يثير الكاتب نورالدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في المانيا.
****
تلاشى الواقع من أمامي وغصت في عالم خيالي مُزوّدا بمصباح خافت،رحت أقلّب به بين دفاتر التّاريخ وسجلاّت الأحداث،وأقرأ في عناوين كتب التّراث التّى كتبت في تاريخ الأوبئة والطّاعون لأستكشف كيف واجهتها الأجيال الأولى من أطبّاء المسلمين.
وتجلّى لي أمام ضوء المصباح الخافت الّذي أستضأت به مشهد الطّاعون الجارف أوالموت الأسود الّذي زحف من الصّين قبل أكثرمن ستة قرون، وبالضّبط في سنة 1348م واجتاح قارّات العالم الثلاث، فكان من أفظع الكوارث التي أصابت الإنسانيّة وأشدّها عليها، إذ أودَى خلال خمس سنين بحياة 65 مليون انسان.
كتب ابن خلدون يصف مشهد الدّمار الّذي خلّفه هذا الوباء فقال:
“هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المئة الثامنة من الطّاعون الجارف الذي تحيَّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وأوهن من سلطانه وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أمواله”.
وقد حدّد الطّبيب، والعالم الأندلسي ابن خاتمة الأنصاري الّذي بحث في أمر هذا الوباء موقع أصله في الصّين، مثله مثل الوباء الحالي الّذي تعاني البشريّة منه، كما حدّد أوّل حيّ اجتاحه الوباء في الأندلس، وأوّل عائلة أندلسيّة أصيبت به في مدينة المَرية.
يقول ابن خاتمة في رسالته ” تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد” التي كتبها عن هذا الوباء:
“وقد اُخُتُلِف في مبدأ هذا الحادث من أين ابتدأ ظهوره، فذكر لي الثقة من تُجّار المسلمين القادمين علينا بألمرية أن ابتداءه كان ببلاد الخاد وبلاد الخاد بلسان العجم هي الصين على ما تلقيته عن بعض الواردين من أهل سمرقند”.
وها أنا أنقل هنا مقاطع بقيت عالقة في ذهني من مقال بعنوان:
” ابن خاتمة أول من وصف فشل الأعضاء المُتعدّد أحد عوامل الوفاة بالكورونا”
” في عام 1348، اجتاح وباء يُعرف باسم الموت الأسود العالم وغيّر النظام الاجتماعي والاقتصادي العالمي، كما هو الحال مع فيروس كوفيد ــ2 . وقد أثار ما كتبه طبيب مملكة غرناطة ابن خاتمة المَريِي في رسالته عن ذلك الوباء، الباحثَ والطبيب الاسباني مانوال هريرا كارنزا، الذي أمكنه العثور على أوجه تشابه وبائية وسريرية بين الجائحتين. وقد توصل الباحث إلى أنّ هذا العالم العربي كان أول من وصف فشل الأعضاء المتعدّد الّذي يُعتبر أحد عوامل الوفاة للمصابين بالطّاعون وكذلك بالكوفيد-.19
ثُمَّ يسترسل صاحب المقال فيقول:
ساهم ابن خاتمة في مجابهة هذا المرض في ألمرية مسقط رأسه، حيث عالج العديد من سكّانها وكتب في عام 1349 رسالته ” تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد” المعروفة أيضًا ب”رسالة في الطّاعون”. بناء على ممارساته وملاحظاته الشخصية على الأرض، إضافة إلى ما دوّنه من سبقوه في هذا المجال.
سبق ابن خاتمة المَريِي، كما يقول الباحث الاسباني، التطورات والاكتشافات العلمية التي حدثت في القرنين التاسع عشر، والعشرين في نظرية علم الأوبئة وعلم الأحياء الدّقيقة، ولا سيّما في الجوانب المتعلّقة بانتقال المرض.
ويقول ابن خاتمة في الرّسالة كما أوردها صاحب المَقال:
“وبنفس الطريقة التي يأتي بها الضّرر من نَفَس المريض عندما يتنفَّس، فإنه يأتي أيضا من الأبخرة التي تنبعث من أجسادهم، مع أنهم ليسوا تحت تأثيرها أوعرضة لها، ومن استعمال ملابسهم، ومن الأسِرّة التي يقضون فيها فترة المرض إذا استعملوا سراويل طويلة أواستمر الاستنشاق.
العلم والخبرة يشهدان على كل هذا… الهدف من منع الاتصال هوالإرشاد لرعاية الأصحّاء حتى لا يمرضوا، بحول الله تعالى، عند إحضار المرضى أمامهم، كما هو معتاد”.
