تهيئ رواية “اختفاء السيد لا أحد” – للروائي الجزائري أحمد طيباوي، الصادرة عن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف. والفائزة بجائزة نجيب محفوظ 2021 – قارئها منذ الوهلة الأولى للدخول في لعبة سرديّة يؤثثها التأمّل الفلسفي الذي يعزّز الشك والارتياب.
ذلك أن أوّل سؤال يمكن للمتلقي أن يطرحه حول عنوانها هو: كيف لمن لا وجود له أن يختفي؟ ألا يشترط الاختفاء أولاً حضورًا متجلياً؟ ثنائية ضديّة تكرّس مفهوم المفارقة والتناقض على نحو مستمر. يمكن رصدها مبدئياً في تقسيم العمل إلى جزأين “الرجل الذي خلع وجهه ورحل” و”الجحيم يطل من النافذة” ممّا يوحي بأنّ الاختفاء شرط التجلي وليس العكس.
يبادرنا صوت الشخصيّة من أول سطر في الرواية، وعلى امتداد المقطع الأوّل الذي يحمل عنوان “مراوغة”، وكأنّ الروائي يدعونا إلى الاستعداد للّعبة التي ينبغي علينا أن نبقي فيها حواسنا القرائية متيقّظة، حتى لا نسقط في وهم التسليم بما تقوله الشخصية.
يطالعنا “السيد لا أحد” بميوله العدوانيّة ورغبته في الفتك بالشيخ الذي يرعاه قائلاً: “قد يكون اقتلاع أحدهم من الحياة حلا معقولا حتى بالنسبة لرجل مثلي لا يملك سوى أسباب تافهة ليفعل ذلك” (ص7).
لكن السرد سرعان ما يدحض هذه الصورة لتتجلّى صورة مغايرة، يرسم العجز والشعور باللاانتماء تفاصيلها، فقد كان همّ الشخصيّة الرغبة في الحفاظ على العتمة التي تخفي حضورها، بعد أن نفضت يدها من الوجود، جالسةً في شرفة الطابق الأخير.
تتأمّل تفاهة البشر في الظلام الحالك الذي يلّف المدينة ويطبق على أنفاس ساكنيها، كمن يقف فوق خراب العالم ليسخر من انحداره، معلنةً انفصالها عمّا حولها، بعد أن قطعت كل صلة لها بالمجتمع البشري، وما وجودها رفقة الشيخ الهرم سوى صفقة عابرة أبرمتها الصدف في غفلة منها، ما فتئت تريد منها فِكاكاً.
تتولّى الشخصية التعبير عن قناعاتها وتصوراتها بشكل متكرّر، ممّا يتيح للقارئ تشكيل ملامحها وأبعادها المختلفة، وهنا تكمن المفارقة.
تقول: أخاف أحيانا من أن يكشفني جمر سجائري (ص8)، لم يخلّف كلامه أي فضول بداخلي لمعرفة أمر يعتقد أنه سيجعلني ملكا.. ملك؟ ذلك يقع عملياً خارج دائرة تطلعاتي، دائرة ضيقة ومثيرة للسخرية، ويستحق صاحبها رثاء خاصا. لا يهم، أنا عبد قذر، لا يعرفه أحد ولا يأبه له، وهذا يرضيني تماما. (ص9)، أريد أن أعيش دون صورة أو انعكاس (ص10)، لا شيء فيّ تغيّر منذ كنت مراهقا سوى أني صرت خامدا، محض رماد (ص11)، أنا لا أحد سوى ما أرادني الناس أن أكون عليه (ص33)، أنا فارغ من أي شيء تجاه البشر (ص34).
وممّا يعزز حالة الرفض التي يستشعرها البطل تجاه المجتمع الإشارة في مقام آخر إلى عجزه عن استحضار أي نوع من المشاعر الطبيعية لحظة تذكره لأمّه.
يقول: “صور أمي في ذاكرتي غير واضحة، بعيدة ومشوّشة، ولا عاطفة تشدني إليها. أحيانا أفكر أني ولدت دون أم، من ظهر أبي لما سقى بمائه التراب (…) عشت حياتي أؤدي أدوارا ليست لي، أو أحل مكان من غاب أو تأخر ولم يأت.. طارئا في حياة طارئة” (ص13).
