في صورة بديعة ومُتناسقة، ومن زوايا مختلفة، يمكن اِلتقاط ذلك التداخل في مشاهد العمارة القديمة مع مظاهر الحداثة المعمارية عموديًا وأفقيًا في مدينة سطيف، الآثار الرومانية والبيزنطية، البنايات الفرنسية والأحياء الشعبية.
هذه المدينة التي تُشير تسميتها إلى التربة السوداء، تجسّدت فيها هذه اللوحة الاِستثنائية التي تختصر قروناً من الوجود، من التجارب والمحطات، التي صنعت تاريخ ازديف سيتيفيس Sitifis التي أصرت على الحضور الدائم حاضرةً فاعلةً ومدينةً بارزة قاومت وناضلت، تمامًا مثلما ظلت تسميتها صامدة في وجه التغييرات الطوبونيمية التي مست غيرها من المناطق والتي تفرضها تغيرات الوضع السياسي وطبيعة التعمير في المجال.
مدينة راسخة في التاريخ
تقع المدينة في محور ديناميكي في الجزائر يربط بين عاصمة البلاد وقسنطينة، في مجالات السهول العُليا الشرقية، غير بعيد عن الوسط الجزائري، وبمحاذاة بلاد القبائل والحضنة.
تُحيط بها سهول خصبة، تُنتج أجود أنواع القمح، كـ”البليوني” الّذي يرمز للنقاء والأصالة، ما جعله يُخلّد في التراث الغنائي المُتداول في المنطقة، و”محمّد البشير” الّذي يُعد من أجود أنواع القمح والأكثر اِرتباطا بسطيف، هذه السهول هي الأخرى لا تزال تُصارع ذلك الزحف العمراني للمدينة في مختلف الاِتجاهات، لكنّها وفي خضم الاِجتياح الإسمنتي تستأنس بجبل مقرس، الّذي ينتصب كحارسٍ أمين للمدينة، لكنّه يبعث بالرياح الباردة التي تصنع شتاءً قاسيًا، تتخلله ثلوج تمنح سطيف حلةً بيضاء.
المعلومات والمؤشرات التاريخية المُتعلقة بالفترة النوميدية في سطيف غائبة وغير مُتاحة، لكن المُؤكد تاريخيًا وأثريًا أنّ المدينة الرومانية بها تأسست في أواخر القرن الأوّل للميلاد، على عهد الإمبراطور الروماني نيرفا Nerva، لتنتقل من مستوطنة إلى عاصمة مقاطعة موريطانيا السطيفية، وفي العهد البيزنطي تمّ إجراء عديد الترميمات على هياكل المدينة بعد الزلزال الّذي ضربها، لكن المدينة في العصر الإسلامي لم تشهد توسعًا مُهمًا ولم يكن لها ثقلٌ كبير، عدا بعض الفترات المُتقطعة، رغم أنّها ظلت مدينة مأهولة وبها حي إسلامي في حديقة التسلية حاليًا.
تُشير المصادر الرحلية والجغرافية إلى أنّها محطة للطُرق التجارية، غنية بمياهها وبساتينها، تشتهر بجوزها الطيب الّذي أشاد بجودته الحميري والإدريسي.
غير أنّ زخم المدينة كثيراً ما صنعته هوامشها، التي تمثل عُمقها الحقيقي، فقريبًا من سطيف، تمّ التمكين للإسماعيلية في إطار مخططهم لإقامة كيان سياسي في المغرب الإسلامي، حينما جعل أبو عبد الله الشيعي من إيكجان داراً للهجرة بعد دخولها سنة 288هـ/901م.
