يجمع الباحثون والدارسون من عرب وأجانب أن مرحلة الحكم الإسلامي في الأندلس (711 م 1492م) التي استغرقت زهاء ثمانية قرون أعطت البشرية نموذجا فريدا من نوعه لمجتمع تمكن أفراده من العيش في تفاهم وتسامح وتآلف وتآزر رغـم اختــلاف انتماءاتهم العرقية والدينية وذلك بفضل التسامح الإسلامي الـذي مكّن لمختلف الديانات والعرقيات من التعايش في ظل العدالة الإسلامية والمساهمة في بناء مجتمع متنوع وجد فيه كل فرد فرصة للتعبير عن قدراته.
وحظيت الموسيقى في هذا المجـتمع بعناية كبيرة وانتشرت انتشارا واسعا، وتعددت مظاهر الحفاوة والتكريم لرجالاتها، واحتلت مكـانة مرموقة في هذه المدينــة وصارت اللــغة المشتركة التي يفهمها كافة أفراد هذا المجتمع.
ويسهم الجميع دون تفرقــة في الجنس أو العقيدة في إبـداع كلماتها وألحانها، وفي ممارستها أو الاستماع إليها؛ ألحانها مرات تعكس الميول الموسيقية لكل الأجناس المكـونة لهذا المجتـمع في ظل الحضـارة العربية الإسلامية في الأندلس.
من هذا المنطلق يمكن تقسيم المدارس الموسيقية التي عرفتها بلاد الأندلس منذ الفتح إلى غاية السقوط إلى ثلاث مدارس الكبرى :
1 – المدرسة الموسيقية العربية القديمة ونقصد بها مدرسة مكة و المدينة.
2 – مدرسة الدّارسين أو المدرّسين ونقصد بها مدرسة بغداد على عهد الموصليين وزرياب (789 م- 852 م) .
3-المدرسة المنهجية أو المدرسة الأندلسية المغربية بقيادة الفيلسوف والموسيقي أبو بكر بن يحيى بن الصايغ المعروف بابن باجة (1070 م- 1138 م).
يحدثنا الباحث والمؤرخ لعلم الموسيقى الجزائري أحمد التيفاش (580ه-651ه) في كتابه “متعة الأسماع في علم السماع ” أنّ انطلاق المدرسة الموسيقية الأندلسية في بداية عهدها كانت علي هذا النّسق كما يقول : “. . .أمّا أهل الأندلس فطريقتهم في الغناء الطريقة القديمة، وأشعارهم التي يغنّون فيها أشعار العرب القديمة المذكورة في كتاب الأغاني الكبير للأصفهاني . . .”.
ويزيد توضيحا نقلا عن ابن سعيد عن ابن الحاسب المرسي إمام التلاحين على عهد الموحدين قائلا: “…إنّ أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إمّا بطريقة حُداة العرب ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه إلى أن تأثلت الدّولة الأموية وكانت مُدّة الحَكم الربضي (الحكم بن هشام ) فوفد عليه من الشرق ومن إفريقية من يحسن غناء التّلاحين المدينية – نسبة إلى المدينة المنورة- فأخذ الناس عنهم .
وتقول المصادر إنّ الأمير الحكم بن هشام الأموي كان فنانا بطبعه يحب الموسيقى ويهوى الشعر، وكان في بلاطه من المغنين علّون وزرقون وهما أّوّل من دخل الأندلس من الموسيقيين المشارقة، وهو الذي أرسل في طلب زرياب (789م – 852م) لمّا علم بوجوده في القيروان وأوفد إليه منصور المغنّي كي يرافقه إلى قرطبة التي كان وصوله إليها سنة 822 م في حدث تاريخي تمثّل في خروج الأمير عبد الرحمان الثاني (822م -852م) بنفسه للقائه.
فالأندلس إذن عرفت ثلاث محطات موسيقية، أولاها هو النمط الموسيقي للأهالي أصحاب الأرض من الأسبان، الذين كانوا يشكلون غالبية السكان حيث كان أدواؤهم الموسيقي بلغتهم “الرّمنثية Romance )).
