يثير الكاتب نور الدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في ألمانيا.
تسبّب هجوم الأسقفيّة الكاثوليكيّة على هويّة المسجد في موجة احتجاجات كبيرة في قرطبة، امتدت إلى باقي اسبانيا والعالم. فاستنكرت حكومة الأندلس مثل هذا الفعل، كما أصدرت منظّمة اليونسكو بيانًا شجبت فيه محاولة طمس المعالم الإسلامية في اسبانيا.
كما قام مجموعة من النّاشطين يُسمّون أنفسهم “منصّة المسجد الكاتدرائيّة” بإطلاق عريضة جمعت توقيعات الكثير من المثقّفين الإسبان والعالميّين، وأمّا أعنف احتجاج على ما أقدمت عليه أسقفيّة قرطبة فكان من فرقة “مدينة الزّهراء” الفنيّة، فقد أعادت الفرقة أداء أغنيّة “أتنزّه في المسجد” من ثمانينات القرن الماضي في نسخة جديدة أطلقت عليها اسم” قرطبة هي المسجد”:
ــ في إحدى اللّيالي كنت بمُفردي أفكّر
ــ إن كنت سأصل إلى السّماء
ــ كنت أسير في المسجد
ــ وعرفت في الصّمت بعض الوقت.
ــ جسدي مُحطّم.، مُثخنٌ بالغضب والازدراء.
ــ من كثرة الإهانات، التي تتعاقب عبر الزَّمن.
ــ لو كان بإمكاني أن أكظم بصوتي .
ــ كلّ الضّرر والألم الّذي أحمله بداخلي.
ــ هناك من يحثُّ على عدم السّرقة،
ـــ بينما هو يسرق!
ــ وينزع منك الحبَّ الّذي يحثُّ عليه.
ــ لو كان بإمكاني لمس منارة سماك.
ــ لعلّي أستشعر تناغمك وعظمة عصرك.
ــ قرطبة هي المسجد الّذي نحمله بداخلنا.
ــ وسنفديه حتّى الرَّمق الأخير.
ــ كيف للمرءِ أن ينال الحُرّية.
ــ وهناك من يُقصي اسمك ويتناسى معبدك.
ــ قرطبة هي المسجد الّذي نحمله بداخلنا.
عندما خرجت من الجهة الشّرقية من المسجد الجامع كان الوقت ضُحى، وكانت السّاعة تشير إلى الثّانية عشر. تذكّرت أنّي لم أتناول فطور الصّباح إلى هذه السّاعة. ذهبت إلى مقهى صغير في أحد الأزقّة، وطلبت فنجان قهوة وشريحة خبزٍ وعصير برتقال طبيعيّ، هذا ما أعتدت تناوله من فطورٍ منذ عشرين سنة لم أغيّره،لا في ترحالي، ولا في إقامتي.
نقدتُ صاحب المقهى الثّمن المتوجّب ثمّ ولّيت على أعقابي أبحث عن دار الإمارة الإسلاميّة، أو قصر الملوك النّصارى في الجهة الغربيّة من المسجد حتّى عثرت عليها.
كانت أشعّة الشّمس تُلهب المكان، ومع ذلك التزمت بالتّعاليم الصّحيّة التي أعطيت لي فوقفت في الطّابور وجعلت بيني وبين غيري من الزَّائرين مسافة، لم أعْبَه بمن كان حولي من الزّائرين ولم ألتفت إلى أجناسهم ولا إلى ألوانهم، فقط كنت أتحرّك إذا تحرّك الطّابور وأتوقّف إذا توقّف، وأشبعُ ناظري بالنّظر إلى أسوار القلعة وأبراجها، وأنقل الصّورة إلى فكري فيبحث في ذاكرة التّاريخ، ويرسل لي من الحقائق ما يوفي طلبي.
بقيت على حالي هذه برهة من زمن، جسدي متشبّثٌ بالمكان، وروحي تحلّق في غابر الأزمان، لولا أن أدركني وعيي لحظة، فانتبهت إلى ما حولي، فبدت لي حركة غريبة أمام مدخل دار الإمارة كان بعض السّيّاح يُظهرون أوراقًا، وبعضهم يُظهرون هواتفهم النّقّالة، وكان المراقب الّذي على الباب يفحصها فيسمح لمن يشاء بالدّخول، ويردُّ الآخرين عن الباب. وكان كلُّ من يخرج من الطّابور تظهر عليه علامات التّذمّر والأسف.
