يثير الكاتب نور الدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في ألمانيا.
في الحقيقة أنا لم أرَ دار الإمارة بل رأيت جزءًا صغيرا منها، فدار الإمارة في أصلها كانت تصل إلى المسجد الجامع ولها باب يُسمّى باب السّاباط ومنه كان أمراء بني أُميّة يدخلون إلى المسجد ليؤدّوا فيه فرض الصّلاة، أو ليأخذوا البيعة من المسلمين.
كما أنّه ليس هناك في القصر ما يغري عين المُشاهد غير الفناء المويسكي، ومنتزه عبد الرّحمان الأوسط وأسوار القصر وأبراجه الأربعة التي بناها أمراء بني أميّة، وجدّدها الموحّدون.
إنّه مهما حاول المنتصرون في الحرب طمس هويّة المدينة، واستبدال اسم دار الإمارة باسم قصر الملوك الكاثوليك، فإنّ الحجر الّذي بقي متراصًّا، أو تهشّم جزءه،والبرج الّذي بقي معاندًا وشامخًا، والسّور الّذي بقي صامدًا كلُّها دلائل ناطقة لمن يُحسن السّماع أنّ المنهزم كان أعظم فنًّا، وأرقّ ذوقا، وأرهف وجدانًا وأجمل خُلقَا.
أجل إنّ المنتصر أمكنه أن يقوّض حضارة قويمة من غير أن يقيم مكانها حضارة أخرى، واستطاع أن يُطفئ نور سراج وهّاج كان يُستضاء به، لكنّه لم يستطع أن يُشعل مكانه ولو شمعة.
جاء في آخر صفحة من كتاب “قصّة العرب في اسبانيا” لكاتبه”ستانلي لي بول”: ” ..بقيت اسبانيا قرونًا في حكم العرب وهي مركز المدنيّة، ومنبع الفنون، والعلوم، ومثابة العُلماء والطّلاّب، ومصباح الهداية والنّور ولم تصل أية مملكة في أوربَّا إلى ما يقرب منها في ثقافتها وحضارتها،ولم يبلغ عصر فرديناند وإيزابيلاّ القصير المتلألئ، ولا إمبراطورية شارل الخامس الأوج الّذي بلغه المُسلمون في الأندلس، وقد بقيت حضارة العرب إلى حين بعد خروجهم من اسبانيا وضّاءة لامعةً، ولكن ضوءها كان يشبه ضوء القمر الّذي يستعير نوره من الشّمس، ثمّ عقب ذلك كسوف بقيت بعده إسبانيا تتعثّر في الظّلام”.
بلغنا متحف الزّهراء قبل السّاعة الحادية عشر والنّصف، بدا لي الأمر مُستغربًا ومُحيّرا، فلم ألحظ أيّ أثر للزّهراء، ولا أيّ طلٍّ من أطلالها،ولا نقضًا من أنقاضها، فساورني الشّك والقلق ومع ذلك داريت نفسي ومشيت في أثر الزّائرين الّذين استقلّوا معي الحافلة حتّى دلفت من باب المتحف، ووقفت في الطّابور أنتظر دوري في الاستزادة من توجيهات مكتب الاستعلامات، وعندما تقدّمت بي الخطوات إلى المكتب لمحت عيني فجأة لوحةً صغيرة مكتوب عليها بأربع لغات أوربيّة:
ــ “دار الملك مُغلقة بسبب التّرميمات”
لم أصدّق ما قرأته فبقيت أتملاّه وأعيد تكراره مرّات ومرّات، وبجميع اللّغات، ثمّ حاولت أن أداري نفسي فقلت لها:
— إنّ في الأمر خطأ ما !
فلمّا مثُلت أمام العاملة في المكتب سألتها بنبرة حيرة وخوف:
ــ هل حقّا أنّ دار المُلك مغلقة؟
فجاءني ردّها صادمًا:
ــ أي نعم مغلقة!
