تلك هي مدينة العين الصفراء، مدينة البارود كما سمتها الكاتبة العالمية إيزابيل إبرهاردت وهي ترى فداحة الخسائر التي كلفها شيخ بوعمامة للاستعمار الفرنسي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
عين صافية، كما سماها ووصفها الأجداد حينما كانت تخرج من رملها عين صافية وسط كثيب الرمال الصفراء الذهبية التي ترقُدُ تحت سفح جبل مكثر أحد جبال القصور الأربعة التي يعانقها التاريخ، وهي تحيط بالمدينة وتحرسها مثل حرس قيصري (جبل عيسى وجبل مكثر، ومير الجبال وجبل مرغاد) .
مدينة العين الصفراء من أقدم المدن في الجنوب الغربي الجزائري تبعد عن العاصمة بحوالي 700 كلم، وعن مدينة وهران الساحلية بحوالي 460 كلم، لها حدود مع المغرب الشقيق، ويعود تاريخ التواجد البشري فيها إلى العصر الحجري الحديث (نيولوتيك) حسب الدارسين من علماء الأثار الذين اكتشفوا النقوش الحجري بالمنطقة وحددوا تاريخ نشأتها بحوالي 5000 سنة قبل الميلاد.
ومن الذين قالوا بهذا التاريخ نجد كل من (طوني 1888، فلاماند 1892)، أما من الباحثين الذين أرَخوا مع بداية القرن العشرين لهذا التاريخ، نجد كل من الباحث (بروي، فوفري، يلاري، لوت) بعد اكتشافهم للأنصاب المستديرة، وقبور التمولوس التي بنيت تقريبا ما بين 1000 و200 قبل الميلاد الشيء الذي يجعل من تاريخ المنطقة يعود إلى ما قبل الحضارة السومارية، وأقدم من الأهرامات المصرية، الشيء الذي جعل هذه المنطقة من الأطلس الصحراوي تُعد أحد أكبر المتاحف المفتوحة على الهواء في العالم.
وهي كذلك منطقة عبور لكثير من الأقوام ربطت بين الجنوب والشمال، وبين الغرب والشرق كما تشير إليه مضامين النقوش الحجرية المكتشفة التي احتوت على رسوم لعربات مجرورة وحيوانات جر أيضا.
وعرفت مدينة العين الصفراء وجود العديد من الأقوام والمماليك بداية من التواجد الروماني ما بين القرن 8 م والقرن 12 إلى تواجد المماليك الإسلامية من (المرابطين، والحماديين، و الزيانيين) الذين تواجدوا بها بداية من القرن 17 إلى غاية القرن 19 قبل أن تصلها جيوش الاستعمار الفرنسي مع نهاية القرن 19 وبداية القرن20. حيث قام هذا الأخير بإنشاء أول ثكنة بالمنطقة قرب القصر العتيق على سفح الوادي كمركز عسكري متقدم لأجل المراقبة والتوغّل في الجنوب الغربي.
حيث لازالت هذه الثكنة تمثل وسط المدينة معلما شاهدا على وجود الاستعمار مثلما هي بنايات المدينة الحديثة التي سكنها عمال الإدارة الفرنسية، خاصة أولئك الذين جاءوا مع امتداد خط السكك الحديدية الذي احتفلت السلطات الاستعمارية بوصوله سنة 1899، إلى حدود منطقة جنين بورزق التي تبعد عن العين الصفراء بـ 80 كلم جنوبا.
رغم ذلك فإن التواجد الفرنسي بالمنطقة لم يكن سهلا، كما يتصوّر الكثير، بل لاقت جيوشه مقاومة عنيدة من أهالي المنطقة بداية من القبائل التي اتخذت من الجبال مستقرا لها وراحت تحارب فرنسا إلى ساكنة القصور المحيطة بالمدينة إلى مقاومة محمد ولد علي في جبال بني سمير، ثم مقاومة الشيخ بوعمامة الذي جمع من حوله قبائل المنطقة وحارب فرنسا بداية من 1881 إلى غاية 1908، حيث عدت مقاومته من أطول المقاومات الشعبية في الجزائر بعد أن دامت قرابة 25 سنة.
محمد ولد علي والشيخ بوعمامة المقاومة حدّ الموت
بمجرد توقيع المستعمر الفرنسي لاتفاقية (لالة مغنية) سنة 1845 مع ملك المغرب الذي اعترف بموجبها بسيادة فرنسا على الجنوب الغربي بعد أن أحكمت سيطرتها على الشمال، ودفعت بالثائر الأمير عبد القادر إلى عقد معاهدة الاستسلام.
راحت فرنسا تفكر بجد في احتلال الجنوب الوهراني والتوغل إلى عمق الصحراء بداية من إرسال بعثات عسكرية لدراسة المنطقة وتأديب وإخضاع القبائل هناك إلى إنشاء مراكز عسكرية متقدّمة للبدء في حملاتها العسكرية.
