تشكل الكتابة القصصية عند الأديبة “زوليخا السعودي”مرحلة نشأة القصة النسوية في الجزائر، إذ تمثل أعمالها – خاصة مع ما قدمته الأديبة “زهور ونيسي”- البداية الحقيقية للسرد النسوي في الجزائر.
هذا ما تحاول هذه الورقة البحثية أن تقدمه للقارئ من أجل استنهاض السؤال النقدي في مرحلة نشأة القصة النسوية في الجزائر إذ كثيرا ما يتوجه اهتمام النقد إلى البحث في مرحلة النضج، ونكون بذلك قد أضعنا البحث في مرحلة النشأة التي تضم غالبا أدباء شكّلوا في فترة متقدمة جدا الخطوط الأولى لتاريخ فن من فنون الأدب..
لعلّه من الطبيعي جدا أن يتأخر ظهور الأدب النسوي في الجزائر إلى مرحلة ما بعد الاستقلال. وهو نتيجة حتمية للسياق الاجتماعي والثقافي السائد وقتذاك، جرّاء الضيم الذي مارسه الاستدمار الفرنسي على المجتمع الجزائري برمته طيلة ما يقارب قرنا ونصف من الاحتلال، حيث ظهرت أول مجموعة قصصية للأديبة المناضلة “زهور ونيسي” تحت عنوان (الرصيف النائم)(1) .
ضمت هذه المجموعة القصصية عدة عناوين تعالج في معظمها موضوعا واحدا هو المرأة، وقد اختارت الأديبة “زهور ونيسي” العناوين ذات الدلالة المباشرة إصرارا منها على حضور المرأة في الأدب، إذ تنتمي هذه القصص إلى الواقعية الثورية. لأن المرجعية المشتركة لفعل السرد في هذه المجموعة هي الثورة التحريرية، التي شاركت فيها المرأة بكل جرأة، وشجّعها ذلك على دخول معترك الحياة بما فيه الحياة الأدبية والفكرية.
لم تبحث الأديبة “زهور ونيسي” عن تجاوز الواقعي إلى التخييلي، بل تعمدّت الإبقاء على الأول لحاجة الظرف إليه من جهة، ولأن الأديبة تعيشه كحالة من جهة ثانية وهي التي تقول:” أستطيع أن أزعم أنني عشت حرب التحرير على أعصابي… خلالها وبعدها أيضا”(2).
اقتربت لغة السرد في “الرصيف النائم” من الواقع المعيش، فلم تخرج الأديبة “زهور ونيسي” عن الإطار العام للثورة التحريرية التي كانت تعود إليها في كل مرة، حتى في مجموعتها القصصية الثانية “على الشاطئ الآخر”(3).
وقد اعتمدت في ذلك على تقنية الاستذكار، التي أبعدتها الكاتبة عن شخصية السارد لتلحقها في كل مرة بشخصية من شخصيات القصة في محاولة منها لإشراك القارئ في بناء الفعل الحكائي.
واصلت الأديبة “زهور ونيسي” ممارسة فعل السرد، حيث انتقلت إلى الكتابة الروائية، ونشرت أول رواية نسوية في عام 1979.
كانت بعنوان “من يوميات مدرِّسة حرة”، قسّمتها الكاتبة إلى فصول معنونة – جعلت القارئ لهذه الرواية- يشعر بالتميز الذي انفردت به مادةً وبناءً.
ارتكز الفعل السردي في هذه الرواية على شخصية أساسية، مثّلت محور السرد العام وهي شخصية المعلمة. وهنا يظهر ذلك التواصل لدى الأديبة في نضالها من أجل المرأة، وقد امتد الزمن الطبيعي للرواية من بداية الثورة إلى مظاهرات ديسمبر 1960، هذا ما يعكس الجانب الثوري الذي ميّز الرواية، حيث يحدث التقاطع بين عناصر السرد الثلاثة، الزمان، والمكان والشخصيات، من غير أن تخرج كلها عن فضاء الثورة التحريرية.