غير بعيدٍ عن سطيف العالي، نشبت معركة حامية الوطيس بين الموحدين والهلاليين سنة 1153م، وعلى أرضها بمكان يُسمى “وادي الأقواس”، وفيه كان أوّل اِنكسار للجماعات الهلالية أمام جيش الموحدين، ليكون هذا الحدث المُرتبط بسطيف مُنعرجًا لترتيب وضع القبائل الهلالية -التي اِقتسمت المجال مع غيرها من القبائل البربرية القاطنة هناك- والعمل على إدماجها في بيئة المغارب بعد إخضاعها. وقبل ذلك كله، شكلت أطراف المدينة وفحوصها حاضنة للحياة البشرية قبل أكثر من مليوني سنة، حيث مكّنت الأبحاث والتنقيبات الأثرية في موقع “عين بوشريط” من تصنيف المنطقة ضمن أقدم المواقع التي وجدت بها آثار للوجود البشري والتي تعود إلى مليونين وأربعمائة ألف (2.400.000) سنة، وهو دليل على عراقة التجارب الإنسانية بها، ودافعٌ للقول بأنّها مكانٌ للحياة والوجود المُخضرم.
عبّر شارل فيرو”charlesferaud” –أحد المترجمين العسكريين ومِمَن أسهموا في الإثنوغرافيا الاستعمارية- في كتابه “تاريخ مُدن مقاطعة قسنطينة” عن أهميّة اِحتلال فرنسا لمدينة سطيف، ضمن مُخططها في التوسع الاِستعماري، كونها تقع وسط الطريق الرابط بين مدينة الجزائر وعاصمة بايلك الشرق قسنطينة، فكان من الضروري السيطرة عليها لضمان تأمين الطريق، وهو ما تمّ في نهاية 1838، وتأكيداً لموقعها المُتميز ضمن الإستراتيجية الاِستعمارية، وعملاً على إعادة بعثها، فقد نصَّ قرار 1847 على إنشاء مدينة سطيف على مساحة قدرها 40 هكتاراً، وقد وصفها الرحّالة الألماني “هانريش فون مالتسان” Heinrich Von Maltzan الّذي زارها في خمسينيات القرن التاسع عشر، بأنّها مدينة فرنسية خالصة، نظراً لكونها مُستقراً للمعمرين، ولتحصينها وتأمينها جعل عليها أربعة أبواب: باب الجزائر، باب بسكرة، باب قسنطينة، باب بجاية.
أصبحت سطيف بعد 22 أفريل 1863 إثر صدور المرسوم المشيخي (قانون سيناتوس كونسيلت) Sénatus- Consulte مركزاً لبلدية كاملة الصلاحيات، لتصبح عاصمة ولاية وفقًا لِمَا يُسمى بالإصلاح الإقليمي في 28 جوان 1956. اِستمر توسع المدينة بعد الاِستقلال، لكنّه توسعٌ لم يُحافظ على وجه المدينة ونظامها، وخلق بعض المشكلات المُرتبطة بتسيير المدينة والتهيئة الحضرية والهياكل العمومية، خاصةً وأنّه لم يُرافق هذا التوسع والتدفق البشري نحو مركز الولاية رؤية مُستقبلية وتخطيط قبلي لوضع المدينة.
عاصمة النضال السياسي… وبؤرة ثورية صامدة
اُعتبرت مدينة سطيف منذ عشرينيات القرن العشرين قطبًا مُهمًا في النضال الوطني ضدّ الاِستعمار الفرنسي، ذلك أنّها اِستقطبت رموز الحركة الوطنية، فأضحت مُلتقى للتيارات السياسية والإصلاحية التي تعكس طروحات مختلفة وأفكار مُتباينة أحيانًا، اِستطاعت أن تجتمع على أرضها، وقد سهّل هذا الاِستقطاب تفعيل الحياة السياسية والكشفية والثقافية في المدينة والمناطق المُجاورة لها، بحيث كانت سطيف تربةً خصبة للقيام بهذا الدور، مِمَّا جعل بصمتها في النضال السياسي بارزة، واسمها وازنا في أدبيات الحركة الوطنية.
