تحاول هذه الدراسة أن تبحث حضور مدينة قسنطينة في شعر نور الدين درويش، ومتابعة مختلف التجليات التي منحها للمدينة. سيرا على خطى الكتابات الشعرية العربية التي حاورت المدن وتفاعلت معها، مع الانطلاق من أهمية التمييز هنا بين المادي والرمزي /الشعري.
“المدينة ليست وصفا ماديا قائما بذاته، بل هي موصولة علائقيا بنفسيات وأفكار ووضع حضاري معين”(1). من يتأمل المدن عبر الدول سيجد ملمح الحركة والتحوّل حاضرا، عكس فضاءات الصمت والهدوء في الريف.
لكن تبقى لكل تجربة شعرية مميزاتها وهويتها، لأن الإبداع يتأسس على الاختلاف والتباين وليس التقليد، رغم أن المدينة قد جمعت لها دلالات قريبة بين الشعراء.
و”المدينة رمز الثورة والتمرّد، وحتى في أوقات الحروب والمحن تكون المدينة حلبة الصراع والعنف، كما في فترات الاستعمار وتكون المدينة رمز التحرّر وميلاد الحركات التحرّرية والمعارضة السياسية”. (2)
تفتح نصوص الشاعر نور الدين درويش أوراق التاريخ النوميدي والروابط والعلاقات السياسية بين قرطاجنة والبربر.
ونجد أخبار صيفاقس وحروبه مع ماسينيسا الذي حالف الرومان وأعانهم للتمكين لهم داخل افريقيا،(3) كما نجد محطات تاريخية أخرى عديدة عند الشاعر لتتخذّ المدينة دلالات مختلفة. وهذا الحضور التاريخي يفرض على القارئ التوجّه لكتب التاريخ للبحث والتوسّع حول مراحل قديمة خاصة بسيرتا.
أصدر الشاعر الجزائري نور الدين درويش دواوين شعرية..فيها مميزات وملامح الارتباط بالمدينة وكشف علامات الذات والوطن..وهذه وقفة عند تجلي قسنطينة في ديوانه “تحسدها النساء والمدن”.(4)
فما هي تجليات المدينة ؟ ما هي دلالاتها؟ ما هي الأشكال الشعرية التي حضرت فيها؟ ما هي الوسائل الجمالية التي استعان بها الشاعر للاقتراب من المدينة؟ هل حضرت في اللغة الفصحى فقط أم حضرت في التعبير اللغوي الشعبي العامي؟.
التجلي الرومانسي
تعانق قصائد الديوان أسرار وخصائص وروح مدينة الجسور المعلقة سيرتا / قسنطينة، بالشرق الجزائري، ويجعل الشاعر من كل حرف نبضا لقول المحبة والعشق. ولا يمكن فهم معاني نص المحبة دون الدخول في حضرة عيساوية (من الطرق الصوفية)، من جذور المدينة وذاكرة الإنسان وعطر الفن، ومن ممارسات الطقوس الدينية في فضاءات وشوارع المدينة..
لقد كتب قصيدة “سيرتا”، وهي منشورة في ديوان سابق للشاعر هو “السفر الشاق” – 1990، والقارئ بحاجة لمعرفة زمن النشر وزمن الكتابة لكي يعرف التطوّر الدلالي للمدينة في نص وذاكرة ووعي الشاعر. يقول:
سيرتا أيا قبلة العشاق ها أنذا أعود، ها قد عدت، ضميني
ضمي حبيبا أتاك اليوم معتذرا وذكريه بأي العصر والتين
وبالطيور التي غنت لنا زمنا وبالعيون التي كانت تغذيني
“وادي الرمال” وذاك الجسر أوحشني فجلسة في “جبال الوحش” تشفيني
أهواك سرتا ،أجل أهواك ملء دمي لا غٌربة الدهر، لا الترحال ينسني(5)
وإذا كانت أشعار نزار قباني عن دمشق وبيروت وتونس تغري القارئ العربي لزيارة هذه المدن. فإن أشعار درويش عن قسنطينة تغري بالزيارة، وتمنح القارئ العربي الكثير من ملامح الذاكرة، الهوية وعطر الأرض، الوطن و سمات الشخصية، حب التحرّر والحرية.
يمنح الشاعر نور الدين درويش المكان علامات وملامح إنسانية، لتصبح متحركة، (ضميني، تشفيني..) ولا يتحقق هذا إلا بالمقدرة الابداعية المتفرّدة، التي تستطيع المزج بين الخصوصية الذاتية والخصوصية الجماعية.
وهنا يتحوّل المكان الجغرافي لمكان شعري، و”اللحظة المكانية هي إغراق في المكان من جهة، واستغراق في الزمان من جهة أخرى.
وهكذا تتشكل العناصر التالية الشاعر (الأنا)، المكان، الآخر (النحن)، الزمان، فيكون الصوت والصدى في المكان نفسه” (6).
ويواصل شاعرنا:
أهواك جهرا أمام الناس أعلنها أهواك سرا أخاف الغير يغويني
البعد نار وما أدراك ما ألمي البوح يقتلني حينا ويحييني
أنت الهوا والهوى دمعي سيفضحني ماذا أقول وقد فاضت براكيني
أهواك، مالي سوى عينيك بوصلة ردي إلى القلب دفء الحب رديني(7)
يكتب نور الدين درويش عن مدينته بروح البراءة وجمال ملامح القرية، بمعنى أنه يعيش جدل الحضور الجسدي في المدينة والقلبي في القرية. ويريد أن يمنح المدينة تجليات الصفاء والطهارة والمحبة، بدل الصراع والعنف والفوضى. وإن القرية في النصوص الشعرية هي التي تربط المعنى “الانسان بالأرض، فتنفتح أمام القاري دلالات الطهارة والخصوبة والنماء، بعيدا عن زيف المدينة وصراعاتها وخرابها “موتها.
ومن يتأمل الخطاب الشعري العربي عن المدينة سيجد تأرجحا فكريا وفنيا بين الأبعاد العاطفية والمجردة وبين الأبعاد المادية الواقعية، كما يجد تفاعلا لمعاني الحلم والمستقبل والأمل، مع معاني الراهن والخراب والحزن والألم.
وهو ما وجدناه عند شعراء العراق (عبد الوهاب البياتي) وبلاد الشام (نزار قباني، خليل حاوي، درويش..) والخليج (غازي القصيبي، عز الدين المقالح..)..
وعرف الشعر العربي حضورا للمدينة ومعها مشاهد الإشراق والوجد الصوفي لقهر ظلام الاغتراب في المكان، وعاد الشعراء لزمن الطفولة لاستعادة الزمن الضائع.(8).
الحكي الشعري التاريخي
ونقرأ قصيدة مطولة بعنوان “سرتا الهوى والصلاة”، على طريقة الشعر السردي التاريخي الذي يمنح الأبعاد الدرامية أمام القارئ.
إن القصيدة مؤرخة بمارس 1993، وسبق نشرها في ديوان “مسافات”، وهي رحلة في ذاكرة المكان القسنطيني، ليس بتركيب الكلمات وجمع الأحداث، ولكن برؤية شعرية تبحث عن أمر ما، وتريد الاقتراب من الراهن عبر توظيف الماضي.
فالمكان “يحمل ذات الشاعر لأنه ارتفع به من مجرّد حيز جغرافي جامد إلى حيز لغوي ينبض بالحركة والحياة وثقافة الجماعة، وحتى وإن تشابهت الأماكن من الناحية المادية والطبوغرافية، فإنها تختلف روحا ودلالة وإثارة للآخر”(9).
وجاء الاستهلال الشعري هكذا:
هنا كان من ألف عام
وكانت له ذكريات
هنا أشعل الفذُ فانوسَه وأحب الحياة
مضى كلٌ عشاقها في السنين
ولكنه لم يزل
واقفا في ثبات (10)
وتعلن القصيدة سفرها في التاريخ الأمازيغي في ظل الاحتلال الروماني، ويأخذ النصُ القارئ لمحطات تاريخية كثيرة، وتتلاحق الشخصيات والأحداث.
ويضطر القارئ للبحث في كتب تاريخ المدينة ليعرف الحقائق، فنجد يوبا، يوغرطة، الكنعانيين، النوميديين، الكاهنة..ولا حل للقراءة لا بالمعرفة التاريخية (11)
وقد وظّف الشاعر شخصيات أمازيغية (يوغرطة، ماسينيسا، يوبا الأول..) وأخرى رومانية (قسطنطين..) في كثير من شعره، فاتحا الأفق الشعري على الصراعات حول الحكم والخيانات والدسائس، وفاتحا عوالم النص على الحروب والعلاقات السياسية والهزائم والانتصارات، وكأنه يكتب إلياذة المدينة، تقول القصيدة:
هنا أضرمت نارَها الثوراتُ
هنا خفقت بالهوى النبضاتُ
مضى كل عشاقها في السنين
ولكنه لم يزلْ
نافخًا صدره
شاهرًا سيفه
يتحدى الرواة (12)
ويتماهي الذاتي مع الجماعي، وتصعب القراءة في محاولات اقترابها وتأويلها، فهل الشاعر يبحث عن بطل أمازيغي؟ أم أنه يبحث عن راو للتاريخ ؟ أم يبحث عن ذاته في التاريخ؟ أم يبحث عن رجال قسنطينة الراهن؟؟، نقرأ من القصيدة إحالات لحوار بين الشاعر و هيكل مجهول، ثم لحوار مع الهدهد:
مضت دونه الريح والسنوات
وإني أغار
لعلّ الذي قيل مات اختفى
بين غاباتها والجسور
…..
تعبتْ في قراءتك الكلمات
أنا المسلم العربي
فمن أنت يا هيكلا مَنْ تراك؟؟
هو الليل منتصَف الليل عما قريبْ
لِمَ لا تجيبْ
أنا الآن في حاجة للصراخْ
ولي رغبةٌ
في اقتلاعكْ
….
أنا ليس لي من رسول سواكْ
لكَ الله ياهدهدا سافر الآن عبر السنين
سلْ الأرضَ والنبضَ
سلْ قبر يوبا
و”تيديس” سلْهم
“قسنطينة” لي أنا
أم لهذا السجين؟(13)
وقد رأى بعض الباحثين أن الشاعر درويش قد تفاعل مع نص سابق لصلاح عبد الصبور “أحلام الفارس القديم”، ومنه قوله:
قد كنتُ في ما فات يا فتنتي محاربا صلبا
وفارسا هُمام
من قبل أن تدوس/ في فواحي الأقدام
وكنتُ إن ضحكتُ
صافيا،كأنني غديرُه
يفتر عن ظل النجوم وجهُهُ الوضئ
ماذا جرى للفارس الهمام / انخلع القلبُ،
وولى هاربا/ بلا زمام/
وانكسرت قوادمُ الأحلام (14)
وقد اطلعنا على كامل قصيدة عبد الصبور، ووجدناها عن المرأة والطبيعة، والشوق لزمن الربيع وجماله والتألم لوضع البؤساء، وفيها الغرائبية والخوارق، والشاعر عبد الصبور كان حريصا على كتابة نص الحب، و الدليل ختام نصه:
“لو لم يُعدُني حبُك الرقيق للطاهرة / فنعرف الحب كغصني شجرة /
كنجمتين جارتين/ كموجتين توأمتين
مثل جناحي نورس رقيق / عندئذ لا نفترق
يضمنا معا طريق/ يضمنا معا طريق(15)
فالفضاء النصي الدلالي مختلف بين نص نور الدين درويش وصلاح عبد الصبور، ويجمع بينهما صيغة “الفارس الهمام”، فكيف نتحدث عن التناص هنا؟؟ إن المسألة أكبر من كلمة أو كلمتين، إنها عملية تحتاج الحوار الفكري / الوجداني واستدعاء العالم التركيبي ومعه المعاني، عبر كلية النص وليس عبر جزئية اقل من الجزء.
وقد يكون نور الدين درويش اطلع أو لم يطلع أساسا على هذا النص وغيره، ويبقى البحث عن الفارس المجهول المنتظر/ المخلص هو من روح وفضاء الدلالات المشتركة عربيا وعالميا عند المبدعين وعند الفلاسفة، وهي رؤية مذهبية دينية بالأساس.
ونص درويش ملحمي / تاريخي وعابر للأزمنة (من الحاضر للماضي)، بينما نصّ عبد الصبور رومانسي حالم، والأول نص جماعي بينما الثاني نص ذاتي. أو لنقل النص الدرويشي يتجاوز الذات ليعانق المشترك الجمعي، بينما نص الشاعر المصري ينطلق من الذات ليتجه للطبيعة ثم يعود للذات.
وللشاعر نور الدين درويش الكثير من نصوص التفاعل والتأثر، غير هذه القصيدة التي حاور فيها التاريخ القديم.