قبل الحديث عن القصة عند “زوليخا السعودي” وجب الوقوف مع ذلك المتميز الذي أخذ مهمة السرد التي كانت حكرا على الرجل، فبالرغم من تسليم النقاد بأن كل امرأة حبلى بروايتها، إلا أن السرد بقي إلى وقت متأخر فنًّا يختص به الرجال، على الأقل على مستوى السرد العربي بعامة والسرد الجزائري بخاصة، هنا يرى “جورج طرابيشي” أن السرد عند الرجل هو إعادة بناء العالم.
أما عند المرأة فهو بؤرة أحاسيس، والفرق بينهما أن الأول يكتب بعقله أما الثاني فيكتب بقلبه(4)، والحقيقة أن الذي يُشعِر القارئ بالمتعة هو الأقرب إلى الأحاسيس والعواطف، فالرسالة التي يغلب عليها جانب العقل والمنطق هي أقرب إلى المقال الإصلاحي منه إلى الكتابة الفنية، ومن جهة أخرى فالاستعداد النفسي والجمالي معا “الذي يُقْدِم به القارئ على قراءة رواية كتبتها امرأة هو غير ذلك الذي يقدم به على قراءة الرواية بوجه عام بوصفها فن رجال”(5).
لقد عانقت المرأة الكتابة أخيرا ودخلت إلى لغة الآخر، فاقتحمت مملكة كان قد سيطر عليها الرجل طويلا، وطوّعت اللغة للحديث عن مأساتها الحضارية وعن تمادي الآخر في تهميشها وتغييبها ثقافيا وحضاريا.
ولكن، هل يمكن للمرأة أن تجعل من لغة الأخر لغة للأنوثة بعدما مدّت يدها إلى اللفظ الفحل والقلم المذكر لغة واعتبارا؟.(6)
على هذا الأساس كان أدب المرأة امتدادا للبحث عن تلك التمفصلات التي نتجت عن علاقة المرأة باللّغة، وكيف طوّعتها لأن تفصح بها عن نفسها؟ وبأي طريقة حوّلت فحولتها التي اكتسبتها من الرجل إلى صوت ناعم مؤثث بضمير الأنثى، الذي أوجدت له المرأة فضاء يتحرك فيه من خلال إتقانها فنّ الحكي وتحكمها في تقنيات السرد.
لقد استأنفت المرأة في عالم اللغة مسيرتها فأقامت لنفسها نمطا خاصا في الكتابة الأدبية، تغازل من صرحه عنفوان الرجل، فتقول “مي زيادة” في رسالة إلى باحثة البادية:” أسيادنا الرجال… أقول “أسيادنا” مراعاة بل تحفظا من أن ينقل حديثنا فيظنوا أن النساء يتآمرن عليهم… فكلمة أسيادنا تخمد نار غضبهم…إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون”(7).
زوليخا السعودي قصة البدايات
تمثل الكتابة القصصية عند “زوليخا السعودي” مرحلة متطورة في تاريخ القصة العربية في الجزائر، بدأت الأديبة الكتابة القصصية في مرحلة الثورة التحريرية، إلا أن قصصها لم تعرف النشر إلا مع بداية الستينيات، وتمكنت خلال فترة وجيزة لا تتعدى العشر سنوات من كمّ متميّز من القصص.حيث بلغ عدد قصصها ثماني عشرة قصة تنوعت في الموضوع والصيغة والمنظور، وقد جمعها الأستاذ “شريبط أحمد شريبط” رحمه الله، ضمن الأعمال الكاملة للأديبة حيث يعود له الفضل الكبير في وصولها إلى المتلقي.
نُشرت أول قصة للأديبة “زوليخا السعودي” عام 1962، بعنوان (عازف الناي)(8) جسّدت فيها الثورة التحريرية بكل صدق وانفعال، وهي ابنة عائلة مجاهدة، إلا أنها لم تبحث في أول صيحة لها كامرأة عن نفسها بقدر ما بحثت عن الثورة والنضال، فبطل القصة “خليفة” كان أعتى من أن يكون رجلا عاديا، وهو الذي يضحي بابنه ثم بنفسه من أجل أن يكتم سرَّ الثورة، ويأتي من بعده حفيده “خليفة” الذي كان يأتي كل يوم ليعزف على نايه عند قبر جده.