فكانت أول حملة عسكرية باتجاه الجنوب الوهراني بقيادة الجنرال لامارسيي la MORCIER قائد مدينة وهران الذي أمر بالتحرّك لإخضاع قبائل الجنوب الوهراني التي نصت اتفاقية (لالة مغنية) على تبعيتهم لفرنسا، فأرسل هذا الجنرال طابورين، طابور أول بقيادة قائد قسم الرائد Gery تحرك يوم 14 أفريل 1845 باتجاه مدينة البيض، أما الطابور الثاني فقاده الجنرال السفاح كفنياك cavaignac مرتكب مجزرة قبيلة بني صبيح بنواحي مدينة الشلف قبل أن يرقى ويصبح قائدا على قسم تلمسان ويتحرّك بموجب تعليمات الجنرال لامارسيي باتجاه منطقة القصور في الجنوب الغربي الوهراني التي وصلها بتاريخ 21 أفريل 1847، ليعيث فيها فسادا ودمارا بداية من اقتحامه لقصر عسلة الذي (يبعد بـ 70 كلم عن مدينة العين الصفراء) دون أن يجد أي مقاومة بجيش مكون من الفيلق الثامن للقناصة (10 ضباط و346 جندي).
والفرقة الثانية للخيالة متكونة من (3 ضباط و62 فارس)، ثم قصر تيوت (يبعد بـ 17 كلم عن قصر العين الصفراء) ليجده هو الآخر خاليا من السكان الذين غادروه خوفا من بطش جنود كافنياك الذين مكثوا ثلاثة أيام خربوا فيها كل شيء وجدوه أمامهم قبل أن يمهل السفّاح كافينيك الأهالي الهاربين أربعة أيام للعودة إلى قصرهم.
في 27 من نفس الشهر، تحرّك نفس الطابور إلى قصر مغرار التحتاني الذي يطلق عليه اليوم اسم “قلعة الشيخ بوعمامة” بعد أن بعث كافينياك بأربعة مبعوثين للأهالي يطالبهم بالاستسلام، الأهالي رفضوا ذلك بقتلهم لثلاثة من مبعوثيه تاركين واحدا فقط لإعادة الجواب بالرفض للجنرال الذي لم يتوان في اقتحام القصر وحرقه وحرق واحته ومحاصيله، كما قام باقتلاع النخيل وكل شيء وجده جنوده في طريقهم.
وفي اليوم الثاني كان الدور على قصر مغرار الفوقاني (الذي لا يبعد سوى بسبع أو عشر كلومترات عن القصر السابق)، لكنه تفاجأ بمقاومة شديدة من ساكنة القصر ليسقط خلال هذه المعركة غير المتكافئة عشرون شهيدا في صفوف المقاومين.
وفي الفاتح ماي عاد الجيش الفرنسي أدراجه صوب قصر تيوت فوجده لا يزال مهجورا، فأقام فيه مدة أربعة أيام دمر فيها مرة أخرى كل ما تبقى في القصر، وفي تلك الفترة اكتشف كافنياك الأحجار المنقوشة ليصبح هذا الاكتشاف أول اكتشاف في افريقيا، ثم بعدها غادر القصر.
وفي 5 ماي كان قد وصل جيشه إلى أطراف قصر مدينة العين الصفراء الذي كان ولاء سكانته يومها للأمير عبد القادر، فوقعت معركة حامية استمرت طيلة يوم كامل لم يستطع فيها جنود كافنياك اقتحام القصر، فباتوا ليلتهم في العراء قبل أن يطلب كافينياك في اليوم الموالي من أهل القصر الاستسلام ودفع الضرائب، لكن الساكنة رفضوا ذلك مثلما رفضوا دفعها من قبل للأتراك، فحدثت معركة ثانية ضارية وغير متكافئة اضطرت المقاومة الباسلة من الأهالي إلى مغادرة قصرهم وترك الفرنسيين يدخلونه.
وكعادة السفاح كافينياك ومثلما فعل مع القصور السابقة راح يطلق عساكره لينهبوا ويحرقوا كل شيء يصادفونه في طريقهم لتخلف هذه المعركة في النهاية، حسب ما جاءت به التقارير الفرنسية التي أخفت الأرقام الحقيقية حوالي 40 شهيدا وجريحين وفارس عربي واحد في صفوف العدو.
بعد هذه الحملات الأولى مع منتصف القرن الثامن عشر، جاءت حملات أخرى قادها جنرالات آخرين لإخضاع الجنوب الغربي للتوغّل في عمق الصحراء فكانت المقاومة مرة أخرى لهم بالمرصاد بداية من مقاومة الشيخ بن الطيب قائد أولاد سيد الشيخ الغرابة والمولود في 1780 بقصر الشلالة الظهرانية الذي لا يبعد أكثر من 70 كلم عن مدينة العين الصفراء خاض معارك عديدة بمساندة قبائل المنطقة الموالية له، فكانت أول معركة يخوضها معركة الشريعة ضد القوات الفرنسية بقيادة الجنرال Gery يوم 2 ماي 1845، ثم خاض معارك أخرى إلى أن توفي في 5 جويلية 1870 في المغرب ويخلفه أبناؤه.
إذا كانت هذه هي المقاومات الأولى التي تصدّت لطلائع جيوش الاستعمار، فإن المقاومة الباسلة لم تتوقف في المنطقة فكانت من جهة مقاومة شعبية منظمة وشرسة ضد الاستعمار تواصلت مع مقاومة الشيخ بوعمامة الذي كبّد جيوش العدو خسائر كبيرة في أكثر من موقعة، معرقلا تقدّمه نحو عمق الجنوب الغربي إلى أن وافته المنية في 12 رمضان 1326هـ الموافق لـ 07 أكتوبر 1908 في عيون سيدي ملوك قرب وجدة المغربية.
