عبر التاريخ الطويل الّذي مرت به المسرحية بوصفها نصًا قابلاً للعرض ظلّ يتجاذبها قطبان هُما النص والعرض، وكيفيّة تحويل الأوّل إلى صيغة وهيئة الثاني/العرض يؤديه الممثلون على خشبة وأمام جمهور بكيفيات خاصة تجمع اللّغة والأداء الحركي والصوتي.
كلّ هذا داخل المسرح الّذي يختلف عن المسرحية، فهي في تمايزها عنه “نعني بها النص المسرحي القابل لأن يُمثّل”. وعبر هذه الثنائية ظهرت عدة إشكالات خاصة بالعناصر المسرحية أثناء الأداء وكيف يتم التحوّل من اللّغة إلى العرض وآليات وقواعد هذا التحوّل الّذي يمس مختلف العناصر المسرحية.
لهذا تدل المسرحية في أحد أوجه مفهومها “على شكل من أشكال الكتابة، يقوم مع عرض المتخيل عبر الكلمة” وهنا مَكْمن الصعوبة في التحوّل. فالنص المكتوب يمر بمراحل كثيرة ومعقّدة قبل وصوله إلى مرحلة العرض حيث تستوي المسرحية مقدّمة كلّ عناصرها البنائية والفنية بِمَا فيها النص ذاته، إضافةً للممثلين وما يؤدونه من حوار وما ينتج عنه من تأزم وصراع..
وهي عناصر حسيّة مُلاحَظة من طرف الجمهور إضافةً إلى عناصر أخرى مُساهمة في العمل لكن في الخفاء كالمخرج ومساعديه ومسؤولي الإضاءة. وغيرها من العناصر التي تتظافر جميعها في تقديم المسرحية المعروضة (المسرح).
وانطلاقًا من هذا التحوّل في بناء النص تتأسس جمالية خاصة بالمسرحية مبنية على تأثير العرض في الجمهور المدرِك أنّه يتابع عرضًا مسرحيًا أصله نص مكتوب، ويتم تتبّعه بشكلٍ مباشر وحضوري، فالمكان والزمان واحد للمسرح وتلقيه. لكن هذا كلّه يصيبه التحوّل من جديد والتشظي الأكثر غرابة وتيها عندما يدخل العمل المسرحي المضطرب في أساسه إلى العالم التفاعلي الرقمي وتكنولوجيا التواصل السريع، لتتحوّل المسرحية إلى التفاعل وتأخذ بعْداً ومفهومًا مُغايراً لما كانت عليه، فهي تعتمد على برمجيات خاصة في تقديم متنها كما تُشرك المُتلقي في عملية البناء وتمنحه فرصة الإضافة والتعديل من خلال نصها المفرّع الإيجابي.
بهذا يعد المسرح التفاعلي (الرقمي) من أهم الأجناس الأدبية التفاعلية وأكثرها تعقيدًا من حيث البناء والتلقي. وذلك اِنطلاقًا من طبيعة المسرح/المسرحية كجنس أدبي وفني قبل دخوله مجال التفاعلية الرقمية، فهو اِلتحام النص (المسرحية) بالعرض كما يستوجب الجمهور المُتلقي في إطار زماني ومكاني محدّد، ومن خلال مُختلف مقوّمات المسرح تبرز إشكالات كثيرة بدخوله مجال التفاعلية الرقمية.
