يعتقد (هارون، عبد السلام) بأنه لا توجد للتراث مادة معيّنة في معاجم اللغة كبيرها وصغيرها، وبناءً على ذلك، فهو يرى بأن هذه الكلمة مأخوذة من مادة (ورث) التي تدور معانيها بإجماع اللغويين حول ما يخلّفه الرجل لورثته. وأن تاءه أصلها واو: أي (الوراث) ثم قلبت الواو تاء، لأنها أجلد من الواو وأقوى فصارت (تراث) وهي تعني حصول المتأخر على نصيب مادي أو معنوي ممن سبقه: من والد أو قريب أو موص أو نحو ذلك.
ورد في القرآن الكريم قوله تعالى “وورث سليمان داود”. وهو تقريبا المعنى نفسه الذي نجده في قوله تعالى من سورة الفجر، ” وتأكلون التراث أكلا لما”، حيث كان الناس في الجاهلية يمنعون توريث النساء وصغار الأولاد، فيأكلون نصيبهم ويقولون: لا يأكل الميراث إلا من يقاتل، ويحمي حوزة القوم، وكانوا يلمون جميع ما تركه الميت من حلال أو حرام ويسرفون في إنفاقه.
ربما كان مصطلح التراث من بين أهم المصطلحات ذيوعا في حقل الدراسات النقدية والإنسانية المعاصرة، لأسباب مختلفة ليس هذا مكان سردها، ولكنّها في الغالب تتعلّق بمسائل التحرّر والنهوض، و”التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة.
“و” التراث بمعناه الواسع، هو ما خلّفه السلف للخلف من ماديات ومعنويات أيا كان نوعها”، ويشرح «إسماعيل، سيد علي» هذه الفكرة فيبين أن التراث هو: “ذلك المخزون الثقافي المتنوّع والمتوارث من قبل الآباء والأجداد، والمشتمل على القيم الدينية والتاريخية والحضارية والشعبية، بما فيها من عادات وتقاليد، سواء كانت هذه القيم مدوّنة في كتب التراث، أو مبثوثة بين سطورها، أو متوارثة أو مكتسبة بمرور الزمن.
وبعبارة أكثر وضوحا: إن التراث هو روح الماضي وروح الحاضر وروح المستقبل بالنسبة للإنسان الذي يحيا بـه، وتمـوت شخصيته وهويته إذا ابتعد عنه، أو فقده”.
ويشير كثير من الباحثين إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي التراث والإرث “باعتبار أن الإرث هو ما يرثه الابن عن أبيه بعد أن يموت هذا الأخير، فهو عنوان على اختفاء الأب وحلول الابن محله.
أما التراث فهو ما يبقى حاضرا في الخلف من السلف، وبالتالي فهو عنوان على حضور السلف في الخلف”، ذلك أن أهمية التراث تكمن في قدرته على التواصل والاستمرار في الحاضر، بل والتوجّه نحو المستقبل، ولعلّ هذا ما أراده “أدونيس” إذ يقول: “ليس التراث ما يصنعك، بل ما تصنعه. التراث هو ما يولد بين شفتيك ويتحرّك بين يديك.
التراث لا ينقل بل يخلق.”، وعلى الرغم من ارتباط التراث بالماضي في صورة من الصور، إلا أن هذا الارتباط لا ينبغي أن يجعلنا نغفل ـ كما يؤكد أدونيس ـ أن “ليس الماضي كل ما مضى . الماضي نقطة مضيئة في مساحة معتمة شاسعة”. من هنا تنبع حاجة المبدع إلى التواصل مع تراث أمته قصد الاستفادة منه باستلهامه وتوظيفه.
لقد واجه العقل العربي إشكالية التراث في سياق مواجهته للآخر الغربي وذلك منذ البدايات الأولى للنهضة العربية الحديثة، والتي يحلو لأغلب الدارسين تحديد تاريخها ـ أي النهضة ـ بسنة 1798 تاريخ حملة نابليون على مصر، وكلما ازدادت حدة المواجهة بين الأنا والآخر بفعل حركة الاستعمار المتواصل للبلدان العربية كلما كانت قضية التراث تطفو على السطح سواء بوصف هذا التراث إحدى ركائز المواجهة. أو إحدى ركائز النهضة المنشودة، لأن التراث بوصفه هوية الأمة وكيانها، كان دائما يطرح نفسه على الجميع بقوة.