ومن جهة أخرى كانت هناك مقاومات أسرية مثلما كان مع مقاومة البطل محمد ولد علي الذي كبّد الفرنسيين خسائر كبيرة وهذا بين سنة 1889 إلى حدود سنة 1908، قبل أن يتواصل الجهاد ثوار ثورة التّحرير المباركة التي اشتعلت في جبال العين الصفراء بداية من سنة 1956 عبر معارك عديدة خاضها مجاهدو المنطقة أشهرها معركة مكثر، ومعركة امزي التي استعمل فيها المستعمر قنابل النبالم المحرّمة دوليّا.
تعتبر مدينة عين الصفراء بالإضافة إلى تاريخها الثوري المقاوم، فهي مدينة سياحية من أهم مدن الهضاب العليا وذلك لتميزها بطابعها السياحي.
العين الصفراء عاصمة للقصور والسياحة
إن الموقع الاستراتيجي الذي يضع مدينة العين الصفراء في شمال الجبال التي تشكّل الحدود بين الجنوب والهضاب العليا وكذلك مع توسطها لقصور المنطقة جعل منها محل اهتمام العدو الفرنسي التي رأى أنها ستكون موقعا مهما لمراقبة كل الاتجاهات ولمنع المقاومين من دخول القصور والتزود بالمؤونة والسلاح والمعلومات، كما قال ذلك الجنرال delebecque قائد مقاطعة وهران الذي اقترح على مجلس الحكومة الفرنسية في تقريره المطول أن تصبح العين الصفراء دائرة عسكرية لانطلاق حملاته نحو عمق الجنوب ليمتد حكم إدارة فرنسا العسكرية إلى حدود مورتانيا جنوبا.
تقع مدينة العين الصفراء إذن في الجنوب الغربي تبعد بمسافة تقدر بـ70 كلم عن مقر ولاية النعامة حاليا، وضمن سلسلة جبال الأطلس الصحراوي، تحيط بها سلسلة من الجبال شمالا جبل عيسى وجنوبا سلسلة جبل مكثر الذي تفصل بينه وبين المدينة كثبان رملية،.
أما من الناحية الغربية فنجد سلسلة جبل مرغاد الشيء الذي جعل منها عاصمة مهمة للقصور المحيطة بها، وبعد أن اختارها الاستعمار لتكون إقليم عسكري تحوّلت إلى مركز اقتصادي وتجاري تقصده القبائل المجاورة للبيع والشراء ومنها قبائل العمور وحميان وكذا سكان القصور المجاورة.
وكان يأتيها سكان التلّ لبيع سلعهم و كذا القوافل التي كانت تأتي من منطقة قورارة وتفيلالت وفجيج لبيع سلعهم والتزود بالسلع الاستهلاكية، وعرفت أيضا في زمن الاستعمار حركة تعليمية بفضل المدارس المختلفة التي فتحتها السلطات الاستعمارية لتعليم أبناء الموظفين الفرنسيين وأبناء الجزائريين العاملين معها إلى جانب الكتاتيب التي كان يفتحها الأهالي لتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم وتعليمهم قواعد اللغة العربية، وأصبحت أيضا مقصدا للطلاب من مختلف المناطق الجزائرية للتعلّم بعد أن فتح الآباء بالبيض معهد “لافيجري” الذي يعدّ من المعاهد المهمة في الجنوب الوهراني.
فمع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أصبحت مدينة العين الصفراء أهم مدينة في الجنوب الغربي من الناحية الإدارية والاقتصادية والتعليمية ليطلق عليها عاصمة الجنوب الغربي، أما بعد الاستقلال فقد تراجعت مكانتها الإدارية حتى وإن ارتقت إلى مصاف دائرة سنة 1974، قبل أن يقلّص عدد بلدياتها من 5 بلديات إلى بلديتين، هما بلدية العين الصفراء، وبلدية تيوت التي تبعد عنها شرقا بحوالي 17 كلم، لتصبح مساحتها تقدّر بحوالي 1075 كلم مربع. تحدّها من الشمال عاصمة الولاية النعامة، ومن الجنوب بلدية مغرار ومن الشرق بلدية تيوت ومن الغرب بلدية صفيصيفة والحدود المغربية.
تضاريسها
1 ـ السهول
نجدها بين جبل مكثر وجبل عيسى باتجاه بلدية تيوت يتوسّطها الوادي الكبير.
2 ـ الجبال
كما قلنا سابقا الجبال هي عبارة عن أجزاء من سلسلة الأطلس الصحراوي تحيط بمدينة العين الصفراء من كل جانب وهي كتالي: شمالا نجد جبل عيسى أكبر جبل والمقدر ارتفاعه بـ 2250 متر ممتد على طول يقدر 32 كلم. و جنوبا نجد جبل مكثر المقدر ارتفاعه بـ 2062 متر على امتداد 30 كلم طولا، أما غربا نجد جبل مرغاد المقدر ارتفاعه بـ 2135 متر الممتد على مسافة تقدر 24 كلم طولا.