ويلخّص صاحب المقال أهميّة ما اكتشفه ابن خاتمة والقيمة العلميّة لرسالته في الطّاعون:
1ــ المفهوم الفيزيولوجي المرضي لفشل الأعضاء المتعدّد.
2ــ فشل الجهاز التّنفّسي الحادّ وتطوّره الى متلازمة الضّائقة التّنفسيّة للبالغين.
3ــ نظريّة العدوى: أبخرة ملوّثة بكائنات دقيقة تنتقل من شخص الى شخصٍ أخر عن طريق الهواء والنَّفَس والتّلامس مع المريض.
فمن هو الطّبيب ابن خاتمة الأنصاري:
جاء في الموسوعة العربيّة أنّ: ابن خاتمة الأنصاري هو أبو جعفر أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري المري الأندلسي، طبيب من كبار الفقهاء.ولد بالمِرية- ثغر جنوبي الأندلس – وبها عاش وأخذ علومه في مجالس شيوخها حتى غدا من كبار قرائها فتصدّر للإقراء في جامعها الأعظم، وكان له مجلس علم يقصده كثير من طلاب العلم الذين تخرجوا بعد أن أجازهم ابن خاتمه.
شـهد ابن خاتمة ظهور وباء الطاعون الذي اجتاح الصين ومعظم أقطار قارة آسيا متجهاً إلى الغرب منها حتى وصل سواحل البحر المتوسط، واجتازه غرباً ووصل إلى سـواحل الأندلس الشرقية عام 749هـ/1328م وتغلغل في أرضها ومدنها.
وكان ابن خاتمة يُسعف المرضى والمصابين به ويراقب بكل اهتمام وعناية كيفية انتشاره وانتقاله بين كلّ شرائح المجتمع ويسجّل مشاهداته وملاحظاته مما أفاده في دراسة كيفية انتشارهذا الوباء وأسبابه.
وقد اعتمد على هذه المشاهدات في تقرير نظريته عن هذا الوباء القاتل وسرعة انتشاره وأودعها في كتابه الطبي “كتاب تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد” الذي يُعد من أهم مؤلفاته. صنّفه سنة 749هـ، إثر ظهورالطّاعون بالمرية بالأندلس، ووضع له تعريفاً علمياً لحقيقة هذا الوباء ويقول في صدد ذلك:”إنّه حُمّى خبيثة دائمة عن سوء مزاج قلبي بسبب تغيير الهواء عن حالته الطبيعية إلى الحرارة والرطوبة،مهلكة في الغالب، يتبعها كرب وعرق غير عام لا يعقب راحة ولا ترتفع عقبه حرارة، وقد يوجد لها فتور في اليوم التالي واضطراب في عامة الأوقات ثم تتزايد من بعد. وقد يتبعها تشنج، وبرد في الأطراف، وقيء مراري سمج متواتر وعطش واختلاف سَحْج على ألوان،أو ثقل في الصدر وضيق في التنفس ونفث في الدم أو نخس في أحد الجانبين أو تحت النهدين مع التهاب وعطش شديد وسعال، وسواد في اللّسان أو تورم في الحلق واختناق مع امتناع الابتلاع، أو عُسره، أو وجع في الرأس، أو سَدَر، ودوار، وغثيان وانطلاق فضول سمجة.وقد تتداخل بعض هذه الأعراض، وقد يكون ذلك مع نتوء عقد وطواعين تحت الإبط ،أو في الأرْبيّتَيْن، أوخلف الأذنين، أوفيما يلي هذه المواضع، بوجع متقدم في الموضع أو دونه، وقد تحدث قروح سود في مواضع الجسد، وأكثر ذلك في الظهر والعنق وقد تحدث في الأطراف.
ويقول في موضع آخرعن أنَّ انتقال الطاعون يكون في العــدوى: “…وجدت بعد طول معاناة أنّ المرء إذا ما لامس مريضاً أصابه الدّاء وظهرت عليه علاماته فإن نزف الأوّل دماً نزف الآخر وإن ظهر في الأول ورم ظهر في الآخرأيضاً في المكان نفسه وإن تكونت قروح سال منها قيح في الأول حصل للآخر مثله وهذا سبيل انتقاله من المريض الثاني إلى الثالث”
ثم يستطرد فيقول:”… واعلم أن سببه القريب غالباً هو تغيير الهواء المحيط بالإنسان الذي فيه تنفسه. وهذا التغيير يكون في الكيف و يكون في الجوهر”.