وسواء تفرّق هذا الجميع إلى مناصرين لتيار الأصالة، أو رافعين لواء الحداثة، أو منادين بشعار المعاصرة، فإن حضور قضية التراث في وعي هؤلاء أو في لاوعي أولئك لهو حضور جوهري قوي “لأن العودة إلى التراث في حياتنا المعاصرة هي جزء من عملية الدفاع عن الذات، وهي عملية مشروعة وتشترك فيها جميع شعوب الأرض. تبقى بعد ذلك كيفية التعامل مع التراث، في العودة إليه، وحدود توظيفه.. وهذه مسألة أخرى.
أما الموقف الثاني الذي يجعل التراث ضرورة من ضرورات حياتنا المعاصرة، فيتعلّق أساسا بمواجهة الذات نفسها.
إن الارتفاع إلى مستوى الحياة المعاصرة، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، يتطلّب من جملة ما يتطلّب إعادة بناء الذات نفسها، وإعادة بناء الذات لابد أن تنطلق من إعادة بناء التراث، من إعادة ترتيب العلاقة بينه كشيء ينتمي إلى الماضي وبين الحياة المعاصرة كشيء ينتمي إلى الحاضر والمستقبل”. حيث “يعد التراث في مجمله رافدا ضروريا لإفادة الحاضر واستكشاف المستقبل “، ولعلّ الصواب أن نقول إن “التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية”، لأن ما يمنح الأمة هويتها وكيانها يتوقف على مدى سريان التراث في عروقها.
دواعي توظيف التراث في الأدب والفنون
لقد عكف الكثير من الباحثين على إجراء دراسات تبرز البواعث التي تجعل المبدع يهتم بالتراث ويقوم بتوظيفه، ومهما تباينت الرؤى من باحث إلى آخر إما بسبب المنطلقات أو حتى بسبب الحقل الإبداعي محل الدراسة، من شعر إلى رواية أو مسرحية، نظرا لوجود فوارق جزئية بين كل شكل وآخر، فإن تلك البواعث تظلّ متقاربة ضمن إطار كلية التراث من جهة، وكلية الإبداع من جهة أخرى.
أولا- دواعي توظيف التراث في الشعر
ففي مجال توظيف التراث في الشعر مثلا يحصي ” عشري زايد، علي” عديد العوامل ـ حسب رأيه – منها:
1-العوامل الفنّية
ويحدّدها في جانبين يتمثل الأول منهما في إحساس الشاعر المعاصر بثراء التراث بالإمكانات الفنية، وبالمعطيات والنماذج التي من شأنها أن تمنح قصيدته طاقات تعبيرية وإيحائية وتأثيرية هائلة، نظرا لما يكتسيه التراث من حضور حي في وجدان الأمة، ويتمثل الجانب الثاني في نزعة الشاعر المعاصر إلى إضفاء نوع من الموضوعية والدرامية على عاطفته الغنائية، حيث يستخدم الشخصيات التراثية كقناع وكمعادل موضوعي لتجربته الذاتية.
2 – العوامل الثقافية
وتتمثل من جهة في مساهمة التراث في نهضة الشعر وتطوّره، حيث انتقل الشعراء العرب من مرحلة التعبير عن التراث في بدايات النهضة إلى مرحلة التعبير بالتراث في مرحلة لاحقة، كما تتمثل في تأثر الشعر العربي الحديث بالاتجاهات الداعية إلى الارتباط بالموروث في الآداب الأوروبية الحديثة، وخاصة دعوة “ت-س إليوث” من جهة ثانية.