اختيار “زوليخا السعودي”، لاسم بطل قصتها لم يكن اعتباطيا، ولم تتردد في أن يكون الرجل هو الأصل والفرع معا، فأية ذهنية انطلقت منها هذه الأديبة؟ ألم تبحث في نفسها عن أنها امرأة وهي في أمَسِّ الحاجة لأن تقول إنها جديرة بأن تأخذ دور البطولة؟.
كتبت “زوليخا السعودي” قصة (ابتسامة العمر)(9). وكانت أقرب إلى السيرة الذاتية حيث عكست من خلالها علاقتها الخاصة مع الرجل، فقد غلب على هذه القصة طابع السرد الكلاسيكي الخالي من الحوارات والمقاطع الوصفية وكانت هذه الصورة القائمة للرجل الذي قتل “زوليخا السعودي” أكثر من مرة.
اتخذ الرجل في قصص الأدبية أكثر من صورة واحدة، فمرّة كان المناضل الثائر، ومرّة أخرى كان المستهتر الظالم، وكانت الأديبة في كل مرّة تبحث عن ذلك الجوهر الرجولي الذي فقدته مع أخيها “محمد السعودي”(10).
ثم في مرحلة أخرى، كانت “زوليخا السعودي” تبحث عن نقطة تتقاطع فيها أدوار الرجل والمرأة، حيث كتبت في هذه الفترة قصة “من البطل”(11).
وفي هذه القصة وزعت الأديبة دور البطولة بين شخصيتين “الأخضر” المهاجر الذي يشدّه الرّحيل للعودة إلى أرض الوطن إلّا أنه لا يستطيع ذلك، و “ربيعة” الزوجة التي تحمّلت تربية الأولاد، والأم العجوز، تتألم كثيرا لذلك فتقول:” ما أفادني أن المسكينة غير هذه المرارة التي أتجرعها من عجوزتي وجارتي وولدي اليتيمين بالحياة”(12).
هكذا تصارع الأديبة “زوليخا السعودي” في علاقتها مع الرجل، تحمل كل همومه من أجل أن يقبل منها همّا واحدا، ويظهر أن الأديبة قد صارت أكبر من أن تحمل همّها كامرأة وحدها في قصتها (عرجونة)(13) ، التي كانت تمثل بحق شخصية “زوليخا السعودي” القاصة. حيث اعتمدت فيها تقنية السرد الروائي، واختارت شخصيات هذه القصة بذوق فنّي متميز عن القصص الأخرى، كما ركّزت على الاستذكار فكان الفعل السردي يتولد في كل مرحلة من مراحل القصة بشكل يدلّ على تطور الأديبة في تمكنّها من فعل الحكي.
صوّرت قصة (عرجونة) مأساة المرأة الجزائرية التي ضاعت في مجتمعها الغريب وهي تبحث عن نفسها،وكان ذلك بأسلوب فنّي تنوع بين السرد والوصف، وبين الحوار والمناجاة، فكانت هذه القصة دليلا على الأثر الراسخ الذي تركته الأديبة “زوليخا السعودي” في عالم الكتابة النسوية في الجزائر، وقد قال عنها “أحمد دوغان”:”…
وإذا لم تقدم أديبتنا سوى (قصة) “عرجونة” فهي كافية للاعتراف بها قاصة، ولا بأس أن أضم صوتي إلى الأصوات الغيورة على جمع نتاج أديبتنا الراحلة وطبعه، لأنه يمثل مرحلة متطورة في القصة العربية المعاصرة في الجزائر”(14).
شكّلت الكتابة القصصية عند كل من “زهور ونيسي” و “زوليخا السعودي” نمط السرد النسوي في مرحلة الستينات، وقد أسهمتا معا في فتح مجال الكتابة للمرأة الجزائرية.
