في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث الدكتور بومدين بلكبير، عن بعض المصطلحات التي أصبحت تتردّد في الأوساط الثقافية والأدبية، من بينها مصطلح “الاِقتصاد الإبداعي”، و”الاِقتصاد الثقافيّ”، و”اقتصاد المعرفة”.
ويتحدث عن فُرص قطاع الثّقافة والفنون للاِنخراط في اِقتصاد المعرفة، وعن الدور الّذي يمكن أن تلعبه المعرفة في خلق فرص تحقيق الأهداف الاِقتصاديّة، مؤكداً في هذا السياق أنّ المعرفة أضحت تلعب دورًا بارزًا في توفير الثّـروة من خلال زيادة النّموّ الاِقتصادي في ظلّ الاِقتصاد الجديد الّذي يُسمى باِقتصاد المعرفة.
مضيفاً أنّ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي يُتيحُ أيضًا فرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون. مِمَّا يدفع عجلة النّموّ إلى الأمام ويسهم في تحقيق التنمية الشّاملة والمستدامة. وعلى هذا الأساس –حسب قوله دائمًا- فالثّقافة عامل إستراتيجي مُحرّك للتّنمية وما انفكّ دورها يتعاظم مع مرور الزّمن. وأنّ هناك مبادرات ومشاريع يمكن اِقتراحها للنّهوض بالاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر. وأنّ هذا القطاع يمكن أن يصبح قطاعًا حيويّا في الاِقتصاد الجزائري.
صاحب “خرافة الرّجل القوي” تحدث أيضاً عن المحتوى الرّقمي في مجال الثّقافة والفنون، وعن أهمية دعم هذا القطاع من أجل قيام صناعة صغيرة النّطاق في هذا الاِتجاه. مؤكداً في هذا المعطى أنّ الصناعات الثقافية والإبداعية ليست حكراً على قطاعٍ دون آخر، ما يستلزمُ قيام مبادرات على أساسٍ مُشترك بين قطاعات مختلفة.
للإشارة، بومدين بلكبير، أستاذ جامعي وباحث وروائي متحصّل على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال والإستراتيجيّة عام 2013. عضو الجمعيّة العموميّة لمؤسّسة المورد الثّقافي ببيروت. له العديد من الكُتب المنشورة البحثية والأدبية، من أهمها: “الثّقافة التّنظيمية في منظمات الأعمال” 2013، “العرب وأسئلة النّهوض” 2016، “عصر اِقتصاد المعرفة” 2012، “إدارة التّغيير والأداء المتميّز في المنّظمات العربيّة” 2009، “قضايا معاصرة في إشكاليّة تقدم المجتمع العربي” 2015.
وصدرت له عن منشورات ضفاف-لبنان والاِختلاف-الجزائر: رواية بعنوان “خرافة الرّجل القوي” 2016، ورواية “زوج بغال” 2018، ثم رواية “زنقة الطّليان” عام 2021.
“الحديث عن الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي يقودنا إلى تأكيد الدّور الإستراتيجي الّذي تلعبه الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة”
مصطلحات كثيرة تتردد في الأوساط الثقافية والأدبية من بينها مصطلح “الاِقتصاد الإبداعي”. ما الّذي يمكن أن تقوله في هذا الشأن؟
بومدين بلكبير: عند سماع مصطلح «الاِقتصاد الإبداعي» يتبادر للذّهن، من أوّل وهلة، أنّه مفهوم فضفاض لأنّه يهتمّ بمجالات لا تُعتبر بالبداهة «ثقافيّة»؛ إذ لا يشمل فقط على السّلع والخدمات الثقافيّة، وإنّما يمتدّ أيضاً إلى الدّمى والألعاب ومجمل ميادين البحث والتّطوير.
ويشمل الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي مجموعة من المؤسّسات والمشاريع الثّقافيّة المتنّوعة، سواء كانت تجاريّة أو رقميّة أو غير ربحية، والتي تخلق الثّروة والوظائف، والموزّعة على قطاعات حقوق التّأليف والنّشر، والبراءات، والعلامات التّجارية، وصناعات التّصميم.