انقبض صدري وطارت الأفكار من رأسي، ولم أعد أدري ما أفعله، أو ممّن أستوضح الموضوع وشاءت الأقدار أن تسعفني مرّة أخرى.
كان قبلي في الطّابور عائلة عربيّة عرفت من لكنتها أنّها مغربيّة، فتخطّيت الرّقاب التي قبلي إليها وسألت صغيرها إن كان هناك موزّع آلي للتّذاكر عند مدخل القصر، أم لا؟ فأجابني أنّ حجز التّذاكر يجب أن يكون مُسبقًا، وأنّهم حجزوا يوم أمس عن طريق النّات، فأسديت لهم شكري وخرجت من الطّابور متغيّر الوجه والمزاج، وقد تغشّت غشاوة من الحيرة على فكري، ورأيت أنّ حٌلمًا من أحلامي تلاشى، ولم أدرِ ما أفعله، فلم تكن هذه العقبة في الحسبان.
كيف لي أن أحجز عن طريق النَّات، وشريحة هاتفي النّقّال لا تعمل في أرض اسبانيا، كما أنّي لا أستطيع أن أتواصل مع البنك الّذي أنا زبونه في ألمانيا.
عدت أدراجي إلى باب الجسر بين القنطرة، والجامع، وفي طريق عودتي لمحت وكالة سيّاحة، هرعت إليها أسأل إن كان بإمكاني أن أحجز عن طريقها تذكرة دخول إلى دار الإمارة، فأخبروني أنّه بالإمكان ذلك شرط أن أنضمّ إلى مجموعتهم، وأن أتّبع إرشادات الدّليل، وأسمع إلى شروحاته، وأتركه يقصّ عليّ تاريخ دار الإمارة، فلم ترضَ نفسي، واستهجنت الأمر، وكيف لها ترضى أن تصغي إلى من يزيّف لها التّاريخ، ويمسخ لها الحقائق.
لقد عاينت بنفسي التّزيف في هذين اليومين، عاينته في اسم المسجد الّذي حاولوا طمسه من ذاكرة المدينة ومن دفاتر الأرشيف، وعاينته في اسم دار الخلافة الّذي تحوّل إلى “قصر ملوك النّصارى” وعاينته قبل كلّ ذلك في الرّوايات والنّصوص والملاحم والأحداث التاريخيّة، ثمّ ما عساني أن أفعل إذا سمعت المُرشد يزيّف الأحداث، ويزيّف التّاريخ، أأصمت أم أهيج؟
لقد حدث معي مثل هذا الأمر قبل عشر سنوات في غرناطة. كنت أتجوّل صباحًا أمام الكاتدرائيّة التي تقوم على أرض المسجد الكبير بالمدينة، وسمعت مرشدة سيّاحيّة تكلّم مجموعة الزَّائرين عن تحرير المدينة من الغزاة، وأي غزاة ! وتملّكتني ساعتها مشاعر الاحتقان والغضب، ولكنّي لم أقدر أن أردَّ عليها، وقلت في نفسي ربّما خانتها الكلمات فهي اسبانيّة ومجموعة السّيّاح ألمانيّة، غير أنّي بعد ذلك تأكّدت أنّ مسخ هويَّة الأندلس، وتزييف وعي السّياح، والزّائرين، وحتّى السّاكنين بهذه الأرض سياسة رسميّة ممنهجة، اتبعتها الكنيسة الغربيّة، وأسمتها حرب الاسترداد كي تبرّر بها غزو ممالك الشّمال لأرض الأندلس.
إنّه من السُّخريّة أن يصدّق الإنسان أنّ 12 ألفًا جنديّا من البربر حديثو عهدٍ بالإسلام والعربيّة اجتاحوا شبه الجزيرة الايبيريّة في ثلاث سنين وبعد معركة واحدة هي معركة وادي لكّة فرضوا الإسلام، وبنوا حضارة، ونشروا لغة وسط 10 ملايين من السّكان الأصليين، لم تسمو البشريّة إلى مُستوى ذوقها وفكرها وتسامُحها إلى اليوم، وأنّ هذه الـ 10 ملايين من السّكان المغلوبة على أمرها بقيت خاضعة لهذه القوّة العسكرية مدّة 8 قرون.