حيث ظهرت في السبعينيات مجموعة من الأقلام الأدبية النسوية مثل :”جميلة ونير”، “خيرة بغدود”، “ليلى بن سعد اليعقوبية”، “زينب الإبراهيمي” وغيرهن، إلا أن بعضهن لم يواصلن رحلة الكتابة والإبداع أو لم ينشرن أعمالهن نهائيا، وقد يرجع الأمر في ذلك إلى تلك التقاليد الاجتماعية البالية التي تجعل المرأة تُحجِم عن إسماع صوتها، لأنه يمثل واحدا من الطابوهات آنذاك.
خصوصية السرد في قصص “زوليخا السعودي“
1- الاشتغال على تنوّع الصيغة
إنّ أهم ما يطبع القصة القصيرة بخاصة هو انفلاتها من الخضوع إلى صيغة سردية واحدة، على غرار القصة والرواية، إذ لا يمكن أن نتصور أن الأديبة قد حافظت على المستوى الفني نفسه للسرد في كل قصصها، خاصة إذا علمنا أن بعض هذه القصص كُتبت قبل الاستقلال وأخرى كُتبت بعد ذلك بمدة طويلة نسبيا، أضف إلى ذلك أن القصة عند “زوليخا السعودي” هي لسان الحال بتجاربه المتناقضة وبلغاته السوسيولسانية التي تتداخل في معظم الأحايين بشكل يُستعصى الفصل فيه.
فهل يمكن رصد خصوصية السرد في واحدة من القصص وتعميمها على الكل؟
للخروج من هذا التيه سنقدم قراءة في قصة (عرجونة)، التي تمثل مستوى فنيا كبيرا لدى الأديبة “زوليخا السعودي”، حيث يقول “أحمد دوغان”: إن الأديبة لو لم تكتب إلا قصة عرجونة لكانت كفيلة بأن تجعلها قاصة متميزة(17).
إذ تتميز قصة (عرجونة) بالتنوع من حيث الصيغة السردية، فهي تبدأ القصة بضمير المتكلم (الأنا)، لكنها لا تلبث أن تتجرد من نسبة الحكاية لذاتها، لتصبح القصة بذلك خطابا مسردا يعكس خطابا آخر، يقوم السارد بنقله لمسرود له ضمني في النص، يتراوح به الزمن بين الماضي والحاضر، ثم يستقرّ نهائيا في الذاكرة، تقول: “كنت في طريقي إلى المقبرة أنقل خطايا في تثاقل كئيب بينما الرياح حولي تعصف…حاولت أن أسرع في خطوات مصممة على عدم الالتفات ورائي فقلبي يرتجف بداخلي أثر بالذكرى… تساءلت في وهن وتوقفت على اجترار أفكاري فهي تعذبني، ومع عصف الرياح تبدوا وكأنها تعود إلى الميلاد كل مرة في ثوب جديد… (18).
يبقى الراوي في كل مرة المسرود له، إلا أن الذي هيمن على السمع في القصة هو القارئ الضمني، عدا تلك المقاطع الحوارية التي تتم بين شخصيات القصة، التي يصبح فيها المسرود له الأول هو الداخل حكائيا وليس القارئ، من مثل الصيغة التي اعتمدتها معلمة المدرسة في نقل مأساة (عرجونة) لمدرس التاريخ يقول عنه السارد:”…كان يقول لي في ثقة إن الدماء التي تبشر بحياة جديدة هي دماء مجرمة … كان مثلي يتأمل الحياة في غضب لكنني كنت أحلم وأحلامي لا تروقه له إنها من عالم ميت نوعا ما. “(19)
وهكذا يشكل المسرود له / مدرس التاريخ قوة فاعلة أخرى تعمل على تحفيز السرد وتوطد العلاقة بالمتلقي المجرد الذي بإمكانه تجسيد أفكار القاصة ومبادئها.
