يثير الكاتب نور الدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في ألمانيا.

غير أنّ الأقدار لم تكتب للزّهراء أن تُعمّر أكثر من 75 عامًا. فبدأ نجمها في الأفول مباشرة بعد وفاة الحكم المُستنصر باللّه، وبداية بزوغ نجم محمّد بن عامر الملقّب بالحاجب المنصور الوصيّ على الخليفة الصّغير هشام الؤيّد ذي الإثنى عشر ربيعًا.
تقول الرّواية المتواترة أنّ أوّل عمل قام الحاجب المنصور أن حجر على هشام، واستجمع كلّ السّلطة في يده، وحطّم كلّ معارضة ومقاومة لمُلكه، ثمّ بنى مدينة جديدة سمّاها بالعامريّة على نهر الوادي الكبير شرقي قرطبة لتكون مقرّا لملكه، ونقل إليها دواوين الدّولة، فصارت الخلافة إلى شبح باهت، وصارت الزّهراء إلى دارٍ من غير ساكنين،اللّهم إلاّ من هشام وأهله.
أدّى إدخال المنصور لبربر شمال إفريقيا إلى الأندلس إلى استياء كبير في البيوتات القرطبيّة العريقة،سواءً العربيّة منها،أو البربريّة،أو الموالي الاسبان، لكنّ شدّته وبطشه بها ومطاردته لرجالها، تركها عاجزة لا تجرؤ على القيام عليه.
عندما تعود إلى المدخل الشّمالي للزّهراء عند سفح جبل العروس، وتتأمّل أطلال المدينة، وأطلال قصورها ودورها من عالٍ، وترى حجم الخراب والدّمار الّذي لحق بها، لابُدَّ أن تتوارد عليك مشاعر الأحزان والحسرات، وتنهال عليك الخاطرات والأشعار، فتجد نفسك تردّد رثاء الشّاعر السّميسر للزّهراء دون وعيٍ منك:
ــ وقفت بالزّهراء مُستعبرًا… معتَبرًا أندُب أشتاتا.
ــ فقلت يا زهرا ألا فأرجعي… قالت وهل يرجع من ماتا؟
ــ فلم أزل أبكي وأبكي بها … هيهات يُغني الدّمع هيهات
ــ كأنَّما آثار من قد مضى … نوادبُ يندبنَ أمواتًا
ولا بُدّ أن يسري إلى خاطرك هذا السّؤال: ما الّذي جرى للزّهراء، وماذا حلّ بها، ولن يُسعفك في هذه حال إلاّ ما دوّنه ابن عذارى المرّاكشي، وابن خلدون والمقري عن دور المنصور في هجران النّاس المدينة، ودور ابنه شنجول، والمهدي بن هشام في اندلاع الفتنة الكبرى في قرطبة وكيف أتت على كلّ شيء بالزّهراء، وأكثر من ذلك إلى زوال حضارة الإسلام من الأندلس، فكلّهم أجمع أنّه:
رغم الأمجاد العسكريّة التي حقّقها المنصور وما أسبغه حكمه على قرطبة من أسباب السّكينة والأمن والرَّخاء، إلاّ أن ذلك لم يُنس المدينة توقها لعودة السّلطة الأمويّة الشّرعية التي قضوا تحت حكمها أكثر من ثلاثة قرون، فما أن أعلن عبد الرّحمان شنجول ابن المنصور، أنَّ هشام المؤيّد عيّنه وليًّا للعهد،حتّى قوبل هذا الإعلان بالرّفض الشّديد من البيوتات القرطبيّة،وثارت العامّة بالمدينة، وشفت غليلها بنهب الزّاهرة مقرّ حكم المنصور، وانتهبت ما فيها من الكنوز، ثمّ تركت المدينة للنّيران.
ثمّ إنثالت إلى أولئك البربر الّذين جاؤوا من عدوة المغرب فأعملت في ديارهم التّدير والنّهب وقتلت كبراءهم، وهتكت حريمهم فاشتعلت الفتنة بقرطبة بين العامّة والبربر وبين البربر، والفتيان العامريّين سنين، وتوالت الخطوب على قرطبة حتّى وصلت إلى الزّهراء فتداول على نهب خيراتها وتدميرها وإحراقها البربر الّذين جاؤوا من عدة المغرب، والفتيان الصّقالبة، فبيعت حجارتها وأبوابها وكلّ ما زُيّنت به جدرانها، كما بيع ما نجا من مكتبة الحكم المستنصر من أجل سدّ العجز المالي للدّولة أيّام الفتنة.