3 ـ الوديان
يقطع مدينة العين الصفراء واد كبير يقسم المدينة نصفين، هو عبارة عن التقاء وادين هما وادي الميلح أو واد تيركونت و واد البريج.
4 ـ الكثبان الرملية
تتموقّع مدينة العين الصفراء تحت حزام من الكثبان الرملية الواقعة أسفل جبل مكثر.
5 ـ الغطاء النباتي
الغطاء النباتي المنتشر هو النبات السهبي الذي يعدّ غداء للمواشي في المنطقة باعتبار المنطقة منطقة رعوية بالدرجة الأولى نجد نبات الحلفاء، والشيح والرمث والدرين… الخ.
أما الأشجار المنتشرة فهي في الغالب أشجار العرعار، والصنوبر والصفصاف والنخيل في الواحات خاصة واحة تيوت.
المناخ السائد هو المناخ القاري البارد شتاءً والحار صيفا، الأمطار موسمية ومتدبدبة في الغالب ولا تتجاوز سنويا 216 ميلمتر في السنة، وأحيانا تأتي فجائية مع بداية الخريف مسبّبة فيضانات مثل فيضان 1904 الذي جرف وسط المدينة، وتسبّب في مقتل الكاتبة العالمية ايزابيل ابرهاردت.
المنطقة أيضا فيها جانب فلاحي يرتكز في الغالب على جنبات الوديان أو السهول التي استصلحت في السنوات الأخيرة، المنطقة تحتوي على مياه باطنية تساعد على الفلاحة، خاصة الخضروات والتمر في المناطق المحيطة مثل قلعة الشيخ بوعمامة وعسلة وتيوت.
6 ـ الحرارة
المدى الحراري مرتفع صيفا وبارد شتاء متوسّط الحرار بين 18 إلى 50 درجة.
7 ـ الرياح
تعدّ المنطقة منطقة رياح خاصة تلك القادمة من الشمال الغربي، وأخرى قادمة من الجنوب (رياح السيروكو) التي تهبّ على المنطقة بين 20 إلى 30 يوم في السنة وتؤدي إلى حدوث زوابع رملية خاصة في سنوات الجفاف.
الإرث الثقافي وضريبة الكتابة
العين الصفراء مدينة الثقافة والكتّاب، فمنذ تشكّلها عبر إنسانها الأول الذي انشغل بحياة الصيد والترحال ونسج علاقات اجتماعية وخاض حروبا ناقشا كل ذلك على حجارة الجبال المحيطة بقصورها وواحاتها كما بينته اكتشافات الباحثين الذين وصلوا المنطقة مع منتصف القرن التاسع عشر.
لهذا لن يكون من قبيل الصدفة أن تزخر مدينة العين الصفراء بإرث ثقافي زاخر وبطاقات إبداعية كبيرة سواء على المستوى الأدبي أو على مستويات عدة، فمن الأدباء الذين أنجبتهم المدينة نجد الشاعر القاضي المتصوّف الشيخ محمد بن يعقوب، والكاتب زايد بوفلجة صاحبة كتاب “راهبة الصحراء” و الكاتب المفكر بغدادي بلقاسم صديق المفكر مالك بن نبي وصاحب كتاب “الإعجاز القرآني”، ونجد الشاعرة والصحفية صافية كتو، أما الكتّاب الذين كَتَبَ لهم القدر أن يسكنوا تراب هذه المدينة إلى الأبد، نجد الكاتبة العالمية ايزابيل ابرهاردت التي يرقد جثمانها في مقبرة سيدي بوجمعة العتيقة.
ايزابيل ابراهاردت عاشقة الصحراء
إن الحديث عن الكاتبة العالمية كأول الكتّاب الذين تفخر بهم مدينة العين الصفراء ليس اعتباطيا بل لأن هذه الكاتبة المختلفة أحبّت وكتبت عن مدينة العين الصفراء واختار لها القدر أن تحقّق أمنيته التي طالما كررتها في مذكراتها وهي البقاء الأبدي في الصحراء، فكان لها ذلك وهي لم تتجاوز من العمر 27 سنة.
لهذا فالحديث عن ايزابيل ابرهاردت هو حديث عن عشق سماوي ربط قلب امرأة استثنائية عرفها الأهالي باسم “سي محمود” بعالم ساحر هو صحراء الجزائر، هذا الفارس الذي يركب فرسه ويجوب الضواحي متتبعا مرة أثر المقاوم الشيخ بوعمامة ومرة أخرى مسافرا لأجل مساعدة الأهالي الذين أنهكتهم الأمراض.
كل هذا جعل من ايزابيل ابرهاردت امرأة مغامرة بقلبها الذي أحبّ الصحراء فأحبتها المدينة التي كانت تجلس بسحرها بين أحضان جبال الأطلس الصحراوي العالية، مدينة عين صافية صفاء إنسانها الذي لم تلوثه حضارة الاسمنت، لهذا فضّلت ايزابيل ابرهاردت الأديبة والصحفية أن تكون “سي محمود” وتمكث في هذه المدينة بهذا الاسم وتجالس رجالها في المقاهي لترصد عادتهم وحركاتهم، باحثة عن اجابات مقنعة لأسئلتها الوجودية التي ظلت تؤرق روحها في رحلتها التي قادتها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، بعد أن جاءت هاربة من بلاد المنفى هناك من وراء البحر، مدينة مسقط رأسها (جنيف) بسويسرة، حيث ولدت في 17 فبراير من سنة 1877 من أم روسية وأب طبيب مسلم كما قالت في رسالة من رسائلها إلى أحد أصدقائها.
