يعدّ المسرح الفن الأقدر من بين الفنون التعبيرية في تصوير التجربة الإنسانية بكل جزئياتها متوسلاً وسائله المختلفة سواء أمِنْ جهة الأداء أم اللّغة، ومن أجل ذلك تبنت كلّ الثقافات البشرية فنون الأداء من أجل اِكتمال الحالة التعبيرية عن حياتها الخاصة.
يبقى فن المسرح حتى مع تطوّر مستويات التواصل البشري مرآة تعكس صورة الإنسان في فردانيته وكذا في علاقته بالمجتمع، فهو يعبر عن رغبات الإنسان وأفكاره ويجسّد الواقع بكل آلامه، خاصة وأن للمسرح القدرة على التأثير في نفوس المتلقين سواء مشاهدين أم قراء.
ولعلّ من بين الجزئيات التي تُبقي الوجود البشري على هذه الأرض هو طبع التدافع بين الناس من أجل تحقيق غاياتهم المختلفة، وهذه الصفة في الحقيقة على ما تولده من إلغاء للآخر إحقاقا للذات وما ينتجه ذلك السلوك من بؤس في حياة الإنسان، إلا أنه سنّة كونية أقرها النص القرآني في قوله تعالى: {{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا}} سورة الحج 40.
فالصراع الذي اتخذه الفن المسرحي واحدا من أهم مقوماته المحقّقة للفعل الدرامي إنما هو في الحقيقة سنّة كونية محقّقة للوجود الإنساني.
ومنه كان السؤال الذي تنهض به هذه الورقة البحثية هو القراءة العمودية في مبدأ الصراع، من خلال استفزازه بأسئلة نصية وأخرى ركحية؟ ثم لماذا الصراع في المسرح بالذات. ونتساءل عن أنواع الصراع الكائنة في الفعل المسرحي؟ وهل يبقى الشرط الجمالي هو المعوّل عليه في توظيف الصراع في المسرحية أم أنّ هذا الخير يشكّل ضرورة ملّحة لتمام الفعل الدرامي في أي عمل مسرحي؟
المسرح..صراع النص والعرض
على عكس الفنون التعبيرية جميعا يظهر في فنّ المسرح قطبين اثنين للعملية الإبداعية هما النص والعرض، وقد تراكمت الأفهام وأضدادها لكل قطب من قطبي الفعل المسرحي حتى صيّرت العلاقة بين النص والعرض المسرحي علاقة جدلية رغم ارتباطها ببعض.
وفي هذا تقول نهاد صليحة: ” لم يعرف المسرح في بداياته ذلك الصراع الذي احتدم في القرن العشرين بين مؤلف النص المسرحي ومخرج العرض، وكأن شرط وجود أحدهما هو نفي الآخر، أو ذلك الفصل التعسفي الساذج بين النص الدرامي الذي يكتب للمسرح وبين الأداء التمثيلي لهذا النص الذي يحوّله إلى غرض مسرحي حي أمام الجمهور”.
فعالم المسرح في بداياته لم يكن يقيم فيصلا بين النص المسرحي والعرض المسرحي، ولعلّ مردّ ذلك إلى أن الممثل المسرحي قديما كان هو كاتب نصه، فالنص الدرامي أو ما يكتبه ويؤلفه المؤلف المادة الأولية وهو المنطلق الأساس لعملية العرض.
فالمسرح عامة هو نشاط جماعي تكاملي يتحقق من خلال اتحاد مجموعة من العناصر لتشكل الإنتاج المسرحي، حيث “كان المؤلف المسرحي في اليونان القديمة مثل أسخيلوس أو سوفوكليس أو يوربيدس كثيرا ما يتولى مسؤولية صياغة العرض المسرحي لنصه، ويتولى مهمة تنظيم العمل وتوزيعه، بل وأيضا تدريب جوق الممثلين والمنشدين والراقصين؛ أي أنّه كان مخرجًا مسرحيًا بالمعنى الحديث”.