اِستقر بها محمّد البشير الإبراهيمي (1889-1965) الّذي قصدها من مسقط رأسه أولاد أبراهم، وهو نفس الاِسم الّذي يحمله واحد من أهم أحياء سطيف، ودفع اِستقراره بها لأنّ تصبح وجهةً للكثير من أصدقاء جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين ومنتسبيها، وقد كان رئيسها عبد الحميد بن باديس نفسه كثير الزيارة لها للقاء صديقه الإبراهيمي وأعيان المدينة والمُتعاطفين. وعشقها فرحات عباس الّذي اِفتتح فيها صيدليته بشارع إدوارد ديلوكا Edouard Déluca (نهج بن بولعيد)، وجعلها مركزاً لنشاطه السياسي ومُنطلقًا لتحركاته شرقًا وغربًا.
اِرتبط اِسم المدينة وضواحيها بمجازر الـــ08 ماي 1945، حيث شهدت اِنطلاق المظاهرات من أمام مسجد المحطة لانقار (أبي ذر الغفاري حاليًا) -الّذي ألقى فيه الإبراهيمي خطبة مطولة بمناسبة تدشينه في أكتوبر 1931- في يوم سوق أسبوعي، إذ وفد على سطيف المتسوقون من مناطق مختلفة، وشاركوا في هذه المظاهرات التي أطرتها الكشافة الإسلامية الجزائرية وبعض الفاعلين في الحركة الوطنية، والتي اِنتهت بمجازر دموية راح ضحيتها الآلاف من الأهالي، وفي “رود كونستونتين” (شارع قسنطينة) يمكن مشاهدة النصب التذكاري المُخلّد لسقوط بوزيد سعال أوّل شهيد في هذه الأحداث.
نضالات خلّدتها تقارير الرسميين وكُتب المؤرخين وشهادات العيان، كما خلدتها المُخيلة الشعبية وصاغتها في أغاني وأناشيد وطنية بديعة الألحان ردّدتها الحناجر، على غرار:
“حيوا الشمال يا شباب حيوا الشمال الإفريقي حيوا الشمال قوموا للحزب الوطني يا شباب على السطايفية يا حزني على السطايفية يا حزني على السطايفية ماتوا من أجل الحرية يا حزني”
ليس من قبيل الصدفة أن تكون مدينة سطيف مسرحًا لهذه المظاهرات والمجازر، وهي التي طالما اِحتضنت الطاقات النضالية التي أثرت التجربة الجزائرية في مواجهتها للاِستعمار وتفكيك العقل الكولونيالي، باِعتبارها عاصمة للنضال السياسي.
في مرحلة العمل المُسلح، تتأتى أهمية سطيف بالنسبة للثورة التحريرية (1954-1962) من كونها تحتل موقعًا إستراتيجيًا، بين جبال القبائل شمالاً وسلسلة الأوراس وجبال الحضنة جنوبًا، وهي كلها بُؤرٌ قوية للعمل الثوري ومراكز لجيش التحرير. ورغم أنّ الفاتح من نوفمبر 1954 لم يتزامن وعمليات قوية في سطيف، لكن ومع اِنتشار الثورة وتوسع نطاقها، تغلغلت الخلايا الثورية داخل المدينة وفي ضواحيها، ومع بداية شهر أفريل 1956 بدأت المدينة تقوم بدور بارز في العملية الثورية، إذ شهدت مجموعة من التفجيرات التي اِستهدفت المقاهي والحانات. فتبنت الأوساط السطايفية روح الثورة، خاصةً مع التحوّلات الكبيرة التي شهدتها المواقف الرسمية لأطياف الحركة الوطنية، حيث اِنضمت الكثير من الشخصيات للثورة داخل وخارج الوطن. هذا الاِنخراط الكبير في مسعى التحرّر دفع القوات الاِستعمارية إلى محاولة الاِنتقام وتخويف السكان خاصة وأنّ المنطقة كانت تضم قيادات مهمة للثورة التحريرية. لم تكن سطيف في معزلٍ عن الأحداث الوطنية الكُبرى التي أثّثت معالم الثورة التحريرية، حيث كان لها الحضور القوي في كلّ المحطات التي صنعت تفرّد الثورة في نضالها، من إضراب الطلبة وإضراب التجار تزامنًا والفتوحات الدبلوماسية التي حقّقتها الجبهة في المحافل الدولية.