كتمت حزني ومررت إلى داخل المتحف أستكشف ما عثر عليه علماء الآثار من أشلاء وأنقاض وما كان مطمورًا تحت تُرابها عشرة قرون، من أواني، وأباريق ومواعين فخاريّة ومرمريّة، وزجاجيّة وبقايا أعمدة وعقودٍ، وبلاطات، وفسيفساء،وزخارف، لم تُكتشف إلاَّ سنة 1910م.
لم أتجوّل كثيرًا داخل المتحف، فجُلّ المعلومات التي يُقدّمها كنت مُلمًّا بها من مطالعاتي في كتب تاريخ الأندلس، وكذلك لأنّ قلبي كان مشغوفًا بما سيرى عندما أخرج من المتحف.
أطلال مدينة الزهراء
بحثت عن مخرجٍ إلى الزّهراء فلم أتبيّن شيئًا، فعدت أدراجي إلى مكتب الاستعلامات أسأل عن الباب المؤدّي إلى المدينة، ففوجئت بردّ العاملة تقول لي أنّ هذا متحف آثار الزّهراء، وأنّ الزّهراء على مسافةٍ قريبة من هنا، وأنّ هناك حافلة خضراء اللّون تنقل السّيّاح من أمام المتحف كلّ ساعة إلى مدينة الزّهراء عند سفح جبل العروس…
الوقت وقت هاجرة، والسّاعة تشير إلى ال12.32 أخيرًا وصلت إلى مُناي وإلى الأمل الّذي كنت أبغي الوصول إليه.
أخيرًا وصلت إلى مدينة الزّهراء. لست أدري أي مشاعر انتابتني لحظتها، فقد وجدت نفسي عاجزة عن التّعبير عنها، وانعقد من فرط الدّهش لساني عن النّطق بما أكنّ صدري. أي وربّي إنّها لمشاعر كثيرة، مشاعر العاشقين، ممزوجة بمشاعر الدّهشة والذّهول، ومشاعر الغبطة والفرح ممزوجة بمشاعر التّأثّر والإعجاب.
فهذا يوم لا يشبه باقي أيّام السّنين التي طُويت من عمري، إذ نسيت أهوال السّفر في الحرّ وعذابات الطّريق، وسُهاد اللّيالي. وكان الوقوف على أطلاها عِوضًا لي عن همّ الغربة، وشدّة كرب البعد عن الأهل والوطن، وتنفيسًا لمشاعر الابتئاس والانقباض التي تسلّطت عليّ، فإنّي لم أذق طعم الرّاحة منذ ال8 من أغسطس، ولا داعبَ النّوم جفوني، ولا غشيني نعاس بحقّ منذ ذلك اليوم.
وقفت على أطلال الزّهراء من جانب سورها الشّمالي المقابل لجبل العروس، قبل أن أدلف إلى المدينة من الباب الشّمالي.
للأسف لم يكن الوقت مناسبًا لزيارة المدينة فلم أرى الكثير ممّا كنت أحلم برُؤيته، وجدنا دار الملك ومجلس الأنس الذين بناهما عبد الرّحمان النّاصر مغلوقتين، كما مُنعنا من الوصول إلى بوابات المدينة الرّئيسيّة، وإلى أنقاض المسجد عند أسفل دار الملك ولم نتمكّن إلاّ من التّجوال بين دواوين موظّفي الدّولة الكبار، ومن هذه الدّواوين ديوان جعفر المُصحفي حاجب الحكم الثّاني وبعض غرف الحرس، ومرابط الخيل، وأحواض لبيوتات المقرّبين من الخليفة، ولم ألمح فناء المسجد وبعض جدره إلاّ من بعيد، وآخر ما وقفت عليه هو خزّان الماء خارج أسوار المدينة والّذي كانت تُروى منه ساكنتها، وتُسقى حدائقها.
لقد آلمني أنّي لم أرَ ما كنت أتمنى أن أراه بالزّهراء، لقد آلمني أنّي لم أرَ دار الملك من داخلها ولم ألقف بين يدي عبد الرّحمان النَّاصر،وأنا الّذي جرّني هواها إلى هذه الأقاصيَّ فهاجرت أهلي ووطني ومكانيّ لأجلها. لولا أنَّ هاتفًا انبعث من أعماقي يواسيني:
“عسى أن يجعله اللّه خيرًا، فتحجج إلى قرطبة، والى الزّهراء مرّة أخرى!”