جاءت ايزابيل ابرهاردت مدينة العين الصفراء بطلب من رئيس جريدة “الأخبار” بالعاصمة السيد “فيكتور بريكند” لنقل أخبار الحرب والمعارك التي خاضها الشيخ بوعمامة ضد فيالق الاستعمار الفرنسي بين سنة 1903ـ 1904 وتكبّد فيها العدو خسائر فادحة.
لهذا نقلت ايزابيل ابرهاردت أخبار مقاومة الشيخ بوعمامة إلى كبريات الصحف العالمية أنذاك خاصة معركة بني ونيف في 31 ماي 1903، حيث تعرضت كتائب القبعات البيض والحراسة الخاصة بالحاكم العام “جونار” الذي كان يومها على موعد مع تدشين خط السكك الحديدية الذي وصل منطقة بني ونيف 150 كلم جنوب العين الصفراء لهجوم من مجاهدي الشيخ بوعمامة بالطريق المؤدي إلى واحة فيقيق (المغرب الأقصى) قرب واحة نخيل “زناقة”.
ثم عاود الشيخ بوعمامة الهجوم فوقعت معركة كبيرة نجا منها الحاكم العام بأعجوبة بعدما نصب له المجاهدين كمين.
المعركة الأخرى معركة “تاغيت” حدثت يوم 17 و18 أوت 1903 جنوب مدينة بشار، طوّق فيها أكثر من 600 مقاوم من مجاهدي الشيخ بوعمامة المركز العسكري لتاغيت الذي كان تحت قيادة النقيب “دوسيس بيال” لتسفر المعركة عن العديد من القتلى من كلى الجانبين.
أما المعركة الثالثة فكانت بمنطقة “المنقار” (30 كلم شمال تاغيت في يوم 2 سبتمبر من سنة 1903 بعد أن هجم أكثر من 200 مجاهد على قافلة محملة بالمؤونة والأسلحة فكانت الحصيلة ما يقارب 40 جنديا أجنبيا من القبعات البيض وجرح 46 آخرين من أصل 110 جنديا كانوا مكلفين بحراسة القافلة. على إثر هذا الهجوم نقل الجرحى إلى المستشفى العسكري بالعين الصفراء، حيث قامت ايزابيل ابرهاردت بنقل أخبار المعركة بعد التقائها بالجرحى الأجانب بالمستشفى فكتبت تقول «هؤلاء الجرحى هم أجانب من أصحاب القبعات البيض، من جنسيات مختلفة جاؤوا من فرنسا، وكادوا أن يموتوا لأجل قضية ليست لهم ولا تعنيهم ولا تعني مواطنيهم!».
كما كتبت أيضا عن تفاصيل المعركة مسهبة في شرح الحالة المضطربة للفصائل العسكرية ومعنوياتهم المنحطّة ناقلة أخبار القمع الذي تعرض له ساكنة قصر صفيصيفة كرد فعل على هجمات الشيخ بوعمامة الذي عطّل تقدم مشروع السكة الحديدية كما قال عنه الجنرال “اليوتي” الذي عُين يومها رئيسا للقطاع العسكري بالجنوب الوهراني في مقاطعة العين الصفراء لأجل توقيف مقاومة الشيخ بوعمامة.
فقال عن معركة بني ونيف وتاغيت: “أنهما كانتا من أشدّ المعارك التي عرقل فيها الشيخ بوعمامة تقدّم خط السكة الحديدية نحو الصحراء”.
إذن ايزابيل ابرهاردت التي جاءت كمراسلة حرب في ظلّ تلك الظروف العصيبة مع العديد من الصحفيين والمراسلين لصحف عالمية مثل “لومتان” و”جون رودس” لتغطية أحداث معارك المقاومة لم تكن مراسلة عادية، بل كانت فارسة رحالة وكاتبة راحت تراسل وتكتب وتصف كل ما رأته بالمنطقة في يومياتها مشتكية من أسلوب الرقابة الذي تعامل مع مراسلاتها الحربية. حيث تقول “إن أسلوب الرقابة وطريقة المقص أصبحت سارية التنفيذ ضد البرقيات الخبرية، وهذا تجنبا لتسرب هاجس الاسم الذي ملأ منذ 25 سنة صدى الجنوب الوهراني (…) والذي طرق بغرابة مقلقة الواقع هنا.
إنه بوعمامة” الذي كان يقوم بهجمات مركّزة على الجيش الفرنسي لتصبح مقاومته من أطول المقاومات التي قاوم فيها الشعب الجزائري جيوش الاحتلال.
بهذا الحس وبهذه الموضوعية انتصرت ايزابيل ابرهاردت للأحداث التي كانت ترصدها لهذا انتشرت كتاباتها في الجرائد العالمية الصادرة آنذاك بالجزائر وفرنسا حول هزيمة الاحتلال في منطقة “المنقار” وفي مناطق أخرى.