لا نبالغ حينما نقول أنّ ما قدّمه سكان سطيف لا يمكن جرده ولا الإحاطة به، فالتضحيات كانت جسيمة وكانت على قدر التحدّي، ولعل أكبر شاهد على هذه المرحلة الراسخة في تاريخ المنطقة والجزائر عامة هو المخلّفات التي لا تزال تروي تفاصيل مسيرة تحررية بدأت بفكرة، مرّت عبر ثورة، وانتهت بتحرّر.
شواهد خالدة
يوميّات عاصمة الهضاب العُليا لا يصنعها ساكنتها في طنجة، شمينو Chemino، لجنان، ريفالي، بومرشي Bon Marché، بيلارBel air، بيرقاي، دالاس، تبينت، اولاد ابراهم، فرماتو، الحاسي، شوف لكداد، الباز، الهضاب، لانقار، ليتور، ليرومبار، راسيدور، لحشّامة، السيلوك، بيزار، الكومباطا، لابيناد… وغيرها من الأحياء الكبيرة والصغيرة، الراقية والشعبية فحسب، إنّما هي تلك الحركية التي أفرزتها أيضًا قدرتها على الاِستقطاب، حيث تستقبل عدداً كبيراً من الوافدين يوميًا، للسياحة أو العمل أو لأمور إدارية مختلفة.
ناهيك عن المجموعات المُختلفة الإثنيات والاِنتماءات التي سكنت المدينة على مدى عقود من الزمن، مُجسدةً ذلك الاِندماج في النسيج الاِجتماعي الّذي خلق من رحم التنوع، فليس غريبًا أن تسمع وأنت تتجوّل في المدينة أو تزور محلاتها لهجات ولكنّات مختلفة. حينما تقصد سوق لندريولي الشعبي، ستتمكن من قراءة تقاسيم وجوه السطايفية، من مختلف الأجيال والأعمار، يمكن أن تتعرف على بساطتهم وروحهم المرحة، ستكتشف طبيعة شخصيتهم ونضالهم من أجل الحياة، وتوفير لقمة العيش، ستدرك وأنت تُولي وجهك يمينًا وشمالاً ذلك التفاوت بين فئات المجتمع، مثلما هو الأمر في كلّ المُدن الجزائرية، ومع ذلك، كلٌ يسعى في نهجه وإلى مقصده.
مع التوسع الّذي عرفته المدينة وما يفرزه من تبعات على مستوى التهيئة الحضرية، إلاّ أنّها اِفتكت لسنوات المرتبة الأولى كأنظف مدينة على المستوى الوطني، ولعلها المُلاحظة التي ينتبه إليها الزوّار خاصةً في الشوارع الكُبرى، مثل رود كونستونتين الّذي يخترقه خط الترامواي مُوفراً شكلاً عصريًا للنقل العمومي في وسط المدينة وأطرافها، مع أنّ الكثير من السكان غير راضين عن نظافة المدينة مُقارنةً بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
سطيف البستاني ليست مجرّد مدينة إسمنتية، بل هي محظوظة بوجود متنفسات للنزهة والراحة خارجها، كغابة الزنادية ولاراش وهي فضاءات جميلة للتنزه والاِبتعاد عن ضغط المدينة وممارسة بعض الرياضات، وبداخل محيطها العمراني هناك حدائق وساحات تعج بالحياة والفرح وتحتضن مجموعة أنواع مختلفة من النباتات والأشجار، ليس ذلك فحسب، بل حتّى أنّ بعضها بمثابة المتحف المفتوح على الهواء الطلق مثل حديقة الأمير عبد القادر “أورليون” سابقًا، إذ تحصي حوالي 200 نقيشة أثرية وأعمدة وتيجان، تتضمن نصوصا لاتينية على غاية من الأهمية.