عندما تقف على أطلال المدينة ستحدّثك بسخاء عن تاريخها، وستستحثّ فكرك ليبحث في الذّاكرة، فيطوي لك قرونًا من الزّمن حتّى تتعايش معه بخيالك، فيتبدّى لك كلّ من ترك أثرًا في أرجائها.
سيتبدَّى لك عبد الرّحمان النّاصر وابنه الحكم المُستنصر، أمّا الأوّل فهو من شرع في بناء المدينة في سفح جبل العروس، وأمّا الثّاني فهو من أشرف عليه وأتمّه بعد موت أبيه.
وسيتبدّى لك الحاجب جعفر المُصحفي إذا أنت وقفت بين أنقاض ديوان الحاجب، وستستحضر النّكبة التي نكّبه بها الحاجب المنصور، وكيف جعله يتمنّى الموت فلا يُدركه،وهو أوّل من مدَّ له يد العون وجعله يرتقي في المناصب حتّى قاسمه منصبه ثمّ خلعه وسجنه ونكّل به.
عندها ستقلّب طرفك في أرجاء المدينة حتّى يتبدّى لك حانوت محمّد بن عامر المعافري عند بوّابة المدينة الكبيرة، يسترزق من كتابة الرَّسائل والشكاوى.كما سيتبدّى لك الملوك والوزراء والرّسل الّذين وفدوا على النّاصر وابنه الحكم يزدلفون إليهما، ويطلبون السلم من الخليفة ويبرمون معه عهود ومواثيق الصُّلح، ويدخلون في طاعته.
وسيتبدّى لك إن أنت أحسنت التّأمّل والقراءة والمُقارنة أنّ الزّهراء هي بحقّ من عظيم وعجيب ما أبدعته العبقريّة الإسلاميّة بعد المسجد في عهد عبد الرّحمان النّاصر،إن لم تكن أعظمها على الإطلاق،فهي بعكس المسجد الّذي مازال قائما يُمكننا أن نتحسّس جماله بأعيننا، وحواسنا.أمّا هي فلا يُمكننا أن نتلمّس جمالها ولا عظمتها إلاّ بخيالنا،ومن خلال ما استجمعته كتب التّاريخ من آثار، وما نظمه الشّعراء عنها من شعر، ثمّ نربط بينه وبين ما أبرزه علماء الآثار في عصرنا الحديث من حفائر أثريّة،وجعلوه مشاهدًا على عظمة المدينة وعظمة بانيها.
جاء في كتاب نفح الطّيب من غصن الأندلس الرّطيب: ” وأمّا الزّهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرّحمان النّاصر لدين اللّه. وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر… وأنّ النّاصر لمّا بنى قصر الزّهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق النّاس على أنّه لم يُبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه قطّ أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد، ورسولٍ واقد، وتاجر جهبذ، وفي هذه الطّبقات من النّاس تكون المعرفة والفطنة، إلاّ وكلّهم قطع أنّه لم يرَ له شبهَا، بل لم يتمثّل كن مثله، حتّى إنّه كان أعجب ما يُؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النّظر إليه، والتّحدّث عنه…”.
ويقدّم لنا ابن حيّان صورة عن عظمة الزّهراء فيقول أنّ ملك النّاصر في الأندلس كان في غاية الضّخامة ورفعة الشّأن…وأنّه لم تبق أمّة سمعت به من ملوك الرّوم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلاّ وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية، ومن جملتهم رُسل ملك بيزنطة فهالهم ما رأوا، وبهرهم هول المجلس … وأنّ النّاصر جلس به ليحيّي رُسل ملوك الرّوم الّذين بعثهم إلى حضرته، وقعد للقائهم يوم السّبت لإحدى عشر ليلةً خلت من ربيع الأوّل 338ه في المجلس الزّاهر مقعدًا حسنًا نبيلاً، وكان قد أمر رجال الدّولة وقُوّاد الجيش أن يعدُّوا لهذا المقابلة خير إعداد،وكان البهو في أكمل زينة،والعرض في وسطه يلمع ذهبه، وتتلألأ نفائس جواهره،ووقف إلى يساره أبناؤه، فالوزراء على مراتبهم يمينًا وشمالاً،ثمّ الحُجّاب من أهل الخدمة، وأبناء الوزراء، والموالي، ورجال خاصّة القصر وغيرهم “.