خرجت من وكالة السّيّاحة محبط النّفس، مبلبل الفكر، ومن شدّة وطأة خيبة الأمل فقدت إحساسي بنفسي، وإدراكي لما حولي، فلمّا ثاب إليّ رُشدي، أجهدت نفسي وأنا أدوّن هذه الأسطر والكلمات كي أستوضح ما مرّبي في هذا اليوم، إلاّ أنّي لم أستطع أن أتذكّر من همس في أذني وأشار عليّ بالذّهاب إلى ديوان السّياحة بالمدينة. لقد خشيت على نفسي من أن تُحرم من رؤية من قبع في خيالي، وسكن في روحي سنينا.
دلفت إلى داخل الدّيوان، واتّجهت إلى شبّاك في إحدى الزّوايا، قلت للموظّفة بعد أن أسهبت في حكاية قصّتي وقصّة رحلتي من ألمانيا من أجل قرطبة، وقد فقدت السّيطرة على كلماتي ومشاعري، فبرزت علامات التوتّر والاضطراب على محياي:
ــ إنّ كلّ مناي من هذا الحجّ إلى قرطبة، وفي هذا الزّمن العصيب أن أرى الزَّهراء وأرى المسجد وأرى دار الإمارة! … يجب أن أدخل دار الإمارة، ويجب أن أزور “مدينة الزّهراء” بأيّ ثمن”!
ردّت الموظّفة في هدوء و برودة:
ــ هذا مكتب استعلامات وليس مكتب حجزٍ للتّذاكر، يُمكنك أن تحجز على النّات مباشرة!
فأجبتها: ــ لا أستطيع ! هاتفي النّقال لا يعمل في إسبانيا، ولا أدر ما السّبب، فأرجو المُساعدة؟
رقّت الموظّفة لحالي وقبلت أن تحجز لي تذكرة دخول صباح يوم الغد على أن أدفع ثمنها عند مدخل باب الإمارة، كما حجزت لي تذكرة سفر إلى “مدينة الزّهراء” دفعت ثمنها في الحال.
انشرح صدري وعاد الهدوء إلى نفسي، فخرجت من الدّيوان وقد حلّت مشاعر الفرح والاغتباط محلّ مشاعر الخوف والقلق. أخيرا يا زهراء!
رُحت أبحث عن موقف الحافلة التي ستنقلني إلى مدينة الزّهراء في يوم الغدّ. أذكر أنَّ موظّفة الدّيوان قالت: أنّه ليس بعيدا عن قصر الملوك الكاثوليك مثلما تّسميها هي ودار الإمارة مثلما أصرّ أنا على تسميّتها.
لقد طرأ على برنامج رحلتي شيء من التّعديل، نظرًا للملابسات التي جدّت، ألغيت زيارتي لإشبيليا من برنامج الرّحلة، لقد وجدت في إجابة الموظّفتين تأكيد على وجوب حجز تذكرة الدّخول للقصر العربي عن طريق النّات، وسيكون من العبث الذّهاب إلى هناك ثمّ لا أدخل إلى القصر. إنّه لشيء مُؤلم ولكن ليس أشدّ إيلاما من أن لا أرَ الزّهراء ودار الملك.
عدت إلى الباب الشّمالي من المسجد المَعلَم الّذي صار نقطة الانطلاق في تجوالي في المدينة. كلّ الّذين سألتهم لم يستطيعوا أن يدلّوني على السبيل إلى موقف الحافلة إلى الزّهراء، فصرت أتردّد من واحد إلى واحد، حتّى لمحت عيني رجلاً ذا ملامح عربيّة مشيت إليه واستوضحت منه فوجدته سائحًا مثلي، غير أنّه كان برفقة ولده الصّغير فاستغاث به فأغاثني.
