يثير الكاتب نورالدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في المانيا.

إنّ مُشكلتي العظمى أنّي لا أستطيع أن أستمتع بالمنظر ولا بالمكان من دون أن تغزو خيالي الصّور والذّكريات. فعندما وقفت في أعلى حصن القلعة أتأمّل متانة الأسوار، وهندسة الحصون، لم ألبث أن تخيّلت أمورًا وشعرت بأمورٍ حولي لم يشعر بها من كان معي بالمكان.
لقد استطرد بي خيالي الى يوم السّقوط، فتوالت عليّ مشاهد الفجيعة والحزن، وتواثبت بخاطري صور البطولة والجسارة وصور الخيانة والغدر غير أنّ كلماتي عجزت أن تصوّرها وتصوّر قبحها وبشاعتها، ولم أجد الإسعاف إلاّ في كلمات أبي البقاء الرّندي فهومن عاش فجائع الأندلس في ذلك الزّمان، وهو الّذي استغاث بملوك العرب والعجم فلم يجد صريخًا لها:
تَـبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ كَـما بَـكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ
عَـلى دِيـارٍ مـنَ الإِسلامِ خالِيَةٍ قَـد أَقـفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما فـيـهِنَّ إِلّا نَـواقِيسٌ وصـلبانُ
حَـتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ حَـتّى الـمَنابِرُ تَـبكي وَهيَ عيدَانُ
يـا مَـن لِـذلَّةِ قَـوم بَعدَ عِزّتهِم أَحـالَ حـالَهُم كـفرٌ وَطُـغيانُ
بِـالأَمسِ كانُوا مُلُوكاً فِي مَنازِلهِم وَالـيَومَ هُـم في بِلادِ الكُفرِ عُبدانُ
فَـلَو تَـراهُم حَيارى لا دَلِيلَ لَهُم عَـلَيهِم مـن ثـيابِ الذُلِّ أَلوانُ
وَلَـو رَأَيـت بُـكاهُم عِندَ بَيعهمُ لَـهالَكَ الأَمـرُ وَاِستَهوَتكَ أَحزانُ
يـا رُبَّ أمٍّ وَطِـفلٍ حـيلَ بينهُما كَـمـا تُـفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبـدانُ
وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت كَـأَنَّما هـيَ يـاقُوتٌ وَمُـرجانُ
يَـقُودُها الـعِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً وَالـعَينُ بـاكِيَةٌ وَالـقَلبُ حَيرانُ
لِـمثلِ هَذا يَبكِي القَلبُ مِن كَمَدٍ إِن كـانَ فـي القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمان.
لقد تلاشى الواقع من أمامي واستطرد بي خيالي الى يوم 18 من أغشطش 1487م فترآى لي فرديناندو الطّاغية يقف في زهوٍ وخُيلاء يغرس الصّليب في قلب القصبة بينما جنوده يغرسون سيوفهم ورماحهم وخناجرهم في قلوب ساكنة المدينة المسلمين.
سقطت المدينة في الـ18 من شهر أغشطش لكنّ فرديناندو وايزابيلاّ لم يستطيعا دخولها إلاّ في اليوم التّالي 19 أغشطش 1487م فقد كان منظر الجثث المتحلّلة في الشّوارع مرعبًا وكانت رائحتها تثير القلوب وتبعثها الى الغثيان.
ثمّ سبى الجيش المنتصر من بقي حيّا من النّساء والأطفال، ونُهبت الأموال، واسترقّ الملك فرديناند كامل ساكنة المدينة (11 ألف).
فباع عَذَرَاها لمن باع بوكسٍ بعد أن كان مهرهنَّ غاليَا وأهدى جميلاتها لملوك أوربَّا وأمرائها جزاءً لما قدّموا من دعم للحملة، فكان لبابا روما أيضًا حصّته من الغنيمة.
وسِيق الشّيخ حامد الثَّغري بطل المقاومة عن رُندة ومالقة مُصفّدا بالأغلال الى سجن محاكم التّفتيش باشبيليا ونُكّل به انتقامًا من بسالته وإبائه ولمّا مات دُفن بأحد كهوف قرمونة.
ترك شاعر مجهول من أهل المدينة أبياتا من شعر يُرثي فيها مالقة ويُسجّل هول المجازر والمذابح التي أحدثتها القّوّات القشتاليّة عندما اقتحمت المدينة.
فمالقــة الحسنــاء ثكـلى أسيفـــة *** قــد استفرغت ذبحًا وقتلا حجورها.
وجـزت نواصيهـا وشلـت يمينـا *** وبــدل الـويــل المبيــن ســرورهــا.
وقــد كانـت الغربة الجنـن التى *** تقيها فأضحى جنـة الحرب سورهـا.
وبلِّش قطعــت رجلها بيمينها *** ومـــن سريان الـداء بــان قطورهــا.
وضحت على تلك الثنيات حجرها *** فأقفــر مغناها وطاشت حجورها.
كان الهجوم على مالقة عنيفًا وطُوّقت المدينة من البرّ والبحر وضيّق القشتاليّون على أهلها فذاع بينهم الجوع وانتشر المرض، وقُتل من المسلمين خلقٌ كثير.
وخاف التّجار على تجارتهم فتوسّلوا لحامد الثّغري أن يستسلم ويُسلّم المدينة لملك النّصارى، لكنّه أبى وأبى معه من بقي من الفرسان واستبسل في المُقاومة. فأرسلوا له كبير التّجار عليّ الدَّدُوقْ يفاوضه ويعرض عليه 4آلاف دينار مقابل الاستسلام، فقال لهم جملته التي بقيت خالدة الى هذا الزّمان ” إنّي تسلّمت المدينة لأحميها لا لأُسلِّمها”.
أبى الشّيخ حامد الثّغري أن يُسلّم المدينة، وأبدى صلابةً في الدّفاع عنها. واستمرّ القتال بينه وبين الجيش القشتالي بين كرّ وفرّ أيّامًا، وكانت خسارة الجيش النّصراني كبيرة، وسارت الشّائعات أنّ الحصار سوف يُرفع لا محالة وأنّ العدوّ لا بُدّ أن يسحب قوّاته. وارتفعت معنويّات المدافعين عن المدينة لمّا جاءهم رسول من أبي عبد اللّه الزَّغل يحضّهم على الثّبات ويُخبرهم أنّ أبا عبد اللّه الزّغل في طريقه إليهم ليفكّ الحصار عن المدينة.
