نزعم أن “الهوية” هي من أشد الإشكاليات المطروحة على الذهن أو الفهم تعقيدا وربما من أكثرها إنزياحا ومطواعية كما لو كانت من زئبق. ترى ما سبب ذلك؟
لئن كانت إشكالية الهوية “إنّيّة “متأصلة في ذاتها، ومن ثم أزلية في موضوع الشيء المدروس تجريبيا أو حدسيا وتجريديا، فإنها في ذات الوقت خاضعة لمبدأ التشكل أو التكون، والتطور، وحتى الفساد والاضمحلال، إذا إنتفت عنها أسباب وعلال وجودها، لكن ما دامت هي كذلك، خاضعة لعوامل خارجية عديدة، أو أعراض مختلفة، فما الذي يثبّت خاصيتها وميزتها؟ لنضرب مثلا على ذلك من أجل مزيد من الإفصاح والإبانة.
هب أنّ كائنا حيّا، وليكن آدميا، يتشكل بمواصفات جينية خاصة واستعدادات فيزيولوجية ونفسية..، ويولد وسط مجال جغرافي، ومناخي، واجتماعي، وعقدي، وثقافي عموما، ويمتد به العمر من المهد إلى اللحد، ترى ما هي حظوظ الإمساك بهويته كجوهر ثابت في غمرة المتغير فيه ومن حوله؟ وما يقال عن الفرد في المطلق يقال بالقياس عن المجموعات أو الجماعات في المطلق أيضا.
وحتى لا تتفرق بنا السبل، دعنا نختصّ مقاربتنا هذه بإشكالية الهوية في بلدنا، ومجتمعنا الجزائري تحديدا.
رغم قدم هذه الإشكالية وتواردها في حركة الوجود والتاريخ إلا أن الاهتمام بها في جميع حقول المعرفة، إحتدّ منذ ما يربو عن قرن من الزّمن، واستفحل، لا سيما منذ أن نشر الكاتب أ.إيريكسن، كتابه: “الطفل والمجتمع “سنة 1955، فذاع مصطلح الهوية، وغدا شيعة بين العامة، والنخب وتبارت بشأنه الأقلام تحفر في مبناه ومعناه، وإنفتحت الشهيات للتأويل بين الذاتي والموضوعي في مسالة الهوية ثم زاد في شحذها الأثر المهول للتكنولوجيا وحركية التواصل الاجتماعي والتنقل، والهجرات المتبادلة، بين الشعوب ، فتباينات الثقافات والأذواق، حتى تأدلج كل ذلك، وتحولت الإشكالية إلى تنابز بالخصوصيات على اعتبار أن لكل حضارة شعب هوية خاصة بها، يأبى عليها الخدوش، وربما الاضمحلال .
وقد لا تجانب الصواب، إذا أرجعنا بعض النزعات العنصرية المحدثة، والمواقف الراديكالية لأحزاب اليمين المتطرف في الغرب تحديدا وفي العالم عموما إلى هاجس فقدان الهوية؛ فهرعت أطراف كثيرة إلى التمرس خلف المرجعيات المتنوعة، لاسيما لمرحلة ما بعد الحداثة، وهي مقولة مبهمة وعائمة … الهوية: الاصطلاح والمصطلح عليه لن نعمد إلى الحفر عن جذر “الهوية” في اللغة، أو اللغات الأخرى، وعما يرشح عنها من مدلول، في ذاتها ولذاتها أو لموضوعها ففي العموم، ثمة ما يمكن اعتباره، أمرا مشتركا في تعريفها، رغم التباين في أصل اللسانيات ولدى فقهاء اللغة بخصوص مصطلح الهوية، وعليه يمكن “التسليم المجازي”، بكون الهوية تعرف بالطوطولوجيا “totologie” بمعنى الهوـ هوـ بمعنى ـ الشيء هو نفسه .
وحتى وإن تغير، وتحول فإنه يحمل جوهره في نفسه، كدليل على بقائه سالما من الإنتفاء، ويعد هذا الجوهر هو الأساس، مادامت الأعراض قد تتغير كليا أو جزئيا، وعليه فإن هذا الثابت يمثل مرجعية الهوية بالنسبة للفرد أو الأفراد والمجتمعات.