من جهة أخرى نوّعت القصة –على غرار معظم القصص الأخرى- بين صيغة الخطاب من المسرود إلى المعروض الذاتي عن طريق استعمال المناجاة التي تظهر في كل مرة محافظة على الزمن الحاضر ومستقرئة لما يمكن أن يكون خفيا من جانب بعض الشخصيات.
يُلاحَظ إذن أن القصة لم تلتزم بصيغة واحدة نظرا لاعتماد الكتابة القصصية عند “زوليخا السعودي” على التداعي، إذ ينتقل الراوي من مستوى إلى آخر فيؤدي أحيانا إلى تداخل الموضوعات لديه بشكل يدل على اللااستقرار الذي تعيشه القاصة، والتي ترمي من خلاله إلى التبدل والتغير دوما بحثا عن الحقيقة المترامية في الذاكرة.
تجدر الإشارة كذلك إلى الاختلال الزمني في القصة، فعالم الراوي موزع بين حاضر عفن وماض يعاني التشضّي بين التذكر والنسيان، يعكس هذا التداخل الرهيب بين الزمنين تلك الرحلة الشاقة التي تأخذها القصة في بحثها عن الحقيقة من أجل مواجهة زيف ما بعد الثورة، وإعادة الفكرة الصحيحة إلى التجسيد والتفعيل، فكرة الحرية والاستقلال والتغلب على الهيمنة والتسلط.
وقد كان ذلك مستعصيا على الراوي فتجسد في صيغة السرد، إذ كلما كان تركيب الصيغة متداخلا كلما كشف ذلك عن تعقيد في حركة الحياة، و حينها يكون العمل في حاجة إلى إدراك تزيد معه المتعة الجمالية للنص(20)، ويحتاج عندها القارئ إلى تأمل أكثر فتصبح القراءة ضربا من الاستكشاف والبحث عن المتخفي وراء اللغة والتركيب، ولا تبقى مجرد نزهة سردية أو مطالعة على سطح النص.
2- كسر هيمنة الواقع بالاعتماد على العجائبي
إذا عرفنا بأن الإبداع في حقيقته هو التعبير عن المألوف بما هو غير مألوف، فإن المبدع أحيانا قد يتماهى في استعماله للامألوف بهدف تكسير منطقية السرد أو من أجل إحداث خلخلة في عقلانية ما يحكي، إذ قد تقتحم السرد حادثة غير محكومة بأسباب العقل ولا يتحكم فيها مبدأ المعطيات والنتائج، فيعيش المتلقي حينها –سواء أكان خارجا حكائيا أم داخلا حكائيا- حالة تردد يتأرجح فيه بين القبول والرفض.
ووفق هذا التردّد يتحدد مفهوم العجائبي في الأدب، حيث يصبح القارئ أمام تفسيرين مختلفين لظاهرة غريبة واحدة، إما أن يكون هذا التفسير مسايرا لأنماط العلل الطبيعية أو أنه قد يتعدى ذلك إلى مستوى ما فوق الطبيعة(21).
وهنا يتحدد العجائبي –وفق ما يرى تودورف Todorov- بشروط تجعله يتميز عن المألوف لدى القارئ، حيث يجد هذا الأخير نفسه بين تفسيرين للأحداث المعروضة عليه هما الطبيعي والخارق للطبيعي، كما يكون التردد ذاته ظاهرا عند واحدة من الشخصيات، وهنا يحدث تماهي بين فهم القارئ والشخصية معا، ويضيف شرطا آخر هو أن يرفض القارئ التأويل المجازي للأحداث(22).
مما سبق نجد أن الأديبة “زوليخا السعودي” قد توسلت العجائبي في بعض قصصها، من مثل ما نجده في قصة (على مذبح الوعي أو المقيدون) حين تنفتح القصة على قصة (عمي عطية)، هذه الأخيرة التي لا تدخل في المسار العام للسرد إلا لتضيف فعلا تحفيزيا آخر في التلقي، حين يعمد الراوي إلى خلق نوع من التردد في نفس القارئ تجاه سارد الحكاية/ البطل ذاته، يقول: “ولنرجع إلى عمي عطية”، أهل القرية أنفسهم لا يعرفون لموطنه اسما حقيقيا فهو يخترع الأسماء و يلقيها إليهم…وقد يحدث أن يذهب أحدهم إلى هذا المكان أو ذاك مما دعاه عمي عطية موطنا له … فيسأل عن أصله ولكن لا أحد منهم يعرف “عمي عطية ” ولا أصله(23).