إذ يحيل هذا الموقف المحايد إلى فقدان الرابط مع الحياة، نتيجة وعي مبكر بتفاهتها، ذلك أنّ الظروف لم تهيئه لنسج علاقات متينة بمن حوله، فيكفي أن يتعلّق به أحدهم ليكون الموت وشيكاً، لكن المفارقة العبثية أنّ الموت أبى الاقتراب منه لحظة التماس المباشر معه، عند اختطافه من قبل الإرهابيين، لا نتيجة حيلة حاكها بدهائه لينجو من قبضته كما جرى لسيزيف في الأساطير اليونانية (في إشارة إلى أنّه لا مكان للبطولة بمفهومها الأسطوري في هذا الزمن).
وإنّما لأنّ يد الموت قد عُطلت من الداخل، حين قرّرت أن تمنح الحياة والخلاص، لكنّه خلاص ملطخ بالدِّماء، تحوّل مع مرور الوقت إلى عذاب ممتد وجد البطل نفسه ضحية له، فقد لفظته الحياة إلى هامشها وأمعنت في سحقه، فما كان منه سوى أن اختار بإرادته أن يكون حشرة.
يقول: “لا تطلب الحشرة البائسة سوى الانزواء بعيدا” (ص41)، حتى لا يستشعر ألم السحق، وهذا ما يذكِّرنا برواية المسخ لفرانز كافكا.
بدت الحياة بالنسبة إليه محطة انتظار، وهذا ما جعله يختار موتاً رمزياً مؤقتاً يتيح له الاستعداد للموت الحقيقي بوصفه الخلاص الوحيد المستحق، يقول: “دسست بدني تحت الفراش لأموت موتا صغيرا. رأسي على الوسادة ثقيل، ليته قُطع في تلك الحادثة القديمة.
كنت لأكون الآن هناك في الأعلى أضحك طويلا على الأقدار التي نهبت حصتي من الحياة” (ص11)، كما دفعه ذلك إلى تأمّل الحياة كمهزلة بدل إضفاء هالة من التراجيديا عليها، لأنّها في نظره لا تستحق هذا القدر من الجديّة المفرطة في التعامل معها.
يذكّرنا هذا الموقف بمقولة ميلان كونديرا في رواية حفلة التفاهة: “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمّة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألاّ نأخذه على محمل الجد”.
العقل حصان طروادة الخاسر
يبدو التمسّك بالعقل رهاناً خاسراً تفنّنت الرواية في تصوير تبعاته، مذكّرة بلعنة المبصر في مجتمع العميان، وذلك من خلال تسليط الضوء على محنة الوجود العبثي الذي وجد “السيد لا أحد” نفسه معلقاً بين أقداره، إذ يصف نفسه ساخراً بشفافيّة بالغة “أنا حبيس جملة من الظروف لا أجد سببا منطقيا يجعلها تتفرغ لي وحدي من دون الناس. صرت مثل الفأر المعلق من خصيتيه” (ص33).
أمام هذه الحتميّة يصبح الجنون طوق نجاة للتخفّف من إكراهات الواقع، لكنّه خيار لم تدرك الشخصية قيمته إلاّ بعد أن خبرت حجم البؤس والنفاق البشريين، لذا يأتي قرار الاختفاء في النهاية كإعلان عن موقف رافض للحياة، وإن بدا في ظاهره عديم الأثر، فإنّه في حقيقته يحمل رمزيّة الثورة الناعمة بحكم أنّه أحدث تحولاً في مسار باقي الشخصيات.
لقد أخرج حدث الموت (موت الشيخ) “السيد لا أحد” من العتمة إلى النور، ونقله من دائرة الحضور الهامشي إلى الحضور المركزي بالنسبة إلى من تقاطعت مسارات حياتهم معه، لكنّه حضور بالغياب.