لم يخلف الملك أبوعبد اللّه الزّغل وعده، وأرسل بالفعل تعزيزات قويّة من وادي آش الى مالقة المُحاصرة. لكنّ الجواسيس نقلوا الخبر الى أبي عبد اللّه الصّغير حاكم غرناطة الّذي أعماه حقده على عمّه ورغبته بأن يُظهر ولاءه للبلاط النّصراني، فأرسل قوّاته لتعترضها وتمنعها من نجدة مالقة، وتجبرها على العودة الى وادي آش بخسائر كبيرة.
ضاع كلّ أمل في النّجدة، ونقصت المؤونة بالمدينة وخيّم شبح المجاعة عليها وذاع خبر خيانة أبي عبداللّه الصّغير واستيأس النّاس، ثمّ ازدادو يأسًا حين رأوا سُفن سُلطان تلمسان ترسو بمرفأ مالقة المُحاصر وينزل سّفيره بالهدايا ليُساوم ملك النّصارى على قبولهم نازحين في مملكته مقابل أن يعقد معه حلف حماية.
وبينما كان حامد الثّغري يحضّ جنوده على الصّبر والثّبات والاستسلام كان كبير التّجّار عليّ الدّردوق يُثبّط الهمم ويزرع اليأس في قلوب الأهالي، ويُتواصل مع ملك النَّصارى ويفاوضه على فتح أبواب المدينة سرّا للغزاة مقابل الآمان له ولبعضٍ ممّن وافق رأيه وتعاون معه. وتمّت الصّفقة بأن تُستثى عائلته وأربعين عائلة أخرى من السّبي ويُسمح لها بأن تبقى في المدينة ووقّع على العقد استسلمت المدينة.
قال حامد الثّغري لمن بقي معه وهو يرى كتائب النّصارى تتدفّق نحو المدينة:
ــ لقد وضع أهل مالقة ثقتهم بتاجرٍ باعهم بنجاته، أمّا نحن فلن توضع بأيدينا وأرجلنا الأغلال، لنكون جزءًا من صفقته، فحولنا حصون منيعة وأسلحتنا قويّة بأيدينا فلنقاتل حتّى ندفن تحت هذه الأسوار، أو نخرج منها نحو المُشركين الّذين يُدنّسون شارع مالقة بالموت الزُّؤام.
لكنّه استسلم ومن معه في الأخير بعد أن هدّه الجوع وأنهكه التّعب، وأُضنيا قواه. فسيق أسيرا الى ملك النّصارى فلمّا سُؤِل عن سبب بسالته قال:
ـــ حين أخذت القيادة نذرت نفسي للقتال من أجل عقيدتي والدّفاع عنها بقدر الدّفاع عن رعيّتي وأبناء وطني وملكي حتّى الأسر أو الموت أو النّصر، وعلى هذا كنت أطلب من الرّجال أن يقفوا معي، ولقد كان الأجدر بي أن أموت والسّيف بيدي على أن أقف أمامكم ذليلا مستسلما”.
عدت إلى مالقة يوم الـ19 من أغشطش في طريق عودتي إلى ألمانيا وحمدت اللّه أنّي لم أحضر مأساة الاحتفال بسقوط المدينة في اليوم السّابق.
لا زال الاسبان يحتفلون بتحرير المالقة في الـ18 من كلّ شهر أغشطش وطرد الغزاة المغاربة منها. ولازال الأغراب الّذين سكنوا المدينة بعد طرد أهلها، واسترقاقهم، والتنكيل بهم يعيشون الى اليوم على الخُرافة والوهم والحقيقة المشوّهة. ولا زالوا يعتقدون أنّ هذه الأرض أرضهم ورثوها عن آبائهم الّذين لم يعيشوا فيها وأنّهم لم يفعلوا أكثر من استردّوها.
غادرت في اليوم التّالي الفندق قبل الزّوال بكثير وذهبت الى القصبة فوجدتها مثلما تركتها بالأمس ومثلما تركها أولئك الآباء العظام رغم الأسى صلبة، نظرت اليها بعين الحزن والأسى ثم فارقتها فراق راحل مكره على الفراق، وعجّلت خُطواتي الى مكان المسجد الّذي صار كنيسة وتجوّلت جولة في حديقته النّضرة وشربت من ينابيعها المباركة، ثمّ ولجبت الى فناء الكنيسة وأشرعت بصري في المكان فهالني ما رأيت. لازالت بِضعة من جدران المسجد وأعمدته تحمل على كاهلها أثقالا من صخور الكنيسة التي شُيّدت فوق أساساته.
ركبت القطار المتّجه الى قرطبة على السّاعة الثّانية عشرو النِّصف.
وجلست في المقعد الّذي حُجز لي بعيدًا عن أعين النّاس، كانت مقصورة القطار تبدو فارغة إلاّ من بعض الأنفارلا أذكر أنّه خطر بي خطرات، ولكنّي أذكر أنّي كنت متوتّرا وكنت أنظر عبر نافذة القطار الى الجبال والرّبوات والى حقول أشجار الزّيتون والبرتقال والتّفّاح.
لا تختلف الطّبيعة هنا عن الطّبيعة في وطني، لا في الصّيف ولا في الشّتاء. شمس وهّاجة، وجوّ حارّ لا يُطاق، وأرضٌ حصد أهلها زروعهم فهي صفراء جرداء.
***
3ــ آيا قرطبة مجنون ليلى آخر جاء يتفقّد الأطلال:
كانت السّاعة الثانية بعد الزَّوال عندما وصل بنا القطار الى قرطبة. لم أجد عناءً في الوصول الى مدينتها القديمة ولا الى الفندق الّذي سأقيم فيه أربع ليالي متتالية.