لم يكن العرض المسرحي بحاجة إلى إرشادات نصيّة تحدّد دور الممثل ومكملات العرض الأخرى، فهذه بكل بساطة مدمجة في العملية الإبداعية التي يضطلع بها المؤلف الممثل، إذ هو القائم على تنظيمه وتقسيمه واختيار الممثلين وتدريبهم فقط، فهو يكون مؤلفا ومخرجا في الوقت ذاته، وهنا تتذلّل أولى حالات الصراع القائمة اليوم بين النص والعرض.
أسهمت الثقافة العربية في تراكم الفهم الذي يكرس الفرق بين النص والعرض المسرحيين، كونها ثقافة تؤمن بخصوصية العملية الإبداعية، حيث كانت دائما تحرص على إلحاق النص بكاتبه والعرض بمخرجه.
وببعض التحفظ قد يكون هذا نتاجا للنسق الثقافي الذي كان سائدا منذ كان شعر ديوان العرب، حيث كانت الثقافة العربية تميز بين الشاعر والراوية، وقد سعى رواد المسرح في البيئة العربية إلى ربط النص بالخشبة وبالتمثيل والاتصال المباشر بالجمهور قناعةً بأن المسرح فن تمثيلي قبل أن يكون نصا أدبيا مقروءً.
ربط مارون النقاش النص بالعرض وبالتقديم على خشبة المسرح وبالتمثيل، واعتبر العرض فن أدائي يتطلّب حضور الجمهور باعتباره هو المتلقي للعرض المسرحي، ويقوم العرض على تشخيص الأحداث والوقائع التي أوردها المؤلف في نصه المسرحي، وزاد على ذلك أن اشترط نجاح أي نص مسرحي يتحقق بجودة الرواية (المسرحية) ورونقها وبديع جمالها يتعلّق ثلثه بحسن التأليف، وثلثه ببراعة المشخصين (الممثلين)، والثلث الأخير بالمحل اللائق (مكان العرض).
إن الصراع الأول القائم بين النص والعرض ظهر في مهد المسرح مع أرسطو الذي ” فصل.. النص الدرامي المكتوب عن العرض المسرحي المرئي والمسموع، ووضعه في مرتبة أعلى باعتباره أدبا يقرؤه المثقفون في أبراجهم العاجية. ويتأملونه في عزلة هادئة بعيدا عن صخب الحياة وفي مأمن من مخالطة العامة والدهماء، واعتبر العرض المسرحي لهذه النصوص عنصرا هامشيا”.
هل كان أرسطو فعلا يقصد التمييز بين المكتوب والمعروض في المسرح أم أن كان يهدف إلى فكرة أخرى تشكّل النسق السائد في البيئة اليونانية وهو الفرق بين طبقات المجتمع، فنحن نعرف أن أشد موضع جسد طبقية المجتمع اليوناني هو المسرح في جانبه العمراني بخاصة، حيث يبدأ مدرج الجمهور بجلوس النبلاء ثم قادة الجيش ويأتي من بعدهم العامة من الناس.
وهنا نجد هنا أرسطو قد ميز النص المسرحي على حساب العرض، باعتبار أن قراءة النص الدرامي تنفرد به الطبقة المثقفة في أوضاع خاصة، فهم يميلون إلى الهدوء والعزلة أثناء عملية القراءة، “فالنص الدرامي عند أرسطو ليس مشروعا لغرض مسرحي يحتاج لجهد فناني المسرح حتى يتحقق ويكتمل، بل هو مؤلف أدبي لغوي مكتمل بذاته، لا يحتاج شيئا خارجه”.
يتعملق الصراع بين النص والعرض المسرحيين عندما نثق في المقولة التي ترى أن النص المسرحي مكتف بذاته فبمجرد قراءته تحصل عملية الفهم وتحصل المعرفة، دون الإضافات الأخرى الخاصة بالعرض المسرحي الذي هو “حالة ثقافية يعبر عنها المخرج من خلال أدواته المعرفية، والممثل الذي يجسّد رؤيته على الخشبة، فضلا عن عناصر العرض الأخرى مثل: السينوغرافيا، الديكور والإضاءة والأزياء والمكياج، ولا يمكن أن تكتمل هذه الحالة ما لم يكن هناك متفرّج يستقبلها”.