كما مارست أيضا بالإضافة إلى دورها الصحفي هذا حياتها الخاصة بصورة طبيعية باعتبارها مسلمة ومريدة للطريقة القادرية، فأثناء وجودها بمدينة العين الصفراء قامت بزيارة زاوية الشيخ بوعمامة بقصر فقيق (المغرب الأقصى) الذي يبعد بحوالي 5 كلم عن مدينة بني ونيف باحثة عن لقاء الشيخ بوعمامة.
وقد كتبت في كتابها “مذكرات الطريق” التقيت مع “السي محمد بن لمنور” المدعو “سيدي أحمد” ابن عم وصهر “بوعمامة”، ثم قامت أيضا بزيارة للزاوية الزيانية بالقنادسة بتوصية من شيخ الطريقة القادرية بالعين الصفراء، وتحت اسمها المستعار الذي اختارته “سي محمود ولد علي” الشاب الأديب التونسي لتلتقي بمقدم الطريقة الزيانية “سي إبراهيم بن الشيخ” فأقامت في هذه الزاوية مدة شهرين ( يونيو، يوليو 1904) لأجل التأمل والذكر و الكتابة، هناك أصيبت بمرض حمى الملاريا وعلى إثرها عادت للعين الصفراء فدخلت المستشفى وبَقِيَتْ فيه مدة 15 يومًا.
وفي 21 أكتوبر 1904 وهو يوم خروجها من المستشفى، ولقائها بزوجها “سليمان أهني” في منزلهما ذي الطابق المستأجر وسط مدينة العين الصفراء لم تكن ايزابيل ابرهاردت تدري أنها على موعد مع القدر جراء الفيضانات التي باغتتها بعد أن أغرقت جانبًا كبيرا من المدينة لتجعل نهاية الفارس سي محمود مأساوية مع ست وعشرين ضحية، ليعثر جنود الجنرال ليوتي على جثتها بعد يومين من البحث تحت الأنقاض وعلى مخطوطاتها التي بعثها الجنرال “ليوتي” إلى مؤلفها “فيكتور بريكند” رئيس تحرير جريدة “الأخبار” بعد أن بعث في الوقت نفسه ببرقية سريعة إلى وكالة هافاز نقلتها الصحافة في الجزائر وفرنسا.
يقول فيها الجنرال ليوتي أنه قد عثر على: جثة “إيزابيل” تحت الأنقاض .
وهذا مقتطف من البرقية كما وردت بجريدة “لاديباش ألجريان”. بخصوص وفاتها: عثر في العين الصفراء صباح 27 أكتوبر 1904 في الساعة التاسعة والربع على جثة “إيزابيل إبراهاردت “تحت الأنقاض”.
ثم قال عنها يومها: «كانت الشخص الوحيد الذي يلفت كثير الانتباه، إنها المرأة العاصية.. والتي هي خارجة عن كل حكم مسبق وعن كل تشيع وعن كل عبارة مبتذلة، تَمُرُّ عبر الحياة بقدر ما هي حرة من كل شيء كالطائر في الفضاء يا لها من متعة!!».
كما قال عنها أيضا المفكر الجزائري “مالك بن نبي” في كتابه “مذكرات شاهد القرن” بعد أن تأثر بكتاباتها التي نشرها مؤلفها “فيكتور بريكند”: «.. لقد قرأت مرارًا كتابها، تلك المرأة المغامرة التي أنهت حياتها بالعين الصفراء، وفي ظروف مشؤومة كنتُ أبكي وأنا أقرأ ذلك الكتاب المسمى (في ظلال الإسلام الدافئة). والذي عرفت فيه شاعرية الإسلام، وحنين الصحراء..».
رحلت اذن ايزابيل ابرهاردت ليبق اسمها مسجلا في تاريخ الأدب الجزائري الحديث ككاتبة عالمية بعد أن دفنها جمع من آهالي مدينة العين الصفراء في جو جنائزي وبحضور الجنرال “ليوتي” في مقبرة المسلمين “سيدي بوجمعة” بالعين الصفراء بعد أن كتب على قبرها باللغتين العربية والفرنسية” “سي محمود” / ” إيزابيل إبراهاردت ” زوجة “أهني سليمان” توفيت في سن 27″.
زايد بوفلجة وراهبة الصحراء ..العشق المستحيل
إن الحديث عن زايد بوفلجة كأحد أهم الكتّاب في مدينة العين الصفراء هو حديث عن حكاية مدينة تعايشت فيها قوميات وديانات مختلفة، لهذا وضع هذا الكاتب بصمته في التاريخ الثقافي للمدينة بتأليفه لكتاب سِيري عن علاقة طالما شغلت الفلاسفة والمفكرين علاقة بين حضارتين ودينين مختلفين عبرت عنهما علاقة حب ربطت راهبة من راهبات الإرسالية المسيحية التي تواجدت بالمدينة في أربعينيات القرن الماضي، بشاب عربي مسلم اسمه زايد بوفلجة.
