التصوّف هو علم تُعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتطهير الظاهر والباطن لإدراك السعادة الأبدية، أمّا ظهور اسم التصوّف فيقول ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس”، إنّ هذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين للهجرة. ولمّا أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبّروا عن صفته بعبارات كثيرة وحاصلها: أنّ التصوّف عندهم رياضة النّفس، ومجاهدة الطبع بردِّه عن الأخلاق الرذيلة”..
لقد أجمع علماء الإسلام، وفي مقدّمتهم الإمام القُشيْري، الذي هو أقرب عهدا من زمن ظهور التصوّف أنّه لا يعرف كيف أتتْ هذه التسمية، ولهذا يبقى مصطلح التصوّف في الثقافة العربية الإسلامية مجهول الأصل.
ويوضح ابن خلدون أكثر حين يتعرّض في مقدمته لتعريف التصوّف فيقول: “هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملّة ـ وهنا يجب وضع خطين تحت عبارة حادثة في المِلّة ـ وأصله أنّ طريقة هؤلاء لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية.
وأصلها العُكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزينتها. والزُّهد فيما يُقبِل عليه الجُمهور من لذّة ومال وجاهٍ. والانفراد عن الخلق في الخَلوة والعبادة.. وكان ذلك عامًا في الصحابة والسلف، فلمّا فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني. وما بعده. وجنح النّاس إلى مُخالطة الدّنيا، اختصَّ المُقبلون على العبادة باسم “الصوفية ” و” المُتصوّفة”.
أمّا الإمام القُشيْري، فإنّه يؤكد في رسالته أنّ مصطلح “التصوّف” لا اشتقاق له من جهة العربية ولا قياس. ومن قال اشتقاقه من “الصفا” أو من “الصُفّة”. أو من “الصفّ” فبعيد من جهة القياس اللغوي، وقال أيضا: وكذلك من “الصوف”، لأنّ المُتصوّفة عامّةً لم يختصوا بلبس الصوف”..
وإذا رجعنا إلى أوائل القرن الثاني للهجرة نرى ـ حسب المصادر – أنّ أوّل من أظهر التصوف في التاريخ الإسلامي هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور من كورة بلخ والمتوفي سنة 261 هجرية وتورد المصادر سببا لتصوفه قد يكون حقيقة أو من نسج الخيال ..
ويذكرون أنّه هو من لبس جبّة صوف التي كانت أوّل شعار لأوّل مُتزهّدٍ في الحياة. وإن كان بعضهم يرى أنّ العبرة في السلوك وفي الصفات وليس في جبّة الصوف وما يُعرف بالخِرقة والمُرقّعة في أدبيات المُتصوّفة، لذا يقول الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّي:
ما الزُّهدُ صومٌ يذوبُ الصائمون له
ولا افتقارٌ، ولا صُوفٌ على الجسد
وإنّما الزُّهدُ تركُ الشرِّ مُطّرحًـــــــا
ونفضُكَ الصدرَ من غِلٍّ ومن حسَدِ
وقد ورد في كتاب: “نصوص غير منشورة” Recueil de texte inedites concernant l’histoire de la mystique au pay d’Islam الذي اعتنى بجمعه ونشره العلاّمة ماسنيون: “أنّه لم يكن السالكون لطريق الله في العصور السالفة، والقرون الأولى يعرفون التصوّف، وإنّما الصوفي لفظ اشتهر في القرن الثالث الهجري، وأول من تسمّى ببغداد بهذا الاسم هو عبْدك الصُّوفي (مولده عام 210 هجري/ 825م وهو من كبار المشايخ وقدمائهم، وكان قبل بِشر الحافي والسريّ بن المُغلس السقطي”.
والمتصوّف كما يقول أبو البركات البَلَفيقي “هو رجل عادل، تقيٌّ صالح، غير مُنتسب لسبب من الأسباب، ولا مُخلٍّ بأدب من الآداب، قد عرف شأنه وزمانه، وملكت مكارم الأخلاق عنانه، لا ينتصر لنفسه، ولا يُفكّر في غده، وأمسه العلم خليله، والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله، نظره إلى الخلق بالرّحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتُّهمة”.
لهذا كان رجال التصوّف عبر التاريخ الإسلامي نماذج بشرية للجلال الخُلقي والرّوحي، ونماذج للكمال التعبُّدي والإيماني، ونماذج سامقة في أُفق المعرفة العِرفانية والفيضية، والدين الإسلامي عندهم يأخذ طابعا من الجمال والكمال، والإنسانية السامية والأخوة العملية، ومثل هذا المفهوم للإسلام لا تجده في إسلام الفقهاء أو المتكلمين.
فالمبادئ الصوفية النقية هي التي تعبّر عن روح القرآن، وجوهر السنّة النبوية، إنّ مبادئ المتصوّفة الخلقية والإيمانية هي التي تتلمذ أصحابها على أفعال الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فهي المبادئ التي تحيط بكل شيء في الحياة، فتُطلق فيه النّور، وتطلق فيه الروح، وتطلق فيه المحبّة، وتعمّق في الإنسان الإحساس المُقدس بالقُرب من الله بالذوق والوجدان؛ لإدراك المتصوفّة القاطع بقوله تعالى: “إن لم تكن تراه فهو يراك”.