هذا هو ابن خاتمة الأنصاري الّذي اقترن اسمه بالطّاعون الجارف. ولولا وباء كورونا الزّاحف من الصّين قبل عامين ما كنّا لنعرفه ولا لنذكره، ولا كنّا لنستنير بشِعره.
هو الدّهر لا يبقى على عائدٍ به…. فمن شاء عيشًا يصطبر لنوائبه.
فمن لم يُصَب في نفسه فمُصابه …. بفوت أمانيه وفقد حبائبه.
ومن عنوان رسالته في الوباء ” تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد ” استلهمنا عنوان مقالنا نحن.
لقد حافظت الأندلس حتّى في أحلك ظروفها وأقسى فترات تراجعها السّياسي والعسكري على القدرة على الابتكار، والابداع، والعطاء الفكري والثّقافي.
***
مضى الآن أكثر من ساعة على اقلاع طائرتنا من مطار فراكفورت، وبقي لها أقلّ من ساعتين كي تصِل الى مطار مالقة. تملّيت حولي وتفحّصت في أقفاء الرّاكبين معي. كان منهم من أسدل جفنيه واستسلم للنّوم الّذي تمكّن منه، ومنهم من بقي يقظا متحسّسا لكنّه شغل نفسه بأمر يُسلّيها. ربّما غاص في رواية ولم يرد أن ينهيها بعد أن اسـتأثرت بوُجدانه، أو لعبة على لوحته الالكترونيّة أغوته وسحرته وأخذت بتلابيب عقله فغاص فيها حتّى انعدم المكان والزمان من حوله. أمّا أنا الّذي مازال يقاوم اليقظة ويستجدي النّوم فقد خالجني احساس آخر: ساعتان من الزّمن قبل أن أصل الى مالقة،انّها رده طويل لم أرد فيه أن أقطع على نفسي جوّ الأفكار والأوهام والخيال الذي هامت معه وتركتها تأخذ وطرها منه مادام فيه سكينتها وراحتها.
استحوذ عليَّ فجأة أنّ الشّبح الّذي يُطاردني والّذي هو وراء ما ينتابني من حزن وشَجَن وما أكابد من أسى معي في الطّائرة فإلتفتّ خلفي اتفحّص في وجوه الأناسيّ لكنّه تلاشى كعادته وتوارى عن عيني فبحثت عن شيءٍ آخر أهيم به كي أصرف به خاطري عن التّفكير فيه، فتزاحمت صور البلدان في فكري وتلاطمت الخاطرات حولها.
ما أجمل أن يهرب المرء من واقعه القاسي ورتابة الحياة ويغوص في عالم الخيال، وأجمل منه أن يجدّف في قوارب الورق الأبيض بمجاديف الأقلام. وفي كلمات المَداد الأسود.فيخفّ الى عالم غيرعالمه ويُسافر بين دفاترالتّاريخ وخرائب العمران مثل طائرٍحرّ لا يحتاج الى رخسة ولا تأثيرة ولا قرار، ويحمل رسائل الملوك الى الملوك، ويدخل عليهم من غير استأذان، فيتأمّل أشخاصهم ويُسجّل ما يدور بينهم من سِجال.
شرد بي الذّهن حتّى دخلت على الأميرعبد الرّحمان النّاصر في دار ملكه بالزّهراء وقد أعلن نفسه خليفة للمسلمين بعد أن تفكّك صِوارالخلافة العبّاسية وازداد نفوذ قبائل الدّيلم التركية، وانتزعت الشّيعة الباطنيّة منه بلاد المغرب ومصر والحجاز وأعلنت فيها الخلافة الفاطميّة.
وأمام هذا الفراغ السّياسي في ديار الاسلام، وحتّى يحمي عبدالرّحمان دولته من الخطرالشّيعي أعلن نفسه خليفة للمسلمين. فبايعه أهل الأندلس وأقطار وقبائل من عدوة المغرب وبنى الزّهراء واستقبل فيها الملوك والسّفراء، وعقد فيها العهود والاتفاقيات. ورأيت كيف تعامل مع رسول ملك الفرنجة الّذي وفد عليه من فرانكفورت من قبل الملك أُوتوالأوّل سنة 955م.
جاء في كتاب “سفارات الأندلس الى ممالك أروبّا المسيحيّة الكاثوليكيّة” أنّ الملك “أوتو الكبير”ملك النّصرانيّة أرسل سفارة الى عبد الرحمان الثّالث خليفة الاسلام في محاولة لايقاف الخطر الأندلسي القادم من وراء جبال البرانس، الّذي مثله قيام دويلة جبل القلال التي عُرفت باسم “فراكسنيتوم”.
ذكر المؤرّخون أنّه في سنة 890م وصلت سفينة إلى جنوب شرق فرنسا في منطقة البروفانس وكانت تحمل بعض البحّارة الأندلسيّين المُغامرين، استقرّوا في منطقة جبليّة منيعة شمال مرسيليا وبدأو في فتح بعض المناطق ونجحوا في ذلك فالتحقت بهم أعداد كبيرة من المؤيّدين من الأندلس وشمال افريقيا وقد عرفت قاعدتهم في المصادر اللاّتينيّة باسم “فراكسنيتوم”.
وأمّا الرّواية الاسلاميّة فتسمّيها “جبل القلال” وقد استمرّت هذه الدُّويلة حتّى سنة 975م وصارت لها سلطة واسعة شملت جنوبي فرنسا وشمالي ايطاليا وسويسرا، وللحدّ من توسّعها ومنع تجاوزتها أرسل الإمبراطور أوتو الأوّل سنة من فرانكفورت سفارة ألمانيّة الى بلاط قرطبة هدفها التّوسّط لدى عبد الرّحمان الثّالث.
لكنّها لم تحقّق هدفها واعتذرعبد الرّحمان بأنّ قرطبة غير مسؤولة عمّا حدث وأنّه لا سُلطان له على امارة جبل القِلال ولا يتحمّل تبعة أعمالها. غير أنّ الرّواية الكنسيّة كما روى عبد اللّه عنّان تقدّم الينا حديثا طريفا عن آراء النّاصر في نُظم الحكم، فقد وقف النّاصر من مستشاريه أو من السّفير الألماني نفسه على طرق نظام الحكم السَّائد في ألمانيا، ما يتمتّع به بعض الأمراء الاقطاعيين في ظلّ هذا انلّظام من الاستقلال الدّاخلي أبدى النّاصر للسّفير اعتراضه على هذا النّظام قائلاً:
ــ إنَّ مليككم أمير حكيم ماهر، ولكن في سياسته شيئًا لا أستسيغه، وهو أنّه بدل من أن يقبض بيده على جميع السّلطات، ينزل عن بعضها لأتباعه ويترك لهم بعض ولاياته، معتقدًا أنّه يكسب بذلك، وهذا خطأ فادح، فإنّ مُداراة العظماء لا يُمكن إلاّ أن تزيد في كبريائهم، وتُذكي رغبتهم في الثّورة.
هذه تفاصيل المراسلات والسّفارات بين قرطبة وفرانكفورت في عهد النّاصر أوردناها كي نُبيّن الفرق الشّاسع بين تصوّر عبد الرّحمان الثّالث للملك والإمارة وبين تصوّر الامبراطور الألماني ولنتأمّل في ثمرات طريقة حكمهما وآثارها التي امتدّت الى يوم النّاس هذا ونحكم عليها.
ستحطّ بنا الطّائرة في مطار مالقة بعد ساعة وسأبقى فيها يومين ثمّ أعرّج على قرطبة وأنا أعلم أنّ قرطبة التي سأزورها اليوم ليست هي قرطبة التي رسمتها الذّاكرة التّاريخيّة التي لن تنمحي من خيالي ومن خيال كلّ مسلم، إنّها ليست تلك الصّورة النّمطيّة التي تختزنها أجيال وأجيال في غياهب الوعي الجماعي وبقيت هي نفسها صورة مقرُّالعزِّ الّذي لا يُهضم والكمال الّذي ليس بعده كمال والتي ورّثنا اياها الجيل الأوّل الّذي كتب لنا عنها قبل ضياعها وانطفاء نورها.
لقد أصاب الدّهش والعجب عبدالرّحمان الثّالث من طريقة حكم الإمبراطورالألماني ولم يستسغ كيف لامبراطور مثله أن يكون مرنًا ويتنازل لولاته وأمارائه عن بعضٍ من شؤون الحكم.
كان عبد الرّحمان يرى أنّه مادام هو الأمير فإنّ له الحقّ أن يقبض على السُّلطة بكلتا يديه، وأنّه لا معنى لحكمه ان شاركه أحدٌ في ملكه. وعلى الرّغم من ذكاء عبدالرّحمان السّياسي وذكاء آبائه الّذين ينتسبون الى البيت الأموي، وادراكهم لما حلّ بهم في المشرق بسبب عدم رضى نخب سياسيّة وفقهيّة كثيرة عنهم، وعدم اقتناعها بنصيبها الّذي قدّروه لها في الحُكم. ولا اتّعظوا ولا تعلّموا من الفوضى وتمرّدات الولاة والأمراء وأصحاب الطّموح السّياسي التي حلّت بالجزيرة منذ أن فتحها طارق بن زيَّاد الى يوم خروج آخر مُسلم منها، واستمرّوا يحكمون بنفس أساليب القهر والاستبداد والاقصاء والاجحاف.