يتحدث زايد بوفلجة في كتابه “راهبة الصحراء” الصادر في طبعته الأولى عن الشركة الوطنية للكتاب لاسناد 1982، والطبعة الأخيرة سنة 1993 عن دار دحلب بالعاصمة عن زوجته كاترين الراهبة التي جعلها تعتنق الإسلام وتهرب من أسر الرهبنة التي كانت فيها تحت سلطة مؤسسة الآباء البيض التي تواجدت على أطراف المدينة آنذاك.
وقد كلفت هذه المؤسسة الراهبة كاترين بمساعدة الأطباء في مستشفى العين الصفراء، حيث تعرفت أثناء تنقلاتها لمعالجة الأهالي في الضواحي على رجل أسمر اسمه زايد بوفلجة كان قد أعجب بها أول ما رآها مع أخواتها الراهبات وبعد أن باح لها بحبه، بعد عدة لقاءات وجدت كاترين نفسها تبادله المشاعر كما لو أن زيد بوفلجة قد أحيا في قلبها تلك الشعلة الزرقاء التي ظنت أنها انطفأت منذ أن رفض والديها زواجها من حبها الأول الشيء الذي جعلها تنذر روحها للعزوبية الأبدية ولخدمة الكنيسة الكثوليكية.
تقدمت كاترين بطلبها للتحرّر من أسر الرهبنة لكن الآباء البيض رفضوا طلبها كما رفضت الإدارة الفرنسية ارتباطها برجل عربي مسلم واعتناقها للإسلام، وهنا بدأت حكاية زايد بوفلجة الذي لم يتوان في الاتفاق مع كاترين على الزواج بالطريقة الإسلامية في صيف 1949 قبل أن يقرّر الهرب معها من المدينة باتجاه فرنسا ليتم هناك عقد قرانهما الرسمي بعد مباركة والديها، أرسلت كاترين في سرية تامة رسالة إلى والدها تطلب موافقته على زواجها، ورسالة أخرى لمقر الأخوات البيض في الجزائر كي يتمّ فك قيودها من الرهبنة باعتبارها مقبلة على الزواج، لكن كاترين وزايد بوفلجة لم يكونا على دراية بقدرهما المأساوي، قدر الافتراق الأبدي الذي كان في انتظارهما بعدما أن رفض والديها طلب الزواج مثلما رفض الآباء البيض تحرّرها من الرهبنة، ورفضت الإدارة الفرنسية أن يتزوج عربي مسلم من فرنسية مسيحية، فراح الجميع يبحث عنها في باريس، إلى أن اختطفها مجهولين على متن سيارة في شهر جويلية 1949، من أمام زوجها في قلب الشونزيليزي بتواطؤ من الإدارة الفرنسية مع مؤسسة الآباء البيض بعد أن كانت قد وصلت كاترين رسالة تقول، إن والدها مريض ويدعوها لرؤيته.
في اللحظة التي وقفت فيها كاترين على الرصيف بانتظار السيارة التي تقلها لرؤية والدها توقفت سيارة مجهولة واختطفتها من أمام زوجها زايد بوفلجة الذي دوّن لحظتها رقم سيارة الخاطفين، وبعد بحث طويل وتردّد على مقرات الشرطة التي توصلت في نهاية المطاف إلى أن السيارة الخاطفة تعود إلى مؤسسة الآباء البيض، لكنهم لم يستطعوا أن يفعلوا له شيء، بعدها وصلت رسالة من مؤسسة الآباء البيض تطلب من زيد بوفلجة أن يكف البحث عن كاترين.
لم يستسلم زايد بوفلجة فراح يبحث عن محامي ليرفع قضيته للقضاء الفرنسي، وهنا قام أحد المحامين بتوجيهه إلى أحد النواب المعروفين في التعامل مع القضايا الدولية وهو النائب العام شارل ديبوس الذي رافع في العديد من القضايا الدولية التي تخصّ ألمانيا في نيرانبارغ، وبالفعل اتصل به زايد بوفلجة وحكى له حكايته من أجل استعادة زوجته، بعد أن وافق النائب ديبوس على البحث في قضيته وراح يحقق فيها ويتتبع أثار الخاطفين، تعرّض إلى سرقة وثائق من بيته، وجراء الضغوطات التي بدأ يتلقاها من مؤسسة الآباء البيض قرّر التوقف عن البحث، هنا قرّر زايد بوفلجة بعد يأس العودة إلى مدينته العين الصفراء ليتفاجأ بقرار طرده من العمل ومحاكمته بتهمة التآمر على فرنسا لولا تدخل من الباشاغا الخلادي الذي كان قائدا يومها عن مدينة تيوت والعين الصفراء وضواحيها وحتى لا يسجن، أمره هذا الأخير بالذهاب إلى المنفى بمدينة وهران .. أما كاترين فقد نفتها الكنيسة إلى أدغال افريقيا بعد أن أجبرتها على ارتداء لباس الراهبات ونسيان زواجها من العربي المسلم.
هذه هي حكاية “راهبة الصحراء” التي أسالت الكثير من الحبر في سنوات الثمنينات بعد أن أعاد فتحها الكاتب “بريك بارجي” من خلال كتابه “الباشاغا” الصادر في 28 ماي 1980 عن دار نشر لاماريون الذي تحدث فيه عن سنوات خدمته كراهب مع الجيش الفرنسي بمدينة العين الصفراء مبرزا حقده الديني إزاء الإسلام في قضية زواج الراهبة كاترين بالجزائري المسلم زايد بوفلجة التي رأى أنها عار كبير على الكنيسة وعلى المسيحية، لهذا لعب دورا كبيرا في التفريق بينهما.