ذكر ابن عُذارى أنّ قوّات من البربر زحفت مع سُليمان المُستعين على قرطبة، واقتحمت في طريقها مدينة الزّهراء ففتكت بساكنتها وعاثت في أحيائها، وأحرقت المسجد والقصر الملكي، وتركت المدينة قاعًا صفصفا، وأطلالاً دارسة بعد أن كانت وحيًا للشّعر والخيال. ثمّ انطمرت المدينة تحت التّراب،ولمّا احتلّت قشتالة النّصرانيّة مدينة قرطبة سنة 1236م كانت الزّهراء قد نُسيت وانمحت ذِكراها.وكأنّي بالقدر ألهم المنذر بن سعيد فإستشعر مآل المدينة. فنطق شعرًا:
يا باني الزّهراء مُستغرقًا… أوقاته فيها أما تُمهل
للّه ما أحسنها رونقًا… لو لمّا تكن زهرتها تذبلُ
لم يُشرع في البحث عن الزّهراء إلاّ بعد أن تُرجم كتاب أحمد بن محمّد المقّرّي “نفح الطّيب من غُصن الأندلس الرَّطيب” إلى اللّغة الإنجليزيّة في بدايات القرن ال20. وأنّ الّذي أكتشف إلى حدّ الآن لا يتجاوز الـ 10% من حجم مساحتها.
أنهيت جولتي بين أسوار المدينة، وبين جدران بيوتها تحت لفح الشّمس الحارقة، ثمّ عُدت إلى موقف الحافلة أمام السّور الّذي يحوي خزّان الماء الّذي كانت ترتوي منه ساكنة المدينة، ومنه تسقي جنانها، وركبت إلى قرطبة.
عندما وصلت إلى قرطبة كانت السّاعة قد تجاوزت الثّالثة بقليل، وكنت أنوي أن أصلّي الجمعة في مسجد الأندلُسيّين،غير أنّ الوقت فاتني، فآثرت اللّجوء إلى الفندق لأحتمي به من قيظ هذا اليوم، وأخفّف بعضًا من وعثاء ترحالي.
لم أذهب في تجوالي مساء هذا اليوم بعيدًا، ولم أفعل جديدًا، اللّهمّ إلاّ أنّي زرت الرّبض الجنوبي وراء قنطرة المدينة، ونافورة أبي العافية ثمّ عدتُ بعدها أدراجي فوق قنطرتها إلى مأواي.
حشايا البيت الأندلسي ..
اليوم هو الرّابع عشر من أغسطس، وهو آخر يومٍ لي في قرطبة، ففي الغد سيكون الرّحيل إلى غرناطة.أريد أن أقضي يومي هذا متجوّلا بين أزقّة المدينة القديمة وبين أرباضها، فأتملّى بنفسي طريقة بنائها، وأجتلي كيف كانت الحياة فيها قبل أكثر من عشرة قرون.
بدأت تجوالي كعادتي من المقهى الّذي فضّلته من ثالث يومٍ لي بالمدينة لتناول قهوة الصّباح، وهو مقهى يقع في شارعٍ مقابلٍ للمدينة القديمة، يُمكنني منه أن أملأ عيني، ومخزون ذاكرتي من جمال وتاريخ دار الإمارة وأبراجها، وأسوار المدينة وبيوتها.
أخذت كعادتي أخذت قهوتي، ثمّ مشيت بمحاذاة بقايا السّور العربيّ، مارّا بتمثال ابن رُشد وبأحواض الماء المتدرّجة، حتّى وصلت إلى مِسطبة عند مدخل باب المُدوّر الّذي سألج منه إلى المدينة القديمة عندما أنتهي من فنجان قهوتي.
دخلت المدينة من الباب الّذي دخل منه ابن رُشد، وابن طُفيل، وابن زيدون…وسرتُ إلى اليسار على حجارة الدّروب القرطبيّة الضّيقة التي لا تتّسع إلاّ لنفر من الرّجال، أو لدابّتين أو ثلاث. سرت أتملّى في جدران البيوت القديمة وشبابيك نوافذها، وعقود أبوابها.
أنتظر أن يناديني صوتٌ من داخلها ممّن سكنها قبل سبعة قرون من المُسلمين، أو أن أختلس من قفل الباب نظرة إلى إحدى الدُّور لعلّي أرى جارية قرطبيّة تُزيّن فناء بيتها فتُعلّق الزّهور في آواني فَخّاريّة على الجدار.أو أرى جارتها وقد خرجت لتسقي الزّهور، أو تقطفها كي تُزيّن بها بهو المنزل.
فمازال تعليق الزّهور على الجدران عادة تتوارثها الأسر الإسبانيّة التي سكنت المدينة بعد طرد المُسلمين منها. مثلما مازالت حدائق البيوت، وزخرفات الجدران كما هي، تُحدّثنا عن حياة أمّة تسنّمت ذرّة الازدهار في القرن الـ10 إلى يوم السّقوط بين أضراس الغازي المتوحّش، أمّة ظريفة ومبدعة تعلّقت بالحياة وأحبّتها، مثلما رغبت في الآخرة وعملت لها.