حتى يتحرر مصطلح “الهوية “من الذاتيات، وإسقاط الأحكام الآسرة للموضوعية، ومن ثم الأحادية التي تؤجر الكل للجزء،فيقوم الطغيان بديلا للحكمة ومن ثم قبول الآخر، والتواصل، والتعايش معه على أوسع نطاق وجودي “إلى جنح العلماء إلى ما يعبر عنه اليوم بالتعقيد والسيستيمية “وفي ذلك انتصار للموضوعية “.
ولا تحتوي هذه الإشكالية إلا الإبستمولوجيا،أو نظرية المعرفة وحجة العلماء، وتحديدا علماء الإجتماعيات والإنسانيات، في الإرتكاز على نظرية التعقيد، لأنها تسع بمياسم إختصاصاتها ما تستوجبه أبعاد الإشكالية المتعددة المشارب،دون إقصاء لأطروحة ما،على حساب غيرها.
هذا مع تجسير ميسر بين خصوصيات العلوم الجنسية وذات الصلة بحيث عوض أن تتنافر الاختصاصات العلمية فيما بينها فإنها تتوافق على الكمال بتقديم قيمة إضافية لخدمة الموضوع المطروح، فتأتلق مختلف جوانبه، وتضاء مناطق الظل فيه. فتأتي نتائجه مقنعة بتكامل إسهامات العلوم.
إن التسير بين حقول المعرفة ضمن منهج جدلي، قد لا يرقى من حيث الدقة إلى ما يحصل في مجال العلوم التجريبية (المخبرية ) والعلوم الذهنية التجريدية (الرياضيات ) ولكن منزعها شبه المخبري المعياري أحيانا يقربها من حيث الدقة والمعقولية، إلى ما يمكن أن يتصالح عليه بالعلم، أو الشيء المشترك إدراكيا .
ومن بعض فضائل هذه المقاربة التعقيدية التداخلية والتكاملية خفض مستوى الإنفراد بإمتلاك الحقيقة أو الزعم بإمتلاكها، وهو الأمر الذي بالغت بشأنه نظريات ( في الأركيولوجيا ـ والإثنولولجيا واللسانيات وغيرها ) في ترسيخ مفاهيم ونظريات إنسحبت على فضاء سبر حقائق الإنسان في مختلف ابعادها، أدت بالمحصلة إلى “لوثة” المفاضلة الإثنية، بين الشعوب والمجتمعات (الداروينية) إحدى تجلياتها، والسانسيمونية، وما إليها الأمر الذي بررّ عبر تطور وسائل وأدوات الهيمنة والقهر إلى فضائع الاستعمار والاستعباد، والإبادة الجماعية، والاستغلال المتوحش المستشري إلى اليوم في توزيع النفوذ عبر العلاقات غير العادلة بين أقوياء المعمورة، وضعفائها .
نشير إلى أننا لسنا بصدد الترويج لهكذا مقاربة، بما هي عليه من محتوى في تناول إشكالية الهوية، إن فيما يعنينا ببلادنا، أو في المطلق، وإنما لما فيها من أخف الضررين، من أجل اتقاء فردانية الاستيلاء باسم المعارف على “الحقيقة” بما هي حقيقة مشتركة.
هذا ونقرّ، بالنظر إلى وسع الإشكالية ( الهوية )، وتداخل عناصرها على المستوى الإصطلاحي، والمفهومي الذي تستغرقه الدلالة من نظرية لأخرى ومن ثقافة (سوسيولوجيةـ نفسية، وعقدية، وتقاليد، وموروث، مادي ولامادي، إلخ، يتلبس الكائن الإنسان فردا، وجماعة، كذات ووجود) وعليه يصعب تحديد تعريف (شاف، وكاف، وثابت للهوية) إن من بين لامتناهي المقاربات، في تحديد مفهوم (الهوية) نورد ما تصالح عليه طيف من أصحاب الإختصاص، في مجالات حقول المعرفة، عبر منجز”المصطلحات الفلسفية باللغة الفرنسية والذي إحتوى حوالي ثماني مائة تعليق مكثف ومركز ومرجعي لمصطلحات، تعنى بفضاء الفلسفة وما تفرع عنها من ( علوم نظرية وتجريبية )، آثرنا أن نورد نزرا من تصورهم عما تستبطنه الهوية من تعريف عبر مقاربات تداخلية بين حقول المعرفة.