بعدها بعامين كتب زايد بوفلجة كتاب “راهبة الصحراء” ردا على “بريك بارجي” وعلى كتابه “الباشاغا” مبينا الأكاذيب التي جاء بها الكتاب حول علاقته بالراهبة كاترين وكيف تزوجها زواجا إسلاميا ثم خطفت منه.
وفي نفس السنة وفي يوم 9 ماي 1982، أعاد كاتب وإعلامي فرنسي آخر اسمه “دلباش” احياء قضية كاترين من خلال مقالة نشرها في جريدة “لموند” الفرنسية متهما في “بريك بارجي” بالحقد والكذب ومنتصرا فيه لزايد بوفلجة وحكاية خطف زوجته كاترين، قائلا، إن زايد بوفلجة لم يختطف كاترين بل تزوجها على الطريقة الإسلامية. هنا أعيد فتح النقاش في الوسط الثقافي والإعلامي الفرنسي للبحث من جديد في حكاية كاترين وزواجها من عربي مسلم اسمه زايد بوفلجة، وكيف أثارت غضب الكنيسة والإدارة الفرنسية أنداك ودخل صاحب كتاب “الباشاغا” بريك بارجي النقاش بظهوره في حصص تلفزيونية في قنوات فرنسية شارحا علاقته بتلك القضية ورادا على اتهامات الإعلامي والكاتب دلباش.
صافية كتو وقدر التحليق من على الجسر
قدر مأساوي آخر مع كاتبة وصحفية ابنة مدينة العين الصفراء،رحلت فجأة بعد أن بدأ صوتها الأنثوي يعانق عالم الشعر ويعبر الأزمنة ليصل إلى كوكبها البنفسجي صادحا في سماء الأدب النسوي المغاربي في ثمانينيات القرن الماضي، صافية كتو أو زهرة رابحي المولودة في نوفمبر سنة 1944.
بدأت الكتابة منذ سنّ الخامسة عشر من خلال نتاجها الشعري والقصصي الذي تناولت فيه قضايا الثورة الجزائرية، وقضايا الانسانية التي شغلت العالم الثالث يومها، في مقدمتها القضية الفلسطينية ومناهضة الحرب على الفيتنام، مرورًا بمشاكل الأمية واضطهاد المرأة، وغيرها من المواضيع والقضايا الاجتماعية التي أرَخَتْ من خلالها صافية كتو لفترة من تاريخ مجتمعها.
كما كتبت أيضا برؤية مستقبلية تسائل فيها مصير الإنسان في علاقته مع التطورات العلمية التي كان ينتجها من حين لآخر لتصبح من أول الكاتبات اللواتي كتبن في الخيال العلمي في المغرب العربي، بإصدارها لمجموعتها القصصية “الكوكب البنفسجي” عام 1983عن (دار نعمان بكندا)، التي تضمّ سبع عشرة قصة كتبتها بين عامي 1964و1980، تحكي فيها بطريقة درامية قصصا تحدث في كوكب آخر، من بينها: القمر المشتعل، الكوكب البنفسجي، المرأة الخيالية وغيرها..
في حوار لها تكلّمت صافية كتو عن مجموعتها هذه وقالت: “اخترت الخيال العلمي حتى أجد حرية في الغوص في الزمان والمكان، حيث لا توجد حدود في الفضاء، وهذا ما يجعلني أعيش عالما مدهشا وغريبا، وحتى أبطال القصص لا يوجدون في الواقع ولم يتمّ تناولهم في أعمال الأدبية أخرى”.
كما كتبت الشاعرة الراحلة في الشعر مخلفة ديوانا وحيدا باللغة الفرنسية “صديقتي القيثارة” الصادر عن دار نعمان بكندا عام 1979، بالإضافة إلى مسرحية “أسماء” مثلت في القناة الثالثة وإلى العديد من الكتابات التي بقيت مخطوطة ولم يكتب لها القدر أن ترى النور بعد أن كانت مأساة الرحيل في انتظارها في جسر تليملي بالعاصمة مساء يوم 29 جانفي من سنة 1989، لتعود إلى مدينتها محملة على نعش خشبي وتوارى تراب مقبرة سيدي بوجمعة بجوار جدتها كتو وعلى بعد أمتار من ملهمتها الكاتبة العالمية ايزابيل ابراهاردت.
رحلت صافية كتو وانطفأ معها صوت أنثوي متمرد طالما غرّد في آفاق الكتابة النسوية في الجزائر، غرد للحرية وللإنسانية والتسامح بعد أن جمعت بين الكتابة الصحفية والتمرد والمغامرة. فصافية كتو من خلال عملها الاعلامي كتبت في العديد من الصحف، وسافرت إلى العديد من البلدان بعد مغادرتها عالم التدريس والإدارة في وزارة التربية، أما تجربتها الشعرية كما يقول عنها النقاد فتتميز بالرهافة والهدوء والشاعرية، معترفين أنها من أهم الأديبات اللواتي أسسن للأدب النسوي الجزائري.