كما وجد المتصوّفة ضالتهم في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه والذي يقول فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ: “من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبّهُ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي بها، فَبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئِنْ سألني لأعْطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن قبض نفس عبدٍ مؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له منه”.
ووجد المتصوّفة أيضا غِبطتهم في الحديث الوارد ضمن نصوص تُنسبُ إلى الحسن البصري (المتوفي 110 هـ/ 728 م) والتي وردت تحت عنوان “النية أبلغ من العمل” جاء فيها: “إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذّته في ذكري، فإذا جعلت نعيمه ولذّته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني رفعتُ الحجاب فيما بيني وبينه، وصرت معلما بين عينيه، لا يسهو إذا سها النّاس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقًّا، وأولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة وعذابا ذكرتهم فصرفت ذلك عنهم”.
لذا كان يقول الجُنيْد رحمه الله: “اللّهم إن عذّبتني بشيء فلا تعذّبني بذُلّ الحجاب” لأنّ التجربة الصوفية كما هو معروف لا تتم إلاَّ بالمُجاهدة، والمجاهدة لا تتمّ إلاّ بالصبر على قهر إرادة الجسد، وطرح رغبات النفس المادية، لأنّ الإنسان محجوب عن ذات الله بحجاب الجسد وكثافته، ولأنّ الذات الإلهية لا مادّة لها تحجبها، وجوهر النفس المصفاة مُتّصل بجوهرها.
وقد جاء في الذكر الحكيم: “إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون” ولم يقل محتجب عنهم، وعلى هذا تتمّ الرؤية بزوال الحجاب.
والصوفية كما نعلم تبدأ من الحال وهي عندهم معنًى يردُ على القلب من غير تصنّع، ولا اجتلاب، ولا اكتساب؛ من طرب أو جذب، أو قبض أو بسط، ويزول الحال بظهور صفات النفس، فإذا دام صار ملكاً يسمّى مقامًا؛ فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، فالأولى تأتي من عين الوجود والثانية ببذل المجهود.
يؤكد المحقّقون أنّ هناك مدرستان صوفيتان في الحضارة العربية الإسلامية اعتصمتا بالكتاب والسنة واتّخذتا من سيّد المرسلين إماما وقدوة، وجعلتا من أشواق الحبّ الإلهي، ومن إلهامات الروح القرآني، ومن مثاليات الخُلُق المحمّدي، منهجا في المعرفة الربّانية، وطريقا في السلوك، ومِعْراجا للوصول إلى رضوان الله وقربه، وأنسه وحبه، وهداه وعلمه وفيضه.
المدرسة الصوفية الأولى
تُنسبُ إلى مؤسسها الإمام أبو القاسم الجُنيْدي ببغداد، اتخذت من المساجد منبرا لنشر دعوتها، وجعلت من حلقات الذكر والتبتُّل معاهد لتخريج العلماء الذين تزخر بذكرهم كتب الأصول الصوفية.
وقد عرفت هذه المدرسة الصوفية السُنية انتشارا واسعا في رقعة العالم الإسلامي عبر التاريخ، وعرفت أوج ازدهارها وتطوّرها مع مؤسسها في الأندلس الفيلسوف ابن مسرّة والتي أنجبت من كبار الصوفية ابن سبعين والشاعر المتأله علي بن عبد الله النميْري الشُشتري اللُّوشي (610 هـ/ 1212 م) ( 668 هـ/ 1269م) والذي يُعدُّ أول من استخدم الأزجال في التصوّف، وهو صاحب الطريقة السماعية الإنشادية.
فيقال عن أزجاله الصوفية: “وأمّا أزجاله ففيها حلاوة وعليها طلاوة” ويقول عنه ابن عبّاد الرُّنْدي:” وأمّا مُقطّعات الشُشْتَري وأزجاله فلي فيها شهوة ، وإليها اشتياق، وأمّا تحلّيها بالنّغمة والصوت الحسن فلا تسأل، فإن قدرتم أن تُقيِّدوا منها ما وُجدْتموهُ فافعلوا ذلك”.
والصوفي الكبير ابن عبّاد الرُّنْدي المشهور برسائله الصوفية (المتوفى 790 هـ/ 1388 م )، والإمام الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية التي ترجع في أُصولها إلى مدرسة الجُنَيْد، والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (560 هـ/1165 م) (638 هـ/ 1240 م) الذي يتوسّط مغالاة الباطنية وتعصّب الظاهرية، وكذلك المُقرّب للشقّة العلمية بين الإمام الغزالي والفيلسوف العقلاني ابن رشد.
وابن عربي هو القائل: “من لا كشف له لا علم له”، وهو القائل: “من لا شيخ له فشيخه الشيطان” وهو المُسلم السنيّ الأشعري الوسطي التفكير لأنّه لا يقول بالتنزيه المُطلق كالمعتزلة، ولا بالتشبيه المُبالغ فيه كالمُجسِّمة، وقد صارت طريقته تعرف بالطريقة الأكبرية وبلغ صاحبها مرتبة قطب الأقطاب. وهو كذلك أوّل من استعمل التوشيح في التصوّف.