فأغلب المقوّمات تغيب ماديًا لتحضر رقميًا/اِفتراضيًا، فالجمهور خلف الشاشات ومن فئات مختلفة. والمنتج هو ذاته صاحب النص، والديكور والسينوغرافيا رقمية بشكلٍ كامل، ولا توجد خشبة ولا مكان محدد أمّا الزمان فهو غير منته لأنّ المسرح التفاعلي في عرضه وتلقيه في زمن متواصل دون اِنقطاع، فهو منتشر عبر الشبكة، بهذا تظهر إشكالات كثيرة في التأسيس لمسرح تفاعلي رقمي، وقد حاول عدد من المشتغلين عن الأدب التفاعلي تقديم تعريف تقريبي للمسرح التفاعلي فهو حسب الناقدة فاطمة البريكي “نمط جديد من الكتابة الأدبية، يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الّذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عدّة كُتّاب. كما قد يدعى المتلقي/المستخدم أيضا للمشاركة فيه، وهو مثال للعمل الجماعي المنتج، الّذي يتخطى حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعية الرحبة”، اِنطلاقًا من هذا المفهوم تظهر التشاركية في البناء النصي للمسرح التفاعلي كما تبرز قيمة المتلقي العالية في عملية البناء فهو ليس متلقيًا سلبيًا بل إيجابيًا وفعّالاً.
كما تجدر الإشارة في هذا الموضع إلى تداخل كبير في مفهوم المسرحية التفاعلية بين بعْدها الرقمي الّذي نقصده وبعدها التفاعلي الواقعي كما في “المسرح التحفيزي” حيث يشارك الجمهور في العرض بتفاعله المباشر والحي مع الممثلين وليس شرطًا أن تكون هناك خشبة ومقاعد، ويبدو أنّ الناقدة فاطمة البريكي قدّمت المسرح التفاعلي في بدايتها وفق الشكل التحفيزي، ثم بدأت الكلام عنه رقميًا في العناصر الأخرى بعد ربطها إياه بالتكنولوجيا والثورة المعلوماتية، ويتأكّد جنوحها في البداية إلى التفاعلي/التحفيزي في العنصر الأخير من هذا المبحث حيث قامت بإجراء مقارنة بين المسرح التقليدي والتفاعلي/التحفيزي، لهذا سنحاول خلال كلامنا عن المقارنة بين الشكلين الإشارة فقط للشكل التفاعلي التحفيزي الّذي يعد أحد مستويات التفاعل لكنّه غير المقصود، فتوجّهنا أكثر للتفاعلي الرقمي ومن أوجه الاِختلاف نذكر:
–المسرح التقليدي يعتمد على واقع محسوس في التقديم فيتشكل من خشبة وصالة عرض وجمهور… بينما التفاعلي الرقمي قد يقيم عرضه في بيئات كثيرة قد تكون واقعية أو اِفتراضية وتقدّم جميعها رقميًا.
–المسرح التقليدي يكون فيه الجمهور من النمط السلبي فهم جالسون ويتلقون النص/العرض، بينما في التفاعلي فهم إيجابيون ومشاركون في العرض. فمثلا في المسرحية التفاعلية التحفيزية يتحرك المشاهدون فيدخلون ويخرجون بحرية متابعين الشخصيات، وفي التفاعلية الرقمية يمكنهم الإضافة والتعديل والحضور أو الخروج من تتبع المسرحية في أي وقت والعودة من جديد فالزمن غير محدّد فهو مستمر حسب شبكة الإنترنيت والاِتصال.
– في المسرح التقليدي لا يتخذ الجمهور أي قرار في الأحداث إنّما هو متلق سلبي عكس التفاعلية فهو يتدخّل في الأحداث فيضيفُ عليها خصوصًا عبر تقنيات الرقمية والروابط التشعبية التي تمكنه من تقديم وصلاته ورؤاه في العرض. كذلك الأمر في المسرح التفاعلي التحفيزي فالجمهور مُشارك ويقدّم رأيه ويتخذ قراره أمام أي تفرّع يظهر أمامه.
–الشخصيات في المسرح التقليدي فيها الرئيسة وفيها الثانوية بينما يختفي هذا في المسرح التفاعلي فالشخصيات على قدرٍ واحد من الأهمية، فتواجدها في فضاء العرض المسرحي في ذات الوقت، مِمَا يكسبها أهمية بالغة، فالمُتلقي يختار ما يتناسب معه لتتبّعه ضمن الأحداث.