ولا يتوقف الراوي عند هذا الحد، بل يزيد في خلقه لذلك التردد حتى أنه يصف قصة “محمود بن عمي عطية” بالأسطورة فيقول: “وأسطورة وحيده محمود هي التي حبّبت أحمد إليه…”(24).
حيث تأخذ هذه القصة مسارا غير واقعي، ويبقى بذلك المتلقي الداخل سرديا بعيدا عن قبولها أو حتى فهم تطور الحدث فيها، ويحافظ الراوي على هذا القطع الحاصل على مستوى التلقي بين السارد “عمي عطية / السارد” والمتلقي / أهل القرية.
يحاول القارئ من خلال فهمه لمسار السرد في هذه القصة أن يقترب بها من التفسير العقلي، ذلك أن “عمي عطية” رجل يعيش على أمل أن يعيد الاعتبار لنفسه، وهو المتروك جانبا في هذه القرية، لأنه يعتبر وافدا عليها، كما أنه ليس له من الأبناء والمال ما يثبت به تاريخه وأصوله، هذا ما يجعله يلجأ إلى الخيال، فيجعل ابنه “محمود” يحفظ القرآن الكريم دون أن يتعلم حرفا، ويسافر هو مع ابنه إلى الحج، لتحدث فاجعة العجائبي هناك فيعود “عمي عطية” أدراجه بعد أن يفقد ابنه “محمود”.
لا يخرج هذا التطور للحدث عن التفسير العقلي، إذ أن السارد / ومن فرط حبّه لابنه، أراد أن يتجاوز الواقع ويتحداه بوساطة الخيال، ولأن القرية التي يعيش فيها تمجد أكابرها باسم “الحاج”، أراد هو لنفسه هذا التاج ولو كان ذلك من الخيال.
لكن هل يمكن أن نقبل هذا التفسير فحسب؟
إذا كنّا لا نأخذ برمزية العالم الحكائي فقط بل بعجائبيته أيضا، فإن قصة (عمي عطية) فيها من الخوارق ما يفوق الرمز، إذ تبدأ هذه الحكاية بمرجعية دينية تُمّهد لما سيأتي.
حيث يستيقظ “عمي عطية” وابنه “محمود” من نوم طويل فيصليان الفجر، ويستوثق الأب من ذلك في زاوية “سيدي عبد الرحمان” ليستقبلا بحفاوة غير عادية إلا أن شيخ الزاوية ينصح أب محمود بكتمان الأمر لأنه في ذلك خطر عليه.
وهنا يغوص “عمي عطية” في الحكي يرافقه خوف القارئ مما سيأتي، لأن محمود قد أضاف إشارة عجائبية أخرى للحكاية عندما حذره أبوه من أي خطر، قائلا: “ما أنا باقي في هذا المكان ولا أنا من أهله…”(25)
بعدها يسمع “عمي عطية” صوتا يهتف به في اليقظة يدعوه إلى الحج، فيلبّي الأب أمر هذا النداء ويصف ما حدث في الرحلة فيقول: “وبعد أهوال تمكنا من منتصف الطريق تماما…. جلسنا في ظل شجرة بنور غريب يغشانا، وامرأة لم أستطع التحديق فيها لذلك الضياء القوي، وقالت بصوت رهيب: هذا الطفل ولدي وقد آن استرجاعه يا عطية …. ولم أنبس بحرف فقد عقدت لساني الرهبة وف ….لكني عمدت إلى ابني فغطيته ببرنوسي.. فإذا بصحبة عظيمة تزلزل الأرض علي، ولم أفق من غشيتي إلا في الظلام.. فإذا بي وحدي في القفار… “.(26)
وهكذا يتكاثف العجائبي في الحكاية حتى يتعدى التفسير للأحداث، إلا أنه لا يحدث التمادي في هذا المجال حتى لا تصبح القصة مبعثا للخوف والقلق في نفس المتلقي ، حيث يمكن رد هذه النهاية العجائبية إلى رمزية مقصودة من قبل القاص، ترجع إلى الرغبة في تصويب مسار التاريخ وإعادة الاعتبار للضعيف حتى يبقي منوطا بأمل الحياة والتغيير أيضا.
يتعملق فعل السرد عند الأديبة زوليخا السعودي باستخدامها لتقنيات حكائية تتجاوز مرحلة الكتابة التي كانت تعيشها، وهو نوع من التفرد الذي نقرأه في المنجز القصصي لهذه الأديبة التي وجب التذكير بضرورة قراءتها ضمن السياق التاريخي الذي تنتمي إليه، وسيكون النقد مجحفا إذا أخرجها من ذاك السياق.
3 – تسريد التاريخ والتقاطع معه:
لعلّ أهم ميزة تميز بنية السرد في قصص “زوليخا السعودي” هو ذلك الحضور المكثف للمادة التاريخية، أين يحاول الراوي في كل قصة إعادة بعث تاريخ الثورة التحريرية وما بعدها، وهي بذلك تؤرخ لمرحلة حاسمة في حياة الأديبة، إذ تبحث كل قصة عن تاريخ أولئك الذين استشهدوا من أجل إعادة الاعتبار للزمان والمكان في هذا الوطن إلا أن الفاجعة كانت أكبر جرّاء ما حدث بعد الاستقلال من خيانة وتنكر للماضي.
تُلبس الأديبة أبطال قصصها مرجعية تاريخية بحتة لا تتعدى أن تكون منوطة بالتضحية ومواجهة الاستعمار الفرنسي، تقول في نهاية قصة (من البطل؟): ” سيهتـز ديغول وستهتز فرنسا…. سيسمع العالم أن الثورة الجزائرية ليست مجرد عصابة من المتمردين… “(27)
حيث يظهر في هذه المقطع السردي وكأن الراوي يجنح إلى التأريخ منه إلى الحكي، وهي عملية مقصودة من الأديبة، إذ يمكن أن نقول إن الكتابة الفنية عند الأديبة هي ضرب من التاريخ، أو لسان حال مجتمع عِزّته كلها في تاريخه.
كما تبحث القصة عند “زوليخا السعودي” في اعتمادها على الخطاب التاريخي عن المحافظة على الذاكرة أو إعادة ترميم ما تهدم منها، هذه الذاكرة التي تنكّرت لمبادئ الثورة ولمن دفعوا أنفسهم ثمنا للحرية، حيث نجدها في كل مرة تتطرق إلى الحديث عن الذاكرة ينتاب السرد فيها جنون تطغى فيه التقريرية على الفنية، سرد يبحث عن الواقع ويلغي التقوقع في الخيالي والفنّي، كما يسيطر طيف “أحمد” أخ الأديبة المغتال في عام 1963، على مجمل قصصها، مما يحمل دلالة الاغتيال من تاريخه، وهي الفترة التي لحقت بعيد الاستقلال.
وهكذا تتمكن القصة من استيعاب مجموعة من الخطابات الفرعية النفسية منها والإيديولوجية، وقد تزاوج الخطاب التخييلي والتقريري المباشر في نوع من التكامل والتناسق لتشكل بنية خطابية سردية، “سواء من حيث اشتغال مكوناتها على مستوى الزمن أو السرد أو الصيغة أو البناء أو اللغة الروائية”(28)، ويكون القارئ حينها بصدد البحث عن تلك الروابط التي نسّقت أحيانا بين ما كان يعتبر متناقضا، ولا يصل إلى ذلك إلا بالقراءة المنتجة والفاعلة.
يقوم السرد في قصص “زوليخا السعودي” على مبدأ التداول على الحكي، فمرة نجد القائم بالسرد أنثى تحاول الاحتفاظ بسحر الحكي الشهرزادي، وإن كانت المرأة عادة ما تترك الجملة دون أن تتمها وتميل إلى القفز من فكرة إلى أخرى، إلا أنها لن تفقد القصة تداعيها وانسيابها، وقد يتولى السرد رجلا ليمارس التطاول على فنٍّ أدبي متمردا في ذلك على دور شهريار في الموروث السردي، حيث تحافظ الأدبية على هذه الازدواجية في الحكي لتمزج بذلك بين صوتين مختلفين للغة واحدة.
الدكتور: عبد الحميد ختالة / جامعة عباس لغرور-خنشلة
الإحــــــالات:
1- زهور ونيسي، الرصيف النائم، القاهرة، 1997.
2- زهور ونيسي، من يوميات مدرسة حرة . الجزائر، 1979، ص:18.
3- زهور ونيسي، على الشاطئ الآخر، الجزائر، ط1، 1974.
4- ينظر: جورج طرابيشي، الأدب من الداخل، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط2، 1981، ص:10.
5- ينظر: عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، ج1، المركز الثقافي العربي، ط1، 1996، ص:09.
6- نفسه ، ص:11.
7- مي زيادة، الأعمال الكاملة جمع وتحقيق سلمى الحفار الكزيري، مؤسسة نوفل، بيروت، 1982، ص:155.
8- نشرت في مجلة الفجر، في 15/12/1962، وقد وردت في المجموعة الكاملة للأديبة بعد اثنتي عشر قصة.
9- ينظر: زوليخا السعودي، الأعمال الكاملة للأديبة “زوليخا السعودي”، ص:24.
10- محمد السعودي، هو الأخر الأكبر للأديبة، كان له دور كبير في صقل مواهبها الأدبية، حيث كان يزودها بالمجلات والكتب طوال مدة إقامته بالقاهرة، وهو ما جعل الأديبة تنتفح على الأدب العربي المشرقي، كما كانت لها أراء نقدية عديدة تجاه بعض الأدباء مثل نجيب محفوظ، فدوى طوقان، نزار قباني،… بعد مناقشة ذلك مع أخيها، أغتيل “محمد السعودي” عام 1963، وقد أثر ذلك كثيرا في نفسية الأديبة ثم تجلى ذلك التأثير في أدبها.
11– نشرت هذه القصة مع قصة أخرى هي “من وراء المنحنى” في مجلة آمال، ع1، أفريل 1969. متبعة بتعليق يؤكد تميز الأديبة من حيث الكتابة الفنية، كما أشار محرر المجلة “مالك حداد” إلى إمكانية ترجمة قصة “من وراء المنحنى” إلى اللغة الفرنسية، من أجل أن تقترب القاصة أكثر من قارئها باللغة الفرنسية.
12- زوليخا السعودي، الأعمال الكاملة للأديبة “زوليخا السعودي”، ص:149.
13- نشرت هذه كالقصة في مجلة آمال، ع6، 1970، أنظر الأعمال الكاملة للأديبة “زوليخا السعودي”، ص:176.
14- أحمد دوغان، الصوت النسائي في الأدب الجزائري المعاصر، ص:30.
17- ينظر: أحمد دوغان، الصوت النسائي في الأدب الجزائري المعاصر، ص:34.
18- زوليخا السعودي، الأعمال الكاملة للأديبة، ص:176
19- نفسه ، ص:143.
20- ينظر: نبيلة ابراهيم، نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة، مكتبة غريب، القاهرة، ص:30.
21- تودوروف، تعريف الأدب العجائبي، تر/ أحمد منور، ضمن مجلة المسائلة، ع 4-5، 1993، ص:98.
22- نفسه، ص:104.
23- زوليخا السعودي، الأعمال الكاملة للأديبة، ص:50.
24- نفسه ، ص:52.
25- نفسه، ص: 55.
26- نفسه ، ص: 55.
27- نفسه ، ص: 167.
28- سعيد يقطين: القراءة والتجربة حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، ص: 280.