وظهرت في المشرق كامتداد للمدرسة الصوفية السُنيّة مدرسة قُطب الأقطاب الشيخ عبد الرحمان الجيلاني (أو الجيلالي) المولود ببلدة جيلان من بلاد فارس عام 470 هـ/ 1077 م، ثم انتقل إلى بغداد وهناك أخذ العلوم وأسس الطريقة القادرية، وكتب من حوله كتاب “مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني”.
وقال عنه المؤرخ ابن كثير: “كان الشيخ عبد القادر الجيلاني يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعظ الخلفاء والسلاطين والوزراء والقضاة والخاصة والعامة.. ولا تأخذه في الله لومة لائم، وعرفت طريته انتشارا واسعا في مختلف أرجاء العالم، وقد دخلت هذه الطريق مبكرا إلى الجزائر، ويعود الفضل في ذلك إلى تتلمذ الغوث أبي مدين شُعيب، دفين العُبّاد بتلمسان (عام 594 هـ) مباشرة على يدّ الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي أخذ عنه الطريقة وألبسه الخِرقة، وهي بمثابة الإجازة العلمية والروحية التي يُتوج بها النجباء من المريدين الأفذاذ.
وآخر رجالات هذه الطريقة الصوفية السنيّة هو الشيخ عبد الكريم الجيلي المتوفي ببغداد عام 1428م، والمشهور بمؤلفه “الإنسان الكامل” ويعني به خاتم الأنبياء والرسل.
المدرسة الصوفية الثانية
هي مدرسة الإمام أبو نصر السرّاج الطوسي بنيسابور، وهي مدرسة اتخذت من الكتُب منابر لبيان دعوتها، وشرح رسالتها، ونشر علومها وأذواقها، ومعارفها ومعارجها.
وجعلت من صفحات هذه الكتب معاهد لتخريج الفحول من أعلام التصوّف الإسلامي، وخزائن خالدة تحفظ للأجيال هذا التراث الروحي المضيء في دياجير الظلمات.
وقد اقتفى أثر السراج الطوسي صاحب كتاب “اللُّمَع”، الهجويري في كتابه “كشف المحجوب” وتتلمذ عليه أبو عبد الرحمان السُلمي صاحب “الطبقات “، وعلى السلمي تتلمذ عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القُشيْري صاحب “الرسالة القُشيرية”.
فأصبحت مدرسة السراج الطوسي بذلك المحجّة التي يلوذ بها عباد الرحمان الذين استهدفوا وجهه الكريم؛ إنّهم أمناء الله عزّ وجلّ في أرضه، وخزائن أسراره وعلمه، وصفوته من خلقه.
ومن هذه المدرسة الربّانية انبثقت شمس الطريقة “الموْلوية”،أو طريقة الإنشاد الروحي للشاعر الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي (604 هـ/ 672 م) صاحب ديوان “المَثْنَوي” الذي يقوم على الوعظ الديني الصوفي، وهو ديوان مُكرّسٌ للغزل الصوفي، والذي استعان بقصائده الروحية المنشدون في حلقاتهم التي لم تكن مجالس أذكار وأوراد فقط، بل كانت إلى جانب ذلك، مجالس فنية يُروَّجُ فيها الشعر، وتُنشد فيها القصائد الروحية، ويتنافس فيها المنشدون بإظهارهم لمواهبهم الإنشادية وحسن انتقائهم للأشعار، وتُكتشف في مجالسها الأصوات النديّة، وتتربَّى في رحابها الطاهرة الزكية الأذواق والأحاسيس الرّاقية.
وقد برع في هذه الطريقة الفنية الصوفية شعراء من أمثال: الشيخ شهاب الدين السهروردي المقتول حوالي: 587 هـ صاحب ديوان “هياكل النور” المشحون بنزعته الإشراقية العِرْفانية والمعروف بتعابيره المُعبِّرة عن النفوس المتألِّهة النّاطقة، وبمعانيه الحسيّة وإشاراته الإلهية.
وشغفت هذه المدرسة “السماعية ” بترديد أشعار الحبّ الإلهي، وبقصائد المدائح النبوية والمولديات وبما يُعرف بالمنظومات الصوفية ذات البعد التربوي الذي يتعلق بآداب التصوف وأخلاقه وسلوك المُريد، وهي وسيلة مُثلى لنشر الثقافة السلوكية الصوفية، التي تساعد على نشر الطريقة في الأوساط الشعبية.
العلاقة التماثلية بين الشعر والتصوّف
ارتبط الشعر بالتصوّف منذ الجاهلية وذلك لركوب بعض الشعراء الكبار لصفات التأله التي عرفوا بها من بين أقرانهم من الشعراء فقد كان زهير ابن أبي سلمى زاهدا في الحياة متبرمًا من ملذاتها وناكرا لرغباتها ومُغرياتها فتراه من خلال شعره ذلك الوقور المتأمل في عالم الوجود والمتسائل أمام قضاء الموت وقدره الذي يخبط خبط عشواء من يصبه يُمِتْهُ ومن يخطئه يُعمّر ويهرم،.