3 – العوامل السياسية والاجتماعية
حيث يستعير الشاعر الأصوات التراثية ويتخذها قناعا يتستر بها في مواجهة القهر السياسي والاجتماعي المفروض عليه. ولقد وجد الشاعر العربي في التراث معينا لا ينضب من الأصوات التي تحمل كل نبرات النقد والإدانة لقوى القهر والتسلّط، وخاصة تلك الأصوات التراثية التي ارتفعت في وجه الطغيان، وتمرّدت على السلطة في عصرها مثل عنترة والمتنبي والحلاج وغيرهم.
4 – العوامل القومية
وهنا يبرز التراث بوصفه حصنا منيعا تواجه به الأمة المخاطر الخارجية التي تهدّد كيانها القومي، ولقد لاحظ الباحث “عشري زايد، علي” زيادة اهتمام الشاعر العربي بتراثه، وأن هذا الاهتمام قد تزامن مع بروز مخاطر استعمارية، فكان تعلّق الشاعر بتراثه هو في سبيل البحث عما يعزّز الإحساس القوي بالشخصية القومية لأمته وبأصالتها.
5 – العوامل النفسية
وهنا يلجأ الشاعر إلى أحضان التراث هاربا من سطوة الواقع المعيش، وذلك بسبب إحساس الشاعر بالغربة وبجفاف الحياة المعاصرة وتعقيدها، الأمر الذي يدفعه إلى الهرب من الواقع ونشدان عالم آخر أكثر جمالا وعفوية وصدقا، وهو عالم التراث، حيث الحياة الساذجة البكر، وحيث الأحلام الأسطورية العفوية.
والملاحظ في هذا التقسيم الذي طرحه الباحث “عشري زايد، علي” أننا يمكن أن نضمّ العوامل الفنية في العوامل الثقافية نظرا لتقاربها في معنى عام واحد.
ثانيا- دواعي توظيف التراث في الرواية
أما في مجال دواعي توظيف التراث في الرواية، فإن “عامر، مخلوف” – نقلا عن الباحث “وتار، محمد رياض” في كتابه “توظيف التراث في الرواية العربية”- يذكر مجموعة من البواعث كما يأتي:
البواعث الواقعية
فبعد هزيمة حرب حزيران 1967، اقتنع المثقفون العرب بضرورة مراجعة التراث لتغيير البنى الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وذلك من أجل تحقيق الوثبة الحضارية.
البواعث الفنية: وتتمثل في تأثر الرواية العربية بالدعوة إلى توظيف التراث في الرواية الأجنبية وخاصة بعد ظهور روايات جديدة في أمريكا اللاتينية واليابان وإفريقيا تتميز بتوظيف التراث وتغوص في البيئة المحلية.
الحركة الثقافية
وهي تبرز في دعوة عدة نقاد ومثقفين إلى رفض التبعية للغرب وتقليد أدبه، فطرح هؤلاء النقاد مسألة توظيف التراث العربي بغرض البحث عن تحقيق الاستقلالية والتميز.
ويرى “عامر مخلوف” أن هذه البواعث غير كافية لتحديد دواعي توظيف التراث في الرواية، فيضيف عليها ما يأتي:
أ-المقاومة
حيث تصبح العودة إلى التراث وإحيائه والتمسّك به ضرورية لمقاومة الاستعمار، ومواجهة سياسة الاجتثاث الرامية إلى طمس التراث وإتلاف معالم الهوية.
ب – الاستقلالية والتميز
ففي سياق محاربة الأفكار المستوردة ومحاولات التخلّص من التبعية للغرب، برزت دعوة الأدباء إلى استلهام التراث وتوظيفه قصد إضفاء نوع من الخصوصية على الرواية العربية.
ج – المعارك الفكرية حول التراث
فقد تحوّل التراث إلى سلاح إيديولوجي بفعل احتداد الصراع بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، الأمر الذي أدى إلى بروز دعوات ومؤلفات فكرية وفلسفية تتبنى رهان التراث، وطبيعي أن ينعكس ذلك كله في الكتابة الأدبية عامة والروائية خاصة.