–يمكن للمُتلقي في المسرح التقليدي ملاحظة النص المسرحي وهو يطفو فوق الشخصيات كما يفقد الإيهام بالواقعية، بينما في المسرحية التفاعلية/الرقمية لا يمكنه ذلك فكلّ شيء ملتحم ببعضه، وعبر إشراكه في اللعبة يصبح طرفًا في العمل مِمَا يجعله أكثر قربًا منه وجماليته تكون مختلفة، ففيه شيء من الذاتية.
–لا يمكن في المسرح التقليدي تقديم علامات غير لغوية ولا مشاهد تفوق حدود الزمان (وقت العرض) والمكان (الخشبة) لكن هذا يختلف مع المسرح التفاعلي/الرقمي فالزمان والمكان غير محددين إلاّ اِفتراضًا مِمَا يمنح المؤلف/المتلقي إمكانات هائلة في تحميل نصه/عرضه بِمَا يلزم من علامات لغوية وغير لغوية كالأصوات والصور والعروض الحية وغيرها من الأدوات التي تقدّم دعمًا للمسرحية التفاعلية وتعطيها زخمًا جماليًا مُتميّزاً وهو ما يجعل تلقيها يأخذ أبعاداً كثيرة، وهذا سر فنيتها وجماليتها المختلفة.
إضافةً لما تَقدّم يمكن تتبع الكثير من الفوارق بين الشكلين المسرحيين التقليدي والتفاعلي/الرقمي لدرجة أنّنا نصل في بعض المستويات لاِعتبار المسرح التفاعلي/الرقمي جنسٌ آخر يختلف عن المسرح بشكلٍ نهائي وذلك لاِفتقاده لآنية المشهد والتفاعل الحقيقي الواقعي بين الممثلون والجمهور، كما يُناقض أهم مبادئ المسرح الكلاسيكي في وحداته الثلاثة، لكننا لن نُغالي في اِعتباره خارجًا عن المسرح بل هو شكل متطوّر له، وضرورة فرضتها التقنية المُعاصرة والثقافة الرقمية التي تختصر الزمن والمسافة، فما كان للمسرح إلاّ الأخذ بها ليرتقي ويصل إلى كلّ الشرائح مُحققًا أهم أهدافه في التوعية والتعليم والترفيه، كما يعد في شكله الجديد وسيلة اِستقصاء مهمة لتوجهات الجماهير من خلال تعليقاتهم ومشاركاتهم في العمل، كما يُقرّب المسافة أكثر بين المبدع والمُتلقي الّذي تحوّل بدوره إلى مبدع من درجةٍ ما.
بهذا فالتحديات كبيرة أمام المسرح التفاعلي ليُؤسس جماليته الخاصة ويُوجّه الذائقة إلى تتبّعه بالشكل المطلوب مرافقة هذا التحوّل الجديد، الّذي يبني نفسه بالتكنولوجيا والأدب معًا، من أجل تطوير هذا الفن/المسرحية الّذي لا يزدهر في عمومه “إلاّ من خلال التجريب الدائم والمُغامرة المستمرة مع الجديد” وهذه القاعدة التي اتخذتها المسرحية التفاعلية (Interactive Drama) حيثُ بدأت منذ اِنطلاقتها الأولى عالميًا على يد شارلز ديمر-Charles Deemer الّذي يعد رائد المسرح التفاعلي العالمي منذ 1985 حيث قدّم أولى مسرحياته”Château de mort”، ولو أنّها وظّفت تقنيات أكثر واقعية في تحويل العرض من الخشبة إلى الواقع/قصرPittock وهو مكان حقيقي، كما وظفت عدة شخصيات(14 شخصية) كلها رئيسة ويمكن للمتلقي متابعة قصة أي منها على حِدة، وهنا لا يمكن متابعة هذا العمل على أنّه تفاعلي بالمعنى الرقمي الّذي تطوّر فيما بعد، كما نُشير لتجربة المؤلف الثانية في مسرحيته (Seagull)/النورس البحري للكاتب الروسي تشيكوف، حيث حوّلها إلى صيغ “PDF” وربطها عبر الروابط التشعّبية بعد إحداث تعديلات عليها ووضعها في موقع ليتفاعل معها المتلقون، فزوّدها بمفاصل وعقد يمكن المتلقي أن يُبحر في أي فصل من فصولها على الخيار فينتهي بِما لا ينتهي به متلقٍ آخر، وهذا ما يمنح النص حيوية ويجعله أكثر تميّزا عن النص التقليدي المائل إلى الثبات، وهنا يبرز من جديد النسق الأقرب إلى السلبي في تقديم المسرحية، فرغم تفاعل المتلقي مع النص إلاّ أنّه لا يستطيع الإضافة للنص الأصل، كما هو الحال في تجارب أكثر تطوّرا ظهرت فيما بعد، فتفاعله مع هذا النص لا يتعدى الاِنتقال من مستوى إلى آخر في حرية تامة، وتعد هذه التجارب النواة الأولى التي اِنطلق منها المسرح التفاعلي العالمي.