حديقة التسلية بدورها هي واحدة من الفضاءات الحية بسطيف، تقصدها مختلف شرائح المُجتمع للتنزه والراحة، والتقاط أجمل الذكريات، لكن بقدر ما يمثل “البارك” ملاذاً للعائلات السطايفية والسياح من مختلف مناطق الوطن مِمَن يقصدون المدينة، بقدر ما يقف شاهداً على اِنتهاك منطقة أثرية في قلب المدينة.
بارك مول Park Mall، وبعد سنوات من غرسه ككتلة إسمنتية إثر توقف الأشغال به -عندما كان مُبرمجًا كمشروع آخر-، دبت فيه الحياة وأصبح قِبلة لسكان المدينة وزوّارها، ليس مجرّد فضاء تجاري للتبضع فحسب، بل هو محطة لا يمكن تجاوزها لمن يقصد سطيف، نظراً لتنوع خدماته وموقعه الإستراتيجي. بهذا الزخم التاريخي الكبير والعمق الثقافي، لا بدّ وأنّنا أمام مدينة عملاقة في تراثها ورموزها وأعلامها، والعارف بكلّ ذلك يكون من العسير عليه أن يُعدّد معالمها أو يحصر رموزها، المدينة تحتضن قبر القائد العسكري سيبيون الإفريقي، وينسب إليها المُتصوّف “أبو زكريا يحي بن زكريا بن محجوبة القرشي السطيفي” (ت677 ه1278م)، ناهيك عن كثير من رجالات الحركة الوطنية والثورة التحريرية، أسماء علمية وفكرية كبيرة ولدت بها، نشأت وترعرعت.
من الصعب هنا ذكر الأسماء، ليس لكثرتها فقط، بل لأنّه من الصعب الفصل بين نخب اِنتسبت للمدينة بنسب المجال الواسع وبين من كانت مسقط رأسه أو مرتع صباه، وبعض من نقصد نال شهرة في العالم الإسلامي على غرار محمّد بن العربي التباني السطيفي وسعد بن قطوش السطيفي ومحمّد البشير الإبراهيمي السطيفي… غير أنّني أميل إلى تجاوز التسميات، لأنّ أعلام سطيف بحاجة لتخليد ذِكرهم وأثرهم في موسوعة كبيرة تبقى شاهدة على هذه المنطقة الولاّدة.
ومن الأعلام إلى المعالم، يمكن أن نُشير إلى المسجد العتيق ومئذنته الشامخة ذات التأثيرات العثمانية والأندلسية المغاربية، والّذي شُيِّدَ وِفْقًا للوحة التي تعلو مدخله الرئيسي المُتجه إلى القِبلة سنة 1845، مِمَّا جعله من أقدم البنايات التي تعطي الهوية الإسلامية للمدينة في ساحتها الرئيسة، حيث يتجمع الحمام في تآنس جميل وتآلف كبير مع النّاس، مُقابلاً عين الفوّارة التي دُشِنت نهاية سنة 1898، وقد تمّ تزويدها بالماء من الخزّان الروماني برال، الموجود بحديقة رفاوي المحاذية لها.