أذكر فقط أنّ حركة النّاس في وقت الظّهيرة كانت ضعيفة، وأنّ المدينة كانت خالية من المارّة، لكنَّ اللّه يسّر، فقد لمحت شابّا افريقيّا يتّجه نحوي عرفت منه لمّا أوقفته أستأذنه في الاستفسار أنّه من نجيريا.
لم أسأله عن عنوان الفندق، وانّما سألته عن المسجد، فمازال المسجد ملازمًا لهويّة المدينة، ولا زالت قرطبة لا تُعرّف إلاّ به.
كان الشّابّ النيجريّ ظريفًا، كثيرالكلام ولكن في عفويّةٍ وأدب.
أجابني عن سُؤالي ثمّ مشى معي مسافة طويلة وهو يُكثر الشّرح والايضاح، ولمّا عرف أنّي جئت من ألمانيا راح يُحدّثني عنها وعن الرّواتب والأجور، وعن جودة الحياة فيها، وأنّه يأسّف أنّه لا يستطيع أن يفارق اسبانيا اليها فعنده هنا عمل مستقرّ فيه، ولا يُريد أن يُغامر مرَّة أخرى الى المجهول.
قال لي هذه الكلمات ثمّ فارقني على ابتسامة بريئة. فواصلت سبيلي جاعلا من ارشاداته دليلا لي حتّى وصلت الى مفترق طرق فتشوّش فكري ولم أدر أيّ الطّرق أسلك. لمحت مطعمًا أمام الأعمدة الرّومانيّة في قلب المدينة، ذهبت وسألت صاحبه عن عنوان الفندق الّذي حجزت فيه فأشار عليَّ أن أسلك أحد الشّوارع، وألاّ ألتفت يمينًا ولا يسارًا حتى اصل الى مفترق طريق، أو أظنُّني هكذا فهمت.
واصلت سيري تحت ضوء الشّمس الوهّاج أحتمي من لهيبها بأفنان الأشجار تارة وبظِلال جدران البيوت أخرى.
وكان القدر بي رحيمًا! فقبل أن أصل الى مفترق الطّرق الّذي دلّني عليه صاحب المطعم التفتت عيني خِلسة الى اليمين، فقابلتني لوحة معلّقة على باب من أبواب المدينة القديمة مكتوب عليها اسم الشّارع الّذي أريده، فانسابت كلمات الحمد للّه على لساني فرحتُ أردّدها مرّات ومرّات. آهٍ لقد لقيت في سفري هذا نصبَا!
أخيرًا يا قرطبة… يا من!
ــ دعاني هواها فلم أعد لسواه مباليا.
ــ بأرض أندلسٍ فلم ألتفت ورائيّ.
ــ أجبت الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ.
ــ تقنّعتُ منها أن أُلامَ رِدائيَّا.
لا أدرِ كم انصرم من الوقت وكم ساعةَ لبثت في الفندق وكلّ الّذي ما زلت أذكره أنّي وجدته رُدَهًا وأحقابًا من الزّمن، وكيف لي أن أصبر بعد أن لاحظ الرّحمان شوقي فرحمه، وحقّق لي حُلمي وأنجز لي وعده، وأوصلني الى الحبيب الغالي.
خرجت بعدها وكفّ الشّوق تستحثّني، أتحسّس طريقي بين متهاهات أزقّتها المفضية جميعها الى مسجد الحضرة، فكان أنّه كُلّما ازدادت نبضات القلب زادت معها خُطوات الشَّوق وكُلّما دنوت من المسجد خِلتُ نفسي دنوت من ذلك العهد، فأدركت أنّ لقاءه قد دنَا، وأنّ عناقه قد اقترب، وما أن تبدّت لي أسوار المسجد ومئذنته حتّى زُمّت ركبتاي والتفّت سقاي وشخصت عيناي وانعقد لساني.
فلم يكن وصله إلاّ حُلمًا، وها قد تحقّق الحلم! فوقفت باهتَا وشاخصًا ألامس بأنامل الحنين بناءه وأستنشي من نفحات النّسيم الّذي يداعب جدرانه، وأشمّ من طيب ريحه الّذي عبق بعبيره أرجاء المكان، وأمتِّع ناظري من قبس نوره وأنال منه حظّ العاشقين.
قفز بي خاطري فجأة الى سنة 785م، ووصلني بماضي المسجد المجيد. فرأيت ما لم يره من كان بالمكان غيري. رأيت عبد الرّحمان الدّاخل الّذي جاء طريدا الى هذه الجزيرة من بلاد الشّام رأيته وقد استقام له الأمر، وبدأ بتوطيد أركان دولته بعد أن انتصر على أعتى أعدائه الصُّميل بن حاتم، ويوسف الفهري في معركة المَصارة غير بعيدٍ عن قرطبة.
رأيته يأمر ببناء المسجد بعد أن سام نصارى المدينة في التّخلّي عن شطر الكنيسة العائد للرّوم، فأوسع لهم البذل وفاءً بالعهد الّذي صولحوا عليه، لكنّهم رفضوا ففاوضهم مفاوضة طويلة حتّى وافقوا.
ذكر المقري أنّ المقابل الّذي دفعه لهم بلغ مئة ألف دينار، وأنّهم اشترطوا أن يبيح لهم بناء كنيستهم التي تهدّمت بخارج المدينة فأجابهم الى ذلك.
ويُعدُّ مسجد الحضرة بقرطبة بحقّ جوهرة المدينة، ورمز هويّتها، وتاج عزّها، وفخرها، واللّؤلؤة الّتي تلفُّها الأرباض، والشّوارع، وأزقّة المدينة من جميع الجهات، فلا تترك لها منفذًا للعالم الخارجي إلاّ من جهة القنطرة التي على الوادي الكبير.
مات عبدالرّحمان الدّاخل ولم يُكمل البناء في زمانه، فكمّله ابنه هشام من بعده فزاد فيه صومعة بلغ ارتفاعها عشرين مترا، وبنى بآخر المسجد سقائف لصلاة النِّساء، وميضأة بشرقي المسجد ثمّ توالى الأمراء من بني أميّة على الزّيادة في جماله وفي رُقعته حتّى صار المثل مضروبًا به.