وحسب هذا الإشكال، كما غيره، أن يستلزم، مطارحات على ضوء جملة من التناصّ، والمقابلة، قد تفضي إلى إدراك أعمق بمكمن الحقيقة، بمزيد من الإيضاح والتنوير.
“إن مجرد إحساسنا بكوننا نحن ذاتنا، واعتراف الآخر بأننا نحظى بشخصية مميزة، فإن الفرضيات المتعلقة بهذا المعيش، قد تشكّلت من منطلق: إما كصول خسران في الأعصاب ومرض سيكولوجي، وإما لأغراض إستراتيجية، هدفها “المقارنة بين الأشخاص في صلب المجتمع”.
يعزى الأمر لدى هؤلاء الباحثين في موضوع تحديد مصطلح الهوية إلى اعتبارات سيكولوجية، أو اجتماعية، وأن يعتمد هذا المنحى أو التقويم (لوجيسيال) من أجل بلوغ معقولية طبيعية للتعريف، فإن أفقه لن يتجاوز، مجال الوصف، إلى مفهوم تجريبي واضح.
وعليه، يستلزم الأمر، اللجوء إلى علوم النفس الإجتماعية للتفكير في بناء ضمير الأنا، وتنظيم إنتماءات الجماعة.
ويخلص أهل هذا الرأي، إلى مسألة عصية، مفادها، هل يمكن إيجاد تعريف للهوية، بإلغاء “الأنا”؟ ولا يتورع هؤلاء، في الذهاب، بتعليلاتهم، إلى اختصاصات أخرى، من قبيل علوم الأمراض النفسية (كالفصام، وتعدد الشخصيات في الذات ..) وهذا للوصول إلى استحالة تحديد هوية الفرد، من دون مرجعية إجتماعية نفسية، تحدد معالم سلوك الإنسان وأحكامه، من منطلق محيطه الإجتماعي ـ الثقافي إلخ.
أما بخصوص، ما يعرف بالهوية المنطقية ولاسيما حسب نظرية لايبنيتز( 1646ـ 1717) وهو فيلسوف المونادات الألماني الذي قال عنه ديدرو: “هو آلة تفكير”، فيرى أصحاب المنجد، بأن الهوية المنطقية هي علاقة تعادل موصوفة من لدن اللّاتفريق أو اللاتمييز، ومن ثم فإن هوية الكائن تكمن في فرادته، وجوهر خصوصيته، وحسب لايبنيتر “فإنّ الهوية لا يمكن تحديدها، مثال ذلك إذا كانت ” س وي ” تحتويان على جميع الخصوصيات الواحدة (المشتركة)، فإنهما متماثلتان تماما “.
بالمحصلة، يبدو، أنه من الاستحالة بمكان، تعريف إشكالية الهوية تعريفا يتصالح عليه الجميع ويتوافقون كلية، وهذا مرده إلى اختلاف أصحاب المقاربات في التلقي كما يستغرقه المفهوم من دلالة، ولمنحى أصحاب النظريات، بين مادي ومثالي، وحدسي، وبين أصحاب الثبات، وأصحاب التغيير. وأحيانا تحل المنافع والمصالح، محل الهوية، لأغراض يطول شرحها فتؤجر الهويات رغم طابعها الثابت في جوهر الموضوع، لمصلحة المنافع، بما هي عليه من تغير وتحول.
الهوية والإستشراق
لن نخوض على الأرجح في نظريات الإستشراق والمستشرقين، لا في أطروحاتهم، ولا مناهجهم وطبقاتهم وأهدافهم … وإنما نعرض بعض العينات من آرائهم ومساعيهم في تمثل هويتنا نحن الجزائريين، والمسلمين عموما.