أمّا عربيًا فالأمر مختلف تمامًا فالخطوات مازالت مبكّرة للكلام عن مسرحية تفاعلية ولو بالنسق السلبي، وذلك نظراً لعدة أسباب متداخلة؛ حضارية وثقافية وتكوينية للمسرحيين، وبعضها متعلّق بالمتلقي الّذي يُعاني الغربة القرائية ناهيك عن تفاعله مع الشبكة والإبداع المعروض عليها، ويمكن تلخيص أهم أسباب تأخّرنا في هذا المجال في نقاط محدّدة كالآتي:
–الأميّة الرقمية، فالكثير من المتلقين العرب لا يعرفون استخدام الجهاز الحاسب ولا الدخول إلى الشبكة واستخدام برمجيات خاصة بالمسرح التفاعلي.
–نقص التوعية والتوجيه من طرف الهيئات العربية لبعْث ثقافة رقمية إيجابية بين الشعوب العربية.
–ضعف التواصل مع التجارب العالمية بسبب الاِختلاف اللغوي.
–قلة الترجمات في المجال مِمَا صعّب الأمر على المُتلقي بل على المؤلفين في أن يتحوّلوا إلى التفاعلية في نصوصهم.
–سيطرة الثقافة الكتابية مِمَا صعّب عملية الاِنتقال إلى الرقمية.
–عدم توفر التغطية الكاملة للشبكة مِمَا يجعل الكثير من الشرائح العربية معزولة عن البقية والعالم.
–ضُعف التكوين لدى المؤلفين في مجال المعلوماتية وتكنولوجيا الاِتصال (أغلبهم توجههم أدبي أكثر منه علمي) مِمَا يصعّب عليهم تحويل مسرحياتهم إلى الشكل التفاعلي، فأقصى ما يمكن أن يقدّموه هو تحويلها لصيغ مصوّرة وعرضها ككتاب إلكتروني، وهذا يجعل من التفاعلية أقل.
–تداخل مفاهيم التفاعلية وعدم الاِستقرار على مصطلح موحّد ناهيك عن المفهوم المضطرب، فهو خارج الرقمية عبارة عن التفاعل الحقيقي الواقعي الّذي نرصده في المسرحيات التفاعلية الواقعية أو ما يُعرف بالمسرح التحفيزي بحيث يتورّط المتفرج/المتلقي في اللعبة المسرحية في كلّ مراحلها وأن يناقش ما يراه، وعبر دخوله إلى الرقمية يبدأ الاِضطراب فتتعدّد الطرائق والمسارات دون ضوابط موجّهة.
–عدم تبني المؤسسات المختلفة (معاهد، جامعات، جمعيات ثقافية) التوجه نحو الرقمية والتفاعلية في الأدب عبر تدريس أسسه وتخريج مختصين في المجال سواء مؤلفين أو مخرجين أو مسيرين لهذا الشكل الجديد.
إضافةً لعدة أسباب أخرى بعضها مرتبط بالحالة الاِجتماعية التي يعيشها المجتمع الجزائري والعربي اليوم، وأخرى بالحالة السياسية والثقافية التي تعاني الركود والخمول منذ عقود أمام الحركة الدائمة للآداب العالمية بشكلٍ عام.