فزاد عبد الرحمان الأسط في بيت الصّلاة كما زاد للمسجد أربعة أبواب، بابين من الجهة الشّرقية وبابين من الجهة الغربية، هما “باب الوزراء” و”باب الأمير”. قال الشّاعر ابن المُثنّى يمدح الأمير عبدالرّحمان:
بنيتَ للّه خير بيتٍ يخرس عن وصفه الآنام
حُجّ إليه بكلّ أدب كأنّه المسجد الحرام.
كأنَّ محرابه إذا ما حفّ به الرُّكن والمقام.
وعندما أعلن عبدالرّحمان النّاصر نفسه خليفة للمسلمين كان التّصدّع قد أصاب المئذنة التي أضافها هشام للمسجد فأمر النّاصر ببناء مئذنة بجلال المسجد وبأبّهة الخلافة بلغ ارتفاعها 40 مترًا.
ثمّ قام من بعده ابنه الحكم الثّاني بإدخال نظام القباب لأوّل مرّة في بناء المسجد فرفع قبّة مُخرّمة على مدخل البلاط الأوسط وقبّة أخرى فوق المحراب الجديد والى جانبها قبّتان أخريتان.
ثمّ انتقل هذا الشّكل من فنون العمارة من قرطبة الى طُليطلة وسرقسطة وباقي الجزيرة الايبيريّة ثمّ بلاد المغرب.
لا أستطيع أن أقول لك كم هو عدد أبواب المسجد فمعظمها قد سُدّ وبنيت عليها الجدران التي تحجب الرّؤيا كما تحجب النّور عن داخله بعد أن استولى القشتاليون نصارى الشّمال على المسجد سنة 1236م ولكن سأنقل لك ما كتبه ابن باشكوال: “طول جامع قرطبة الأعظم الّذي هو بداخلها ثلاث مئة وثلاثون ذِراعًا، وعرضه من الشّرق الى الغرب مئتان وخمسون ذِرعًا (الذّراع 0,5م) وعدد أبوابه الكِبار والصِّغار 21 بابًا، في الجانب الغربيّ تسعة أبواب منها واحد كبير للنّساء يشرع الى مقاصيرهنَّ، وفي الجهة الشّرقيّة تسعة أبواب منها لدخول الرّجال ثمانية أبواب وفي الجهة الشّمالية ثلاثة أبواب اثنان لدخول الرّجال، وواحد لدخول النّساء، وباب واحد يفضي الى دار الامارة يدخل منه الخلفاء أيام الجمعة والعيد.
وفي سنة 987م قام المنصور بن عامر بآخر توسعة للمسجد لاستيعاب القفزة السّكانية الكبيرة للمدينة. فزاد من الجهة الشّرقيّة للمسجد.
لم أتمكّن من تمييز سقف المسجد حتّى وصلت الى أحد أرباض قرطبة عند القلعة الحرّة على ضفّة الوادي كبير فمن هناك أمكنني أن أرى تناسق وتوازي سقف المسجد وفي نفس الوقت أستبشع سقف وجدران الكاتدرائيّة التي غُرست في قلبه.
لست في هذا مبالغًا ولا متحيّزا فأطمئنّ فإنّك عندما تزور قرطبة ستلمس بنفسك بشاعتها، وستلمس كيف أثّرت على هيئة البناء الجميل فأفقدته رونقه وانسجامه.
لم أكن أدري أنَّ الدُّخول الى فناء المسجد مسموح به ومن غير تذكرة فتردّدت في الدّخول اليه وتركت الأمر ليوم الغدّ.
عندما أفقت من ذهولي انصرفت عن المسجد الى جهة قنطرة الوادي الكبير، والقلعة الحرّة وناعورة ابي العافية وبقيت هناك حتى الشّفق، عدت بعدها أدراجي الى صاحب المطعم الّذي دلّني على مكان الفندق، تناولت عنده عشائي، ثمّ مضيبت الى الفندق كاتمًا ما اضطرم في صدري من انفعال وأسلمت نفسي إلى الفراش.
***
في صبيحة اليوم التّالي الـ12 من أغشطش غادرت الفندق من دون أن أتناول فطور الصّباح، مولّيا وجهي شطر المسجد الجامع، تُحرّكني نفس اللّهفة والأشواق والأمل التي حرّكتني بالأمس.
نظرت على يميني مثلما نظرت على يساري عسى أن أجد شبّاكا لبيع تذاكر الدّخول فما وجدت.
غير أنّي رأيت نزلاء الفنادق والزَّائرين يدلفون من أبوابه من دون أن يوقفهم أحد، فدلفت مثلهم من الباب الشّرقي الّذي وقفت قريبًا منه، ولكن على حذر فلم يعد المسجد مسجدنا ولكن كنيسة نصرانية، فقد خسرناه يوم خسرنا قرطبة.
دلفت الى فناء المسجد فناء البرتقال. فشدّني المكان إليه غاص بي في ذكرياته: لقد ذهب عبد الرّحمان الدّاخل وذهبت سُلالته ولم نعد نعثر لها على أثر إلاّ في دفاتر الأرشيف وكتب التّاريخ.
لكنّ شجيرات البرتقال واللّيمون والنّخلات الّتي أهدتهنّ إيّاه أخته أمّ الأصبغ من الشّام، فغرسهنَّ في قرطبة وباقي بلاد الأندلس لازالت ذريّتهنّ وحفيداتهنَّ تعقبنهنّ في نفس المكان الّذي زرعهنّ فيه أوّل مرّة، ومازالت النّافورة تتوسّط صحن المسجد ومازال ماؤها عذبًا طهورا يصبّ في حوض صخريّ ثمّ يجري في تجاويف تحت الأرض ليظهر في السّواقي الموزّعة توزيعًا مٌنتظما ومربّعا فترتوي منه تلك الشّجيرات والنخلات
لم أتجوّل بناظري كثيرًا داخل فناء المسجد فما أن دخلت الفناء حتّى لمحت خلقًا كثيًرا من الزَّائرين بعضهم يقف في الطَّابور أمام موزّع آلي للتّذاكر بجانب الحائط الشَّماليّ، وبعضهم في زحام تحت أشجار اللّيمون والنّارنج يريد دخول المسجد، فعجّلت خُطايا، وقطعت تذكرة ثمّ وقفت في الطّابور من جهة الباب الرَّئيس أنتظر دوري في الدّخول وقد خالطت مشاعر القلق والتّوتّر قلبي.