د- جمالية التراث وطبيعة الرواية
فمن جهة نلاحظ أن التراث العربي يتسم بالجمال والتنوّع والقدرة على التأثير في الآداب العالمية مثلما أحدثته قصص “ألف ليلة وليلة” أو “رسالة الغفران”، ومن جهة ثانية نجد أن فن الرواية بطبيعته الموسوعية، له القدرة على احتضان أجناس أدبية متعدّدة، وبالتالي القدرة على توظيف التراث.
ه – العامل السياسي
ويتمثل في ظهور أحزاب سياسية عربية وفي مقدمتها “حزب البعث”، جعلت من التراث العصب الحسّاس في إيديولوجيتها، فكان تمجيد هذه التشكيلات السياسية للتراث أثره الواضح في البحث الفلسفي والكتابة الأدبية.
إن الملاحظ على هذا التقسيم الذي طرحه الباحث “عامر، مخلوف” هو كثرته في غير ما حاجة علمية لذلك، فعامل (الحركة الثقافية) الذي تحدث عنه “وتار، محمد رياض” هو نفسه عامل (المقاومة) وهو نفسه عامل (الاستقلالية والتميز) اللذين كررهما “عامر، مخلوف” بمسميات مختلفة، كما نلاحظ أن عامل (البواعث الفنية) الذي تحدث عنه “وتار، محمد رياض” هو نفسه عامل (جمالية التراث وطبيعة الرواية) الذي تبناه “عامر، مخلوف”.
ثالثا- دواعي توظيف التراث في المسرح
أما بالنسبة لتوظيف التراث في المسرح فإننا نجد “إسماعيل، سيد علي” يحدّد أربعة أسباب تجعل الكاتب المسرحي يهتم بالتراث، فيقوم بتوظيفه في إبداعه المسرحي وهذه الأسباب هي:
1- الفخر بمآثر العرب وتاريخهم تعويضا عن ضعف الأمة في حاضرها بسبب طغيان الاستعمار عليها، فيكون استلهام المواقف القومية بهدف الفخر والاعتزاز وإثارة الحمية والأنفة في النفوس.
2- الوقوف أمام المستعمر فيكون توظيف التراث بهدف التمسّك بالشخصية الوطنية في مقابل سعي الاستعمار لطمسها.
3- التمسك بالهوية القومية العربية وخاصة في فترات الهزات الكبرى التي تضعف كيان الأمة فيخيّم عليها الإحساس بالإحباط والضياع فيكون التراث معوضا عن الشعور بالنقـص ودافعا لعودة الثقة بالنفس.
4- محاولات التأصيل للمسرح العربي وذلك بالسعي إلى استلهام الأشكال والمضامين التراثية لمواجهة سلطة الثقافة الغربية.
وإننا نلاحظ مما تقدّم، وجود اختلافات بسيطة بين الباحثين بخصوص مقارباتهم لقضية دواعي توظيف التراث، ولعلّ مردّ تلك الاختلافات يعود في الأساس إلى تباين أشكال الأدب من شعر ورواية ومسرحية، كما يعود إلى اختلاف هؤلاء الباحثين في طرائق التعبير عن تلك البواعث بين كل باحث وآخر، وليس إلى طبيعة البواعث في حدّ ذاتها.
لقد رأينا فيما تقدّم أن حضور التراث في حياة الأمة عموما هو ما يؤكد الوجود الفعلي، الحضاري والرمزي لتلك الأمة ذلك أن “التراث هو التاريخ والذاكرة والشخصية التي تلون أجيال الأمة الواحدة بألوانها، فهو ليس تراكم خبرات ومعارف، ولكنه اعتراف بوجود واعتراف بشخصية لها وجودها التاريخي والنفسي، بكيانها وموقعها في العالم.
فنحن كثيرا ما نسمع أو نقرأ: ((إن أمة بلا تراث، أمة بلا جذور))، بل بلا مستقبل، لأن الجذور هي التي تغذي شجرة الحياة لتعطي ثمارها وتشعّ بنورها على الإنسانية جمعاء، الأمة التي لا تصون تراثها وتستفيد منه في جميع مجالات الحياة، أمة تابعة ولا يمكنها أن تسهم في بناء حاضر ومستقبل الإنسانية، بل لا يمكن أن تحافظ على كيانها كأمة”.