وقد عارضهم العديد من المفكرين العرب، وحتى الغربيين، وتأثر بهم البعض الآخر وجاراهم في قناعاتهم بشأننا، حتى أن البعض مثل المفكر حسن حنفي دعا غلى معارضة “علم “الإستشراق “بعلم” الإستغراب، فكتب حنفي دراسة تجاوزت الثماني مائة صفحة في هذا الغرض، سماها “مقدمة في علم الإستغراب” وهي محاولة منه لمعرفة الآخر (الغرب)، كما ندركه أن بمناهجنا وتحليلنا له، لا كما يريد أن يقدم لنا نفسه، وأن نقرأ تراثنا نحن بأدواتنا المعرفية، فنتخيله بما قد تهيأ لنا منه، سلبا وإيجابا، وهي لعمري رؤية حريّة بالتأمل، لما فيها من فضائل تحرير العقل من عطالته، والإعتماد على الذات بعد تخليصها من مثالب المديح والتقديس أحيانا، أو جلد الذات وإستنقاص قدرها، من ناحية ثانية.
إذا سلّمنا جدلا بأن هويّتنا نحن الجزائريين، لها خصوصيات ذاتية، متجذرة في ـ إنّيتها ـ لا تقبل التغيير أو التحوير أو المسخ، وصولا إلى المشترك الإنساني العام، فإن هذه الهوية التي تتجلى في عناصر أو معالم راسخة ومتوارثة بين الأجيال والحقب، ولا تفتأ تفصح عن وجودها المادي والمجرد، وتعبر عن مكنونها لدى الفرد، ولدى الجماعة، إذا إحتل توازنها بفعل ذاتي أو خارجي، تتعطل حركة تاريخ الشعب (الأمة) فتتهده الفتن والإنقسامات، وتعتريه الأمراض النفسية والأخلاقية والإجتماعية، وتحبط مشاريعه التنموية، وتتقهقر مسيرته الحضارية، فتتداعى عليه الأطماع الخارجية، التي قد تجد لها موطئ قدم في البلاد، بفعل الانقسام الداخلي والفتن، فينحاز طيف من الناس أو جهة من الوطن إلى الغازي الدخيل، مستغلا في ذلك عنصرا من هوية الشعب، كان يكون مذهبا دينيا بعينه أو نعرة عرقية، أو نحلة لغوية، أو مذهبا آيديولوجيا، أو ما شابه، فينقضّ الغازي على الوطن، إنسانا وأرضا، وتراثا، ويبسط إرادته على الجميع ولا أدلّ على ما نقول احتلال فرنسا للجزائر، الذي خرب النفوس والمعالم، وسرق الأرزاق، وحاول طمس خصوصية الهوية بجميع مكوناتها وهي جريمة مظلمة، مافتئنا نقاسي الأمرين منها، بل وبسبب ذلك ركن مجتمعنا للتخلف، لا سيما في ظل تأخرنا عن تحرير الأذهان بعد تحرير الأرض والمجال الحيوي الإستراتيجي.
وينطبق ما ذكرنا عن أنفسنا، على عديد الشعوب خاصة العربية اليوم، فقد دمرت المذهبية الدينية والنعرات العرقية، ودكتاتوريات الحكام دولا عديدة استغلتها مصالح القرى العظمى لتعّمق الشروخ داخل النسيج الاجتماعي الواحد، الذي تعايشت فيه الشعوب آلاف السنين.
إن الهوية كيان حيّ واع، وإن كانت مركبة من أجزاء أو عناصر، هي كالجسم الحيّ، إذا إختل فيه عضو، تعطل الجسم عن آداء مهمته الحيلتية والوجودية، وأنّ هذه الأجزاء واحدة في كليتها، يحكمها قانون التلازم القسري والتناغم والتكامل بين الجزئيات المتماهية في الكل.
فلما اكتشف علماء الفيزياء والكيمياء مركب الذرة، وسعوا إلى فعل إنشطارها، صارت وبالا على حياة الكوكب، والفضاء الإيكولوجي، وجميع ما يعمره من كائنات مرئية، وغير مرئية. كذلك فإن إنشطار الهوية هو إيذان بفناء الأمة.
مكون الهوية إذا كان دستور بلادنا في صبغته الحالية، يجمع على أن الهوية الوطنية مشكلة من ثلاث ثوابت هي: الإسلام، والعربية، والأمازيغية، فإن المشرع، لم يأت بجديد، ولم يبتدع شيئا منذ آلاف السنين.