وأصبح هذا المَعْلَم واحداً من رموز مدينة سطيف وارتبط بذاكرتها، حيث اِنتشر اِعتقادٌ راسخ في الذاكرة الشعبية من أنّ الاِرتواء منها بشارة للعودة مُجدّداً، وسخاء هذه العين التي تتدفق مياهها من أربع مخارج، لا يقل عن سخاء عيون سطيف الكثيرة، كعين الدروج القريبة منها، وتلك العيون التي بقيت تتدفق أو توقفت وبقيت تسمياتها في جهات المدينة، والتي تعطي اِنطباعًا بأنّها مدينة قائمة على منابع الحياة، كعين البرانية، عين تبينت، عين السبايس، عين مورو، عين لمزابي، عين الصفيحة، عين موس، عين الغاسولة، عين الزوايل، عين بلارج، عين الزمالة، عين بوعروة، عين كرنيط، عين الطريق،… ناهيك عن وادي بوسلام الّذي يمر بمحاذاة المدينة.
الحنجرة السطايفية، الصوت الجهوري… صناعة الفرح ومتعة الكرة
وبالحديث عن الثقافة والموروث الثقافي، لا يمكن أن نقفز على الأغنية السطايفية التي أصبحت عنوانًا للفرح في كثير من ربوع الجزائر، إذ لا تكاد الأعراس في مناطق الشرق وبلاد القبائل تخلو من الأغاني السطايفية والأهازيج الشعبية بريتمها الحيوي المُنسجم مع اللهجة المحلية والتي تعكس مضامينها اِهتمامات النّاس، من ظواهر اِجتماعية وعلاقات عاطفية وظروف معيشية، حيث يتغنى الفن في سطيف كغيره بالغربة والحنين للوطن والحب والأسرة والمجتمع وحتّى بالاِنتصارات الرياضية، وفي جل مواضيعها تستذكر أولياء المدينة كسيدي الخيّر.
وما زاد في اِتساع شعبية الطابع السطايفي هو مسار التحديث والعصرنة الّذي اِنخرطت فيه بعض الوجوه الفنية، فتمكن من المحافظة على نصوص تراثية مهمة من الضياع، عِلمًا أنّ تأدية السطايفي ليس مُقتصراً على فناني سطيف.
ويعتبر الصـراوي الّذي يقوم على الشِّعر الغنائي الشفهي، طابعًا فنيًا قائمًا بذاته، تشتهر بتأديته النسوة بالأساس بأسلوب المناوبة بين مجموعتين (الزّراعة والخمّاسة)، ومنه جاء المثل الشعبي المتداول في المنطقة “غناء بلا زريعة”، الّذي يقصد به كلامًا مُبهمًا دون تفاصيل دقيقة.
تنقسم مواضيع الصراوي بين الأفراح والغزل والثورة والعمل واليوميات… لكن التغني به كطقس في المناسبات المُختلفة يكاد يندثر، تمامًا مثلما تندثر ملايا الفتول البيضاء والملايا السوداء والعجار، التي كانت ترتديها العمريّات، وبعض الطقوس المُرافقة للأعراس والمناسبات الاِجتماعية كالرحابة والمحفل.
ورغم الحماس الّذي تبعثه الأغنية السطايفية، إلاّ أنّه لا يُضاهي حماس مناصرة الفِرق الرياضية، وفي مقدمتها وفاق سطيف معشوق جماهير كرة القدم في مناطق مختلفة من الوطن، جماهير تغنت بـالوفاق الّذي صنع أمجاد كرة القدم الجزائرية والدولية وتوج وطنيًا وإقليميًا وقاريًا. ومع الكحلا وبيضا لم يبق الثامن ماي مُرتبطًا بتاريخ النضال الوطني للمدينة فحسب، بل اِرتبط أيضا بأفراح المدينة الرياضية، حيث يحمل ملعب وفاق سطيف اِسم “08 ماي1945”. وإلى جانب وفاق سطيف ESS، نذكر فريق اِتحاد سطيف USMS( (Union sportive MadinatSétif 1933، الّذي كان لفرحات عباس والبشير الإبراهيمي دور في نشاطه، والملعب الإفريقي السطايفي1947، والّذي كان اِمتداداً لحزب الشعب، وهو المُلقب بكتيبة الشهداء.
وبذلك فإنّ الفِرق السطايفية ليست مجرّد فِرق رياضية بل كان لها اِمتداد نضالي في إطار الحركة الوطنية.
مُمكنات ثقافية وعلمية واعدة
تحصي المدينة جامعتين مُهمتين، تستقبلان أعدادا كبيرة من الطلبة تتجاوز ستون (60.000) ألف طالب من داخل وخارج الولاية وحتّى من الطلبة الأجانب، في جامعة سطيف1(فرحات عباس)، وجامعة سطيف2 (محمّد لمين دباغين)، مِمَّا جعلها قطبًا جامعيًا يُحاول أن يندمج مع المحيط الاِقتصادي للمدينة، التي تعتبر منطقتها الصناعية واحدة من كُبريات المناطق الصناعية ذات الاِهتمامات المتنوعة.
المؤسسات الثقافية والمُتحفية بمدينة سطيف تحاول أن تبعث النشاط الثقافي ليفرض وجوده في مدينة كبيرة، فالمتحف العمومي للآثار يُشكّل خزّانًا لذاكرة المدينة، ففي أجنحته تتوزع اللقى الأثرية والفسيفساء وبقايا الأدوات التي اِستخدمها الإنسان منذ ما قبل التاريخ. إنّه يعكس جانبًا من أنثربولوجية السطايفي، يُتيح الاِطلاع على مراحل المدينة في كليشيهات سريعة من المحفوظات النفيسة.
وقد صادفتُ بعض الآثار من مجموعاته في معرض غرناطة الزيرية والكون البربريLa Granada Zirí y el UniversoBeréber، -الّذي زرته في فيفري 2020 خلال تواجدي بإسبانيا-، والتي أرسلت على سبيل الإعارة للمساهمة في تأثيث المعرض، أين اِنتابني الشعور بضرورة أن تحجز هذه المؤسسات لنفسها وجوداً خارج أسوار المدينة، لأنّ ذلك مدفوع بالحاجة للتعريف بمكنوناتها والتطلع لتقديمها للآخر، فسطيف لا ينبغي أن تكون مدينة مغلقة. ولا تقل محفوظات المُتحف الولائي للمجاهد أهميةً عمّا يوجد في المتحف، خاصةً فيما يتعلق بالمقاومات الشعبية التي اِنخرطت فيها المنطقة والحركة الوطنية والثورة التحريرية، حيث تضم رصيداً وثائقيًا وتسجيلات سمعية وبصرية لعديد المناضلين والمجاهدين، والتي تُؤرخ لمراحل مُهمة من تاريخ المدينة والوطن.
يحاول مجموعة من النُشطاء الثقافيين المنضوين في جمعيات وتعاونيات تفعيل الجو الثقافي للمدينة، سواء في المناسبات الوطنية والدينية وخلال فصل الصيف، وحتّى في باقي أيّام السنة خارج الإطار المناسباتي، من خلال أنشطة متنوعة تنفتح في أحيان كثيرة على الجامعة والباحثين والمبدعين الشباب، وهو الجانب الّذي يجب الدفع به، خاصةً وأنّ قطاع الثقافة يمتلك بعض المنشآت المهمة، وإن كانت الكثير من أحياء المدينة المُستحدثة تفتقد للمؤسسات الثقافية التي من شأنها أن تُشكل مراكز لاِستقطاب المهتمين واحتضان المواهب.
شهدنا عديد التظاهرات العلمية التي أُقيمت في المتحف البلدي بسطيف ودار الثقافة والمتحف العمومي للآثار والمتحف الولائي للمجاهد ومقر جمعية النبراس الثقافي، ناقشت إشكاليات على علاقة بالتراث الثقافي المحلي وأعلام سطيف، والقضايا الفكرية والفلسفية الراهنة، ويعكس الحضور والاِهتمام والتفاعل ذلك التعطش للفعل الثقافي الّذي يحتاج مزيداً من الدفع من طرف الفاعلين.