إن أهمية التراث مسألة بديهية، غير أن هذه الأهمية القصوى قد أفرزت ـ فيما يذكر (مهدي، نافع موسى) أربعة مواقف سجالية متباينة بين الباحثين تتمثل في:
أولا- الموقف المقدس للتراث، وهو موقف نكوصي يعتقد أن ما في التراث هو كل الخير، وأن ما أنجزه الماضي هو الموجه والمسير للحاضر والمستقبل.
ثانيا- الموقف الرافض للتراث، وهو موقف سلبي ينكر التراث جملة وتفصيلا ويعتقد بعدم جدواه في الحياة المعاصرة .
ثالثا- الموقف الانتقائي أو الإيديولوجي، الذي يدعو للاستفادة من التراث بما يخدم خطه الإيديولوجي أو الفكري وحسب.
رابعا- الموقف التوفيقي أو المتردّد، والذي يقف حائرا أمام التراث فلا يعرف ما الذي يريده منه بالضبط.
وبعد عرضه لهذه المواقف، يرى الباحث أن الموقف السليم من التراث هو الموقف الإيجابي الذي يحسّن إدراك الجوانب المضيئة في التراث، كما يحسن توظيفها في إضاءة الحاضر والمستقبل.
وانطلاقا من جملة المواقف العامة السابقة، فإن هناك من النقاد المسرحيين من حدّد ـ من وجهة نظره – بعض المعايير الواجب توّفرها في العمل المسرحي المتأثر بالتراث تتمثل فيما يأتي:
أولا- عدم تبجيل التراث، وإلا أصبح الكاتب أسيرا لكل ما هو قديم.
ثانيا- القدرة على الانتقاء من التراث ما يناسب المرحلة التاريخية الراهنة، وما يلائم مشكلات الحاضر.
ثالثا- المرونة في التعامل مع التراث بحرية، ذلك أن المسرحي الجيد هو الذي يعي دور التراث وعيا نقديا يمكنه من تفجير ما فيه من دلالات إيحائية بواسطة إضافة جوانب وشخصيات لم يكن لها وجود حقيقي في التاريخ، فالمسرحي فنّان يختلف دوره عن دور المؤرخ.
رابعا- التوظيف الرمزي للتراث، حيث يتمّ استعماله قناعا، أو معادلا موضوعيا للتعبير عن الواقع بأسلوب غير مباشر، ويكون ذلك خاصة عندما يواجه الكاتب ضغوطا اجتماعية أو سياسية خارجية.
خامسا- الأصالة والمعاصرة بين التراث والواقع وتتمثل في قدرة المسرحي على جعل التراث يستجيب لمتغيرات العصر، ذلك أن قيمة التراث تكمن في مدى ما يعطي للمبدع من وجهات نظر لتفسير الواقع.
إن هذه المعايير تفرض على المبدع الاطلاع الجيد على التراث “في كلياته وجزئياته كظاهرة أو ظواهر مادية وروحية متنوعة المناحي ومتعدّدة الجوانب مع الوعي التام بحقيقتها وأبعادها”، ذلك أن الوعي الشامل والعميق بالتراث من شأنه أن يساعد المسرحي على امتلاك رؤية وتأسيس موقف نقدي من التراث يساعده على تحقيق العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر. ذلك أن “التراث ليس قيمة في ذاته”، ولكنه وسيلة وطاقة تعبيرية هامة بين يدي المبدع يستثمرها ويوظف إمكاناتها الظاهرة والكامنة في خدمة تجربته الراهنة ومنتجه الإبداعي.
أننا إذا اعتبرنا التراث نقاطا مضيئة في مساحات معتمة، فإن المسرحي الجيد مطالب من ناحية باكتشاف تلك النقاط المضيئة، كما أنه مطالب بحسن استغلالها في خدمة تجربته الإبداعية الراهنة من جهة ثانية، “وهو بذلك يمنح التراث دفعة جديدة من الحياة لأنه استخدمه ليعبّر به تعبيرا جديدا عن رؤية جديدة”.