إن هذه العناصر هي علّية وجود الجزائريين، كبعد إنساني وفضاء جغرافي، وموروث حضاري، ومجتمع، ودولة، ذات سيادة، لها حقوق وواجبات أمام شعبها ومؤسساتها، وإلتزاماتها الدولية. الاستشراق واستهداف الهوية: أجمع الاستشراق الغربي تحديدا على اختراق هويات الشعوب. وفي مقدمته الاستشراق السياسي والعسكري.
ونتبين ذلك في استهدافه للعناصر الثلاث المذكورة سابقا.
1-منذ مئات السنين تسعى الحملات الاستشراقية إلى تحريف وتشويه الإسلام، بهدم أسسه وأركانه، ولغته وتعاليمه، وإلصاق منظومة كاملة من المثالب به، وبالمسلمين، وهدمهم الدين بعامل التدين، وإرجاع عيوب المسلمين كسلوك بشري إلى جوهر العقيدة، كزعمهم بأن الإسلام ” شكل من أشكال النصرانية، أو أن أحسن ما فيه مأخوذ منها” وأن “القرآن مأخوذ من التوراة” وأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو رجل بليغ وعبقري، تمكن من صياغة نص بليغ، استقى تعاليمه من الديانات السابقة ( العبرانية والمسيحية) وأن هذا النص إنساني لا أثر فيه للتنزيل الإلهي والدليل على ذلك ما ورد فيه من تناقض، بمحاولة اللعب على المتشابهات والتكرار في بعض الصو، وكذا قضية الناسخ والمنسوخ، وترتيب سور وآيات المصحف… بل ولدينا عديد المحاولات لمستشرقين لا سيما من رجال الدين المسيحي، الذين صاغوا نصوصا مشابهة لنص القرآن لخلط الحق بالباطل، وتغليط الناس.
الحرب ضد لغة القرآن
لماذا الحرب ضد اللغة؟ إن لهذه الحرب جوانب عديدة، وأهداف كثيرة، من بينها استغراقها للمعنى، والمفهوم، وهي الحامل لرسالة القول الحق ببدائعها المتعددة، بعلمية نحوها، وبلاغة قولها، وجمال صورها وقدرتها غير المتناهية على الاشتقاق والتوليد، فضلا عن يسرها، ولكونها أم جميع اللغات القديمة، وهذا مبحث صال وجال فيه علماء تاريخ اللغات وفقهها وعلماء اللسانيات، قد نعود للحديث فيه بعلم العلماء، وفي مقدمتهم علماء الحفريات التاريخية… ترى ماهي مظاهر حرب اللغة؟ إن من أظهر تجليات الحرب على اللسان العربي، انتصار المستشرقين للعامية، واللغة الطقسية، على العربية، ومحاولات كتابتها بالحرف اللاتيني عوض الأبجدي العربي، لأن الفصحى تحمل خلودها في بيانها وحيويتها، وقدرتها على التعبير عن كل مظاهر الحياة، والغيب وهي بالأساس لغة علم، قبل أن تشتهر بلغة الأدب بكل أجناسه المعروفة.
لقد حاول المستشرق الفرنسي، ماسينيون في القرن العشرين بوصفه موظفا ساميا في وزارة خارجية بلاده أن يعوض الفصحى بالعامية وكتابتها بأحرف لاتينية كما هي تجربة اللهجة المالطية العربية الأصل، واجتهد هذا المستشرق في تعميم تجربته على المغرب، ومصر وسوريا ولبنان، فضلا عن الجزائر.
وهو لا يختلف عن مواطنه “وليم مارسيه”، تماشيا مع المشروع البريطاني القديم، الذي من نتائجه الاستشراقية التخريبية فبركة الجاسوس المتأسلم كذبا البريطاني “هَمْفَرْ” الأصولي المتطرّف محمد عبد الوهاب بالخليج منذ عدة قرون.
-وما أشبه الليلة بالبارحة، فكما تماهى “ماسينيون” مع التصوف الإسلامي والحلاجية وشطحاتها، لأغراض يطول شرحها، قام في القرن الرابع عشر شبيهه: ودور “ريموند يوليو”، باكتساح منطقة المغرب العربي والشرق في هيئة متصوف اسلامي، من أجل تنصير المسلمين.