في العرض المسرحي المخرج هو المؤلف وهو الذي يضيف لمسته على النص المسرحي من خلال قراءته الخاصة، حيث إن “المخرج هو الذي يختار النص المسرحي أو يوافق عليه على الأقل، وهو الذي يحدّد متطلبات العرض المسرحي مكان العرض، والفنانين التعبيريين من ممثلين وراقصين وموسيقيين”.
مما سبق يظهر أن مبدأ الصراع الذي سيصبح بنية داخلة نصيا يكون قد أفصح عن نفسه كقيمة راسخة في العملية الإبداعية إن على مستوى التأليف أو الإخراج، ثم سنجده قيمة تتأرجح بين الجمالي والضروري في كينونة الفعل الأدائي كلها، وسنقف عند فهم هذه القيمة وأنواعها وطرائق تفعيلها في العمل المسرحي.
الصراع Le Conflit
خضع المسرح على غرار كل الفنون إلى فعل التجريب من أجل بلوغ الصورة الأمثل لهذا الفن، وإن كنت أجد بأن فعل التجريب حالة طبيعية تخضع لها كل منتجات النفس البشرية وبخاصة ما تعلّق منها بالفن، كون هذه النفس في طبيعتها ميالة إلى التبديل والتغيير وتواقة إلى الحالة المثلى التي لن يصل إليها الإنسان في حالة الركود، وهو لون من ألوان الصراع التي يعيشها الإنسان حتى مع نفسه.
وحتى يستقيم الأمر وجب الوقوف عند قيمة الصراع مفهوميا في إطاره المسرحي فهو أحد عناصر الحبكة الدرامية، وهو يعني تعارض الرغبات، والتصادم بين الشخصيات وبعض القوى.
وقد اعترف النقد بأنه لا مسرح بلا صراع، إذ أن الفعل المسرحي لا يحتمل الهدوء ومن أجل ذلك تتكون قيمة الصراع كضرورة ملحة من تستدعي الجمالي في الدراما، وبوساطته فقط تظهر معاناة الشخصيات على المستوى الفردي والجماعي، وهو الذي يعطي مبررات مقنعة لاستقطاب اهتمام المتلقي بعامة.
يكون الصراع مؤثرا ومقنعا ويدعو إلى الاهتمام إذا بني على أساس من التوازن والتكافؤ بين أقطابه، وهنا لا نقصد بالتوازن القوة المادية، لأن شرف الشخصيات يكمن في مواجهة مصير مروع قوي وأكبر منها، وهذا الذي يصنع الصورة الكاملة للحياة على خشبة المسرح حين يصبح الصراع مواجهة نبيلة بين القوى المتضادة في عملية ارتقاء صريح عن المادي المحض إلى الإنساني الصرف.
وتنمو متعة الصراع عندما تتبادل القوتين المتصارعتين المواقع في سير الحكاية، فلا قوة دائمة ولا ضعف مستمر، فيبدو أحدهما مسيطرا في لحظة ثم يصبح دافعا في لحظة أخرى، وهنا يتسّع أفق التلقي لدى المشاهد في متابعتهم سيرورة هذا الانتقال في إيقاع الصراع، وعندها يحدث الانحياز من المشاهد إلى طرف من أطراف الصراع وهو انتقاء لا يحدث بالضرورة في جهة معينة لأنه يخضع لعالم الأفكار والقيم الإنسانية.
تمتلئ الحياة التي نعيشها بالصراعات والمتضادات، وتختلف هذه النزاعات باختلاف المواقف والظروف، وكذلك المجالات، فنجد أن هذه القيم تنعكس على الإنسان، والمبدع بصفة خاصة في كتاباته وإبداعاته بطريقة متطوّرة لعرض أفكاره، فالصراع شمل جميع الفنون من رواية، مسرحية، قصة وشعر مضيفا لها نكهة الجمالية والإبداع الفكري.