ونراه يُعلنُ عن سأمه من الحياة وتكاليفها لمّا تقدّمت به السِّنون، لكن الشاعر الجاهلي المتألّه أُميّة بن أبي الصّلت كان أكثر عمقا واقتدارا على ربط الشعر بالوِجدان فجاء شعره مُفعما بالتساؤل والحيرة أمام مِحنة الإيمان والكُفر.
وأضفى على شعره مِسحة من التصوف الوجودي، لذا أورد الأصفهاني في أغانيه قصّة تعيد إلى الأذهان، وإلى الأبد ذلك الصراع الأبدي بين التسامي بالروح وهيامها بالملكوت أو التسفُّل بها إلى قاع الإكراه والدّنيئة.
يقول صاحب كتاب الأغاني: “كان أُميّة بن أبي الصّلت قد نظر في الكتب وقرأها، ولبِسَ المُسوحَ تعبُّدًا، وكان مِمّنْ ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفيّة، وحرّم الخمرَ، وشكّ في الأوثان، وكان مُحقّقًا، والتمسَ الدّين”..
لكن ما يهمنا من حياة الشاعر أميّة بن أبي الصّلت هو ما رُوِيَ عنه عن الزُّهْريِّ قال: “دخل يومًا أُميّة بن أبي الصّلت على أُخته وهي تُهيِّء أَدَمًا لها فأدركه النّوم فنام على سرير في ناحية البيت، فانشقَّ جانبٌ من السّقْف في البيت، وإذا بطائرين قد وقع أحدُهما على صدره، ووقف الآخرُ مكانهُ، فشقَّ الواقِعُ صدْرهُ فأخرج قلبه فشقّهُ، فقال الطائر الواقفُ للطائر الذي على صدره: أَوَعَى؟؟؟ قال: وَعَى؛ قال: أَقْبِلْ؟ قال: أَبَى، قال: فردَّ قلبهُ في موضعه، فنهض فأتبعهما أُميّة طرفهُ فقال:
لبّيْـــــــــــكُما لبّيْـــــــــــكما هــــــــا أنَذا لـــــــــديْكُما
هذه الواقعة التي خصّها الأصفهاني بالعديد من الصفحات في أغانيه تعيد إلى الأذهان حادثة شقّ صدر المصطفي ـ محمّد صلّى الله عليه وسلّم ـ أثناء مُقامه بديار بني سعْد..
كما ستثير قضية سيكون لها شأن كبير في مدونات المتصوّفة والشعراء وأعني بذلك استحضار الطيور بمختلف أصنافها وفي مقدَّمتها
“طائر السيمرغ” الأُسطوري.. قد كانت مثل هذه التجارب المُبكرة في الشعر العربي بمثابة التنبيه إلى صلة حميمة ستجمع في يوم ما بين طرفي الشعر الذي هو الشعور، وبين التصوّف الذي هو التأمل في كينونة الأشياء.
إنّ مسيرة الشعر العربي كان عليها أن تتخطى مسيرة شاقة من أجل تخليص الشعر من بُعده البلاغي الذي يشدّه إلى الواقع ليصل في يوم ما إلى بُعده التجريبي الذي يتدحرج من خلاله إلى عالم خفيٍّ يحتاج إلى قراءتين: قراءة ظاهرية عقلانية وقراءة باطنية عِرفانية لذا وأنت تتصفّح على سبيل المثال ديوان الشيخ مُحي الدين بن عربي (576هـ – 632 هـ) “تُرْجُمان الأشواق” يتهيّأ لك أنّك بصدد قراءة أشعار غزلية على لسان شاعر أنْهكته الصبابة والحب، يتذكر وَهَجَ الحبّ الذي أفنى كِيانه.
فيصف الأشواق والمواجع التي ألمّت بقلبه الولهان وينْتظر لحظة الوِصال للظفر بالمحبوبة وغير ذلك من تباريح العُشّاق.. لكنّ الشاعر ابن عربي نظرًا لوعيه لِمَا يرْمي إليه شعره من أبعاد روحية وحسية وعِرْفانية أدرك أنّه من الضروري مُرافقة ديوانه بشرحٍ تنويري يكون بمثابه طريقٍ للسالكين في الوَهجِ الصوفي المُوزّع على خارطة ديوان “تُرْجُمان الأشواق”.
من هناك يتبيّن لك بعد مُعاينة الشرح أنّ نصوص ديوان ابن عربي تعبّر عن تجربة روحية إلهية بعيدة الغوْر، المُحب والمعشوقُ فيها هو الذي لا تحدّهُ الأبصار ولا تُدركه العقول، وليس كمثله شيء في الوجود، لذا كان النص الصوفي له دِلالتان: دلالة ظاهرية وهي ذات المفهوم البلاغي العقلاني، ودِلالة محْمولة تنِمُّ عن تجربة باطنية محمّلة بالإيحاء والمعاني الخفيّة.