الاستشراق العلم – العسكري
قد نكون تجاوزنا هذه اللغة بصياغة هذا العنوان، ولكن أجزنا هذا التجاوز لضرورة التعبير عن حالة، تماهت فيها العلوم لأغراض سياسية استعمارية، مع الاستشراق، أو بصيغة أخرى تأجير الاختصاصات العلمية، لهم الآخر، ومن ثم تحريف واقعه الهوياتي بأطروحات جوهرية تفصل بين الشيء ومرجعياته المؤسسة.
ترى متى جرى هذا الأمر وأين جرى، ومن قام بهذا الفعل اللاأخلاقي، واللاإنساني، والمتعارض مع الفترة الانسانية؟
إن هذه الظاهرة، التي نعرض لها في هذه الورقة ليست طوباوية، ولاهي من بنات الخيال، وإنما هي ظاهرة واقعية، ومشروع دولة استعمارية، بل مشروع منظومة استعمارية غربية ضد دول وشعوب الشرق، خلال القرن التاسع عشر والعشرين تحديدا.
الجزائر أوّلا: (الحرب السرية) نعرف أن أول دولة استهدفها الاحتلال بجنوب البحر الأبيض المتوسط هي الجزائر، لتتحول فيما بعد إلى رأس جسر نحو غزوات أخرى لإفريقيا وآسيا.
ولا داعي هنا، لذكر أسباب العدوان، كما لا نرى ضرورة لتسفيه المبررات الواهية التي ارتكز إليها الاحتلال، والتي مازال يرددها إلى اليوم، ليوهم نفسه، ويوهم من يستمع إليه بشرعيّة الغزو.
لكن في سياق موضوعنا، حريٌّ بنا التذكير، بما نراه ضرورة لإيضاح مسألة بعض المقدمات، التي وافقت نتائجها. لقد سبق غزو الجزائر في جوان 1830 من قبل إمبراطورية فرنسا، عمل جبار لمخبرين كبار، ومستشرقين، ومبشرين بالتمسيح النصراني. وهو مخطط تواصل في الحقيقة، منذ المستشرق والمؤرخ الروماني “سالوست”.
لقد كلف “نابوليون” جاسوسه “بوتان” قبل الغزو بسنوات، لدراسة وتحليل جميع مقدرات الجزائر البشرية والطبيعية والعسكرية لما كانت إيالة عثمانية، كما تكفل قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في الجزائر “شالير” بنفس الدور، على مدى سنوات عديدة قضاها في الجزائر، فقدم دراسة مدققة وشاملة، بدءا بتوبوغرافية العاصمة وأحوازها، وصول إلى عدد منازلها، وتعداد سكانها، وقدراتها الدفاعية، مستغلا دراسات سابقة لجاسوس آخر يُسمّى “شاو” ومستفيدا من أخطاء غزوات غربية سالفة للجزائر، خيبت بفشل ذريع… باختصار، قد سبق الغزو العسكري الفرنسي للجزائر اختراق جوسسي، واستشراقي، وتنصيري.
الاستشراق: (الإبادة والتفتيت) لن نطنب في هذا المبحث، رغم أهميته، نظرا لابتسار الحيّز في هذه الورقة، ولكن لن نبرح مجال القول فيه؟ بما يوفر الإشارات والتنبيه، لمن يستهويه درسه، بما يستوجب من حفر في المخزون التوثيقي المادي، وبما ترسب من وعي الذّاكرة الجمعية لشعبنا، فانتدبه السلوك للتبدّي، كلما أزفت ساعة التذكر الأليم.
منذ 1830 وإلى 1900، مرورا بمجيء الملكية الفرنسية في جويلية 1830-1848 وانتهاء بتقوية الجمهورية الثالثة، عرفت بعدها فرنسا جمهورية ثانية ما بين 1848-1870. عن هذه المرحلة عرفت عنفا شديدا، وقلاقل، وعدم استقرار وتعدد القناعات الأيديولوجية والسياسية، بل وتجديدا في الخطاب الفكري والسياسي، امتد أكثر على وضعية احتلال الجزائر، ومدى التعاطي مع هذه القضية.