وثَبَ قلبي في صدري وثبةً شديدة من جلال المسجد وجماله، انفلتت معها مشاعري، فاذا بلساني يهتف لفظ الجلالة “يا اللّه” ثمّ عاد يكرّرها بالألمانيّة دون وعيٍ منِّي.
إنّي كثيرا ما تصّوّرت بخيالي وأنا أقرأ عن هيئة المسجد أنّي تائه في غابةٍ من مئات أشجار المرمر ومئات من العرصات الرّخاميّة والسّواري والجوازي والأقواس الحمراء والبيضاء المنصوبة على أعمدته الرّماديّة التي تنتشر بين أجنحته الأربعة، وزخارف النّباتات الملوّنة، والآيات القرآنيّة المنقوشة على جدرانه. أمّا اليوم فإنّي أتلمّسها بحواسي، فألمسها بيدي، وأراها بعيني، وأمشي بينها برجلي.
لايزال هذا الأثر الاسلاميّ الّذي وصمت به سُلالة بني أميّة الجزيرة الايبريّة بيّنا الى اليوم، قائمًا شامخًا رغم عوادي الزّمن وموجات التّخريب التي لحقت به بعد استيلاء النّصارى عليه ولازالت عناصر جلاله وجماله تشهد بصدق ما نقله لنا رحّالة العرب ومؤرّخيهم.
ولو أنّي لم أعاينه بأمّ عيني، وأقف بنفسي على هيبة أسواره وجدرانه، وأبوابه، وأقواسه، وجلال محرابه، وجمال فسيفسائه، وزخارفه الخطّيّة التي تنسجم إنسجامًا عجيبا مع نقوشه، لقلت إنّ الأوصاف التي نقلها لنا المرَّكشي وابن شكوال وابن الخطيب والادريسي وعبد المُنعم الحميري هي ضرب من المبالغة الخياليّة والأساطير الشّرقيّة التي ينسجها الكتّاب على منوال قصص ألف ليلة وليلة عسى أن يثيروا شهيّة القارئ لمقالاتهم.
يكمن سرّ جمال المسجد وجلاله الّذي يشدُّ النّاظرين ويثير الإعجاب والدّهشة بأكثر ما يُثيره من المواضع في ثلاثة معالم أبدعها المهندس المسلم، إنّها بحقّ معالم باهرة تجعلنا نتساءل عن هويّة الصّانع مثلما قال المؤرّخ الهولندي دوزي قبل السّؤال عن ماهيّة المصنوع، وهذا السّؤال عن الصّانع تثيره تلك العبقريّة الشّاملة التي لم يفلت منها شيئ، والتي تدعو إلى الاعجاب في تصرّفها نحو الصّغائر، كما تدعو إلى الإعجاب في أسمى الأمور.
ــ الأعمدة الرُّخاميّة الرّماديّة الرّشيقة التي تحمل أقواسًا على أقواس أرجوانيّة وبيضاء، وتربطها عقود تُجاور عقودا، وعُقود تناظر أخرى في تلاحمٍ وانسجام، لتشكّل غابةً من الأروقة متعادلة ومتناسقة الأجزاء، تتناوب فيها الألوان الحمراء والبيضاء والذّهبيّة الرّماديّة فتضفي على المكان طابعًا متميّزا يُعطي النّاظر اليها احساسًا باللاّنهاية عبر توالد الأعمدة وطريقة اصطفافها.
وعندما تتسلّل خيوط النّور الضّعيفة من النّوافذ الثّلاثيّة بين الأعمدة والسّواري تسري الى روحك نشوة صوفيّة تستشعر فيها نفسك بعيدًا عن عالمك الدّنيوي، مستغرقًا في خشوع ورهبة، ومتطلّعا الى عالم آخر هو عالمك الحقيقي الّذي ستنتهي إليه.
ــ وشكل قبابه الفسيفسائيّة على هيئة مِشكَل مُذهّب ذات ضلوع، مغايرة في سماتها لقباب المساجد في المشرق المغرب، لم يسبق اليها أحد وانَّما هي ابتكار أندلسي خالص يدلّ على عبقريّة وحيويّة خارقتين وصل اليهما مهندس الخليفة الأمويّ الحكم الثّاني، ولم يتأثّر فيه قطّ سواءً بفنّ العمارة الرُّوماني أو اليونانيّ.
ومن قرطبة شاع هذا الشّكل من القباب في طليطلة وسرقسطة، ومنهما انطلق ليغزو العمارة المغاربيّة و الاسبانيّة والفرنسيّة.
ــ ومحرابه الأوسط، أو محراب الحكم الثّاني الّذي توشّى بزخارف خطّيّة من آي القرآن الكريم، وفسيفساء نباتيّة جمعت بين اللّون الذّهبيّ والأسود، وعلى واجهته سبعة عقود دقيقة التّكوين ويعلوه قبّة بجانبها قبّتنان، وفي جانبي واجهته لوحتان من الرّخام، نُقشت عليهما توريقات وتشجيرات في غاية الجمال والاتقان.
وبسبب التّوسعة التي أحدثها المنصور بن عامر فقد المسجد تناسقه وتعادل أجزائه وأصبح المحراب الّذي كان يتوسّط بيت الصّلاة متطرّفًا.
وأنت واقف وسط هذه الحشود من البشر التي جاءت من أقاصيّ الأرض فقط لتملأ أبصارها من هذا الجمال تنتابك مشاعر متضادّة، مشاعر الزّهو والانتشاء، والفخر بالانتساب الى هذه الأمّة التي أبدعت هذا الابداع، تنازعها في حلقك مشاعر الحزن، والأسف، والأسى، لما آل إليه أمرها لمّا انحرفت عن مبدئها وغايتها التي قام أساسها الأوّل عليهما.
إنّ خصوصيّة البعد الجوّاني للإبداع الفنّي المعماري يعكس في واقع الأمر حقيقة متميّزة، وهي أنَّ هذا الابداع الفنّي إنّما قام لتشخيص التّصوّر الثّقافي والفكري لكلّ دين وحضارة.
ففي العمل الفنّي تكشف الرُّوح عن مكنونها وسرّها وعن جمالها وزيفها ووحشتها في عفويّة ودون أن تستهدف ذلك، فعندما كنت أتجوّل بين ثنايا المسجد وجنباته كان لِزامًا عليّ أن أتوقّف أمام الكاتدرائيّة المستحدثة داخله وأنظر بداخلها ثمّ أنظر في أعين الزّائرين لهذا المسجد، فوجدت أنّ العين التي تشبّعت من جمال المسجد الجامع لتنبو عن النّظر فيها، أو الإلتفاف إليها.
فما هذه الكاتدرائيّة إلاّ إحدى التَّشويهات التي لحقت بالمسجد فأفقدته بعضًا من رونقه.
إنَّ مثلها مثل هيكلٍ صخريّ بُني وسط جنّة خضراء، أو مثل نيزكٍ سقط من السّماء وسط واحة نخيل غنّاء. وإنّي على يقين أنّه لولا هذه الكاتدرائيّة التي في وقلبه لكان المسجد أجمل وأكثر روعة ممّا نراه اليوم، ولغشيت الدّهشة نظر الزّائرين ولبكمت الأفواه عنده، ولخرست الألسن، ولخانت العبارات من أراد وصفه، من فرط حسنه وبهائه.
إنّ فنّ عمارة المسجد وطريقة توزيع أجزائه، وانتظام أروقته، وتلاحم ألوانه، وتشابك زخارفه وفسيفسائه، ورهافة أعمدته هو وجه آخر من وجوه تماسك النّفس المُسلمة، ورأفتها ورقّتها. وقد سدّت هذه الكاتدرائيّة على الباحثين عن الجمال، والمستلذّين به جمال المحراب وجمال الأروقة وجمال المكان كلّه فحتّى تنتقل من جمال الى جمال عليك أن تستفرغ من عينك وروحك قبح الصُّور، والتّماثيل، والصّلبان، التي نظرت إليها والتي تشتّت الفكر وتدنّس الرُّوح.
يشدّني الحنين من جديد الى المحراب، فأعود بعد طول تجوال بين جنبات المسجد وبلاطاته الى حيث تزاحمت تلك الحشود من أجناس البشر، وألوانه بكثافة والتي أذهلها جمال المكان وأدهشها فأكبرت جلاله ونسيت أنّها في زمن الكورونا والوباء، فأنهمكت في تصويره والتّصوير فيه، وما عادت تُبالي أن يُصيبها الدَّاء، ولا أن تنقل الى غيرها العدوى.
فأتسمّر غير بعيد عنه، أحدّجه بنظري، فيُتهيّأ لي أنّ أشعّة من نور تشعُّ منه وأنّي أسمع نبض الزّخرفات على محياه، ولهف الزّركشات على جوانبه. وأنَّ صدى القرآن ينبعث من حناياه، ترجعه جدران المسجد، ورنين بكاء أربعين ألفًا من المتضرّعين يتردّد بين ثناياه.
فأستغرق في خشوعٍ وذهول، فلا أحسُّ فيما أحسّ إلاَّ ما تُشعرني به نفسي، ويحجب عنّي الخيال هذه الحشود ويوصلني بماضي قرطبة المجيد، وهُيئ لي أنّي أرى صورًا وخيالات وأشباح من ذلك العهد التّليد.
أرى صور العشرات من الأئمة والمُقرئين والأمناء والمؤذّنين والسدنة والموقدين وغيرهم من المتصرّفين، ذكر المقري أنّهم بلغوا مئة وتسعة خمسين خادما بهذا المسجد.
أراهم يتوزّعون الأدوار، فمنهم من يوقد من بخور العنبر، ومنهم من يوزّع الشَّمع والكتَّان على ثّريّات الجامع المئة وأربعة عشرون ومنهم من يوقدها ومنهم من يُلقي دروس الحديث والتّفسير والسّيرة مستندًا الى عمود، أو إلى جدار وحوله مئات من الطّلبة الّذين قصدوا قرطبة من جميع الجهات لإقتباس نور العلم بها.
ويرفّ الخيال بروحي بين تلك الحلقات ويتوقّف بي عند حلقة يحي بن يحي اللّيثي تلميذ الامام مالك وممّن أحلّوا مذهبه بالأندلس محلّ مذهب الأوزاعي.
وممّن تمرّسوا في العلم وعملوا بمقتضاه حتّى سما به الشّأن في قرطبة، وباقي الأندلس، والتفّت حوله العامّة وطُلاّب العلم، وعمل برأيه الأمراء.
قال ابن عبدالبرّ: ” قدم يحي بن يحي الأندلس بعلمٍ كثير فعادت فُتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار الفقيه عليه، وانتهى السُّلطان والعامَّة الى رأيه، وكان فقيها حسن الرّأي”.
ولد يحي بن يحي اللّيثي سنة 152ه وأصله من قبيلة مصمودة البربريَّة. طلب العلم بالأندلس ثمّ هاجر الى مدينة رسول اللّه(ص)، أخذ عن الامام مالك العلم وقرأ كتابه الموطّأ حتّى صار له شأنًا عنده. كما نهل من علم اللّيث بن سعد، وسُفيان بن عيينة وعبد اللّه بن وهب وطائفة من علماء الحجاز والمدينة المنوّرة ومصر.
كان متديّنًا ورعًا، ذا همّة ووقار، وافرالجلال، وعظيم الهيبة، مُكبّا في طلب العلم، ومثابرًا عليه.
وممّا يُؤثر عنه في هذا المجال أنّه كان يومًا في مجلس علمٍ عند الامام مالك، وبينما هم جلوس، إذ حدثت جلبة شديدة خارج المسجد نتيجة تجمهر النّاس لمشاهدة الفيل. فخرج كلّ من كان في مجلس الامام من الطُّلاّب لمشاهدة الفيل إلاّ يحي بن يحي، فلمَّا سأله الامام مالك عن سبب عدم لحاقه بهم. ردّ عليه:
” إنَّما جئت من بلدي لأنظر اليك وأتعلّم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر الى الفيل”
فأعجب به الامام مالك وسمّاه ب: “عاقل أهل الأندلس”. فلمّا مات الامام مالك عاد اللّيثي بميراثه الى الأندلس.
ذكر ابن عذارى أنّ يحي بن يحي كان كبير الشّأن، مُعظّمًا عند أمراء بني أميّة باستثناء الحكم الأوّل، ولم يكن من علماء السّلاطين ولا من المتزلّفين اليهم، بل كان ثائرًا على الظّلم والطّغيان. فما كاد اللّيثي يتأكّد أنَّ الحكم يسير في تسيير الدّولة على غير سيرة أبيه هشام، وأنّه كان قاسيًا مع الرّعيّة مستهزئًا بها، مستبدّا برأيه، ومُسرفًا في أمره. ذكر المُؤرّخون أنّه عندما شرع الحكم بن هشام يحكم أقبل على الحكم كأنّه خليفة شاب من خلفاء بني أُميّة في أواخر أيّامهم في المشرق، فمضى يلهو ويتمتّعُ بأطيب العيش، ومن حوله حاشية متكبّرة متعالية، وجُند خاصّ قاسٍ عنيف على النّاس معظمه من الصّقالبة، فلم تمض من ولاية الحكم إلاّ شهو رقليلة، حتّى بدأ أهل بيته وكبار دولته يُدبّرون عليه لأنّهم رأوا شابًّا خليعًا ماجنًا مستخفّا وانضمّ اليهم نفر من الفقهاء من بينهم يحي بن يحي اللّيثي. فتعرّضوا للحكم، وجهروا بانتقاده وألهموا مشاعر الشّعب ضدّه وضدّ حكمه. وحاولوا استبداله بأمير أمويّ آخر هو محمّد بن القاسم المروانيّ، غير أنّ المروانيّ خاف فأبلغ الحكم بما يُحاك ضدّه فقبض الحكم على سبعين رجلٍ منهم وأمر بصلبهم، وفرّ يحي بن يحي ومعه عيسى بن دينار الى طُليطلة ولم يعودا الى قرطبة إلاّ بعد موت الحكم وتولّي عبد الرّحمن الأوسط ابنه الحكم.
أترك درس يحي بن يحي وأترك الخيال يحلّق بي من جديد وأحتار في الرّكن الّذي أحطّ فيه ففي المسجد سبعة وعشرون درسًا في الفكر والتّاريخ والأدب وطلاّب الدّروس جاؤوا من عدوة المغرب ومن بلاد الأندلس بالآلاف يريدون أن يغرفوا وينهلوا من علم قرطبة، وتسترق أذني صوتًا جهورًا يحمل على الملوك ويحمل على العلماء والفقهاء يُطالب بعودة الشّوعية الدّستورية لبني أميّة ويُنذر أنّه اذا لم تحترم القرشية في الامام فإنّ كلّ الأندلس ستتفتت وتضيع.
سمعتُه يهتف: “إنّها الفضيحة! لم يقع في العالم الى يومنا هذا مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيّام في مثلها كلُّهم يتسمّى بأمير المؤمنين ويُخطب لهم في يومٍ واحد، وهم خلف الحصري باشبيليا على أنّه هشام المُؤيّد بن الحكم، ومحمّد بن القاسم بن حمّود بالجزيرة، ومحمّد بن ادريس بن حمود بمالقة وادريس بن يحي بن حمّود بببشتر”.
إنّه الفقيه الظّاهري “ابن حزم” صاحب كتاب “المُحلّى” و” الإحكام في أصول الأحكام” وصاحب كتاب “طوق الحمامة” أشهر الكتب في التحليل النّفسي الّذي سبر أغوار الحبّ والعشق في النّفس البشرية وهو تأليف لم يسبقه إليه أحد.
ولا زال الكتاب يملأ دنيا الأدب ويشغل عقول أهل الفكر، وقد تباينت وجهات النّظر فيه، فهناك من يرى أنّه يُمثّل مظهرًا من مظاهر الحياة النّفسيّة والإجتماعيّة والفكريّة في قرطبة في القرن الـ11م، وهناك من يرى فيه ملمحًا من ملامح نظريّة الحبّ عند الأندلسيّين، وأخيرًا من يرى أنّ قصصه ليست إلاّ خيال أدبيّ جامح صاغها ابن حزم بلغته الأدبيّة والشّاعريّة المُميّزة.
كان ابن حزم فقيها وحافظًا وأديبًا وشاعرًا ومفكّرً اشديد الاعتداد برأيه، حادّا في الدّفاع عن آرائه، أشتهر بسطوة لسانه، ومضاء كلماته، حتّى قيل في وصف حدّة طبعه: “لسان ابن حزم وسيف الحجّاج شقيقان”.
ويقول عنه ابن حيّان القرطبي: “فلم يكُ يُلطّف صدغه بما عنده بتعريض، ولا يزفُّه بتدريج، بل يصكّ به معارضه صكّ الجندل… فينفرعنه القلوب، ويُوقع بها النّدوب، حتّى إستهدف الى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردُّوا قوله، وأجمعوا على تضليله وشنّعوا عليه وحذّروا السلاطين من فتنته، ونهوا العوام عن الدّنو منه”.
قال متحدّيا الذّين أمروا بحرق كتبه:
إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا …الّذي تضمّنه القرطاس بل هو في صدري.
يسير معي حيث استقلّت ركائبي … وينزل إن أنزل ويُدفن في قبري.
دعوني من احراق رقّ وكاغدٍ … وقولوا بعلك كي يرى النّاس من يدري!
كذاك النّصارى يحرقون اذا علت … أكفّهم القرآن في مدن الثّغر.