إن الصراع هو التصادم بين الشخصيات أو النزعات وهذا ما يؤدي إلى تبيان الحدث في المسرحية أو القصة، وقد يكون هذا التصادم داخليا في نفس إحدى الشخصيات أو بين إحدى الشخصيات وقوى خارجية، كالقدر والبيئة، أو بين شخصيتين تحاول كل منهما أن تفرض إرادتها على الأخرى.
وهذه في الحقيقة هي كل أنواع الصراع التي يعيشها الإنسان في حياته متنقلا بين الصراعات الداخلية والخارجية، لكن تبقى صفة الجمالي طاغية على كل عمل فني من أجل الوصول إلى ما يسمى بالفن الخالص.
بلغت نظرية الصراع الدرامي ذروتها القصوى في القرن التاسع عشر، فانعكس ذلك على إبداعات وكتابات الأدباء والكتّاب والنقاد، لما مارسته من سيطرة وتحكم، فبانت هذه الهيمنة في نصوص المبدعين والنقاد، بل وتبناها بعض الفلاسفة الذين قدموا فيها رؤيتهم الخاصة.
ويرى هيغل “إن الدراما الكلاسيكية، تقدم لمشاهديها صراعا بسيطا، بينما نحن اليوم نواجه بفيض متنوع من الشخصيات، ونشاهد مفاجآت غير متوقّعة خلال مرحلة تعقيد وتطوير الحبكة، وهكذا فإن الدسائس والمؤامرات التي يحيكها شخص ما ضدّ شخص ما تولد بعض الأحداث الطارئة العارضة، إن الصدام يتّسم بالخشونة والفضاضة، مما يجعل الصراع على أشدّه ودائما ما ينتهي بغالب ومغلوب”.
يقدّم هيقل رؤيته للصراع الدرامي على أنه في حالة تطوّر مستمر، فإذا كان الصراع الدرامي في الأدب الكلاسيكي يتميز بالبساطة، فإنه هنا يتسّم بشدة المواجهة وحدتها إلى درجة أنه يضمن صفة المغلوب والمهزوم بعد كل صراع، وهذا دليل على تبدل الطبيعة البشرية نحو الشراسة والإغراق في الصراع من أجل تحقيق غاياته بكل السبل الممكنة بغض النظر عن نبل الصراع.
وأورد هيقل في كتابه “علم الجمال” أن الفعل المسرحي يتمّ بالأصل ضمن وسط تصادمي، ويولد أفعالا تصادمية وردود أفعال تجعل من الضروري تخفيف حدته وحله في النهاية.
يرى برنارد شو أن الصراع، أمر ضروري وحتمي للمسرحية، فإذا انعدم الصراع فلا مسرحية، ويدور الصراع دائما بين طرفين، أحدهما صاحب حق، والآخر غير مستحق، أو أحدهم خيّر والآخر شرير، والمؤلف الماهر هو الذي يجعلنا نتشوق ونتساءل أيهما البطل، وأيهما الشرير.
وهذا في الحقيقة يعني الاتفاق على أنه لا وجود لفعل درامي دون صراع، أي أن الدراما مرتبطة بالصراع، ويكون هذا الصراع بين شخصين (طرفين) يقفان على طرفي النقيض، وهو الصراع الأبدي بين الخير والشر، كل هذه الصراعات تتجلى داخل المسرحية.
يقوم المسرح على صراع داخلي وانعكاس لما ينبغي أن تكون عليه الحياة، أو التجسيد المادي لقوة فظة على صلة وثيقة بما نسميه القدر.
إن الصراع والنزاعات والكوارث والنكبات وكل ما تأتي به الأحداث، حتى النزاع السياسي، ونظام الثورة وفوضى الحرب، كل هذا يفرغ إذ ينتقل إلى مستوى المسرح في إحساس الناظر إليه بقوة تماثل قوة الصراع.
إن المسرح يعيد إلينا كل الصراعات التي ترقد فينا، يعيدها إلينا بقوة، ويعطي هذه القوى أسماء نحييها بوضعها رموزا، المسرح كالطاعون، يحل الصراعات، ويخلص القوى، ويطلق الإمكانيات.