وإذا كان التراث ليس له قيمة في ذاته، ولكنّه يكتسب قيمته من خلال ما يمنحه للمبدع من فضاءات ورؤى تغني تجربته وتثري منتجه الفني، فإننا نرى من الفائدة، أن نشير إلى أن وعي المسرحي العربي عموما بأهمية توظيف التراث لم يكن طفرة واحدة،ولكنه مرّ بمراحل متباينة كان فيها حضور التراث بمستويات متعدّدة يمكن إبراز بعضها كما يأتي:
أولا- مستوى مسرحة التراث، حيث جرى التعبير عن هذا التراث فاستغرق المسرحي فيه وسجله أو عرضه كما هو دون إضافة أو تفسير.
ثانيا- مستوى التعبير بالتراث، حيث وظّف المسرحي التراث، واستخدمه استخداما فنيا بغرض التعبير عن هموم العصر وقضاياه، وذلك بعد تأويل العناصر التراثية تأويلا معاصرا.
ثالثا- مستوى التأصيل بالمراهنة على أشكال التعبير المسرحي في التراث، والتنظير لهذه الأشكال التراثية.
بقلم أ.د. أحسن تليلاني
هوامش
– هارون، عبد السلام: التراث العربي، سلسلة كتابك، رقم 35، دار المعارف، مصر 1978، ص ص 3، 4.
– حنفي، حسن: التراث والتجديد ـ موقفنا من التراث القديم -، ط5، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت سنة 2002 ، ص13.
– محمد سليمان، حسين: التراث العربي الإسلامي ـ دراسة تاريخية ومقارنة -، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر د-ت، ص 13.
– إسماعيل، سيد علي: أثر التراث في المسرح المعاصر، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة)، دار المرجاح (الكويت)، سنة 2000
ص 40.
– الجابري، محمد عابد: المسألة الثقافية في الوطن العربي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999، ص 88.
– أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحوّل (بحث في الإتباع والإبداع عند العرب) ـ ج3 (صدمة الحداثة)، ط4، دار العودة ـ بيروت، لبنان سنة1983، ص: 313.
– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
– الجابري، محمد عابد: المسألة الثقافية في الوطن العربي، ص 252.
– بوبعيو، بوجمعة – وآخران: توظيف التراث في الشعر الجزائري، ط1، منشورات مخبر الأدب العربي القديم والحديث، جامعة باجي مختار ـ عنابة، مطبعة المعارف، عنابة ـ الجزائر 2007، ص 13.
– حنفي، حسن: التراث والتجديد ـ موقفنا من التراث القديم -، ص 13.
– ينظر: عشري زايد، علي: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة سنة 1997 ص- ص 16 ـ 44.
– ينظر: عامر، مخلوف: توظيف التراث في الرواية الجزائرية،منشورات دار الأديب للنشر والتوزيع، وهران، الجزائر سنة 2005، ص ـ ص : 13 ـ 15.
– إسماعيل، سيد علي: أثر التراث في المسرح المعاصر، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة) ودار المرجاح (الكويت)، ص ص 40، 42.
– بوبعيو، بوجمعة – وآخران: توظيف التراث في الشعر الجزائري، ص ص 19، 20.
– مهدي، نافع موسى: “نظرة في التراث العربي، الأهم والمهم بين الماضي والحاضر” مجلة سيرتا، العدد 6 / 7، إصدارات معهد العلوم الإجتماعية بجامعة قسنطينة، جويلية 1982، ص 94 – 96.
– إسماعيل، سيد علي: أثر التراث في المسرح المعاصر، ص – ص 43 – 48.
– – بوبعيو، بوجمعة – وآخران : توظيف التراث في الشعر الجزائري، ص 20.
حنفي، حسن: التراث والتجديد، ص 13.
– أدونيس، علي أحمد سعيد: الثابت والمتحوّل (بحث في الإتباع والإبداع عند العرب) ـ ج3 (صدمة الحداثة)، ص 101.