عندما انتهيت من حلقة ابن حزم ونظرت الى أجنحة الجامع وأعمدته تواردت على ذهني صور العلماء والفقهاء. فتراء لي الامام ابن محمّد القرطبي مستندًا الى عمود يفسّر القرآن المجيد، ثمّ تراء لي ابن رشد يفتي في الفقه ويلقي دروسًا في الطّب، وابن حمدين ينكر على أبي حامد الغزالي كتابه الإحياء ويفتي بحرقه. وتكاثرت عليَّ صور الأشخاص والأحداث بالجامع حتّى تشوّش فكري وفي هذه السّاعة أسعفني وعي فأنتز عني من ذلك الزّمان المجيد وعاد بي الى واقعي لأنظر في أعين تلك الحشود فأجدها مازالت شاخصة أمام هذا الجمال، خاشعة أمام جلاله، تتساءل ما السّر الّذي أوصل الأمّة الأندلسيّة الى هذا الإبداع؟
ها أنا قد كتبت لك في وصف المسجد من الدّاخل ارتجالاً، وأنا على يقين أنّ الوصف لا يوفي الموصوف حقّه، فليس الشّاعر الّذي ينظم القافية في وصف الشّمس، كالشّاعر الّذي ينقل لك مشاعره لمّا يرى الشّمس فيُثير خيالك ويستفزّ شعورك فتطلق لروحك العنان لتتخلّص من قيود الزّمان والمكان وترى جمال وجلال ما أعنيه بعين الخيال لا بعين البصر.
أخرج من أرجاء المسجد من باب الجهة الشّرقيّة التي أضافها المنصور بن عامر الى فناء المسجد، أعود فأتأمّل أشجار النارنج واللّيمون، وتلك النّخلات الغريبات عن هذه الأرض اللواتي رحل غارسهن، وبقين هنّ لم يرحلن، أتأمّلهنّ وأتأمّل معهنّ شكل المنارة الغريب، فيسرى الى فكري استهجان حاولت تجاوزه، ولكنّه بقى مُلحًّا على فكري:
إنّ هذه المنارة التي أمام بصرك ليست هي المنارة التي بناها الخليفة عبد الرّحمان النّاصر. فالمنارة النّاصريّة بلغ ارتفاعها عند الانتهاء من بنائها 40 مترًا.
وقد نصّب في أعلاها سفود يحمل ثلاث تُفّاحات فوق بعضها: الأولى والثّالثة من الذّهب والثّانية من الفضّة.
أمّا هذه المئذنة فشكلها غريب وهي أقصر بكثير من المئذنة التي كتب عنها مؤرّخو الاسلام. لكنّي علمت فيما بعد أنّه في عام 1589م ضرب زلزال عنيف مدينة قرطبة فألحق أضرارا بالغة بالمئذنة وتسبّب في شقوق بالغة في أعلاها وجسمها.
لكنّ مهندسًا قرطبيّا أنقذها من الانهيار عندما أحاط جدرانها الخارجيّة بغلاف من الحجارة قصد تقويتها وتمتينها.
إنّه لولا روعة عمارة المسجد، وجمال هيئته، وزخارفه وفسيفسائه، وفنّ بنائه لتعرّض للتّدمير والتّخريب بعد أن سيطر الاسبان على قرطبة مثله في ذلك مثل غيره من المساجد التي كانت تُزيّن أرض الأندلس. إنّ جماله وجاذبيّته هما وحدهما الّذين حمياه من المخاطر التي لحقت بغيره من المعالم الإسلاميّة.
فمثلما أنّ الحقُّ أقوى من الباطل، كذلك الجمال أقوى من الغلّ والحقد والانتقام. ومع ذلك فإنّه رغم هذا الجمال الّذي يأسر الرّوح فتبقى مستسلمةً أمامه فإنّ هناك أنفسًا مريضة المزاج أعماها التّعصّب والحقد والحسد وانحدر بها إلى أدنى الدّركات، فحاولت مرّات ومرّات مسخ المسجد ومحو بهائه وتزييف هويّته.
فعندما استولى الاسبان على قرطبة سنة 1236م كان أوّل ما فعله الملك فرديناند الثّالث وأساقفته هو تحويل هويّة المسجد من دار عبادة اسلاميّة الى كنيسة نصرانيّة، سمّيت بـ”كاتدرائيّة سانتا ماريَّا”.
ومنذ ذلك الحين والكنيسة النّصرانيّة تعمل على تغيير ملامح المسجد ومحو هويّته باضافة الزّخارف والصّور والأصنام التي تتناسب مع طقوس عبادتها. ففي سنة 1371م عمدت الكنيسة الى اقامة المصلّى المعروف باسم “مصلّى سان فرديناند” بجوار قبّة الضّوء التي بناها الحكم الثّاني. وفي سنة 1489م قام الأسقف “أنييجو مانريكي” بهدم عقود وأعمدة البلاطات الممتدّة من الجدار الغربيّ حتّى مُصلّى “فيلافيسيوسيا”.
غير أنّ التّشويه الكبير حدث سنة 1523م عندما أقدم الأسقف “دون ألونسو مانريكي” بهدم جزء كبير من زيادة عبدالرّحمان النّاصر وزيادة الحاجب المنصور وبناء كاتدرائيّة قوطيّة في وسط المسجد. وعندما عارضه المجلس البلدي وأعيان قرطبة عرض الأمر على الملك شارلكان الّذي وافق على الهدم من غير أن يرى الجامع.
فلمّا زار قرطبة سنة 1524م ورأى قبح صنيع الأسقف ندم موافقته، وقال للأسقف عبارته المشهورة ” لوكنت قد علمت ما وصل إليه ذلك لما كنت قد سمحت بأن يُمسَّ البناء القديم لأنّ ما بنيتموه موجود في كلّ مكان، وما هدمتموه فريد في العالم”.
استمرّ الوضع هكذا الى تشرين الثّاني من سنة 2014م حيث قامت أسقفيّة الكاتدرائيّة الجامع بقرطبة بمراجعة المواد الدِّعايّة الإعلاميّة المنشورة على شبكة الانترنت، وشطب اسم المسجد من على الخرائط والدّليل السّياحي كما أصدرت نشريّة جديدة لا تُشير الى تاريخ الجامع الاسلامي وانّما اكتفت بالإشارة الى أنّه كنيسة كاثويكيّة بنيت سنة 1236م بعد غزو القشتاليين.
أمّا الوجود الاسلامي بالمدينة الّذي استمر لأكثر من 500 سنة فقد إعتبرته وجودًا عابرًا أشارت اليه بالتّدخّل الاسلامي.