سطيف مدينة تجعلك تتعلق بها وتحبها، لأنّها تعيش على التفاصيل، مغرقة في البحث عن الحياة، وفي خضم بحثها عن الحياة وتطلعها للمستقبل، تتمسك بماضيها وتتمسح بتراثها. صحيح أنّها مدينة كولونيالية سكنها الرومان والبيزنطيون والفرنسيون وكان لهم دورٌ في تأسيسها وتشكيل ملمحها في فترات معينة، لا يمكنها أن تنعتق تمامًا من محيطها التاريخي، لكن لا يمكنها في الوقت نفسه أن تظل سجينة ومنعزلة.
عاصمة الهضاب العُليا بحاجة لظهور محترم في الإعلام السعي البصري، ولتسويق وجهها الثقافي في أعمال سينمائية وتلفزيونية، بحاجة لأن يكون نصها المحلي في قوالب إبداعية مختلفة، وبحاجة كذلك لأن يدرس تاريخها الثقافي الثري، نقول هذا لأنّنا نعرف مثقفي المدينة وعلى اِحتكاك بهم، كثيرٌ منهم يستحقون التحية على ما يقدمونه في سبيل تخليد تراثها وحفظ كنوزها الشفوية والمادية.
ضمن هذا المسعى، لا بأس أن أذكر بمبادرة كنتُ قد تبنيتها بمعية اليامين بن تومي ومجموعة من الأكاديميين على تنسيق جهد جماعي أثمر ثلاثة أجزاء من موسوعة التاريخ الثقافي لمنطقة سطيف (صدر الجزء الأوّل والثاني عن دار الوطن اليوم في اِنتظار صدور الثالث)، وحاول هذا الكِتاب الجماعي رصد ما يتعلق بالمجال والإنسان والتاريخ، ثلاثية يمكن من خلالها النظر في التجارب التي مرت عليها المنطقة، ما يسمح بتحديد ملامحها ومنعرجات تحوّلاتها.
اِخترنا هذا التوجه، وكلنا إيمان أنّه ليس من قبيل الترف الفكري ولا من قبيل المناطقية ملامسة المواضيع التاريخية ذات البُعد المحلي، بل إنّه خوضٌ فرضته الحاجة العلمية؛ فالحديث عن التاريخ المونوغرافي هو حديثٌ عن مبحث رئيس من مباحث الكتابة التاريخية الحديثة. لا نقول أنّه ضرورة لأنّ الضرورة تُحيل إلى نوع من المركزية التي تُحاول تحديد أنماط معينة في البحث، لكن المسوغ الابستمولوجي والمنهجي للتاريخ المونوغرافي مرتكزٌ بالأساس على ضرورة الترويج له، بغية تعزيز البحث فيه ومُسايرة الحركة العلمية في هذا المجال مع فتح آفاق جديدة مُرتبطة به.
ومع ذلك، فإنّ المدينة ليست بحاجة فقط لبحث أكاديمي بغية كشف إسهاماتها ونصوص إبداعية للتغني بمنجزاتها وبطولاتها وتخليد ذكريات التجارب الفردية والجماعية بها، لكنّها بأمس الحاجة إلى رؤية مُتعدّدة المناظير لعصرنتها وتهيئتها وتقديم أفكار إبداعية جديدة لتجديد صورتها وتنويع فضاءاتها، من أجل تعزيز مكانتها وضمان اِستمرار الاِستقطاب.
إنّها بحاجة لاِستغلال ثروتها البشرية، وفيها الكثير من الطاقات الشبابية البارعة والمُبدعة التي يمكنها بتكوينها الرصين في مجالات تخصصاتها وبغيرتها على المدينة أن تنجز إضافة نوعية لسطيف، حتّى يبقى سطيف عاليًا، بستانيًا، مزهراً، حراً بأحراره وحرائره.
محمّد بن ساعو /جامعة سطيف2