إذ غدت شخصيته بمثابة مرآة تجلّت من خلالها مصائر باقي الشخصيات المسحوقة في الرواية (عثمان لاقوش، قادة البيّاع، جلال الأعمش وغيرهم)، بل صارت هاجساً بالنسبة إلى المحقق رفيق طايبي، الذي قادته رحلة البحث عنه في الجزء الثاني من الرواية إلى إدراك هشاشة وجوده وعبثية الحرص على تماسكه، لذا اختار في آخر المطاف اقتفاء أثر السيد لا أحد والاختفاء دون أن يترك أثراً يدل على وجهته، فتحوّل من باحثٍ إلى مبحوثٍ عنه.
وغدا الاختفاء بعد التجرّد من الروابط شكلاً من أشكال الخلاص الفردي، ذلك أنّه لا مجال لتحقيق خلاص جماعي في مجتمع يستعذب السير نحو الهاويّة، ولعلّ هذا ما جعل الروائي يستثمر فكرة الحمل الذي بقي معلقًا، لا كحل يُخرِج المحقِق من دائرة اللاجدوى بفعل تواطؤ الظروف وقوى الفساد. بل ليعززها، إذ لا معنى للاستمرارية إذا لم تكن حاملة لبذور التغيير الجذري، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه برؤية رومانسيّة حالمة، وما إبقاء النهاية مفتوحة إلاّ تأكيدًا على تعدّد المسارات التي يخفيها القدر.
يذكِّرنا اختفاء السيد لا أحد برواية “كائن لا تحتمل خفته” لميلان كونديرا، ذلك أنّ الاختفاء مكّن الشخصية من التخفّف من حمولات الواقع والتحرّر من إكراهاته، لكنّها خِفّة لا تحتمل، لأنّها أزالت الستار عن مسرح الحياة، كاشفة عورات مجتمع غارق في الزيف والنفاق.
دور المثقف في مجتمع مسلوب القيم
تستحضر الرواية محطة الإرهاب بوصفها محنةً لها الأثر البالغ في تشكيل وعي البطل، على الصعيدين الفردي والجماعي، بغية كشف الانحدار الذي أصاب سلّم القيم في المجتمع الجزائري عقب العشرية السوداء، وما ترتّب عن ذلك من تغييب المبادئ والمثل وتغليب ثقافة الاستغلال والنهب.
تتوالى الأوصاف التي ينتقيها البطل ليسم بها شخصيّته، والتي يشكّل معجم القبح معيناً لا ينضب لها: جرذ المجاري أنظف مني، متشرد قذر، كلب خاضع، حشرة بائسة.. وغيرها، لكنّها تتعارض قيمياً مع تقديمه في العنوان بصيغة “السيد” التي تدلّ على المكانة الرفيعة والسيادة على الآخرين.
وممّا يقلب طرفي المعادلة التي تستحضر الضحيّة لإدانة الجلاّد، وإن بشكل مضمر،التذكير الدائم بوجود ما يحوّل دون انحداره في حفلة الوضاعة التي استمرأها الآخرون، وتواضعوا بشكل ضمني على ممارسة أدوارهم فيها.
يقول “يكشِّر ذلك الشيء في داخلي عن أنيابه كلما فكرت أن أتركه وحيدا وأبحث لي عن مأوى آخر” (ص 41)، فقد تنازل عن دور المخلِّص، لكنّه لم يتخلّ عن إنسانيته البعيدة كل البعد عن المثاليّة، حين احتفظ بصوت الضمير حياً بداخله في أحلك الظروف.
تلخّص الرواية محنة المثقف العاجز عن إحداث التغيير، يعيش اغتراباً عن شرطه الإنساني، في مجتمع كفر بالمثل والقيم، واستعذب الانحدار نحو الهاوية، وأمام احتمال الشعور بالمظلومية والخضوع للقهر الذي تمارسه قوى الفساد اختار الاختفاء سبيلاً أوحد للخلاص، ذلك أنّه لا قيمة للبقاء والمواجهة، والتمسّك بالهويّة في مجتمع يمحو وجودك ويجرّدك من إنسانيتك.
لكن السؤال الذي يمكن أن يُطرح في النهاية هو: هل يحق لسيزيف (المثقف) من الناحيّة الأخلاقيّة التخلّي عن الصخرة؟
المصدر: أحمد طيباوي، اختفاء السيد لا أحد، منشورات ضفاف، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2019.
د. شهرة بلغول / جامعة العربي بن مهيدي. أم البواقي