وأمّا الأندلسيون من عرب و بربر فكان غناؤهم كما ذكر التيّفاشي بطريقة حُداة العرب؛ أي الغناء البدوي الذي يردّد الأراجيز والأشعار العربية القديمة، وهو الذي بُنيت عليه –فيما – قواعد المدرسة الموسيقية في كل من مكة و المدينة، أيّام الحكم الأموي، وبالتّالي بقي من هذه المدرسة في الأندلس ما احتفظت به المصادر من غناء لأشعار حسان بن ثابت ( ت 45 ه/674 م) على وقع ر مل الماية مثل قوله :
لمّا نظرت إلى أنواره سطـعت وضعت من خِيفة كفّي على بصري
خوفا على بصري من حسن صورته فلست أنظره إلا على قـدر
وكذلك على شعر قيس بن الملوّح مجنون ليلى (68 ه -/688 م) الذي يستعمل غريبة الحُسين وهو قوله :
الله يعلم إن الرّوح قد فنيت شوقا إليك، ولكنّـي أمنّيــهــا
ونظرة منك يا سولي ويا أملي أشهى إليّ من الدّنيا وما فيها
أما الغناء الذي دخل مع زرياب وإن شئت مع مدرسة بغداد إلى قرطبة فكثر فيه شعر المحدثين من أمثال أبي تمام و ابن المعتزّ وأبي نواس في قصيدته الشهيرة التي لحنت على رمل الماية و القائل فيها :
دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الدّاء
وذكر له التيّفاشي أشعارا أخرى من تلحين الموسيقي الكبير ابن باحة من مثل قول أبي نواس :
رُهبان دير سقوْني الخمر صافية مثل الطواويس في هدي السلاطين
مشوا إلى الرّاح مشي الرّوح وانصرفوا والرّاح تمشي بهم مشي الفرازيـن
وهكذا تفشت صنعة الغناء المشرقي في الأندلس، وقد تميّز عهد عبد الرحمان بن الحكم بإحداث ما صار يعرف ” بدار المدنيات” التي أقامها في حاضرة قرطبة وجعل على رأسها زرياب فكانت تعتبر أول معهد متخصّص لتعليم الموسيقى في الأندلس، وكان ربّما من خرّيجيها أو من رجالاتها البارزين عبّاس بن فرناس البربري الأندلسي ( ت :سنة 888 م) الذي كان يتقن ضرب العود وله الفضل في إدخال الموسيقى الشرقية إلى إسبانيا على عهد الحكم الرّبضي، حيث يقول عنه مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان القرطبي : “..إنّ عباس بن فرناس هو أوّل من فكّ الموسيقى بالأندلس “.
وقد تركت مرحلة زرياب في الأندلس ما عبّر عنه ابن خلدون واصفا ما تركه هذا الأخير من إرث موسيقي في الأندلس قائلا :” …فأورث فيها من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العُدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها “.
أمّا التفّاشي عمدتنا في هذه المقاربة فإنه يضيف قائلا : إنّ الصّنعة في الأصل دخلت الأندلس بلحن رمل طنبوري، فهي من نماذج المدرسة الطنبورية فجمهور مدرسة الغناء في الأندلس بدأت بشكل منظم بإتباع طرق الغناء عند أهل المدينة مند عهد الحكم بن هشام الربضي…
ولما أوقع بجماعة العلماء و الأدباء في حادثة الرّبض بقرطبة، هاجر كثير منهم إلى المغرب وإلى فاس فقابلهم المولى إدريس الثاني بالترحاب وأقطعهم قطعة من أرض فاس تعرف إلى يومنا هذا بعدُوة الأندلس
“… فهؤلاء العلماء أدخلوا معهم إلى المغرب ما كان عندهم من فنون موسيقية وعلوم أخرى وبالتالي يمكن اعتبارها أول الهجرات الموسيقية إلى بلاد المغرب من الأندلس، حيث استفاد منها استفادة كبيرة فأدخلوا بموجبها الصنعتين: صنعة المدرسة المدينة القديمة وصنعة مدرسة بغداد للمصليين وزرياب .
