبية إلى العربية.
4- الشرح و التدقيق و الإحياء للتراث القديم المتعدد و ما إليه.
5- الشعر الذي أولاه مكانة خاصة فاهتم بابي دلامة، وعلقمة ، و عروة بن الورد و أمرئ القيس و من إليهم ، فضلا عن شعره الشخصي في عديد الأغراض.
6- ترجمته الأثر العربي إلى اللغة الفرنسية ، من ذلك منظومة بن مسايب الحاج أحمد ، و قصيدة عن الرسول ” ص” تنسب إلى أمي هاني ، و ترجمة ديوان الحطيئة و حياته إلخ….
7- فن المراسلات مع كبار أدباء وعلماء عصره من الإفرنج و العرب
كان رحمه الله مسلما مثاليا ، ملتزما بحدود الشريعة عن المذهب المالكي ، متواضعا للناس رفيعهم و دنيهم ، ملبسا و مسلكا، صاحب نكتة ، سمح المعايشة ، متواضع إلى حد البساطة ، غير أنه صارم في مسائل العلم و التحصيل و التدريس ، ظل إلى اليوم ، قدوة لكل طالب معرفة في العالم كله.
– وفاته
توفي على إثر مرض عجز الأطباء عن تشخيص علته، و دفن رحمه الله يوم الأربعاء 6 فبراير1929 بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي”و من غرائب الأقدار أن آخر محاضرة ألقاها “بن شنب ” على طلبته بالجامعة ، و أفاض فيها شرحا و تعليقا على بيتين شهيرين من قصيدة لأبي العلاء المعري كأنما هي من النذر.
رب لحد صار لحدا مرارا…….. ضاحك من تزاحم الأضداد
و دفين على بقايا دفــــــين…….. فـــي طويل الأزمان و الآباد
و قد مشى في جنازته نفر مهيب في مقدمته رموز الإدارة الكولونيالية و مدير الجامعة و المستشرقون و علماء الجزائر و شيوخها و فقهاؤها و طلبة الشيخ من كل حدب و صوب ، ومواطنون و تخلف بقسنطينة الإمام ” عبد الحميد بن بأديس” عن هذا المحفل لسبب قاهر، و لكنه أرسل بتعزية تجهش لها الأنفس بالبكاء ، و مما قاله فيها : ” لما عرفناك أيها الشيخ فقدناك” و ألقى عند تابوته المسجى الشيخ ” البشير الإبراهيمي” تأبينية صادعة مؤثرة. و توالى الخطباء وتباروا نثرا و تقريضا باللغتين العربية و الفرنسية ، و قد أجمع بكرتهم على هول الفاجعة ، و نكبة الجزائر و خسارتها لعالم عده الجميع قدوة و مرجعا ، كما انتشر خبر وفاته فنعته الصحف في المشرق العربي و في أوروبا و غمروا الراحل تقريضا و تنويها ، عرفانا بمآثره الخالدة.
تغمده المولى بشآبيب رحمته ، و أكرم وفادته في جواره.