بناء عمّا سبق، فإن كل النزاعات والحركات والأحداث، وكذلك الصدامات التي يحتويها المسرح داخل متنه تشكّل لنا الموقف الدرامي، فكل هذه الرغبات والقوى التي تتصارع عليها الشخصيات، بحسب المواقف، والأحداث، بين غالب ومغلوب، أو بطل وشرير، ينقلها المسرح بطريقة فنية فيها من جمالي ما يجعلها تعبر عن كل المواقف الدرامية المختلفة، فنجدها تشمل أيضا حتى المواقف الحياتية العامة للفرد.
الصراع هو التصادم بين الشخصيات الذي يؤدي إلى الحدث في المسرحية أو القصة. وقد يكون هذا التصادم داخليا في نفس إحدى الشخصيات وقوى خارجية، كالقدر والبيئة، أو بين شخصيتين تحاول كل منهما أن تفرض إرادتها على الأخرى، وهنا يكون الصراع الدرامي معادلا للصراع الموجود في طبيعة العلاقات بين البشر، وهنا بالذات يعد ضرورة درامية تعيش بها الشخصيات داخل الحدث المسرحي.
ومن جهة أخرى يفتقد الفعل المسرحي علاقته بالمتلقي/المشاهد إذا ما تخلى عن مبدأ الصراع كقيمة تنتج الجمالية والشعرية في المسرح، وبخاصة لما يتعلّق الأمر بمؤثثات الصراع في هذا المستوى الأدائي إذ من غير المقبول جماليا نشوء صراع درامي بشكل مفاجئ، بل يستدعي ذلك بناء حدثي مؤدي بالضرورة إلى تبلور فكرة الصراع، حتى يتمكن المتلقي/ المشاهد من التموضع داخل الصراع وإلا كان كل ذلك محض عشوائية.
تعدّد الصراع الدرامي
يستسلم الدرس النقدي أحيانا إلى بعض المقولات المكرِّسة للفكرة الواحدة اللاغية لنقيضها، ومن هنا نجد أن النقد بطريقة أو بأخرى قد وثّق فكرة الصراع الأبدي بين الخير والشر، و نمّط لدى المتلقي/ المشاهد انتصار الخير على الشر في كل الحالات، وهذا ليس سليما منطقيا ومنهجيا، وهذا الذي وجب الوقوف عنده تحت فكرة التنميط الذي يؤدي بالضرورة إلى صناعة الوهم، وهذا ما ثار عليه بريشت في المسرح الملحمي.
فإذا كان المسرح الدرامي القديم قد أوهم المشاهد وسلبه طاقته الإبداعية من أجل حصوله في ختام المشهد المسرحي على قيمة التطهير، فإن المسرح الملحمي حاول أن يخاطب في المتلقي/ المشاهد وعيه وفكره.
ومن ذاك وجب الاقتناع بأن ليس كل صراع بالضرورة بين الخير والشر، فطبيعة الصراع في وقتنا الراهن والذي تعلّق بمبدأ المصلحة المشتركة أخرج طبيعة الصراع من دائرة الخير والشر إلى دائرة نسبة المنفعة، ثم الصراع الذاتي الذي يكون بين رغبات الفرد الواحد التي في كثير من الأحيان لا تصطبغ بالصبغة التقليدية للصراع.
قسّم المختصون الصراع إلى أنواع وهذا على حسب البناء الدرامي للنص أو العرض المسرحيين، وإن كان الأبرز في الصراع أنه ينقسم إلى صراع داخلي تعيشه النفس البشرية بينها وبين ذاتها، وصراع خارجي يعيشه الإنسان مع غيره، وقد يتعدّد هذا الغير ذاتي من الفرد إلى الجماعة، إلا أن هناك تقسيم آخر يقارب الفعل الدرامي للنص، وهو في الحقيقة التقسيم الذي نستأنسه باعتباره يلاءم بين الضرورة النصية والبعد الجمالي الذي نركز عليه كثيرا في ورقتنا النقدية هذه.