إذ يمكن حصر الصّناعات الجوهريّة للاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في البحث والتّطوير، النّشر، الإعلانات، الموضة، التّلفزيون والّراديو، تصميم المنتجات والتّصميم الدّاخلي وتصميم الاِتصالات المرئية، العمارة، الموسيقى، التّصوير الفوتوغرافي، البرمجيّات والتّطبيقات الرقميّة، الأفلام والرّسوم المتحرّكة والفيديو، فنون الأداء، الحرف اليدويّة.
ويمكن إدراجه (أي الاِقتصاد الإبداعي) ضمن المصطلحات الحديثة نسبيًا، إذ ظهر هذا المصطلح للعلن وبدأ ينتشر عندما استخدمه الكاتب البريطاني المعروف جون هوكنز في عام 2001، حيث طبّقه على 15 نشاطاً صناعياً يشمل مجالات متنوّعة أهمّها (الفنون ومجالات العِلم والتكنولوجيا..)، وحينها (أي في العام نفسه2001) قدّر هوكنز حجم معاملات هذا الاِقتصاد في مختلف دول العالم بِما يُعادل 2.2 ألف مليار دولار أمريكي، وبمعدّل نموّ سنويٍّ قدره 5%.
الحديث عن الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي يقودنا إلى تأكيد الدّور الإستراتيجي الّذي تلعبه الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة، إذ لم تعد تسهم فقط في تحريك عجلة النّمو (من خلال تكوين قيم)، وإنّما علاوةً على ذلك أصبحت تُشكّل العناصر الرئيسيّة في نظام الاِبتكار الخاصّ بالنّظام الاِقتصادي. وبالتّالي يمكن الجزم من خلال التّجارب والنّماذج المنتشرة (في دول متنوّعة) بأنّ أهميّة هذه الصّناعات لا تنبع فقط من إسهامها في تكوين قيمة اِقتصاديّة، بل وأيضاً من الأشكال التي تحفّز بها ظهور أفكار أو تكنولوجيات جديدة ونشوء عمليات التّغيير التّحولي.
“لقد تغيّـر العالم رأسًا على عقب وأصبحنا نعيش في عالم جديد، فالنّماذج التقليديّة لم تعد قادرة على تلبية متطلّبات العصر”
ما هي –برأيك- فرص قطاع الثّقافة والفنون للانخراط في اِقتصاد المعرفة؟
لقد تغيّـر العالم رأسًا على عقب وأصبحنا نعيش في عالم جديد، فالنّماذج التقليديّة لم تعد قادرة على تلبية متطلّبات العصر، إذ أنّ المؤسّسات التي كانت تُوصف بأنّها ناجحة ومتفوّقة في القرن العشرين هي تلك التي كانت تقوم بنشاطات مرتبطة باِستخدام واستغلال الموارد الطبيعيّة كالحديد، المطاط، البتـرول والغاز…
أمّا في القرن الحادي والعشرين فصارت المؤسسات البارزة والرّائدة هي تلك التي تمارس أنشطة تقوم على المعرفة كمؤسّسات الاِتّصالات والتكنولوجيات الحديثة، والإلكترونيك… ومن الواضح في هذا الصّدد كما يقول ميتشيو كاكو في كتابه (Visions): “أنّنا على عتبة ثورة أخرى؛ فالمعرفة البشريّة تتضاعف مرّة كلّ عشر سنوات وقد خلف عقد التّسعينيات معرفة علمية أكثـر مِمَّا خلفه التّاريخ البشري بأكمله.
وتتضاعف قدرة الكمبيوتر كلّ ثمانية عشر شهرًا، أمّا قدرة الإنترنت فهي تتضاعف مرّة كلّ عام”. ذلك ما يعني أنّ مفهوم الثّروة عند الدّوّل قد تغيّـر، حيث أضحت المعرفة تلعب دورًا بارزًا في خلق الثّـروة من خلال زيادة النّموّ الاِقتصادي في ظلّ الاِقتصاد الجديد الّذي يُسمى باِقتصاد المعرفة (Knowledge Economy).
أي دور تلعبه المعرفة في استحداث فرص تحقيق الأهداف الاِقتصاديّة؟
بالرغم من شيوع وانتشار وتداول كلمة “المعرفة” في السنوات الأخيـرة في الكثيـر من دول العالم، إلّا أنّها تبقى كلمة فضفاضة وتحمل معاني عديدة ومختلفة في أذهان الكثيـر من النّاس.