ولقد فُرش صحن الدّار بعتاق البسط، وكرام الدّرانك. وظلّلت أبواب الدَّار وحناياها بظُلل الدّيباج ورفيع السّتور، فوصل رُسل ملك الرّوم حائرين من بهجة المكان،وفخامة السلطان، ثمّ تقدّموا خُطوات وقدّموا كتاب مليكهم صاحب القسطنطينيّة العُظمى”.
وحصرت الرّوايات العربيّة باعث بناء النّاصر للزّهراء في باعثين إثني، أحدهما سياسي وعَقدِي محض وهو أقرب إلى الحقيقة، وأرجح عند العاقل، وتنقل لنا الرّواية أنّ عبد الرّحمان الثّالث أعلن في الثّاني من ذي الحِجّة سنة 316ه (جانفي 929م) نفسه خليفة للمسلمين وتسمّى بأمير المؤمنين النّاصر لدين اللّه.ودُعي له من أّوّل جمعة على منبر المسجد الجامع بقرطبة بدعاء الخلافة.
وهذا بعض ما جاء في نصّ المرسوم النّاصري:”…وقد رأينا أن تكون الدّعاء لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنّا وورودها علينا بذلك ــ إذ كلّ مدعوّ بهذا الاسم غيرنا منتحلٌ له،ودخيل فيه،ومتّسمٌ بما لا يستحقّه منه،وعلمنا ترك الواجب لنا من ذلك حقّ أضعناه، واسم ثابت أسقطناه،فمُرِ الخطيب بموضعك، أن يقول به، وأجر مخاطبتك لنا عليه إن شاء اللّه. واللّه المستعان.” ثمّ رأى النّاصر أنّ قرطبة صارت تضيق بما تتطلّبه الخلافة من مرافق، فأمر بإنشاء مدينة ملوكيّة تليق بعظمة الخلافة، ومقام الخليفة، وأسماها الزّهراء. ويُنسب له في هذا أبيات من الشّعر:
ـــ هِممُ الملوك إذا أرادوا ذكرها… من بعدهم فبِألسُن البُنيان.
ـــ أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم… ملكٌ محاه حوادث الزّمان.
ـــ إنَّ البناء إذا تعاظم شأنه…أضحى يدلّ على عظيم الشأن.
وأمّا الباعث الثّاني فعاطفي وهو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. وأقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة منه إلى الواقع. تقول الرّواية، أو الأسطورة أنّ جارية للنّاصر ماتت وتركت مالاً كثيرا فأراد أن يفكّ بذلك المال أسرى المُسلمين، فطلب في بلاد الإفرنج أسيرًا فلم يوجد، فقالت له جاريته الزّهراء وكان يُحبّها كثيرًا: لو بنيت لي به مدينة وسمّيتها بإسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها عند سفح جبل العروس. وهي رواية تتنافى مع الذهنية السّياسيّة والاستيراتيجية النّاصر ومع حكمته وعزمه، وما كان متفرّغا له من الغزو والحكم وبناء الدّولة. يُحكى أنّه وُجد بخطّ يده: أنّ أيّام السّرور التي صفت له دون تكدير، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا، وعُدّت تلك الأيّام فكانت أربعة عشر يومًا. فسبحان ذي العزّة القائمة، المملكة الدّائمة.