لكن رغم كلّ العوائق برزت بعض التجارب اليتيمة التي قدّمت عيّنة من المسرح التفاعلي العربي في إحدى صوره وأقسامه إنّها تجربة “محمّد حسين حبيب”/د.حازم كمال الدين، وأصدقائه في بلجيكا من العرب والبلجيك، حيث تخلّصت المسرحية من الإطار الشكلي المعروف والمألوف من خشبة مسرح وجمهور، بل كانت مقهى في بلجيكا وآخر في بغداد وعدد من الأجهزة (كمبيوتر-أجهزة إضاءة-ساحة المقهى هنا وهناك) ثم فريق هنا للمشاركة والمتابعة، وفريق هناك كذلك. قدمت المسرحية بالفعل في 20آذار2006. عبر هذه التجربة ظهرت البوادر الأولى للمسرح التفاعلي الّذي يوظّف بعضا من الأدوات الرقمية.
اِنطلاقًا مِمَا تقدّم تظهر إشكالات البناء النصي سواء في التجربة الغربية أو العربية، فالاِنطلاق لا يكون في العادة من نص مكتوب بشكلٍ كامل لكنّها فكرة/نواة تُترجم في برنامج حاسوبي ويتم التواصل من خلاله بين الفنانين لدعمها وتطويرها كلٌ في مجاله ووفق خبرته الفنية، كما قد يُشركون المتلقين في عملية البناء، خصوصًا بالعروض الموجودة على الشبكة في مواقع خاصة، “بهذا فإنّ التجريب في التأليف المسرحي التفاعلي يعد شكلاً مغايراً، فهو يقوم أوّلاً بإلغاء شخصية المؤلف الأساس ويمكن لأي قارئ أن يكون مؤلفًا آخر بمجرّد الدخول إلى موقع أحداث المسرحية الاِلكترونية ويُساهم في تكملة الأحداث التي لا تنتهي، كأن يختار شخصية معينة ويهتم بها لغرض تفعيل مسيرتها الدرامية” وهنا مَكْمن التفاعلية الحقيقي والمنتج لعدد لا نهائي من النصوص المتوالدة.
ويبدو بوضوح أزمة تلقي هذا النص/العرض المختلف، فمستويات المتلقي العربي مختلفة وفقًا لمرجعياته وتوجهه عمومًا، لهذا فالمسرحية التفاعلية على محك الجمالية من حيث القبول أو الرفض، فعليها على المستوى الجزائري والعربي تقديم بديل أرقى كي يتفاعل معه الجمهور ويتوافق مع أفق توقعه الّذي صار يُنتجه بنفسه عبر التفاعل، فيؤسس بذلك لقواعد جديدة في عملية التلقي تختلف عمّا كانت عليه في الكتابة الورقية، كما يقيم أسسًا لجمالية أكثر تشعّبًا وتداخلاً من حيث الفنون، وهذا ليُساهم في تطوير هذا الشكل المسرحي التفاعلي.
تشكيلات المسرح التفاعلي/نتائج
عبر رصد بعض الأمثلة العالمية والعربية في المسرح التفاعلي (رغم أنّها لا تمثّله بشكلٍ كامل وحرفي كما في مفهومه الشامل) يمكننا الوصول إلى عِدة تشكيلات مختلفة تقترب منه أو تبتعد عنه حسب التجربة ورؤية صاحب النواة الأولى، ونجد لهذا التشكيلات أو المستويات والأنماط التجريبية حضوراً في المدونات العربية النقدية/المؤرخة للمسرح التفاعلي، حيث مزج بعضهم بينها في توصيف متداخل وقدّم آخر شكلاً وأهمل أو رفض غيره، ومن هذه التشكيلات نذكر:
–الشكل الّذي يعتمد على توظيف التقنيات الرقمية وتكنولوجيا التواصل لتقديم نصه/عرضه فتكون مساهمة في صناعة المشهد، كما تمكّن المتلقي من المشاركة الفاعلة في العرض الحي، كما مر بنا في تجربة محمّد حسن حبيب ومقهى بغداد، الّذي يُؤسس للمسرحية الرقمية وفق هذا التصوّر.