وبالتالي يتوجّب على قارئ النصّ الصوفي أن يعتمد القراءة الاستكشافية المُستنبطة والمعروفة بالقراءة العِرْفانية، أو بقراءة حال الاستواء المؤدية إلى فُيوضات النص الشعري الصوفي الذي لا تنتهي عجائبهُ، كقول ابن عربي في هذا البيت الشعري البسيط ظاهريا:
وانْدُباني بشعر قيس وليلى وبميًّ والمُبْتلى غيْلان
فظاهر البيت معلوم الدلالة، يطلب ابن عربي فيه أن يتمَّ البُكاء عليه بشعر العشّاق من أمثاله كشعر مجنون ليلى قيس بن المُلوّح الشاعر العذري المشهور بهُيامه بليلى، وكذلك بشعر ذي الرمّة المعروف باسم غيلان المسكون بحبّ ميٍّ..
لكن القراءة الباطنية للبيت الصوفي تمنحنا دِلالات أخرى من عالم الحِسِّ والشهادة فدلاّلَ بقيس على الشِدّةِ، لأنّ القيس الشِدّة في اللُّغة، والقيس أيضًا الذّكر، وليلى من اللّيل وهو زمن المِعراج والإسراء والتنزُّلات الإلهية من العرش الرحماني بالألطاف الخفيّة إلى السماء الأقرب من القلب الأشْوَق، كما نبّه لميّ وهي الخرقاء التي لا تُحسنُ العمل، ومن لم يُحسن العمل كان العامِلُ غيرُهُ “واللّه خلقكم وما تعلمون”، أيْ ما يظهر من بين أيديكم من أعمالٍ هي مخلوقة للّه تعالى. وغيلان هو الشاعر الأُموي ذو الرِمَّة، والرِمّة هو الحبل العتيق الذي طولبنا بالاستمساك به والاعتصام به
“واعتصموا بحبل الله …” ونسبته إلى القِدَمِ لأنّه حبل الله الأزلي، وذكر الغيلان لغةً هو شجر مُشوّك يتعلَّقُ بكلِّ من قَرَبَ منهُ، ويُمسكه عن أن يزول عنه حبًّا فيه وإيثارًا، وفي هذا الشجر من الرّاحة كونه مختصا بالفيافي التي لا نبات فيها والمُهْلِكة بقوّة حرِّها ورمْضائها، فليس فيها ظلٌّ لسالكٍ إلاّ هذه الشُجيْرات – شجرات أمّ غيلان ـ فيجدها في مقام السالكين بردًا سلاماً ورحمةً، فيُلقي عليها ثوبَهُ ويستظِلُّ بفيِّها، وتُمْسكه بشوكها ولا تسمح للرّياح أن تكشفه للهاجرة. فكذلك ما يجده السّالك من الألطاف الخفيّة الإلهيّة في مقام تجريد التّوحيد وتنزيه التقديس؛ فأوقع التشبيه بالمُناسب من هذا الوجه.
ولهذا سألهُما أنْ يذْكُرا له هؤلاء الأشخاص من المُحبّين ليجمع بين حال المحبّة، وعالم حقائق هؤلاء الشعراء، لأنّهم كانوا مُحِبّين إلى حدِّ الاستواء في المقامات.
أمّا عن حبّ ابن عربي الموزّع في ثنايا ديوانه “ترجُمان الأشواق” فهو يعود إلى استحضاره الدّائم إلى عشقه الأوّل المُستلهم من أرض الواقع والذي جعل منه دليل مِعراجه إلى السماوات العلا مثلما فعل دانتي اليجيري مع معشوته ( Biatreche” بتاترتشي”، في “الكوميديا الإلهية” وكذلك الفارس ذو الوجه الحزين بطل سُهوب قشتالة ولامنتشا “ميقال دي ثيرفانتس في رائعته “دون كيخوطي دي لا مانتشا” حيث كان دليل الكاتب في مسيرة العذابات “دولثنية ديلْ طوبوصو (Dulcinea del Toboso ).
والمرأتان المُتخيّلتان من استحضارهما هو البحث عن الدّليل لشقّ المسالك الوعرة التي تنتظر السالكين إلى المقامات العُلا ومراتب التجلي.
أمّا الشيخ الأكبر مُحي الدّين بن عربي فقد ساقت الأقدار إلى طريقه وهو يدخل بلاد المشرق في سنة 1201م متجها إلى مكة “فيستقبله فيها شيخ إيرانيٌّ وقور.. وفي أسرة هذا الشيخ يتعلّق قلب الشاعر ابن عربي بفتاة تُدعى “نظاما” وهي ابنة ذاك الشيخ.
وقد حَبَتْهَا السماء بمَوْفُورٍ من المحاسن الجسمية، ومَوْفورٍ من الميزات الروحية الفائقة التصوّر فاتّخذ منها ابن عربي رمزا ظاهريا للحكمة الربّانية الخالدة وأنشأ من فيوضاتها رموزا طفحت على صفحات قصائد تُرجُمانه من الأشواق الصوفية العِرفانية.