ابتدأ النّاصر في بناء الزّهراء سنة 936م وأوكل إلى ابنه الحكم الثّاني الإشراف على البناء. وذكر ابن عُذارى المرّاكشي أنّه كان يُصرف فيها كلّ يومٍ الصّخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التّبليط في الأسس، وجُلب لها الرُّخام من قرطاجنّة إفريقيا، ومن تونس، وكان فيها من السّواري 4313 سارية،… وكان يعمل في جامعها حين شُرع فيه 1000 عامل، حتّى أنّه استتم بنيانه في مُدّة 48 يومًا، واستغرق العمل في الزّهراء إلى آخر عهد النّاصر، ومُعظم عهد ابنه الحكم نحو 40 سنة.
وتُقدّم لنا المراجع العربيّة أرقامًا خيالية عن عمّا استهلكه البناء من سواري، حجارة وأبواب، وأرقاما عن عدد العاملين بها، وعدد الدّواب التي سُخّت لإنجاز هذا الصّرح الضّخم.
وإلى جانب هذه الأرقام أضاف المؤرّخون أوصافًا خياليّة، وأسماءً رومانسيّة للقصور والمجالس، والمنتزهات التي كانت بالزّهراء، رُبّما كنّا لن نُصدّقها لولا وقوفنا على أطلالها، وعلى ما بقي من البيوت الأندلسيّة بالمدينة وهندسة بنائها وزخرفتها، وأخيرا حجم الأشعار في وصف هذه القصور والمنتزهات.
ورغم حروب النّاصر المستمرّة مع ممالك النّصارى في الشّمال، ومع الثّوار الّذي أرادوا زعزعة استقرار مُلكه، إلاّ أنَّ ذلك لم يمنعه من مواصلة البناء في قرطبة وتعمير الزّهراء والإنفاق عليها، فورد في كتب التّاريخ أنّ النّاصر كان كلفًا بعمارة الأرض، وتخليد الآثار الدّلة على قوّة المُلك،وعزّة السُّلطان، وصرف مبالغًا خياليّة في البناء، حتّى إستفزّ ذلك قاضي القضاة منذر بن سعيد البلّوطي فقام يوم الجمعة على المنبر خطيبًا يُنكر عليه فعله.
تقول الرّواية أنّ النّاصر إستفرغ وسعه في بناء الزّهراء، وتنميقها، وزخرفتها حتّى عطّل شهود الجُمعة بالمسجد الّذي إبتناه بها ثلاث جمعٍ متواليات، فأراد الإمام لمنذر بن سعيد البلّوطي أن يُذكّره بجنايته، فصعد المنبر يوم الجمعة، وقرأ في خُطبته قوله تعالى:
“أتبنون بكلّ ريع آيةً تعبثون. وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون.وإذا بطشتم بطشتم جبّارين. فأتقوا اللّه وأطيعون. وأتّقوا الّذي أمدّكم بما تعلمون. أمدّكم بأنعام وبنين. وجنّاتٍ وعيون.إنّي أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم. قالوا سواءٌ علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين.”
ثمّ مضى في ذمِّ تشييد البُنيان، والاستغراق في الإنفاق عليه، وأتبعه بالدّعوة إلى الزّهد في هذه الدّار الفانية، والحضّ على اعتزالها والنّدب إلى الإعراض عنها. حتى رقّ من حضر الصّلاة وخشع قلبه،فانقلب سكون المسجد إلى بكاءٍ ونحيب،وضجيج،ودعاء، ففطن النّاصر إلى أنّه المقصود بذلك، فبكى مع الباكين، وندم على سوء فعله، واستعاذ باللّه من سخطه.إلاّ أنّه وجد على منذر بن سعيد لغلظ ما قرّعه به، فشكا لولده الحكم وقال: واللّه لقد تعمّدني مُنذر بخطبتهِ، وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ وأفرط في قرعي، ولم يُحسن السّياسة في وعظي وكاد بعصاه يقرعني، ثمّ أقسم أن لا يُصلّي خلفه جمعةً، وجعل يلتزم صلاتها خلف أحمد بن المطرّف بجامع قرطبة. فقال له الحكم: وما الّذي يمنعك من عزله، فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره، وعلمه يُعزل لإرضاء نفسٍ ناكية عن الرُّشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون.