يرى الأديب والشاعر الفلسطيني يوسف الديك، أن اللغة العربية، تعيش حالة مأساوية يميزها العقوق والنكران من أبنائها، وأن بعضهم يريد أن يصبح شاعرا، ولم يكلف نفسه طيلة حياته بقراءة كتاب واحد..
قال الشاعر يوسف الديك، في حوار لموقع “فواصل”، إن الشعر العربي لم يبلغ ذروته الحقيقية إلا في العصر العباسي، أما في زماننا المعيش ثمة معيقات تقف في وجه التوهج الشعري، وحمل الديك جزء كبير من المسؤولية، للدولة الحديثة التي كرست جهدها على تسيّد السياسي وجعلت الثقافي أحد توابعه.
والأديب يوسف الديك من مواليد فلسطين، ويحمل الجنسية الأردنية، يقيم في الإمارات العربية المتحدة، ليسانس حقوق، في رصيده من الإصدارات 5 كتب “أربعة منها شعر ورواية واحدة”.
مرحبا بك في الجزائر..
شرف عظيم لي. ترحيبك بي في وطن التضحيات والشهداء “الجزائر الحبيب”، قبل أن يصبح المرء شاعرا عليه أن يكون إنسانا ، لذلك حرصت قبل الشعر على البعد ي عبر مسيرتي منذ بداياتها ، فأنا ابن وطن مغتصبة أرضه منذ عقود طويلة ، وابن جيل نشأ على رائحة البارود والدم القاني وجنازير آليات المغتصب الصهيوني.. هذا يأخذنا نحو شظف الحياة بمراحلها المتعددة .. باختصار:
أنا غيمة حبلى لو انهمرت… فستغرق الدنيا دموعا أو مطر.
منْ مِن الأدباء والشعراء القدامى ترك بصمته فيك، ومن في الجدد تتوقع له مستقبلا ناجحا؟
ككل أبناء جيلي في منتصف سبعينات القرن المنفرط فتحنا عيوننا على أشرطة كاسيت مهرّبة بصوت الشاعر العراقي مظفّر النوّاب، وأكثرنا فرحا من كان يحظى بتسجيل يتخطى الحدود نحو أجهزتنا التي كنا نجتمع حولها شبابًا كما لو كانت وليمة، وهي كذلك وكان لمحمود درويش وسميح القاسم حصتهما من المتابعة والأثر فينا، أما عبر التاريخ القديم فالمتنبي عندي سيّد الشعر العربي منذ الحرف الأول ، ولا أهمل قول الأولين :
أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
أما من الأصوات الحديثة فالأسماء كثيرة ومتعددة المشارب الشعرية والهويات ، لكن ثمة شعراء شباب تميزوا بالعمق مثل محمد موسى ” لبنان” خالد المحيميد ” سوريا ” .. علي مي” فلسطين ” وسواهم .
قصيدة عربية بقيت راسخة في ذهنك أو ديوان شعر؟
التاريخ الشعري العربي زاخر بالفرائد والخرائد الشعرية وهي لا يمكن استحضارها في حوار لتنوقها وتنوعها وامتدادها على مر العصور، لكن توقفت مليًا عند المتنبي في حضرة سيف الدولة ، فهي قصيدة فريدة حيث أن كل بيت فيها حكمة ..
“واحر قلباه ممن قلبه شبم …ومن بجسمي وحالي عنده سقم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ..فلا تظنن أن الليث يبتسم
الخيل والليل والبيداء تعرفني ..والسيف والرمح والقرطاس والقلم”…الخ
أما القصيدة الثانية فكانت جدارية محمود درويش..وحواره الشفيف الراقي مع الموت، وفكرة الانبعاث …ووجع القلب، عدا عن مديح الظل العالي تلك التي كتبها إبّان خروج الثورة الفلسطينية من بيروت بعد حصار 81 يوم في أيلول 1982، باتجاه قبرص ثم تونس حتى توقيع معاهدات الذل والخراب في أوسلو، المعاهدة التي اعتبرها النكبة الثالثة لوطني فلسطين.
أما الديوان الأجمل، فكان تحت حصار بيروت 1982 أيضا “حيفا تطير إلى الشقيف” للشاعر الفلسطيني المقيم في الأردن ” يوسف عبد العزيز “.
أنت شاعر ورواني، فهل لهذا علاقة بخصوصية كتاب قدامى جمعوا بين فنون الكتابة؟
هي محض رغبة في الحفر والتجريب، كل كاتب لديه مخزون سردي موازٍ لنتاجه الشعري، فالقصيدة على رحابتها واتساعها لا تفرغ السرد الجواني المختزن، ثمة أحداث تحتاج إلى فن مختلف .. كالقصة واللوحة والرقص أحيانا، ولا علاقة لروايتي وتجربتي فيها بما جاء به الأولون فهي منعزلة تماما.
وجاءت لتفادئني قبل سواي ..حيث استغرقت كتابتها 200 صفحة متوسط 27 يوما فقط …بمعني أنها كانت معدة سلفا في منطقة ما من ذاكرتي فكان دوري كتابتها فقط دون عناء البحث الطويل والتفكير الشاق.
روائيون تقرأ لهم؟ وما هي رواياتك المفضلة؟
أكثر ما قرأت كان العالمي “نيكوس كازنتزاكيس” ثم ..ممدوح عدوان من سوريا . أقرأ للعديد كي أميز بين الجيد والرديء، القصة لها دور كذلك لأنها ابنة الرواية الشرعية..أقرأ في القصة على سبيل المثال لا الحصر لـ ” جمعة شنب ” من فلسطين ، مفلح العدوان من الأردن ..
وعلى صعيد الروايات.. كان أجمل ما قرأت “الحديقة الصخرية” لكازنتزاكيس، و”حينة الإنسان” للسوري الراحل ممدوح عدوان.
“الحب والوطن وجهان لحقيقة واحدة ..”
كتبت عن الحب والمرأة، فهل المرأة جسد أم كتلة عواطف؟
الحياة بدون المرأة قبر واسع، ولا أستطيع أن أتخيلها في أسوأ الكوابيس.
المرأة عندي كل متكامل، روح ومشاعر وعواطف وفكر وأنوثة وجسد، إن أي اختلال في أي منها يسيء لصورتها عندي … على الأقل في القصيدة، فالمرأة من وجهة نظري هي النصف الأجمل من اللوحة الإنسانية، والجزء المضيء من القمر حين يطل من وراء السحب الكثيفة.
رأيك في الأدب والشعر في الوطن العربي عامة، وفي الأردن وفلسطين خاصة؟
الشعر جزء من السيرورة اليومية المعيشة ، بكل ما فيها من جماليات ونتوءات وتناقضات ، هو بخير في منطقة ما من هذا الكون، فلسطين والأردن جزء من هذا الوجع العربي الممتد من طنجة حتى رأس الخيمة، ولم تعد الخارطة مجرد حدود مغلقة على الذات الشاعرة ، فالتقنيات والشبكة الالكترونية فتحت كل الحدود وتجاوزت كل السدود وكسرت الحواجز بين الكاتب والمتلقي في كل أنحاء العالم.
هناك حالة من التفاؤل في مستقبل الشعر العربي بشكل عام وفي الأردن وفلسطين خصوصا، تسودها بعض الضبابية بسبب الدخلاء على الحرف والأميين الذين وجدوا في التقنيات مناخات رحبة تتيح لهم بث سموم أفكارهم وخواء حروفهم.
“اللغة العربية أصبحت غريبة بين أهلها وأبنائها”
حال اللغة العربية اليوم..؟
هناك حالة مأساوية من العقوق والنكران تعانيه لغتنا العربية من أبنائها، ومن المضحكات المبكيات أن بعضهم يريد أن يصبح شاعرا بمجرد امتلاكه جهاز أيفون، ولم يكلف نفسه طيلة حياته بقراءة كتاب واحد..فكيف يتقن مثل هذا أصول اللغة ونحوها وصرفها إذا كان كتاب الهمزة وحده مجلد من 300 صفحة وتكنى في الأدب “قاهرة الأدباء” ..ما الذي نرجوه ممن يكتب (أضن ويقصد أظن ..وظربه بدل ضربة ..وأسوء بدل أسوأ ) نصوّب أخطاء البعض فيحقد علينا ويعتبرنا أعداء له ولإبداعاته ، مثل هؤلاء لا يرتجي منهم حرصا على لغة أو أدب أو حرف .
وأنا حزين لما تكابد لغتنا من حزن وحرقة على أبنائها الذين هجرها كثير منهم، وباتت غريبة بين أهلها وأبنائها وفي وطنها.
هل بلغ الشعر والنثر العربيان اليوم بعضاً من ذروتهما قديماً ؟
الشعر العربي على وجه الخصوص لم يبلغ ذروته الحقيقية إلا في العصر العباسي، حيث اجتمع عباقرة الشعر في ذلك العصر “القرن الرابع الهجري” المتنبي، أبو تمام، البحتري، أبو نواس، ديك الجن الحمصي ..
وبدأ بعد ذلك يتراوح بين المجد والتراجع ضمن حالات فردية وثنائيات ومكانية أبدعت على صعيد الأدب والشعر.
في زماننا المعيش ثمة معيقات تقف في وجه التوهج الشعري، تتحمل الدولة الحديثة مسؤولية جزء كبير منها، حيث كرست جهدها على تسيّد السياسي وجعلت الثقافي أحد توابعه، مع أن الأصل هو العكس، إضافة إلى تعمد الدولة المعاصرة إشغال الناس بالهمّ اليومي والضنك على حساب الإبداع. فشحت عليهم بالدّعم والتفرغ تحت سقف الدولة في حياة كريمة بغض النظر عن فكر الأديب وتوجهاته السياسية والعقائدية، حيث ذهبت إلى تخصيص جل دعمها لأزلامها من المتنفعين حولها. يضاف إلى كل هذا جنوح هذا الجيل نحو التقنية السريعة على حساب أناة الثقافة ومتطلباتها وهذا انعكس على المستوى العام للثقافة والأدب في الوطن العربي، وهذا ينذر بمستقبل مأساوي غير محمود.