طلب منّي هاتفي النّقّال، وفتحه على تطبيق غوغل خرائط، فكتب اسم الشّارع، ثم قال اتّبع إرشادات غوغل، ففعلت مثلما أمر حتّى وصلت بعد أكثر من نصف ساعة قد أرهقني المسير إلى الموقف. لم يكن الموقف بعيدًا عن باب المُدوّر إلاّ مسافة خُطوات، ولا عن دار الإمارة إلاّ دقائق معدودة. ولم تُخطئ معي الموظّفة عندما قالت إنّه ليس بعيدًا من هنا، ولا الخطأ لطّفل الصّغير ولا غوغل وإنّما أنا الّذي جنيت على نفسي بسبب توتّري واضطرابي، فأجهدتها وزدتها نصبًا على نصب، وتعبًا فوق تعب.
عدت إلى الفندق عند السّاعة الثّالثة، رددت عليّ باب الحجرة واستلقيت على سريري، عسى أن أتخلّص من التّعب والإرهاق الّذين أنهكا جسدي، وأتخلّص من التّاريخ الّذي أقلق فكري وأعود إلى زماني هذا فإنّي منذ أن جئت إلى أرض اسبانيا، وفي كلّ مرّة أنزل فيها إلى المدينة القديمة إلاّ وينفرد بي الخيال فيتلاشى الواقع من أمامي وتغوص روحي أحقابًا في زمن المجد الإسلامي.
لم أعد أطيق قيظ الصّيف، ولا وطأة حرّ نيران الشّمس المتأجّجة التي غشيت أرجاء قرطبة، فآثرت البقاء في الفندق هذا اليوم فلم أغادره إلاّ عند السّاعة السّابعة مساءً، ولم أذهب في تجوالي بعيدًا عن المدينة القديمة.
عدت إلى باب المسجد الشّمالي، ومنه انزلقت بي قدماي إلى باب الجسر، ثمّ إلى قنطرة الوادي الكبير. تأمّلت قوائمها الشّاحبة بلون الطّين وماء الوادي الكبير المُصبغ بالخُضرة حُمت حول القلعة الحُرّة التي بناها الموحّدون، وتوقّف بي المسير أمام نافورة أبي العافية على الضّفّة اليُسرى من الوادي، نظرت إليها طويلا، ونظرت إلى ربض قرطبة القبلي، فزدت أسى جديدًا إلى مآسيّ وحُزنًا إلى أحزاني، بدأت الزّفرات والآهات تصّاعد من أعماقي، فلكلّ سورٍ وحصنٍ في قرطبة حكاية، وفي كلّ زاوية ملحمة وبطولة.
صارت الشّمس على وشك الغروب، ولم يعد الوقت يأذن بالاسترسال في التجوال. فولّيت على عقبي إلى المدينة الحديثة، واشتريت ما يقيم أودي، ويسدّ جوعتي، ثمّ مضيت إلى الفندق. لبثت في غرفتي ردهًا من زمن أفكّر في كلّ شيء، وفي لا شيء، ودون أن أدوّن في دفتري أيّ كلمة. فقط يجب أن أهيّئ نفسي لرحلة الغد، ففي الغد موعدي مع دار الإمارة، ومدينة الزّهراء.
مدينة الزّهراء.. فنّ بناء الأسوار الموحّدي
في صبيحة يوم الجمعة الثّالث عشر من أغسطس استيقظت من نومي مبكّرا، لكنّي بقيت في فراشي زمنًا يسيرا، غادرت بعده الفندق صوب دار الإمارة، بدا لي المكان خاليًا من السّيّاح، كان موعدي المُسمّى على السّاعة التّاسعة، فانتهزت الفرصة ومِلت إلى المقهى الّذي اعتدت تناول فطوري فيه، طلبت فنجان قهوة وقطعة خبز، دفعت الحساب، ثمّ تسلّلت إلى باب المدوّر عند مدخل المدينة الرّئيسي.
وعندما أنهيت فنجان القهوة، أحسست بدفقة من الحياة تكتسح فكري، وأنّ وعييي قد عاد لي بعد غيبوبة طويلة، فانطلقت إلى دار الإمارة.