وتأتي مقالاته ودراساته وحتّى الحوارات التي أُجريت معه معبّرة عن توجهه نحو الإنتاج الرقمي للمسرح وتفعيل دور هذه التقنية في تحميل النص بأبعاد فنية وجمالية جديدة “فالمسرح الرقمي كما يراه، هو الّذي يُوظف معطيات التقانة العصرية الجديدة المتمثلة في اِستخدامه الوسائط الرقمية المتعدّدة في إنتاج أو تشكيل خطابه المسرحي، شريطة اِكتسابه صفة التفاعلية”، ويبدو تركيز الناقد على التفاعلية لكن هل هي تفاعلية رقمية اِفتراضية يقوم بها المُتلقي أم من النوع التحفيزي والمُشارك في العرض الحقيقي الّذي يُوظف أيضًا التقنيات الرقمية، كذلك تظهر آراؤه في دراسات مختلفة ومن ذلك مقاله الّذي تقدّم الاِعتماد عليه “نظرية المسرح الرقمي” المنشور في جريدة المدى الإلكترونية.
–من الاِتجاهات كذلك نلاحظ تحويل النصوص المسرحية إلى رقمية (رقمنة) لكنها أكثر تشعّبًا من النص الخطي فيكون التحويل عبارة عن إعادة كتابة، كما فعل ديمر مع مسرحية تشيكوف (Seagull)/النورس البحري، حيث تحولت إلى صيغة ثابتة الشكل الكتابي “pdf” لكنها متحرّكة في الداخل وتمنح المتلقي إمكانات كثيرة للوصول، ومسارات متنوعة للقراءة مِمَا يُحقق لها مقداراً من التفاعل.
لكن هذا لا نجده مع نصوص أخرى مرقمنة من ذات الشكل، لهذا تجدر الإشارة في هذا المقام إلى عملية الرقمنة وهي تحويل النص المكتوب إلى رقمي عبر تصويره وتحويل صيغته، وهذا لا يولّد تفاعلاً، فهو فقط مجرّد نقل للصيغة حيث يمكن قراءة العمل ورقيًا، فالأدب الرقمي -عمومًا- في هذه الحالة لا يكون في أغلب الأحيان سوى “أدب مُرقمن”، أي مجرَّد إعادة تدوير لنصوص منشورات كلاسيكية في وسيط جديد، وهذا قد يصادفنا في بعض الأعمال المسرحية فتحويلها لصيغة “pdf” وعرضها في الشبكة لا يعني أنّها أصبحت تفاعلية فهي تحويلٌ للنسخة الورقية ليسهل اِنتشارها، لهذا فالتفاعلية لا ترتبط بعرض النص فقط بل في مدى تأثيره في المتلقي ومشاركة هذا الأخير في صناعته ودفعه نحو اِتجاهات مختلفة، أو حرية الدخول إليه من أي مستوى أراده.
–أمّا الاِتجاه الأكثر قربًا من التفاعلية المسرحية المطروحة في المفهوم، فهو الّذي يتبنى مبدأ تقديم النص/العرض المسرحي بشكلٍ كامل على الجهاز عبر برامج مُحدّدة يتواصل من خلالها المُمثلون والمتلقون وتربطهم في ذلك شبكة الأنترنت، فيصبح العمل جماعي يشترك فيه كلّ القُرّاء وليس حكراً على مبدع واحد، “بهذا تتجاوز المسرحية التفاعلية الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الّذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عِدة كتّاب، كما يُدعى المتلقي/المستخدم أيضًا للمُشاركة فيه، وهو مثالٌ للعمل الجماعي المُنتِج”، وكأنّ العملية هي خلقٌ مُستمر حيث يطرح طرفٌ الفكرة بملامح باهتة ويأتي المبدعون/المتلقون ويلبسونها حُلَلا مختلفة حسب توجهاتهم، وتظل العملية متوالدة منتجة نصًا لا ينتهي إلاّ بنهاية قُرائه، فيمنح مسارات كثيرة ومختلفة للولوج إليه متجاوزا حدود الزمان والمكان واللّغة كما يُوظّف أدوات فنية أخرى تُساهم في إكسابه جمالية على غير مثال.