“الشعر سيبقى ديوان العرب على مرّ العصور”
.. وهل صحيح أن الشعر العربي سيظل ديواناً للعرب دون منازع أو منافس؟
نظريا سيبقى الشعر ديوان العرب على مرّ العصور وتواتر الأزمنة، لكن ما يحدث الآن هو تسيّد الرواية للمشهد الثقافي. وهذا أيضا تلام عليه دولنا المعاصرة التي كرست دعمها لجوائز خُصصت للرواية على حساب باقي أصناف الأدب، فغادر بعضهم مشروعه الشعري باتجاه الترشح لجائزة مالية تمكّنه من العيش الكريم، وهو حق له، لكنه جاء على حساب الشعر بالدرجة الأولى، وفي كثير من الحالات خسرنا شاعرا جيدا لنحظى بروائي رديء .
هناك من يقول أن صيت الشعر تراجع في العالم العربي، وما عادت له حظوة..؟
ربما إجابتي السابقة تحمل إيضاح هذا الأمر بشأن تسيّد الرواية، لكن ليس هذا فقط سبب تراجع صيت الشعر، فهناك العديد من العوامل والأسباب التي تقف وراء هذا أهمها الانشغال اليومي للأديب في هموم الحياة على حساب موهبته ومشروعه الأدبي، وانشغال القارئ كذلك بما يعتبره أهم من الشعر فبعض دولنا العربية للأسف يعاني المرء فيها شظف العيش وقلقه الدائم على رغيف الخبز وحليب الأطفال.
“الدولة تخلّت عن الكاتب ليفترسه الناشر..”
المثقف العربي يخرج من دائرة الاهتمامات، لماذا؟
أعتقد أن أولويات الحياة للإنسان العربي أخرجت الكتاب من قائمة اهتماماته، ففي كثير من بلادنا العربية لا يجد المرء ما يقيم أولاده وأسرته، فكيف نطالبه بشراء كتاب ؟ ..البعض يضحي عندما يقدم على شراء مطبوعات ويحسب له ، ثم أن الناشر – غالبا – تحول من شريك أدبي إلى تاجر لا يعنيه سوى السعر والكسب المادي على حساب مستوى المطبوعات وما ينشر حتى أن بعضهم يجرّ أصحاب أنصاف المواهب وينفخ في رؤوسهم للطباعة لمصالح مالية أو علاقات جانبية، وهذا كله يأتي على حساب المضمون والمحتوى الإبداعي الضحل في كثير من الكتب التي لا تستحق النشر ولا تساوي قيمة الورق المطبوعة عليه.
الصعوبات التي تواجه المثقف هي نفسها تتكرر دوما، غياب الحاضنة الأساسية ” الدولة”عن المشهد والتخلي عن الكاتب ليفترسه الناشر أولا ولا يجد ما يأكل لأن الأدب أصبح مكلفا أكثر من أنه عنصر إنتاج ايجابي لصاحبه.
ما مستقبل المشهد الثقافي العربي مع التحولات الجديدة؟
دوما من وجهة نظري، علينا النظر للجانب المشرق من المشهد ، والتفاؤل بمستقبل أفضل مما هو عليه الحال الآن.
كيف تتصور آفاق المشهد الشعري العربي في ظل هيمنة التكنولوجيا، وكثرة التحديات؟
التكنولوجيا خدمت المشهد الثقافي وهي أساءت إليه في آن معا، خدمته باكتشاف مواهب ما كان لها إمكانية الظهور في ظل هيمنة المحرر الثقافي في الصحافة العربية على قرار النشر وعدمه ، وهي أساءت للمشهد بأن فتحت الباب على مصراعيه لأصحاب أنصاف الواهب وبعض الجهلة والأميين ليصبحوا أدباء وحملة ألقاب أكاديمية “فخرية ” ..وحين تقرأ لهم تشعر بالغثيان، التحديات كثيرة ونسأل الله تجاوزها .
في الأخير.. رسالة شعرية للقارئ الجزائري؟
عودة على ذي بدء ، القارئ الجزائري في عالم اليوم وزمن مواقع التواصل هو نفسه القارئ السوري والفلسطيني والأردني والعراقي ، فقد اختلط الحابل بالنابل بالمعنى الإيجابي للاختلاط ، وصار ما ينشر الآن على صفحتي يصل إلى آخر العالم خلال ثوان فقط ، الجزائر كوطن يهمني شخصيا، والشعب الجزائري النبيل الأصيل هو جزء من الصورة المشرقة في ذاكرتي للإنسان العربي الحقيقي في موقفه مع قضيتي الفلسطينية …محبة وشكرا .
( سيارة نقل الموتى
ملأى بالأحياء
القتلى في الشارع
يصطفون طوابيرًا للخبزِ
طوابيرا للحافلة
طوابيرا للمقصلة أعدّت لذوي الألباب
بلا أسباب)
يوسف الديك