الصراع الساكن
من الواضح، أن هناك نوعا من الصراع يكون خفيا بلا ملامح فتنكتم أنفاسه داخل النص المسرحي وقد يؤدي ذلك إلى طبيعة من الركود في سيرورة الحدث، حيث إن اختيار كلمة ساكن يدل دلالة قاطعة على نوع الصراع، فالسكون يعني انعدام الحركة، أي أن الشخصية من الخمول لا تبدي أي فعل أو رد فعل، وينعكس ذلك على سير الحدث، بل على المسرحية ذاتها إذ تصبح بطيئة فاترة.
فالصراع في هذه الحالة يكون بطيئا تكاد تنعدم حركيته سواء على الأحداث أو الشخصيات، ويسود فيه الشلل والسكون في المشهد المسرحي، وفي هذا النوع من الصراع يتدخّل التأويل والتخمين من طرف المتلقي/المشاهد من أجل تقديم قراءته لحيثيات الصراع ومآلاته، فانعدام ردود الأفعال من طرف الشخصيات يندرج ضمن التغريب الذي يبرز الجمالي أكثر من الضروري في النص أو العرض المسرحيين، وهذا من شأنه أن ينقل دائرة الصراع من النص/ الخشبة إلى المشاهد/ المتلقي بطريقة سلسة جدا.
الصراع الواثب
يتشكّل الصراع الواثب في النص/ العرض المسرحي بشكل مفاجئ بمعنى أنه لا يكون نتيجة لمعطيات نصية تؤسس لحدوثه، فقد تخرج واحدة من الشخصيات على النمط السائد في حركتها فتعلن صراعا مع شخصية أخرى لم يكن واضحا لدى المتلقي أنها تضمر لها صراعا ما، وتدل كلمة الوثوب على عدم التدرّج، وتحولات مفاجئة في سلوك الشخصية تدفعها إلى اتخاذ القرار، أو ارتكاب فعل، لو فكرت مليا لتراجعت عن ارتكابه، وكأنه فعل أجبرت عليه، أو فعلته دون وعي، كأن يتحوّل الموظف الأمين وبلا مقدمات منطقية دافعة إلى موظف مرتش، أو يقلع مدمن المخدرات عن إدمانه دون أن يكشف لنا المؤلف كيف وصل إلى هذه النتيجة، وما دوافع قراره هذا”.
يصنع هذا النوع من الصراع حالة من الصدمة لدى المتلقي تختلف عن المتوقّع، وهذا كفيل بأن يمفصل الفعل المسرحي خارج المألوف والمعهود فيخلق توترا في سيرورة الحدث المسرحي، لا يمكن للمشاهد المسرحي التقليدي الذي كان يراكم الأحداث من أجل الوصول إلى المتوقّع أن يستوعبها، وهذا أساس التغريب الذي نادى به بريشت في المسرح الملحمي.
يضطلع الصراع الواثب بضرورة استحضار المتلقي /المشاهد لكامل وعيه وإدراكه من أجل فهم الفعل المسرحي وقراءته بعقله لا بعواطفه، فبريشت وإن كان لا ينفي فعل الإيهام بشكل مطلق في المسرح الملحمي، إلاّ أنّه لا يؤمن بالمسرح الأرسطي الذي يجعل المشاهد خاضعا فقط لعاطفتي الخوف والشفقة من أجل مسايرة الفعل المسرحي سواء على مستوى النص أو العرض.
الصراع الصاعد
يتميز الصراع الصاعد بإعطاء مجموعة من الإشارات النصية للمتلقي من أجل فهم مراحل تشكّل بؤرة الصراع، وفيه يتدرّج الحدث المسرحي وفق معطيات منطقية جدا وبشكل منهجي ليصل إلى ذروة الصراع، وهو صراع يحدث فيه اتفاق تام بين المعطيات والنتائج، ويمكن أن نسمي هذا النوع من الصراع بالمتدرّج أو المنطقي أو المتفق مع الافتراضات المطروحة.