جاء في كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون: إنّ الفنون وليدة مشاعر الأمم، واحتياجاتها ومعتقداتها كالنّظم، وإذا تحوّلت هذه المشاعر، والاحتياجات، والمعتقدات، وجب أن تتحوّل نظم تلك الأمم وفنونها أيضًا…
كان خيالي يرنو أن يرى كُتبيّا يفتح باب حانوته، ويفرغ حمولة الكتب التي جاءت إلى قرطبة من ميناء بجاية، ويصدح أن قد وصل من بغداد كتاب ألف ليلة وليلة، ومن تونس كتاب أبي زيد القرواني، ومن تلمسان شرح ألفيّة ابن مالك،فيتسارع إليه الطّلبة والعامّة فيُساومونه في الكتاب. ويزيد بعضهم على بعض في ثمن الكتاب.
ليس هذا الحلم من وحي أوهامي، بل هو حلم من وحي قرطبة ومن وحي منتزهاتها ومكتباتها، ومن طرائف الأدب والثقافة بها إبّان الأزمان الزّاهرة فمن الطّرائف التي تزخر بها كتب تاريخ قرطبة في القرن الـ10م مثلما ساق المقري في كتابه ” غصن الأندلس الرّطيب “:
أنّ الحضري وهو أحد طلبة العلم من خارج قرطبة أقام بها مرّة، ولازم سوق كتبها مدّة يترقّب كتابًا كانت له فيه حاجة، إلى أن وقع عليه، ففرح به أشدّ فرح، وجعل يزيد في ثمنه، فيرجع إليه المنادي بالزّيادة عليه، إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتّى بلّغه إلى ما لا يُساوي، فأراني شخصًا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعزّ اللّه مولانا الفقيه، إن كان لك غرضٌ في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت فيه الزّيادة بيننا فوق حدّه، فقال لي: لست فقيها، لست أدري ما فيه! ولكنّي أقمت خزانة كتبوا احتفلت فيها لأتجمّل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب فلمّا رأيته حسن الخطّ، جيد التجليد استحسنته! فلم أُبال بما أزيد فيه!”.
يبدو أنّه صار لي ألفة بالمكان فلم يعد خيالي يجنح بي كثيرا، فلم أرَ، ولم أسمع لا هذا ولا ذاك، وكلّ الّذي رأيته أخلاطٌ من الأجناس غرباء مثلي جاؤوا من بقاع العالم الأربعة إلى هذه المدينة العتيقة كي ينظروا إلى حجارة المباني، وتقسيمات الجدران وانتظام أقواس الأبواب، كي تستحثّ خيالهم فيسمعوا حديثها عن أصحاب هذا الفنّ وعن خيالهم في ذاك الزَّمان، وعن مشاعرهم، وأذواقهم، وعواطفهم، ومزاجهم الإبداعي.
وصلت لتوّي إلى البيت الأندلسي بعد طول بحثٍ، وتيه بين أزقّة المدينة. يقع البيت في ما يُسمّى اليوم بحارة اليهود (الجُديرة)، وهو بيت اشترته سلمى الفاروقي وهي سيّدة فلسطينيّة من أراضي 48. أريد الآن أن أتصفّح ما في حشاياه مثلما يتصفّح القارئ صفحات الكتاب.
يتّبع البيت الأندلسي نظام الدّار التي تقوم حول فراغ مركزي يتمثّل في الصّحن (الحوش) الّذي تتوزّع حوله الغرف والأبهاء، ومثلما عاينّا فإنّ الأبهاء تكون غالبًا في الطّابق الأرضي، وتكون الغرف في الطّوابق العُلويّة. ويتوسّط هذا الفراغ حوض تمدّه فوّارة في وسطه بالماء، ويتناغم خرير الماء مع حجم الحوض، وشكل المكان، ممّا يسكب على الرّوح طُمأنينة وسكينة. وبمجرّد تجاوزك عتبة البيت إلى الفناء تقابلك في مقدّمته عقود أجوريّة حمراء داكنة تقوم على دعائم رُخاميّة، وتزيّنها زخارف نباتيّة. وعلى جوانبها منمنمات مغاربيّة، وتتفيّأ بظلال أوراق شجرات اللّبلاب التي تمتدّ في طولها إلى شرفات ونوافذ غرف الطّابق العلوي.
وعبر هذه الأقواس المزخرفة تلج إلى بهو الضّيوف،وفيه من الأثاث والأواني جميع ما استطاعت صاحبة الدّار جمعه من ذلك العصر، بعدها تخرج إلى رواق صغير مقوّس تتسرّب أشعّة الشّمس عبر نوافذه ثمانيّة الأضلاع حتّى تصل إلى الفناء الخلفي، فتجد نفسك وسط حديقة صغيرة لا تختلف عن الحديقة الأماميّة إلاّ بوجود الوعل الأندلسيّ الّذي ينثر الماء وسط حوض أكبر. ثمّ تخرج عبر البناء المكمّل لبهو الضّيوف إلى الفناء الأمامي.