إنّ ابن عربي يعترف بحبّه “للنظّام” ولكن حبّه لم يكن حبّا حسيّا، وإنّما كان حبًّا عُذريا خالصا، وأغلب الظنّ حسب رأي بعض المصادر إنّه لم يرها أكثر من مرّة بصحبة عمّتها المُسنّة التي كان يستمع إلى أدبها وحديثها، أو بصحبة والدها الذي كان يحضر مجالسه، ولكن رأى فيها ما رأى الدونكشوط في دُولثنيّة دي الطبوصو، أو دانتي في بياتريتشي، صورة جميلة رائعة تتجلّى فيها صفات الجمال الحسي والمعنوي، فاتّخذ من تلك الصورة الإنسانية الحسناء رمزا للجمال المُطلق الذي يتعشّقه ويعبده ويقدّسه، ويبُثّها حبّه وشوقه، لا من كونها امرأة يُعشق جماَلُها الحسيِّ الفاني، ولا من حيث هي موضع شهوة أو هوى، بل من حيث هي صورة كاملة لذلك الجمال المطلق الذي يُنْشده الشاعر الصوفي الولهان.
وحتّى لا نطيل الكلام مع ابن عربي الذي اندغم التصوّف مع شعره إلى درجة الفناء الروحي بين الحبّ والمحبوب حتّى قال في أبياته المشهورة المعبّرة عن حالات قلبه الذي صار كما يقول:
أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهت ركائبهُ: فالحبُّ ديني وإيماني
لقد كان قلبي قــابلا كلَّ صورة فمرعى لغِزْلانٍ وديرٍ لرُهْبان
وبيتٍ لأوثان وكعبة طــــائف وألْـواح توراة ومُصْحف قرآن
إنّ للقلب من تنوُّع الحالات ما ينطوي على صورٍ كثيرة فإذا صورت ما في القلب غزلانا، كان القلب مرعى لها، وإذا صورته رُهبانا كان القلب دِيرًا لهم، وإذا صوّرته أوثانا كان القلب بيتا لها، وإذا صورته أرواحا طائفة كان القلب كعبة لتطوافها، وإذا صورته آيات من التوراة كان القلب ألواحها.
وإذا صورته آياتٍ قرآنية كان القلب مُصحف قرآنها، على أنّ هذه الصور على اختلافها لا تشير آخر الأمر إلاّ إلى شيء واحد بعينه هو “الحبّ” الذي يدين به الشاعر مهما كانت عواقبه؟ وإذا كان الحبّ دين الشاعر فعلى المُحبِّ أنْ يفنى في محبوبه كما فنى المُحِبُّون جميعًا من قبله..
لقد تأكد لدى العديد من نقاد الشعر أنّ هناك علاقة تماثلية وطيدة بين التجارب الشعرية عبر القرون والتجارب الصوفية، لأنّ الشاعر في آخر المطاف كالصوفي يهيم في إيقاع الكون ويتناغم مع الكائنات ويعيش تجاربه الروحية، ويبذل قُصارى جهده الإبداعي للتعبير عنها، ومن هناك يكون نتاجهم الشعري لا ينفصل عن مسيرة تجاربهم الروحية والذوقية.
إنّ الشعراء المتألّهين ـ من أمثال الحلاّج والنفّري وابن عربي وهولدرلين وريلكة وطاغور وثيزار فالييخو؛ والشعراء المُتصوفة في شتّى لغات العالم يرون الكون في أنفسهم كما يرون أنفسهم في الكون، فينبثق شعرهم من هذه الرؤيا متخذين من الحلول موضوعا لأشعارهم العرفانية.
ومن هناك يزداد هيامهم بالجمال والفتنة والإغراء، والسفر المستمر في مسالك الحيرة الصوفية التي ألهمت شعرهم بالبحث.. والبحث المستمر عن إدراك ما لا يُدرك والإحاطة بما لا يُحاط به في صيرورة الزمان والمكان، والكون والإنسان.
ولذا قال الشاعر المعاصر صلاح عبد الصبور في كتابه “حياتي في الشعر”: إنّ التجربة الصوفية والتجربة الفنيّة تنبعان من منبع واحدٍ، وتلتقيان عند نفس الغاية، وهي العودة بالكون إلى صفائه وانسجامه” لأنّ الشاعر في الوجود هو عبارة عن روح مُتطلِّعة باستمرار إلى عالم الغيب والشهود بحثا عن التجلّي، والكشف عن المستور، وهو ما جعل الشاعر الصوفي قديما يقول أمام وُعورة المسالك “كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.
ومن هنا انطلق بحث الشعراء المتصوفة عن لغة ليس كمثلها شيء.. لغة التجلّي ولغة الأحوال والمقامات بل “البحث عن أُفق لغوي رمزي إيحائي تتغلّب فيه اللغة على عجزها ووضوحها المحدود، وينتقل دورها من النّقل اللغوي إلى الخلق اللغوي، وشتّان بين النّقل والخلق؟.. إنّ اتّساع الرؤيا بمفهوم الشاعر المُتألّه عبد الجبّار النفّري (المتوفّى سنة 354 هـ) في كتابه “المواقف والمُخاطبات” يُلجم اللّغة ويضعها في دائرة العجز، ولذا تفطن شعراء الصوفية قبل غيرهم إلى الدّور الإيحائي في اللغة (Connotation) أو الانزياحات التعبيرية المُفضية إلى التعدّد الدِّلالي للقصيدة.