هذا النوع من الصراع لا يوجد إلا مع وجود الهجوم والهجوم المضاد، وكلما اشتد الصراع وانتقل من مرحلة إلى أخرى، فإنه يسهم في كشف مشاعر الشخصية، ويوضّح المسببات والدوافع التي جعلت هذه الشخصية تتصرّف مثل هذا التصرّف، بل ويصل بصراع الشخصيات إلى الأزمة ويدفعها إلى اتخاذ قرارها المصيري
يفضل بعض النقاد هذا النوع من الصراع، لأنه يكون وفق تسلسل يُفهم من خلاله المحتوى، بالإضافة إلى أنه يحمل كيفية تطوّره، فالأحداث في هذا النوع من الصراع تتوالى بطريقة معقولة، لأن الأحداث والشخصيات والحركات والصدامات تتباطأ حتى تكاد تنعدم الحركة فيها، وفي الوقت نفسه لا تتسارع بطريقة مفاجئة تحدث ارتباكا للمشاهد / المتلقي، بل ينتقل الصراع من مرحلة إلى أخرى بطريقة تدريجية واضحة، بعيدة عن الملل والتوتر.
الصراع المتوقّع / المنتظر
ويسميه البعض بالصراع المرهص لأنه يتكئ على مجموعة من الإرهاصات الأولى التي تجعله منتظرا من طرف المتلقي / المشاهد، وهو صراع يتعمّد المؤلف الكشف عنه بطريق غير مباشرة لخلق نوع من التوتّر والترقّب المقصود لذاته لدى المشاهد، حتى لا يتسرّب الملل إليه، إنه نوع من الوعد والتلميح الذي قطعهما المؤلف على نفسه لمشاهديه، بأن شخصياته مرسومة وجيدة، وأنها جديرة بإدارة الصراع المرتقب. فكل ما تفعله الشخصية، إنما هو وسيلة الكاتب للكشف عن هذه الشخصية وتوضيحها.
يحاول المؤلف / المخرج إخفاء المواجهة التي تتكوّن داخل المسرحية، وعدم عرضها مباشرة للمتلقي، فهو صراع غير مباشر لكنه منتظر بكل شوق وتلهف، باعتبار أن هذا النوع من الصراع يخلق الإثارة والتفاعل بين المسرحية والجمهور.
يخلق الصراع من القوى المتضادة بين ضعيف وقوي، أبيض وأسود، بين الجيد والرديء..؛ أي أنه يكون بين الأضداد، والتي بدورها تشكّل لنا المواقف، وهذه المواقف تجسّد على المسرح كنوع من الصراعات الدرامية.
فالمسرح نموذج أو صورة للحياة التي تقوم على الصراعات والخلافات المختلفة، وغذ ينقل لنا المسرح الصراع الموجود في الواقع، فإن المستحسن منه ما جاء وفق مبدأ التغريب الهيجلي الذي دعا إليه بريشت، وهو تغريب المبدأ الفني حتى يفتح مجال التفكير للمتلقي/ المشاهد ويجعله يعي ما يحدث أمامه، فيحلله ويأوّله مستنتجا ما يجب القيام به من أجل إحداث التغيير في مجتمعه، وهو بذلك يحقق أهم وظيفة للمسرح الملحمي.
ما يختص به الصراع
من الطبيعي أن يكتسب الصراع كمبدأ في التأليف الدرامي خصوصية تميزه عن بقية العناصر المسرحية، ولعلّ أبرز ما يختص به “أن يكون بين قوتين متكافئتين، فلا لذة في متابعة مباراة رياضية بين فريق قوي وفريق ضعيف. وقد تبدو القوتان في الظاهر غير متكافئتين”.
إن هذه القيمة التي يضعها النقد في ضرورة إحداث تكافؤ بين طرفي الصراع هي في الحقيقة قيمة كلاسيكية، فالراهن الذي نعيشه أصبح لا يؤمن بالتكافؤ وباتت الهيمنة تعني كسب الصراع، ولذلك أجدني دائما ميالا لتوظيف الصراع في المسرح كقيمة جمالية قبل أن تكون ضرورة حياتية، ليس لأن المسرح أمسى بعيدا عن الحياة البشرية بل لأن ذاك ما يتطلّبه الفن الحقيقي.