لذلك وانطلاقًا من العديد من الأدبيات والدّراسات يمكن اِعتبار المعرفة على أنّها خليطٌ من التّعلم والخبـرات والتّجارب المتراكمة، والبيانات والمعلومات، والبـرامج والتّطبيقات التّكنولوجيّة التي يستخدمها الأفراد أو المنظّمات. مِمَّا جعل الدّول والشّركات تسعى بخطى حثيثة لاِمتلاك المعارف بالكميّة الكافية والجودة المناسبة لكي تزيد من فرص نموّها وتحسّن من ترتيبها ووضعها في الاِقتصاد الجديد، من خلال تنمية وتطوير أنظمة التّعليم والتّعلم، وتكثيف الميزانيات المخصّصة لدعم مشاريع البحث والتّطوير، وزيادة كفاءة وفعّالية برامج التّكوين والتّدريب لمواردها البشريّة.
وقد خلص الخبـراء الذين صاغوا تقرير التنمية الإنسانية العربيّة لسنة 2003 إلى أنّ اِكتساب المعرفة كمورد مُتجدّد ودائم النّموّ يُساهم في خدمة التنمية، إضافة إلى تحقيق الأهداف الاِقتصاديّة؛ كتخفيض التّكلفة أو تقليص الزّمن اللازم للإنتاج، وكذلك إسهامها في إيجاد حلول مناسبة لمشاكل التّنمية في مجتمع معيّن وفي وقت معيّن.
“للاِقتصاد الجديد عبارات ومصطلحات تُمثّل لغة جديدة خاصّة به أوجدتها متطلّباته وضرورات تطبيقاته”
لغة الاِقتصاد الجديد، لها عبارات ومصطلحات جديدة خاصة بها. كيف تقرأ هذه اللّغة؟ وما الّذي يمكن أن تقوله عنها؟
كما لكلّ لغة مفرداتها وألفاظها، فإنّ للاِقتصاد الجديد عبارات ومصطلحات تُمثّل لغة جديدة خاصّة به أوجدتها متطلّباته وضرورات تطبيقاته.
فأصبحت في السّنوات الأخيـرة العديد من العبارات متداولة وشائعة؛ كمجتمع المعرفة الّذي يقصد به ذلك المجتمع القائم أساسًا على خلق ونشر واستخدام المعرفة في جميع مجالات نشاطه.
أمّا مصطلح اِقتصاد المعرفة فهو يُمثّل نمطًا اقتصاديّا متطوّرا يستخدم بكثافة كبيرة المعلوماتيّة وشبكات الإنترنت في مختلف أنشطته لخلق القيمة المُضافة.
بينما أهمّ سمات ثورة المعلومات تكمن في تفجّر المعلومات، وانتشارها بشكلٍ كبير وغير محدود زمانًا ومكانًا، نتيجة التّقدّم العلمي والتّكنولوجي.
كما يقتضي التحوّل إلى اِقتصاد التعليم الاِعتماد على الاِستفادة من تطبيقات تكنولوجيا الإعلام والاِتّصال في قطاع التّعليم، كاستثمار لإعداد رأس مال بشري قادر على إنتاج الثّروة.
خاصّةً ونحن انتقلنا من مرحلة الصّناعة التي فرضتها الثّورة الصّناعيّة إلى مرحلة ما بعد الصناعة، التـي يطلق عليها عبارة الموجة الثّالثة. والتـي لم تصبح الأميّة فيها أمّية الجهل بالقراءة والكتابة فقط، إنّما أمّية الجهل باِستخدامات تكنولوجيا المعلومات والاِتّصال أيضا، كاستعمال الحواسيب والاِستفادة من خدمات الإنترنت، وهو ما يعرف بالأميّة الّرقميّة. خاصّةً ونحن نعيش في عصر تعتبـر المعرفة فيه مورداً اِقتصاديًّا مهمّا يُساهم في النّاتج الإجمالي والنّمو الاِقتصادي للدّول، ومن ثمّة تحقيق التّنمية المستدامة.
“يُتيحُ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي فُرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون”
إلى أي حد يُتيح الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي فرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون؟ وما مدى فعاليّة هذا النوع من الاِقتصاد؟
يُتيحُ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي فُرصًا جديدة تُحفّز الإبداع والاِبتكار في قطاع الثّقافة والفنون، مِمَّا يدفع عجلة النّموّ إلى الأمام ويسهم في تحقيق التنمية الشّاملة والمستدامة.
وعلى هذا الأساس فالثّقافة عامل إستراتيجي مُحرّك للتّنمية وما انفكّ دورها يتعاظم مع مرور الزّمن، وقد أوردت مجلة الإيكونوميست المعروفة في عالم الأعمال، في أحد أعدادها الصّادرة في عام 2013، أنّ البلدان بدأت تُدرج عند حسابها لإجمالي ناتجها المحلّي مجالات من الاِستثمارات المتّصلة بالاِقتصاد الإبداعي، ولاسيَّما فيما يخص منتجات الملكيّة الفكرّية (مثل أنشطة البحث والتّطوير، والأنشطة التّرفيهيّة، والأعمال الأدبيّة والفنيّة، والبرمجيات)؛ واِنطلاقًا من ذلك يمكن الاِسترشاد هنا بالإحصائيات التي نشرها مؤتمر الأُمم المُتّحدة للتّجارة والتّنمية في عام 2013، إذ أظهرت أنّ حجم التّجارة العالميّة للسّلع والخدمات الإبداعيّة سجّل في المجموع رقمًا قيّاسيًا وصل إلى 624 مليار دولار أمريكي عام 2011، بحيث يكون حجم هذه التّجارة قد اِرتفع بين عامي 2002 و2011 بِمَا يزيد عن الضّعف؛ كما بلغ معدّل النّمو السّنوي في هذه الفترة نسبة قدرها 8.8 في المائة في المتوسّط. وقد شهدت البلدان النّامية زيادة في صادراتها من السّلع الإبداعيّة أكبر حتّى من هذه القيمة؛ فقد بلغت في المتّوسط 12.1 في المائة سنويّا خلال الفترة ذاتها.
“ننتظر أن يسهم قطاع السّياحة بشكلٍ كبير في دعم تنمية الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي”
ما المبادرات والمشاريع التي يمكن اِقتراحها للنّهوض بالاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر؟
يمكن التّأكيد على الإمكانات الضّخمة والمُهملة والمغفلة وغير المُستغلّة في الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر، في المُقابل يعتبر الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في العالم كقطاع اِقتصادي ناشئ وقوي، يعتمد بشكلٍ كبير على الرّقمنة والتّطور في الخدمات.
الأمر الّذي يجعلنا نفكّر في تقديم مبادرات واقتراح مشاريع بمثابة رؤى واتّجاهات مستقبليّة من أجل اِستغلال الإمكانات الهائلة لهذا الاِقتصاد الجديد في الجزائر، وتهيئة الظّروف المواتية له كي يصبح دعامة أساسيّة للأداء الاِقتصادي الوطني.
فالموجودات والموارد والإمكانات الثّقافيّة في البلد متنوّعة للغاية، وبالإمكان أن يُساهم اِستغلالها بكفاءة وفعّاليّة في تحسين الأداء الثّقافي وتوفير وظائف جديدة وقدرات هائلة على تحقيق النّمو الاِقتصادي.
خصوصًا إذا تم اِستغلال تلك الإمكانيّات الهائلة في التّغلّب على التّحدّيات في مجال توسيع قاعدة الشّركات النّاشئة في قطاع الثّقافة والفنون، ودعمها في تسويق منتجاتها على المستوى المحلّي والدّولي على حدٍ سواء، وفي كيفيّة توظيف حقوق الملكيّة الفكريّة في إضافة قيمة إلى أنشطتها التّجاريّة، علاوةً على مساندتها في الحصول على التّمويل والتّكنولوجيا اللّازمين لتوسيع وتنمية نطاق عمليّاتها.
ويُشكّلُ التّنوع الثّقافي الّذي تتميّز به الجزائر ميزة إستراتيجيّة من المُهمّ اِستغلالها، خاصّةً في ظلّ التّحمس من قِبل الشّباب المُبدع لخوض غمار إنشاء مُؤسّسات صغيرة ومتوسّطة في مجال الثقافة والفنون واستحداث المضامين الإبداعية الرّقميّة. و ينتظر كذلك أن يسهم قطاع السّياحة بشكلٍ كبير في دعم تنمية الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي.
الجزائر من البلدان التي تُعاني من التّقليد والقرصنة وهما يُشكّلان مشكلة كبيرة (كما هو الحال في عدّة بلدان) على نموّ وتطوّر الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي، ومن المُهمّ بذل جهود إضافيّة في مجال مكافحة القرصنة والتّعدي على الملكية الفكريّة، خصوصًا في قضيّة القرصنة عبر الإنترنت.
كيف يصبحُ الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي قطاعًا حيويّا في الاِقتصاد الجزائري؟
من المهم العمل على تعزيز هذا القطاع الاِقتصادي الإستراتيجي، وفي هذا السّياق يمكننا تقديم واقتراح مجموعة من المبادرات والمشاريع ستكون بمثابة رُؤى واتجاهات مستقبليّة. من بينها: أهميّة نشوء وقيام قطاع أعمال جديد في مجال السّياحة الثّقافيّة. أهميّة الاِستثمار في السّياحة الثّقافيّة كقطاع مهمل في مدننا، إذ ظلّ لعقود من الزّمن معطلًا وبعيدًا عن تحقيق الفعّاليّة والرّشادة في اِستغلال وتوظيف الموارد والموجودات الثّقافيّة المتاحة على ثرائها وتنوّعها وتعدّدها في مختلف مناطق وجهات البلد.
فمن الأهميّة بمكان على الشّباب المبدع والفنّانين وأصحاب الأفكار الرّياديّة أثناء التّفكير في إنشاء مؤسّسات صغيرة ومتوسّطة في قطاع الثّقافة والفنون إدراك الدّور الجوهري الّذي تُساهم به الثّقافة في تنمية وترقية السّياحة وكذلك الدّور الرّئيسي للسّياحة في دعم الثّقافة والتّرويج لها، خاصّةً وأنّ السّياح والزّوار تجذبهم الثّقافة وتدفعهم إلى السّفر واكتشاف ومعرفة المُدن والأماكن المُختلفة قبل أي شيءٍ آخر.
فيقصد الزّائر أو السّائح، أثناء سفره، المتاحف والمسارح والمقاهي الثقافية وحضور المعارض والمهرجانات والعروض الثّقافية والأدائيّة، علاوةً على اِقتنائه منتجات وخدمات ثقافيّة وإبداعيّة أخرى، كالكُتُب والمنتوجات الحرفيّة والتّراثية والألبسة المحليّة والسّلع الثّقافيّة المتنوّعة الأخرى كوجبات الطّعام التّقليدي، وغيرها.
فضلًا عن التّوصية بأهميّة مساهمة الإدارة المحليّة للمُدن في شرح الأبعاد الاِقتصاديّة وطاقة القطاع الإبداعي، وفي وضع إستراتيجيّة موحدة ودقيقة وواضحة للثّقافة والّسياحة، بالإضافة إلى السّعي الحثيث على تشجيع إدارة الّثقافة والفنون وتنمية مهارات التّسويق والّتوزيع والتّفكير الإستراتيجي في هيئات ومؤسّسات القطاع الثّقافي والإبداعي الرّبحيّة وغير الرّبحيّة على حدٍ سواء، الأمر الّذي يتطلّب تعاونًا مع الجامعات ومراكز وهيئات ومؤسّسات التّدريب على الصّعيد المحّلي أو الدّولي.
وماذا عن المحتوى الرّقمي في مجال الثّقافة والفنون؟ وكيف يمكن دعم قيام صناعة صغيرة النّطاق في هذا الاِتجاه؟
يعتبر دعم قيام صناعة صغيرة النّطاق للمحتوى الرّقمي في مجال الثّقافة والفنون الخاصّة بالمجتمع المحلّي في المدن ومناطق الظلّ من أهم الأولويّات، خصوصًا وأنّ تنفيذ هذا المشروع الواعد سيساهم في تنمية الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي لتلك المناطق والجهات.
حيثُ يتطلب مشروع صناعة المحتوى الرّقمي المحلّي المناخ الدّاعم والمُحفّز؛ من خلال توفير فرص للتّدريب في مجال صناعة محتوى المواد الرقميّة (السمعيّة-البصريّة)، وللتّكوين على تنمية مهارات وتقنيات العمل التّجاري والتّسويقي فيه لدى الشّباب المبدعين، علاوةً على السّعي والحرص على تحيين المعلومات والتّطبيقات الذّكية والبرمجيّات التّقنيّة، ومواكبة برامج للشّباب من سكان المُدن ومناطق الظلّ، بالإضافة إلى توفير الإرشاد والمرافقة لهذه البرامج في مُختلف مراحلها.
وفي هذا الإطار من المُهم الاِنتباه وإيجاد طرق من شأنها التّعامل بجدّية مع التّغيرات العالميّة السّريعة التي غيّرت في السّنوات الأخيرة الماضية ديناميات الحياة الاِجتماعيّة والثّقافيّة لهذه المجتمعات المحلّية؛ وهذا من خلال الاِستفادة وتعظيم المنافع المتأتّية من التّداعيات والمؤثّرات الإيجابيّة لتلك التّغيرات.
وفي هذا السّياق ينبغي التّوظيف والاِستثمار في دافعيّة الفنّانين والمبدعين الشّباب نحو الاِنخراط والمشاركة بصورة نشيطة وفاعلة في المشهد الرّقمي العالمي عن طريق اِكتساب المهارات في مجال صناعة المحتوى الرّقمي وإنتاج المواد السّمعيّة-البصريّة وفي مجال الاِتصالات، وهذه الدّافعيّة مأتاها بالطّبع اِنتشار واعتماد ومعرفة تكنولوجيا الوسائل الرّقميّة وقنوات الاِتّصالات والوسائط السّمعيّة-البصريّة الجديدة بشكلٍ واسع في مجتمعاتنا المعاصرة وخصوصًا لدى الأجيال الشّابة.
والهدف من إقامة ورشات للعمل الإبداعي، كي تتاح الفرصة أيضاً للمشاركين والمشاركات الشّباب لصياغة أفكارهم الخاصّة بمشروعات العمل التّجاري ولإقامة شركاتهم الصّغيرة الخاصّة بهم، بغية تمكينهم من القيام بعمليّات إنتاج وصناعة المحتوى ذات جودة ومستوى رفيع.
ومن المهمّ تسليط الأضواء على الصّناعة الصّغيرة النّطاق النّاشئة في مجال المحتوى الرّقمي الإبداعي، وعلى ترويج منتجاته المحلّية في الأسواق المحلّية والوطنيّة من خلال منصّات رقميّة خاصّة وحملات مكثّفة للتّسويق والإعلان التّجاري على شبكة الإنترنت.
و يستدعي هذا التّوجه المتنامي نحو صناعة المحتوى الإبداعي الرّقمي، والطّلب المتزايد في الأسواق المحلّية والعالميّة على منتجات تلك الصّناعات الإبداعيّة أن تتمّ الاِستجابة له بصورة منهجيّة، وهو أمر يستدعي مساندة ودعم قطاع صناعة المحتوى ووسائط الإعلام الرقميّة بالمستلزمات والتّجهيزات (الملموسة وغير الملموسة) الملائمة.
“الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة ليست حكرًا على قطاع واحد”
الصناعات الثقافية والإبداعية ليست حكراً على قطاع دون آخر. ما يستلزم ربّما قيام مبادرات على أساس مشترك بين قطاعات مختلفة؟ ما رأيك؟ وما تصورك للمسألة؟
الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة ليست حكرًا على قطاع واحد (أي قطاع الثّقافة)، وفي هذا السّياق من المهمّ قيام مبادرات على أساس مشترك بين عدة قطاعات في مجال تسويق وترويج وتوزيع الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة الوطنيّة في الأسواق المحليّة أو العالميّة، ومن الأهميّة أن تضطلع بتنظيمها كلٌّ من وزارة الثّقافة، ووزارة المؤسّسات النّاشئة واقتصاد المعرفة، ووزارة الصّناعة، ووزارة الشّؤون الخارجيّة، ووزارة التّجارة، ووزارة العمل والتّضامن الاِجتماعي، ووزارة السّياحة، وغيرها من الوزارات والهيئات ذات العلاقة.
ومن المُمكن أن يجري في إطار تلك المبادرات تنظيم مرفق أو هيئة مشتركة منوط بها مجموعة من المهام الشّاملة، وقد تعنى كذلك بمجموعة من الأنشطة التي تدعم مختلف فروع العمل في مجال الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة.