لكن منذ بدايات الملكية في جويلية تم إرسال ما يطلق عليهم “بالرؤوس الخشنة” أي المعارضين القساة الأشدّاء إلى الجزائر إن قسرا أو طوعا، بالإضافة على ذلك احتلال الألمان سنة 1870 لمنطقتي -لازاس ولوران- فكثّف ذلك وتيرة الهجرة الفرنسية إلى الجزائر، فتدعم الاحتلال العسكري في مطلعه، بمستوطنين مدنيين كثر، تجسيدا لمبدأ المجرم الكبير “بيجو” الموسوم بـ ” السيف والمحراث” فالسيف لقطع الرؤوس، والمحراث لانتزاع الأرض. وقد تجاوز نهمُ وشرهُ المستوطنين، وعنفهم ضد الأهالي ما كانت عليه الطغمة العسكرية. وكانت في مقدمة وسائل المحتلين، فكرتان جوهريتان، وهما في صلب موضوعنا:
- فكرة الدين
- فكرة العلوم الاستعمارية.
أما الدين (المسيحي)، فمهمته طرد الإسلام عن أرضه، وإخراجه من صدور معتنقية، وإحلال التنصير طوعا أو قسر محله، وهو ما يفسّر الحملات التنصيرية العديدة، وبناء الكاتيدريات، وتحويل المساجد إلى كنائس، أو إلى مقامات للجند، بل وحتى اسطبلات للبهائم، أو هدمها عن آخرها، هذا فضلا عن الاستيلاء على أملاك الحبس، وثرواتها الطائلة، وتحريم التعليم، وقتل العلماء أو نفيهم، بما أدى إلى فرض الأمية والتجهيل، بعد أن كان الشعب الجزائري يحظى بأكثر من 80 % من المتعلمين، بعلوم تقليدية، في مقابل 15 % من المتعلمين في صفوف الشعب الفرنسي، نقول ذلك بالرغم من انزياح فرنسا نحو اللايكية (…).
أما العلوم العسكرية، فهذا مكمن الدّاء، كيف ذلك يا ترى؟ مرة أخرى يأسرنا الحيّز في ورقتنا، ويحيل بيننا وبين سرد ما يشفي الغليل، فيتجلى المشهد للقارئ الكريم.
لا غرو بأن القرن 19، قد شهد اكتشافات علمية وتكنولوجيا متعددة في الغرب، اتكأت على عصر النهضة وعصر أنوار ومعقولية، وانقسام الآفاق على أفكار جامحة أحيانا، أفادت الإنسانية في شق، وخربت في شق آخر.
لكن هذه العلوم والتكنولوجية بدفع من الثورة الفرنسية، وبسبب ما عرف بالعلمانية والبحث عن مصادر المواد الأولية لتطوير الصناعة وأسواق لرواج السلع وأراض للفلح… إضافة إلى ذلك التنافس المحموم بين إمبراطوريات الغرب، من أجل التوسع والهيمنة، والسيطرة على مناطق النفوذ الحيوي تحت نظرية (أوراسيا) وصراع القور الجيوسياسية لكن هذا وغير تمّت عسكرة العلوم على اختلافها.
سواء العلوم التجريبية، أو العلوم الاجتماعية والإنسانية، وحتى يتحقق للغازي الفرنسي، غرضه الاستراتيجي في الجزائر – برر جميع غاياته، بكل الوسائل – العلوم لخدمة الجريمة: باختصار، أكدت لنا المراجع الموثوقة، والقرائن المادية، أن الاحتلال، خلال الثلاثة عقود الأخيرة، للقرن 19، أقر تحقيق مصالحه، على حساب الجزائريين المادية والأيديولوجية، وحدد الطبقات الاجتماعية بتفوق العرق، الأوروبي على الجزائري، في اللغة، والثقافة، والمدنية، كما نمّط المجتمع الأهلي على أسس عرقية واهية ولسانية ومناطقية، وشوّه الألقاب والأسماء معتمدا على علوم، جعل المجتمع الجزائري حقل تجارب، كما لو كان من فئران مخبرية.