كما يشترط أن يكون كلّ من طرفي الصراع واعيا لمعركته مع الطرف الآخر. وهذا ما يشحذ الإرادة ويعمق الصراع ويضع الأقوال والأفعال والمواقف في إحكام التسلسل المنطقي، إن وعي الإنسان بكونه يشكل واحدا من أطراف يزيد من وعيه بحقيقته.
ولعلّ هذا ما ظلّ الفن يكرسه سواء في المسرح أم الشعر أم السرد، ولعلّ هذا أيضا واحدا من السنن الكونية التي وثّقها النص القرآني عندما أعطى الوعي الكامل للإنسان بضرورة قبول الصراع مع إبليس وهذا ضمانا لاستمرارية الكينونة.
يختصّ الصراع بضبط الهدف الأسمى للمسرحية ويعمل على أن يوصل إليه، وبذلك يظلّ قائما وقويا من أول المسرحية إلى آخرها، ولأنه يتجّه إلى هدف معين فإنه يسير في مسار محدّد، فيحذف عنه الكاتب كل ما لا يخدم هذا الهدف، ويضيف عليه كل ما يشتغل على تحقيقه، فيسعى المؤلف إلى استمرارية الصراع وتطوّره بشكل تام.
فصل المقال
يمكن أن نقول ختاما، إن مبدأ الصراع الذي تبناه المسرح منذ ظهوره وعلى مسار تطوراته بين المسرح الدرامي والمسرح الملحمي وبكل أنواع المسرح، يبقى الصراع ضرورة درامية ولبنة أساس في كل عمل مسرحي، بل وهو قيمة جمالية لا وجود للمسرح دونها.
ويبقى التنسيق بين الضروري والجمالي في توظيف الصراع في أي عمل مسرحي هو الفيصل بين الفني واللافني، أو لنقل بأن فلسفة الصراع لدى المؤلف /المخرج هي المتحكّم في مستوى جودة العمل المسرحي.
الدكتور عبد الحميد ختالة/ جامعة عباس لغرور خنشلة
الإحالات:
– رشاد رشدي، فن كتابة المسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
– سعد أدرش، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، الكويت.
– شكري عبد الوهاب، دراسة تحليلية لأصول النص المسرحي، مؤسسة حورس الدولية، مصر.
– عبد العزيز حمودة، البناء الدرامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997.
– عبد النصر حسو، مفردات العرض المسرحي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق،2010.
– فرحان بلبل، النص المسرحي، الكلمة والفعل، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003.
– مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان بيروت،1974، ص85.
– ماري إلياس وحنان قصاب، المعجم المسرحي، أعلام ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان للنشر،1997.
– نهاد صليحة، المسرح بين النص والعرض، مكتبة الأسرة،1999.
– نهاد صليحة، المسرح بين النص والعرض، مكتبة الأسرة، 1999،د ط، ص11.
– نفسه، ص12.
– نهاد صليحة، المسرح بين النص والعرض،ص14.
– نفسه، ص14.
– عبد النصر حسو، مفردات العرض المسرحي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق،2010،ص02.
– سعد أدرش، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، الكويت،ص13.
– ينظر فرحان بلبل، النص المسرحي، الكلمة والفعل، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق2003،ص51.
– ينظر مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان بيروت، 1974، ص85.
– شكري عبد الوهاب، دراسة تحليلية لأصول النص المسرحي، مؤسسة حورس الدولية،، ص89.
– ماري إلياس وحنان قصاب، المعجم المسرحي، أعلام ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان للنشر،1997،ص 220
– شكري عبد الوهاب، دراسة تحليلية لأصول النص المسرحي، ص89-90.
– عبد العزيز حمودة، البناء الدرامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997، ص94.
– السابق، ص94.
– السابق، ص94.
– السابق، ص94.
– رشاد رشدي، فن كتابة المسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د ط،ص54.