كما نُشير في هذا الموضع إلى عدم اِتضاح الرؤية التقسيمية لهذه التشكيلات عند عدد من النقاد وتداخل التقسيمات عند آخرين، فمثلاً نُلاحظ في مفهوم البريكي للمسرح التفاعلي شقين منفصلين لتقديم هذا النمط المسرحي رغم جمعها بينهما، فنجدها في البداية تذكر بأنّ هذا النمط التفاعلي من المسرح يمكن الحصول عليه في الأقراص المدمجة/كُتب إلكترونية بصيغة “pdf” يمكن تحميلها على الجهاز من بعض المواقع، ويعد هذا التوجه في توصيف المسرح التفاعلي محدداً بمجالٍ خاص لا يتعداه فهو سلبي ولا يُشرك المُتلقي في بنائه بل لا يمنحه أحيانًا القدرة على الاِنتقال الحر بين فصوله، وفي ذات الوقت نجدها تُكمل تقديمها لهذا النمط المسرحي في أنّه يمكن العثور عليه في شبكة الأنترنيت والفضاء الاِفتراضي، فينتفي عنه البُعد التقليدي في وجوده على الخشبة وداخل صالة العرض، ثمّ تواصل كلامها عنه عبر عرضها لعلاقته بالنص المتفرّع وأنّه يعتمد عليه داخل الشبكة كما في قولها: “لعلّ كتابة النص المسرحي التفاعلي بتقنية (النص المتفرّع) هي التي فتحت له أبواب التفاعلية؛ فوجود عقد نصية، وروابط تشعّبية، خاصة بكلّ شخصية من شخصيات (المسرحية التفاعلية)، أو بكلّ حدث أو عقدة فيها، يُساعد المُتلقي/المُستخدم على تتبّع خط سير الشخصية التي جذبته أكثر من غيرها… إنّه يستطيع القفز من مكانٍ إلى آخر تابعًا شخصيته التي يُريد، ومُتعمقًا فيها، ومُضيفًا إليها في بعض النصوص، من خلال التعليقات المُباشرة، أو الرسائل البريدية…
أمّا من جهة المبدعين فيبدو الفعل التفاعلي بشكلٍ مُختلف، إذ يستطيع كلّ مبدع اِختيار شخصية ما في العمل المسرحي ليتكفل بالكتابة عنها”، وعبر هذا التوجه تُقدّم البريكي شكلاً آخرا للمسرح التفاعلي وهو الأقرب للمفهوم الإيجابي لهذا الشكل الجديد، فيُشرك المتلقي/المبدع في اللعبة البنائية، ولا يكتفي بالتوجيه كما في نسقه السلبي، بهذا تقدّم الكاتبة لنمطين من مستويين مختلفين وجاء تقديمها متداخلاً، والأقرب في تصوّري للتفاعلي هو الثاني بِمَا يمنحه من إمكانات للمُتلقي للإضافة والتعديل، كما يُقدّم للمسرحية عناصر ومقومات جديدة غير لغوية متوفرة على الشبكة، فيجعلها أكثر فنية وأقدر على تمثّل وتقديم جمالية مُغايرة للسائد المسرحي.
لهذا فأنماط تقديم المسرحية التفاعلية مُتعدّدة ومختلفة حسب التجربة ومدى مساهمة التقنية في منح المُتلقي قدراً من التفاعل معها، وعليه اُعتبر شرط التفاعلية في المسرح التفاعلي هو مدى مساهمة المُتلقي في بنائه وتفاعله معه.