والحقُّ أنّه لمّا تولّى عبد الرّحمان الثّالث الحكم كان قد مرَّ على ما يُسمّيه مالك بن نبي نقطة الإنكسار(معركة صفّين) في منحى التّطّورالتّصاعدي التّاريخي أكثرمن ثلاثة قرون وهي لحظة الإنقلاب الأولى على القيم والتّحوّل عن التّوجّه الاسلامي في شؤون الحكم وادارة الشأن العام الى إستئثار بيوتات عربيّة ومُسلمة بالسّلطة والحكم ورفض قيم التّعاقد السّياسي والشّورى والتّسويّة السّلميّة للنّزاعات وادراج كلّ معارضِ لطريقة الحكم في صنف الخوارج الخارجين عن الدّولة والملّة
لم يعد الفقه الاسلامي ينظرفي حقيقة الشّرعيّة الدّستوريّة، وفي مثل هذه الحقائق الكبرى بل أُختزل في البحث في دائرة الآداب السُّلطانيّة ووجوب خضوع الرّعيّة لارادة السُّلطان المتغلّب، وبقيت القيم السيّاسيّة الكبرى مثل حبّات طلع في أكمامها.
هذه الحقيقة المؤلمة التي آل إليها العقل السّياسي المسلم يوجزها الإمام الجويني في كتابه “الغيّاث” في عبارات معبّرة: ” الخِلافة بعد مُنقَرض الخُلفاء الأربعة الرّاشدين شابها شوائب الإستيلاء والإستعلاء وأضحى الحقّ المحض في الإمامة مرفوضًا، وصارت الإمامة مُلكا عضوضًا.
وإتّقاءً للفتنة ومن أجل المحافظة على وحدة الأمّة الرّمزيّة سيق هذا الفقه على غير طريقته وأُلبس ثوبًا مزيّفًا من غير نسجه وانّما نُسج عليه نسجًا قرنًا بعد قرنٍ حتّى وصل الينا مقوّضا من بعض عُراه، مشوّها وفارغًا بعيدًا عن منهج الاسلام ومبدئه، وروح الأمّة وعقيدتها.
يقول ابن خلدون شارحًا هذا المنزع: “….. صار خُلقًا جبلّة وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسيّاسة، وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى دون حكم، والفوضى مهلكة للبشر، مفسدة للعمران
…وأيضًا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولوكان أباه أو أخاه أوكبيرعشيرته إلاّ في الأقلّ وعلى كُرهٍ من أجل الحياء. فيتعدّد الحُكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقص، ثمّ لا يزال أمر الدّولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور.”
لقد انتهى الإفراط في مركزيّة السّلطة والاستئثار بالحكم في قرطبة الى الفوضى والفرقة والتّمرّد وانفراط العقد وغزو ممالك الشّمال لها ثمّ تلاشيها.
فقرطبة اليوم ليست إلاّ مدينة بسيطة ولولا ما تركه المسلمون من آثار لما زارها أحد ولا خطرت على بال أحد. وأمّا مدينة فرانكفورت فهي اليوم خامس أكبر مدينة في ألمانيا سكّانا وواحدة من أهمّ المراكز الماليّة العالميّة وعاصمة ألمانيا الماليّة.
إنّ المرونة في الحكم التي عمل بها أباطرة ألمانيا وتساهلهم مع الولاة والأمراء هي من أوصلت الحكم الملكي في منحنى التّطوّر التاريخي الى مرحلة التّعاقد السّياسي ثمّ الى مرحلة التّداول على السُّلطة، وانتقلت بألمانيا من أسوأ حال في القرون الوسطى الى أحسن حال في زمن النّاس هذا.
على صوت أنثوي من مقصورة الطّائرة ينبّهنا أنّه لم يبق إلاّ نصف ساعة وتحطّ الطّائرة بمطار مالقة فاستعدّوا للهبوط. طاقم الطّائرة وقائدها يتمنّى لكم رحلة طيّبة وهبوطًا بسلام. خفق قلبي. أخيرًا سأنزل بمطار مالقة!