إنّ العبارة النفريّة طرحت قضية مهمة أمام الشعراء، وجاءت لتؤازر الشعر العربي المعاصر وتجعله يبدع ما بات يُعرف بطريقة الاستعمال اللغوي الخلاّق، الذي لا ينقل التجربة وإنّما يحتويها في صْيَغ إيحائية رامزة.
وبذلك تمكّن الشاعر أن يبدع لغة لا تتجاوز تجربته الوجودية الشعورية، ولا تنفصل عنها، ولا تتقيّد ببلاغتها ومجازها وتراكيبها البلاغية، بل تمكّن الشاعر من التخطي باللغة إلى آفاق تتقارب فيها ثلاثية المُعبّر: “الشاعر” و”المعبّر عنه” التجربة والمعبر بها “اللّغة”.
إنّ سعة الرؤية بالمفهوم النفّري نجدها تُلجم اللّغة، وتضعها في منطقة “الحجز” إن جاز لنا التعبير، ولذلك فإنّ الإيحائية هي المخرج الشاعري المناسب لتجاوز ذلك العجز اللغوي المُشار إليه من طرف النفّري.
ونجد الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة تعتبر الشعر “كلمة” مُنزّلة من الغيب تُخفيها الأسرار الإلهية فتقول:
… الكلمهْ
في صفحة القاموس
مثل وردة مُلثّمهْ
عطورها خفية مُطلسمهْ …
وترى أنّ لقانة الشعر كلقانة الصلاة يجمع بين العبادة والخشوع.
ومن هنا نجد شعراء الفيْض يلجأون إلى ما صار يُعرف “بمجالس الأسماع” الصوفية والتي لم تكن مجالس أذكار وأوراد فحسب، بل كانت إلى جانب ذلك مجالس فنية، يروّجُ فيها الشعر الصوفي، وتُوطّدُ فيها العلاقة بين التصوف والشعر.
فتُنْشد القصائد الغزلية الروحية التي تُربّي الأذواق، وترتقي بالنفوس إلى مقامات السالكين، وإلى ما يُعرف بقصائد العشق الإلهي التي تهيم بعِظَمِ الجمال والجلال، وهو نوع من الأشعار نجدها عند: الحلاّج وابن الفارض وابن سبعين وابن عربي والششتري ورابعة العدوية.
ولدى شعراء الفرس من أمثال: شهاب الدين السهروردي المقتول عام 587 هـ في نصّه الصوفي الشهير “هياكل النّور” الذي استطاع بنزعته الإشراقية أن يؤثر في مفهوم النص الشعري الحداثي المعاصر، لأنّ النصوص المؤلهة الناطقة التي تحدث عنها السهروردي في الهيكل السابع، أي النفوس الناطقة، هو جوهر الملكوت، وهكذا تشابه الشاعر المعاصر مع متصوّفة الإشراق، لأنّنا نجد الشعر قد أصبح تلقينا والشاعر يضطلع بدور المُلقّن والمُلهم، لأنّ الشعر في آخر المطاف غمغمة وألحان غيبية المصدر ومعنى ذلك أنّ الشاعر “المغنّي” يتلقى غناءه وعزفه من السماء وهذا ما جعل الشاعر الجاهلي أوس بن حجر يقول في تعريفه للشعر:
وإنّي وما صبّت عليَّ غمامتي ودهري، وفي حبل العشيرة أحطبُ
فالغمامة هي حاوية الأسرار، بل قل حتّى النبوءات، ومن هنا نجد الشاعر والمنظّر أدونيس يعرف الشعر بالرؤيا أي الشعر كشف، والشعر رؤيا كيانية والتي تعني النفاذ إلى الجوهر، لأنّ الكون عند شعراء التصوّف وشعراء الحداثة، هو سَفرٌ مُذهل مليء بالأسرار.
ومن هناك توجّب التعامل مع مثل هذه النصوص بأداة التأويل، وليس أداة التفسير، لأنّ الفرق بينهما شاسع فالتفسير هو شرح معاني الألفاظ وتوضيحها، أمّا التأويل فهو توجيه ألفاظ النصوص إلى معانٍ غير تلك التي يدلّ عليها ظاهرها.
وجلال الدين الرومي (604 هـ / 672 هـ) في ديوانه “المثنوي” وديوانه في الغزل الصوفي “شمس تبريز”، والشاعر الصوفي سعدي شيراز (606 هـ/ 690 هـ) في كتابه “كلستان الذي يجمع بين النثر والشعر الصوفي الأنيق، وكذلك ديوانه الممتع “بوستان” الذي استلهم من عنوانه الشاعر العراقي المعاصر البياتي ديوانه “بستان عائشة” جميعهم تشملهم هذه التجربة.