دلفت إلى دار الخِلافة من باب إشبيليا أو مثلما تُسمّيه المصادر الإسلاميّة “باب العطّارين”، ويتكوّن المدخل من بابين أحدهما داخلي والآخر خارجي، وهذا من الابتكارات المعماريّة التي أدخلها المهندس القرطبي في عهد عبد الرّحمان النّاصر لتدعيم النّظام الدِّفاعي للمدينة، فأضاف إلى الأبواب الخارجيّة أبوابًا داخليّة توازيها، يُمكن للبوّابين تثقيفها وإحكام إغلاقها، ومُضاعفة الحراسة عليها، وأمّا ما تبقّى من أسوارها سواءً في الدَّاخل أو الخارج، فله طابع فنّ بناء الأسوار الموحّدي.
أوّل ما يقابلك بعد أن تتجاوز البابين الدّاخلي والخراجي، هو تمثال الملك فرديناند الثّالث الّذي ضمّ قرطبة إلى مملكة قشتالة سنة 1236م.
وعندما تتحوّل شمالاً فإنّك ستلج قصر الملوك الكاثوليك عبر أحد الدَّهاليز العربيّة، وهو في الأصل بهو متواضع، كبير بعض الشيء لا يظهر عليه ما يوحي أنّه قصر. فقط الفسيفساء التي يتزّين بها جداره الشّمالي، وبقايا حجارة الأسوار التي يُمكن أن تُشاهدها من نوافذه وشرفاته، توحي أنّ البناء يعود إلى العصر الرّوماني، وأنّ تعديلات كثيرة أدخلت عليه في الحقبة الإسلاميّة. هذه التّعديلات نلاحظها في تغيّر طريقة البناء من أسوار بصخر وأعمدة غليظة، إلى أعمدة هيفاء، وجدران بقطع حجارة صغيرة، وخفيفة، تشدّ بعضها بعض بطابية متينة من الكلس والرّمل والصّلصال والحصباء.
لا تحتاج إلى وقت كبير لتتجّول في هذا البهو، إن هي دقائق معدودة، وتجد نفسك لم تفعل أكثر من أنّك ألقيت نظرة فاترة من دون أن يُداخلك أيّ شعور بالانبهار والذّهول، وتقول ليس هنا ما يسترعي الانتباه، فترجع وراءك وتدخل دهليزا آخر على شمالك،.
وتنزل الدّرج لتجد نفسك وسط فناء صغير من الرّخام مثل أفنية قصور الحمراء، تتوزّع بين جنباته أشجار البرتقال واللّيمون وبعض النّخلات، يتوسّطهنّ حوض مائيّ صغير، ونافورة يتسرّب منها الماء إلى السّواقي فيسقي حديقة القصر،عندها ستشعر أنّك بدأت تغوص وتغرق في تاريخ قرطبة وتعود قرونا إلى زمن المجد المفقود.
وعندما تخرج من هذا الفناء الصّغير ستجد نفسك في المنتزه الّذي بناه عبد الرَّحمان الأوسط وهو على طول مدّ بصرك، ولا زال إلى اليوم يحمل اسم “حدائق الموريسكيّين” ولسوف تّشبع حقًّا ناظرك من عبق حفيذات الزّهور التي غرسهنّ عبد الرّحمان الأوسط، ومن عبق التّاريخ الزّاهر لهذه المدينة خالدةً.
وستسمع لسنفونيّة رقرقة المياه وخريرها تتبدّل نغماتها كلّما امتدّ الحوض أو انكمش طوله، ولن تُحسّ بقيظ النّهار ولا بثقل الخُطا ما دُمت تتظلّل بأفنان أشجار النارنج واللّيمون، وستنتهي بك الخُطوات عند تماثيل من إسمنت لملكين ومغامر، إنّهما الملك فرديناند وإيزابيلاَّ وأمّا المغامر فهو الجنوي كريستوف كولمبس وعندها ستتساءل ما الّذي يفعلونه هنا.
وستأتيك الإجابة من كتب التّاريخ أنّه في هذا المكان قدّم كولمبس مشروعه للإبحار إلى الهند عبر المُحيط.
وستنبئك كتب التّاريخ أيضًا أنّه من هذا القصر خطّط فرديناند وايزابيلاّ لغزو مملكة غرناطة، آخر ما بقي للمسلمين من حصون على أرض إيبيريا. وبعد تخلّي الملكين الكاثوليكيين عن القصر سنة 1492م وانتقالهما إلى الحمراء بغرناطة، سلّما القصر لمحاكم التّفتيش، فحوّلته إلى دهاليز وأقبية وقاعات للتّعذيب.