المدرسة الموسيقية الأندلسية بعد زرياب
ازدهرت مدرسة الغناء الأندلسي بعد زرياب، والتي لم تكن المدرسة الوحيدة في الغناء في حاضرة الأندلس، بل ظهرت بجانبها المدرسة الطنبورية التي كان رائدها في بغداد إبراهيم بن المهدي والتي كان من أعلامها في بداية القرن الخامس كل من : قُنبوط وزُربوط اللذان أصيبا في وقعة الرّبض بقرطبة أيام الحكم.
فيقول عنهما مؤرخ الأندلس ابن حيّان القرطبي : “…في تلك الوقعة أصيب قنبوط وزربوط الطنبوريان وأقام الطنبريون وأصحابه عليهما مأتما مشهودا بعد الحادثة ” وكان من بقايا آثار المدرسة الطنبورية في الغناء مثلا صنعة ” سل ديار الحيّ ” لابن الزّيات وزير بني العباس على عهد المعتصم والواثق والمتوكل:
سل ديار الحيّ من غيّرها وعفاها ومحا آثارها
هكذا إذا أدبـرت صيّرت معروفها منكرها
والصراع بين المدرستين في الأندلس: الطّنبورية والزّريابية على الرّيادة ولّد جيلا جديدا بني عمله الموسيقي على منهجية جديدة شاع صداها في أرجاء الأندلس والمغرب وهي موسيقى الفيلسوف ابن باجة .
الموشحات والأزجال والمزموم
أ- الموشحات
يظهر أن سبب ابتكار الأندلسيين لفنّ الموشح يعود إلى كثرة الجلسات الفنية الغنائية لذا جاءت الموشحات كما يقول ابن بسّام: “…قصائد مسمّطة مظفّرة ” غير أن البنية التوشيحية في الأندلس لم تعتمد على النظّم وحْده بل اعتمدت على التّلحين أيضا وهي صنعة تمّ إنضاجها بشكل ملفت بعد زرياب بسنوات.
في هذا الجوّ الموسيقي الأندلسي وما كان يدور في مجالس الأدب والغناء حيث يلتقي الشعراء والملحنون نشأت الموشحات والأزجال التي ربما كانت لهم بوادر ومحاولات في بلاد المشرق على مستوى النظم العروضي ولكنها لم تنتج مثل هذه الألوان الجديدة التي تمّ ظهورها في الأندلس بسبب الحرية التي كان ينطلق منها مبدعو الشعر وهم يتسكّعون مع الملّحنين والمغنّين.
ولا يمكن في هذه الحال القبول برأي العديد من الباحثين وحتّى المؤرخين القدامى على شاكلة ابن خلدون الذي أوعز ظهور فنّ التوشيح في الأندلس إلى تفشّي ظاهرة الشعر قائلا: وأمّا أهل الأندلس فلمّا كثر الشعر في قطرهم وتهذّبت مناحيه وفنونه وبلغ التّنميق فيه الغاية فاستحدث المتأخّرون منهم فنّا سمّوه بالموشّح ينظمونه أسماطا وأغصانا أغصانا يكترون منها ومن أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدّدة منها بيتا واحدا ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيها، بعد إلى آخر القطعة و أكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل الّبيت على أغصان بحسب الأغراض والمذاهب … واستظرفه الناس وحمله الخاصّة والكافّة لسهولة تناوله وقرب طريقه “.
فهذا النّص كثيرا ما أوقع الباحثين في فنّ التوشيح في خطأ التّأويل لأنّ الأمر ببساطة لا يستقيم مع واقع الأندلس وفي المقام الأول ليس المتأخرون من ابتكر فنّ التوشيح في الأندلس فابن بسام في الذّخيرة يقول: ” …إنّ أوّل من صنع أوزان هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها – فيما بلغني – محمد بن حمّود القبري الضّرير .. وقيل إنّ ابن عبد ربّه صاحب العقد أوّل من سبق إلى هذا النّوع من الموشحات عندنا “.
و نحن لا نعرف شيئا عن محمد بن محمّد القبري هذا ولا في أيّ عصر عاش ولا بأيّ أمير أندلسي اتّصل ولكنّنا نعرف أنّ ابن عبد ربّه ولد سنة 860 م في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمان الذي حكم ما بين 852 م إلى 886 م ومات سنة 940 م في عهد الخليفة عبد الرحمان النّاصر.
فالشاعر ابن عبد ربّه الذي كان من وشّاحي الأندلس هو من الطبقة الأولى من شعراء الأندلس من المتأخّرين وأمّا تفشّي الشعر والغناء فقد كان مثل هذا منتشرا في المشرق لكنّه لم ينتج ظاهرة فنّ التّوشيح وبالتّالي فسبب ظهور فنّ التّوشيح في الأندلس يعود إلى بواعث أخرى حسب رأينا منه ما يرجع إلى خصوصية البيئة ومنها ما يعود إلى التركيبة الاجتماعية ومنها ما يعود إلى الظاهرة والتعايش بين الأعراق وطبيعة الحكم القائم على التسامح والمساواة وما إلى ذلك من البواعث التي يطول شرحها وربما من أبرزها ما أجمع حوله الباحثون من أوروبيين وعرب من أنّ الموشحات هي ثمرة شعر غنائي إسباني وهي الفكرة التي جاء بها المستشرقان الإسبانيان: مينينديث بيدالMenendez pidal وخوليو ريبيراJulio ribera وأوزان الموشح المستحدثة التي لم يعهدها العرب في المشرق تدلّ دلالة على أنّ هذه الأوزان تقليد لأوزان أعجمية ووجود “الخرجة الأعجمية” هو الحلقة الواصلة بين الموشّح وذلك الغناء الإسباني الشعبي المعروف آنذاك باسم El Cantico الرومنثي، وحجّة هؤلاء أنّ الموشّح يختلف عن فنون الشعر العربي المشرقية لأنّه إنّما صُنع من أجل الغناء، وشيوع الأوزان التي لا تجري على العروض العربية في الموشّح دليل على رابطة القُوبى القويّة بينه وبين الشعر الشعبي الأعجمي الأسباني.
وقد عزّز هذا الفريق حجّته باكتشاف مجموعة من الخرجات الأعجمية في كتاب “عِدّة الجليس ومؤانسة الوزير والرّئيس” لعلي بن بشر الغرناطي (القرن الثامن أو التاسع الهجري /الرابع عشر والخامس عشر الميلادي) وبلغ مجموع هذه الخرجات الأعجمية ستّا وعشرين خرجة ( 26 ) وعلى مثل هذه الخرجات بنُيت الموشحات الأندلسية الأصيلة.
ولذا قال ابن سناء الملك في كتابه “دار الطّراز” معرفا أحد أجزاء الموشحة الأساسية وهي الخرجة : “…ينبغي أن يسبق الخاطر إليها ويعملها من نظم الموشّح في الأول وقبل أن يتقيد بوزن وقافية والشرط فيها – أي الخرجة – أن تكون حجّاجية من قبل السّخف، قُزمانية من قبل اللّحن “.
فإذا جاءت الموشّح مفتقرة إلى هذه الخصوصية الأساسية وكانت على سبيل المثال مُعرّبة الألفاظ خرج الموشّح عن دائرة التوشيح واعتبر قصيدا ومن هنا اعتبر مؤرخو الأدب الأندلسي فنّ التّوشيح من ثقافة العامّة التي لا يجوز وضعها في مجلّدات الأدب الخالدة.
كما ألمح لهذا ابن بسّام في كتابه الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة حيث لم يعتبر الموشحات من حسنات الأندلس قائلا: “…إنّ أوزانها – الموشحات – خارج عن غرض الدّيوان – كتاب الدخيرة …- إذ أكثرها على غير أعاريض شعر العرب “.
أما عبد الواحد المُرّاكشي في كتابه المُعجب فإنّه يقول عن الموشّحات : … لم تجر العادة بإرادتها في كتاب المخلّدة ” لأنّ أنصار الشعر الفصيح كانوا يزدرون الموشحات ولا يرون إلاّ أدبا متعربا أصله أعجميّ، وهو إشارة لها دلالتها القويّة من لدن المُرّاكشي.
الفرق بين الشعر الملحون والزجل
ب- الزجل سليل الموشّح
أمّا الأهمّ من ذلك في هذا المجال فهو وُجوب رفع اللّبس عند الباحثين بين الشعر العامي أو الملحون والأزجال الأندلسية وهل هما شيء واحد أم كل منهما فنّ قائم بذاته ؟ في البداية يجب التعريج على ذكر تعريف، ولو موجز، لفنّ الأزجال ومتى ظهرت فابن خلدون يؤكّد أنّ ظهور الأزجال جاء على إثر تقشّي ظاهرة الموشحات قائلا : ” … ولمّا شاع التّوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وتصريح أجزائه نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابا واستحدثوا فيه فنّا سمّوه الزّجل والتزموا النّظر فيه لهذا العهد ( ق / 14 م ) فجاءوا فيه بالغرائب …
وأوّل من أبدع في هذه الطريقة الزّجلية أبو بكر بن قزمان (1587 م -1160 م ) وإن كانت قيلت قبله بالأندلس “طبعا نحن لا نسلّم بهذا النّص لكن هناك من سبق وأكّد ذلك من القدامى كابن سعيد المغربي الذي أضاف إضافة نوعية في رأينا جعلتنا نخرج من الإشكال القائم عند الباحثين حول الفرق بين الشعر الملحون والأزجال؛ فالزّجل حسب رأي ابن سعيد لا يكون زجلا إلاّ إذا تمّ نظمه وفق البنية التّوشيحية وبخلاف البنية التّوشيحية كان ما ينتج دون الفصيح يسمّى الشعر العامي أو الملحون، ويمكن أن يطلق عليه اسم الزّجل وهذا استنادا إلى رأي ابن سعيد في كتابه “المُغرب في حلّي المغرب ” حيث أورد نماذج زجلية للزجّال المشهورة ابن الحاج المعروف بمَدْغلّيس والتي صدّرها باسم الزّجل فكانت كلها ذات بنية توشيحية عمادها القفل والغصن أو المطلع والدّور ثمّ يختم النّماذج بقوله : “… وله شعر ملحون على طريقة العامة “.
وجاء بأبيات لقصيدة عامّية من الشعر الملحون مرصّعة المطلع على النّحو التالي :
صَحْبِتْ العُنْقْ المليحْ المْخلْخلْ حُبِّي فيك ثابت وديني مْخلخلْ
ومن هذا نفهم أنّ الزّجل لا يسمّى زجلا إلاّ إذا كان موشّح البنية وما دون ذلك يسمّى الشعر الملحون أو العامي.
أمّا لغة الزجل فهي لغة خفيفة تنطبع في القلوب وتأنس بها المسامع ولو لم تكن كذلك لما فشت لغة الزجل الأندلسي في المشرق والمغرب حتّى كادت أن تُوحِّد بين المشرق والمغرب في اللهجة المستعملة خصوصا في القرن السادس والسابع والثامن ميلادي وليس أدلّ على ذلك من استعمال زجليات الشعر الصوفي للشاعر الشٌشتُري عند الطرقيين ومنهم الطريقة الشاذلية بالمشرق.
فيقول ابن سعيد عن أزجال ابن قزمان: ” … وأزجاله المدوّنة رأيتها في بغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب ” كما يتغنّى النّاس في المغرب بزجلية ابن النّبيه المصري، ولا يفرقون بينها وبين الزّجليات الأندلسية والتي يقول فيها:
هاتِ يا ساقي الحُميّـا إنّ نجـم اللّيل غـرّبْ
وصنعة:
يا نديم اسمع نصيحهْ لا تنم ما دمت صاحي
ج- الطبع المزنّم
إنّ الطبع المزنّم هو منزلةٌ بين المنزلتين إن صحّ هذا التعبير، فلا هو بالموشح الخاص ولا هو بالزّجل التّام وإنّما استقى كيانه من الطرفين؛ فهو صنعة فنّية أظهرها للوجود ظُرفاء الأندلس في جلساتهم الفنية ويدخل في باب المُلح والهزل أكثر منه في باب الجدّ، يقول صفيّ الدّين الحلّي: … وأطلقوا على كلّ ما أُعرب بعض ألفاظه من هذه الفنون لقب المزنّم … فكأنّ هذا الفنّ قد استحقّ بالموشّح من طرف إعراب بعضه وبالزّجل من طرف لحن بعضه، وليس من أحدهما ” ولتوضيح هذا الكلام أكثر نقول إنّ التّزنيم في إصطلاح الوشّاحين والزجّالين هو استعمال اللغة الدّارجة في الموشّحات واستعمال الفُصحى في الزجل، وكلاهما معيبٌ ولكنّه أكثر عيبا في الموشحات وقد عرف عن ابن قزمان نظم الكثير من الموشحات لكن أغلبها جاء مزنّما أي أدخل اللغة الدارجة أو العامية في بنية الموشحة وهو أمر معيب كما سبق ذكره.
مدرسة ابن باجة الأندلسية أو المدرسة المنهجية العلمية
سبق وأن أشرنا أنّ الغناء في الأندلس كان في بدايته على طريقة حُداة العرب حيث ذكر أحمد التّيفاشي (1184 م – 1253م ) في كتابه “متعة الإسماع في علم السّماع” : ” …إنّ أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إمّا بطريقة النّصارى وإمّا بطريقة حُداة العرب ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه إلى أن تأثّلت الدّولة الأموية وكان ذلك زمن الحَكم الرّبضي فوفد عليه من المشرق ومن إفريقية – المقصود تونس – من يُحسن غناء التّلاحين المدنية فأخذ النّاس عنهم إلى أن وفد الإمام المقدّم في هذا الشأن علي بن نافع الملقب بزرياب غُلام إسحاق الموصلي على الأمير عبد الرحمان الأوسط فجاء بما لم تعهده الأسماع واتخذت طريقته مسلكا وتُنسي غيرها إلى أن نشأ ابن باجة الإمام الأعظم واعتكف مدّة سنين مع جوار محسنات فهذّب الاستهلال والعمل ومزج غناء النّصارى بغناء المشرق، واقترح طريقة لا توجد إلاّ في الأندلس مال إليها طبع أهلها فرفضوا ما سواها “.. نستخلص من هذا النص التاريخي الهام أن أهل الأندلس في أوائل العهد بفتحها أيّام حكم الولاة كانت تعرف نمطين من الغناء مستقلين أحدهما يجري على طريقة الأسبان وهو الذي كان شائعا بين سكان الأندلس الأصليين من القوط مثل الأغاني المعروفة آنذاك باسم : ” Las Seguidias ” و ” Las Soleares ” ومنها الأغاني التي ظلت محافظة على أسمائها العربية مثل : ” Las Zambras “و “Las Haudas “و ” Las Aravias ” أي أغاني السحر والحُداة والأغاني العربية.
لقد شبّ ابن باجة في هذا المجتمع وقد تميزت المرحلة الأولى من حياته باشتغاله بالموسيقى وقرض الشعر وكانت له علاقات متينة مع عائلة حشداي اليهودية التي هي من أشراف سرقٌسطة الثغر الأعلى في الأندلس، وله علاقات أيضا مع عائلة شمعون اليهودية بقرطبة؛ فإسحاق بن شمعون القرطبي يقول عنه صاحب المُسهب على حدّ ما ذكر ابن سعيد إنّه أحد عجائب الزمان في الاقتدار على الألحان وكان قد لازم ابن باجة وأحسن الغناء بلسانه وبيده … وكان له نظم رائق كفاك منه :
قم هات كأسك فالنّسيم قد اتّسق والعود عن داعي المسرّة قد تنــطق
وإليك من حثّ الكؤوس أزاهرا في الخزّ يمرح كالأراكة في الورق
والزّهر زهرٌ و الرّياض سماؤها والفجر نهر والشقائق كالشّفق
لقد ترعرع ابن باجة في هذا الوسط وترعرعت معه ميولا ته الفنّية حتّى عدّ في الغرب الإسلامي فرابّيُّ الأندلس لذا نعته التّيفاشي في النصّ السابق “بالإمام الأعظم في الموسيقى” ويعزّز ما سبق ذكره قول ابن سعيد عند الكلام عن وشّاحي العهد المرابطي بالعدوتين حين قال: ” …وكان في عصرهم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المشهورة “فكان بالّنّسبة للمغرب والأندلس أول من وضع المنهجية اللّحنية الأندلسية القحّة – وليس زرياب – الملائمة للذّوق الأندلسي ونقصد ذوق ساكنة الأندلس المتعددة الأعراق بحيث جمع بين الأجناس اللحنية الشرقية العربية من كلّ من مدرسة المدينة بالحجاز ومدرسة بغداد وكذلك الأجناس اللّحنية الإسبانية المسيحية التي بقيت متّبعة في الأندلس، ويحدّد لنا ابن سعيد الفترة التاريخية التي تمّ لابن باجة فيها الاتصال بالأمير المرابطي ابن تيفلويت الذي كان أميرا على غرناطة و جنوب الأندلس من سنة 500ه /1142 م.
وقد امتدّ تأثير ابن باجة في الأندلس فنجد في العهد الموحّدي مؤلف كتاب “أدب الغناء للحسن بن أحمد الكاتب (625ه) الذي عاصر بالمغرب والأندلس الفنان البارع أبا الحسين بن المُحاسب المُرسي الذي كانت تُعْزى إليه ألحان عصره والذي هذّب عدّة ألحان في الاستهلال كانت من تأليف ابن باجة، كما خلّف أخرى كانت من تأليفه.
والحُسين هذا عاصر التّيفاشي الجزائري الذي ترك لنا كتاب “متعة الأسماع في علم السماع” والذي تكلم في الباب الحادي عشر عن قوانين الغناء الأندلسي جاء فيها :” …الخُسرواني ما هو في طريق النشيد وهو المعروف عند أهل الأندلس بالاستهلال والعمل ويبدؤونه بنغمات ثقيلة شيئا بعد شيء ثم يخرجون عنها إلى نغمات خفيفة تحصل بين حالين فتثير من الطرب ما يرتاح له “.
ولعلّ المُشار إليه هنا هو ما أوضحه ابن باجة في رسالة “الألحان” متحدثا عن النغم وعلاقته بدوران الأفلاك قائلا: “…إنّ ضارب العود إذا كان حاذقا فطنا وأراد أن يحرّك صاحب صفراء يهيجه ألحّ بالضّرب على الزير فإنّه للمناسبة التي بينهما في الخفّة واللّطافة يهيج له السرور وكذلك إذا أراد أن يحرّك صاحب الدّم ويهيج سروره ألحّ بالضّرب على المثّنى للمناسبة التي بينهما فلذلك يهيج الدموي المزاج ويبعث له السرور والجذل ويتحرّك له الفرح ووزنه ضعف وزن الزّير …”.
وهنا تتأكد دراية ابن باجة بأجزاء العود وتفاصيله فأسماء أوتار العود الأربعة هي على التوالي : الغليظ البم والمثلث والمثنّى والزير وهو أدقّها، أمّا بقية أجزاء العود فهي: الملاوي التي تُلوى بها الأوتار إذا سُويّت، الدّساتير التي توضع الأصابع عليها، ومشط العود الذي تشدّ عليه الأوتار، والإبريق وهو اسم عنق العود، والمضراب الذي ينقر به على العود.
المدرسة الموسيقية الأندلسية الجزائرية
يمكن ربط التواصل بين المدرسة الموسيقية الأندلسية بقيادة ابن باجة والمدرسة الأندلسية الجزائرية وذلك من خلال الهجرات المتتالية التي عرفتها أرض الأندلس تجاه المغرب العربي الإسلامي منذ سقوط طليطلة في يد النّصارى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي إلى بدايات القرن السابع عشر الميلادي الذي شهد مرحلة طرد المورسكيين من أرض الأندلس، وكان نصيب الجزائر وافرا من حيث استقبالها لجالية أندلسية نوعية وكبيرة أيّام الإخوة بربروس وما تلا ذلك من صراع إسباني جزائري طيلة ثلاث مائة سنة صارت بموجبه الجزائر قبلة المُهجّرين ودار الجهاد في المغرب الإسلامي بدون منازع.
تؤكد المصادر التي عدنا إليها أنّ ابن باجة ومدرسته الموسيقية قد نالت إعجاب الأندلسيين وتعلقوا بها ومال إليها طبعهم ورفضوا ما سواها على حدّ تعبير التّيفاشي، كما عرفنا أنّ ابن باجة صار له تلاميذ كُثر من أبرزهم الملحّن الوزير أبي عامر بن الحمّارة الغرناطي وابن مُحاسب المُرسي صاحب التّلاحين على عهد الموحّدين.
والذي قال عنه التّيفاشي: “…و كان تلحينه يُسمع بالأندلس والمغرب من الشعر المتأخر فهو من صنعته”، ثمّ المنظر الكبير لعلم الموسيقى الأندلسي أحمد التّيفاشي سليل قرية تيفاش بضواحي سوق أهراس بالقطر الجزائري، ودون أن ننسى وريث موسيقى ابن باجة الشاعر الكبير أبو الصلت الدّاني، الذي استقرّ به المطاف بالقيروان.
وبالتالي فمدرسة ابن باجة كان لها الامتداد الطبيعي والإشعاع الحقيقي الذي عمّ أرجاء المغرب الإسلامي حتّى مكّن لصنعته الفنية من التوغّل في أعماق الروح الجزائرية، وذلك بعد أن قضت الأقدار على ملك الأندلس وحضارته الخالدة بالزوال، وتقول بعض المصادر التاريخية إنّ الذي أدخل الألحان الموسيقية ثقيلها وخفيفها حسب القواعد العلمية والأناشيد والموشحات الجديدة التي تنشد في الزوايا و الأضرحة الجزائرية هو الشاعر ابن عمّار مفتي السادة المالكية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي وقد حدث لهذه الموسيقى في الجزائر ما لم يكن منه بدّ فوقع من طول المدّة والممارسة تحريف في تراتيبها وأنظمتها المحكمة وتغلب عليها الدّخيل البلدي فامتزجت بطبيعة الحال بما غيّر طرقها الفنية وأدخل عليها من فنون الصنع الموسيقي المحلية ما جعلها تفقد بعض قواعدها الأساسية، ذلك أنّ الموسيقى الأندلسية مبنية على قواعد علمية في تناسب أصواتها وارتباط بعضها ببعض وقد جعلت فيها الأصوات المطلقة والممتزجة مركبة من ” نوبات ” مرتّبة على قواعد الألحان بحيث يكون في المقال الأول الاستهلال ثمّ المقصود أو المصدّر ثمّ الخاتمة أو الانصراف وهي الجوانب التي عكف ابن باجة على تهذيبها كما ذكر التّيفاشي.
والنّوبة الأندلسية تبدأ “بالتّوشية” وهي ضربٌ من دون غناء ثمّ يجهر “بالمصدّر” ثقيلا ويليه “البطايحي” أثقل منه في الغالب ويليهما الدّرج وهو أخفّ منهما ثمّ يأتي الانصراف خفيفا ثمّ الخلاص أخفّ وقد يزيدون على ذلك “الانقلاب وهو يتبع دائما الاستخبار المناسب لصناعة النّوبة.
تقول المصادر إنّ هذه الموسيقى تتميز على وجه الخصوص باستعمال السلّم الموسيقي الطبيعي المعروف بالفيثاغوري بحيث تربط الطبوع الموسيقية باعتبارات فلكية وروحية وإتباع طريقة مخصوصة في الغناء تسمى “النّوبة” وهي عبارة عن مجموعة متتابعة من القطع الغنائية والآلية المؤداة على طبع ( أو مقام) واحد، وعلى إيقاعات مختلفة، وبحركة تبدأ ببطء في مستهل النّوبة لتنتهي بسرعة كبيرة وكل نوبة تحمل اسم الطبع الذي لحنت عليه وتؤدّى في ساعة من ساعات النهار أو الليل المخصّصة لها وهي الساعة التي يعتقد أنّ تأثير ذلك الطبع يكون فيها أقوى في النّفوس من أيّ وقت آخر.
ملاحظة: للبحث مراجع
الدكتور عبد الله حمادي