مثل هذه التجارب الشعرية الغيبية العميقة، مكّنت الشعر من اقتحام عوالم التصّوف المشبوبة بالحب الإلهي أو المسكونة بثلاثية “التخلّي فالتحلّي فالتجلّي”، والتي يكون فيها الوقت الصوفي هو “الآن” وزمانهم هو “الحضور” ونتيجة الآن والحضور تفضي لديهم إلى هدْم “البُعد”، وبالتالي تتحقق أمامهم لحظة القُرب الموعودة والمؤدية إلى التجلّي، التي يتحقّق فيها الاتصال الذوقي بمحيطه الكوني.
فيتّجه صوب باطن الحقائق التي تتعدّى الظاهر إلى ما وراء ذلك فتنوب الرؤية الذوقية، عن الرؤية الحسية، التي تخترق الحُجُب لتُشاهد ما دون اللّوح، وما دون البُعد، وتتطلّع إلى ما توارى واختفى وراء ستر الستور، وهي بذلك تخترق باطن الكون لتهتمّ بجوهره، وإدراك حقائقه الخفية، لأنّ الكون المستتر لدى الشاعر الصوفي، هو البديل الأمثل لتجاوز أشكال النظر العقلي المُسيّج بأطوار الحُجُبِ الحِسيّة.
إنّ الشاعر والصوفي، والعلاقة التماثلية التي تربط بينهما تضعهما في خانة البحث عن سرِّ المُطلق؛ فالصوفي مركوز في جِبلّته التفاني في حبّ الله، وبالتالي حبّ ما لا يُدرك، وهمّه الأقصى تخطي درجات البُعْد للحلول بمدارج القُرب.
وأمّا الشاعر المُبدع والفنّان الأنقى، فإنّه مجبول بدوره على التطلّع إلى الكمال الأرقى والجمال الأبهر، وهو في تجربته كائن روحي ينعم بلطائف الكون بواسطة رؤيته الفنّية النّافذة، شأنه في هذا الإطار شأن الصوفي النّافذ ببصيرته الروحية؛ فنظرة الصوفي تدفع به ليكون مجنون الله من خلال مواقفه النورانية في الكون، ونظرة الشاعر المبدع تدفع به ليكون مجنون الشهوة والغِبطة بلطائف الكون وهو ما يدفع به إلى توليد وظيفة صوفية للغته الشعرية، حتّى تكون في مقام الاستواء المنشود، وهي لغة مُدْغمة مُمْعنة في الغُموض، لا تستسلم دِلالاتُها لمن لم يُحْسن التوغُّلَ في مُعادلها الرُّوحي لأنّها لغة متّصلة اتّصالا وثيقا بالتجربة الذوقية.
وفي آخر الطريق ـ الشاعر والمتصوّف – كلاهما مسكون بالبحث عن كينونة المُطلق. يقول الحلاّج:
عليْكِ يا نفْسُ بالتّسلي فالعِزُّ بالزُّهد والتخلّي
عليكِ بالطلْعـــة التي مِشكاتها الكشفُ والتجلّي
إنّ اللغة لدى المتصوّفة هي أداة تعبيرية غير مُحايدة، فهي لغة تتحدّى المُتّفق عليه في القواميس، أو المُتواضع عليه في الاستعمال المتواتر في أعْراف النّاس، وفي العادات والتقاليد، إنّها لغة تجربة روحية وثمرة من ثمار معاناة السفر والبحث المُضني في غياهب الروح المظلمة والتي جعلت الشاعر الإسباني المتأله San Juan de la Cruz ، يوحنّى الصليبي (1542 – 1591) يكتب قصيدته الخالدة ” La noche oscura del alma” (ليلة الرّوح المُظلمة) المُعبّرة بجدارة واقتدار عن البحث المُضني عن اللحظة الهاربة وراء بُعد البُعد، وقُرب القُرب والتحلّي والتجلّي .
لهذا قال آخر المتصوفة عبد الكريم الجيلي المتوفي ببغداد عام1428 في كتابه “الإنسان الكامل” رُوي عن مجنون ليلى أنّها مرّت به ذات يوم فدعته إليها لتحدّثه، فقال لها: دعيني فإنّي مشغول بليلى عنك.. وهذا آخر مقامات الوصول .. لا يبقى عاشق ولا معشوق، ولا يبقى إلاّ العشق وحده، وعشق الذّات المحض.
الأستاذ الدكتور/ عبد الله حمادي
هوامش
-أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني، المجلد الرابع.. ص: 126.
– ابن عربي: ديوان تُرجُمان الأشوا.
– الدكتور زكي نجيب محمود: طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان ترجمان الأشواق، الكتاب التذكاري مُحي الدّين بن عربي (في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده) 1165 هـ /1240م .. الناشر الهيئة المصرية للعامة للتأليف والنّشر (دار الكتاب العربي) 1969، صفحة: 91- 92.
– الكتاب التذكاري مُحي الدين بن عربي.. صفحة: 103.
– صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر، نشر دار إقرأ، بيروت سنة 1983، ص:165.