ويرمي ذلك إلى حفز النّشاط الاِقتصادي وتعزيز تبادل المعلومات والرّبط الشّبكي عبر مختلف أنحاء البلد، وتعريف العالم بجودة الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة الوطنيّة وبقدراتها التّنافسيّة ومدى تنوّعها (سواء في فنون الأداء، والإنتاج السّمعي-البصري، وفنّ التّصميم، والنّشر، والموسيقى، وألعاب الفيديو، وغيرها).
ومن المهمّ على سبيل المثال لا الحصر تعاون تلك القطاعات أيضًا على اِستحداث “سوق خاص بالصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة”، وأن يجرى تنظيمه على أساس اللّامركزية في تنفيذ العمليّات في عِدة مناطق تشمل كلّ جهات الوطن وخارج الوطن كذلك، ومن المنتظر أن يحقّق هذا السّوق نتائج باهرة، بحيث من الممكن أن يضمّ مئات الشّركات والمؤسّسات النّاشئة الصّغيرة والمتوسّطة، وأن يكون منبرا لتحاور المهنيين والحرفيين في مجال التّجارة والأعمال الثّقافيّة والإبداعيّة، كما سيستفيد منه كذلك الحرفيون والمصمّمون والفنّانون في مجال الفنون وممارسو العمل الحر على نطاق صغير، ويرمي إلى توفير فرص جديدة للعمل وييسر النّفاذ إلى أسواق جديدة داخليّة وخارجيّة، ويشجع أيضًا على اِعتماد تنظيم جماعي لمختلف مراحل العمل على نحو يعزّز القدرة على التّعامل التّجاري، ويزيد قوّة الاِقتصاديات المحليّة في المناطق والجهات.
من المهم كذلك التّعاون بين القطاعات المختلفة على إقامة “حاضنات لممارسي العمل الحرّ في مجال الثّقافة والإبداع”، والعمل فيما بعد على اِختيار مجموعة من المشروعات لتزويدها بالتّدريب في المجال التّقني ومجال الشّؤون الإداريّة، وبالمشورة. علاوةً على إنشاء هيئة أو مركز مُتعدّد المرافق، وذلك بتنظيم سلسلة من حلقات العمل المتنقلة عن الاِقتصاد الإبداعي، والمُدن المبدعة، والتّنمية المحليّة، وذلك كخطوة أولى نحو إقامة البرنامج الثّقافي والإبداعي الوطني.
وفي هذا الصدد يمكن كذلك الاِشتراك مع مختلف القطاعات الأخرى ذات العلاقة لإنشاء المرفق الوطني لدعم المؤسّسات المصغّرة والصّغيرة، أو يمكن أن يطلق عليه تسمية “دار الاِقتصاد الإبداعي”. ومن المهم تنشيط هذا المرفق في مجال ترويج الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي، كما يمكن تمويله بمشاركة القطاع العام والقطاع الخاص على حدٍ سواء، من خلال تخصيص نسبة من إجمالي إيرادات المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة الحجم لهذا الغرض.
هذا يُؤكد أهمية وضرورة تطبيقات الإدارة الرقميّة في مشاريع المؤسّسات في قطاع الثّقافة والفنون.
صحيح جداً. فقد كان للتّحولات التّكنولوجية المتّسارعة واشتداد درجة المنافسة وخاصّةً في ظلّ الاِقتصاد الجديد، الّذي يُعرف باِقتصاد المعرفة، دور مُهمً في سعي المؤسّسات نحو التّغيير المُستمرّ والبحث عن التّميّز، وذلك لضمان بقائها واستمرار نموّها في عالمٍ مفتوح.
وهي رهانات جديدة دفعت إلى تغيير أشكال وأنماط عمل المؤسّسات جذريًا؛ فأصبحت الدّول والمؤسّسات التي تمتلك ناصية التّكنولوجيا ومشتقّاتها هي التي تستطيع المنافسة والتّطور والتّنمية، أمّا تلك التي لا زالت تتبنّى النّماذج التّقليديّة والّنمطيّة فلم تعد قادرة على مسايرة الرّكب السّريع، وبقت عاجزة لا تقوى حتّى على ضمان استمراريّتها.