سعى في الأول إلى تطبيق “الاندماجية” بشروط إلغاء الهوية الوطنية، بعد حملات إبادة لا قبيل للتاريخ الإنساني بها، بمعنى إدماج أو فرنسة المؤسسات وبناها، وإلغاء الأحكام، والمعاملات، بجميع أسسها في الأحوال الشخصية، والمدنية، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وإفساد النسيج الاجتماعي، وتخريب منظومة الأخلاق العامة والخاصة، وفرض معاملات غريبة في الاتجار، والملكية، والمبادلات التجارية، ونوعية الزراعة، معتمدا على الكروم، لتصنيع الخمور على حساب الإنتاج الفلاحي الاستراتيجي، وتفتيت القبائل والعروش، وسن نظم قانونية جائرة، أربكت كيان الأمة، رغم المقاومة الوطنية بالسلاح مرّة، وبالعزوف والتمرّد مرات على العدوّ.
لمّا فشل المحتل في تحقيق الاندماج، بمعنى ابتلاع الأمّة لجأ إلى حيلة مفادها، إشراك الأهالي بمقدار في سياسته، حفاظا على مصالحه الاقتصادية وكسبا للسلم المدني، لفائدة المستوطنين. تدخل العلوم في تحقيق الاندماج عبر الاستشراق: إن تاريخانية الاستعمار في المشرق والغرب، وكما كتب “ادوارد سعيد” في تفكيكه لمنظومة الاستشراق الغربي بأن كلمة هذا الاستشراق متلازمة وخادمة لأبعاد الاستعمار، وكتب “كانيافورسنار” عن السودان فقال في كتابه بأن: “الجيش الفرنسي ورث خوفا مرضيا من الإسلام”.
لننظر كيف يتحرك المدفع الفرنسي لقتل الجزائريين الرافضين للاحتلال، تحت راية الصليب، أو بهدي من علماء الانتروبولوجيا العسكريين.
قال ” ادوارد لابان” قائد الحملة العسكرية على منطقة بجاية في بداية الغزو، وكان ينتصح بعالم عسكري في الاتنولوجبا “إن الغزو السريع ضرورة من أجل إعادة إدخال الحضارة (الغربية) حيث كانت الحضارة الرومانية (الامبراطورية)، قبل أن تعم هذه الربوع البربرية والفوضى”.
وأمام الصمود الأسطوري للجزائريين في مختلف المناطق ضد الغزاة، احتدّ نشاط الآلة العلمية العسكرية، عبر التقصّي والمشاهدة، والتحليل النفسي، ودراسة الحالات والسلوكات لكل منطقة، ودراسة الخلفيات الثقافية، واللهجات المحلية، ثم القيام بعمل مقارنة، بين خصوصيات المكونات السوسيو-نفسية، واجتماعية، ومدى تعلّق كل طيف، أو مكوّن اجتماعي بفضائه الحيوي، وماهي طبائع الناس في خصوصياتهم المتميزة، فيما بينهم أو فيما بين المناطق، والعمل على جمع وتسجيل هذه الخصوصيات، لتعميق الشرخ فيما بينها، وتضخيمها، بل وصياغة نظريات على ضوء اجتهادات الانتروبوليجيين، والاثنولوجيين، والأطباء والأركيولوجيين، وفقهاء اللّغة والتاريخ وعلماء التيولوجيا الدينية… مؤسسات علمية تخريبية: إن مدرسة “البوليتكنيك” كمثال صارخ أو معهد تعدد التقنيات الذي يعد مؤسسة عسكرية لتخريج نخب الامتياز، من ضباط، خبراء وعلماء في العلوم العسكرية الاستعمارية، كان لا يقبل بين صفوفه إلاّ أذكى الطلبة وأكثرهم تفوّقا لا سيما في المواد العلمية الدقيقة (أكثر من 17 معدل) في شهادة الباكالوريا، هذه المؤسسة أعطت خيرة الرجال في صياغة النظريات طبقت على المجتمع الجزائري من قبيل “الأسطورة البربرية”، و”الهمجية العربية” و”العداء بين الرحّل والثابتين” فوق أراضيهم، ونظريات أخرى مثل الطباع الوسخة.