ويمكن للقارئ البحث عن النصوص وتأملها، ومن ثمّة فالمصادر الثقافية المختلفة تحضر في لحظة الكتابة الشعرية، وعلى القارئ اكتشاف التناص والتفاعلات والتأثيرات، و”من خلال التناص مع القرآن الكريم والأشعار العربية والشخصيات التراثية نستشف الثقافة التي يتمتع بها الشاعر نور الدين درويش والتي قام باستغلالها لما يتلاءم مع موقفه وتجربته الشعرية واستند إليها في إحالته المتعدّدة، مما أكسب نصوصه الشعرية ثراء وعمقا وتنوعا”. (16)
وقد استغربنا عدم العودة لشعر درويش في بعض الكتب التي بحثت حضور التناص في الشعر الجزائري (17)، رغم أن نصوص الشاعر تستدعي نصوصا كثيرة.
يكتسي درويش في قصيدته المعاني المتجدّدة و الملامح التاريخية الأخرى:
سآتيك يا سيدي باليقين
هو الليل
مولاي إني أرى فارسا في الظلام
هو المسلم العربي الهمام
يشد اللجام
كسيلةُ في حصنه يرقب الخطوات
و”دينار” آت
هو الحب مولاي
إني أرى برقَه في العيون
له اهتزت الأرض والأنجم اللماعات
هو الحب سرتا اقرئي مرتين
فإنه من عند عقبة
إنه باسم الهوى الخالص البكر
سرتا أسلمي
يؤتك الله اجر الهوى مرتين
قسنطينة اختارت العاشق الأبدي(18)
وهكذا تبدأ معالم النص في الاتضاح، ويبدو الشاعر قد دخل عوالم روحية صوفية وعانق قطبا من أقطابها في الزمن القسنطني القديم.
وقد عُرفت المدينة بعلمائها وصلاحها وشيوخ الصوفية (19)، فيعتمّد الشاعر تكرار كلمة مولاي، وكان اللقاء الروحي عبر توالي زمن الليل، ليخرج الشاعر على الناس/ القراء بنص طافح بجلال التاريخ وعبر الماضي.
إن كشف ما يقوله المكان في الشعر صعب، و”المكان في صلته بالذات المبدعة والمتلقية، يتخذ من الصفات المتشابكة ما يجعله من المقولات الأكثر تعقيدا على مستوى المعنى والمبنى وأن فكّ هذه العلاقات يقتضي من الدرس التحليلي أن يسترفد سائر المعارف التي أنتجتها العلوم الانسانية لفكّ ألغازه”( 20).
ولفهم قصيدة درويش لا يمكن الاكتفاء بالحدود التاريخية أو الجغرافية للمكان القسنطيني، ولكن – كما رأينا – يتعدى الأمر للأفق الميتافيزيقي الكبير، في ظلّ حضور المعجم الصوفي والإشارات الذاتية، ضمن مساحة أسلوبية تبتعد عن التقرير.
وقد اعترف الدكتور عبد الملك مرتاض – في معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين – للشاعر نور الدين درويش بالمقدرة اللغوية وجمال النسج الشعري.
والنص/ الإلياذة يواصل متعة البحث في شوق المكان مع حركة الزمن ووصولا للفجر، أمام صوت شعري حالم وهيكل حجري يصر على البقاء ليقول مجد التاريخ للأجيال، وتنتهي القصيدة:
هو الفجر يا ملك الروم
هل أنتَ تسعني
آه.. لا وقت لي الآن
إني على موعد بالحبية “سرتا”
و”سرتا” على موعد بالصلاة (21)
وكأني بالشاعر اختار المزج بين المحبة واللمحة السالشاعر الجزائري نور الدين درويش ياسية الدينية في نصّه، فاختار الاسم القديم للمدينة”سيرتا “بدل “قسنطينة”، ليقول “الصلاة” في ظلّ تحولات مجتمعية وسياسية كبيرة شهدتها الجزائر في زمن كتابة القصيدة.
وظهور النقاش حول مشروع المجتمع والسجال بين المشاريع الثقافية والبرامج السياسية، فمنح النص الصوت الفكري دون الوقوع في التقريرية.
ولكن بالترميز الذي يصعب التأويل ويفرض على القراءة فكّ الشفرات والانتقال بين البنى الظاهرة والعميقة، والمزج بين الأحداث للتمكّن من تجاوز النص المغامر والناص المراوغ.
التماهي في المدينة
وقصيدة “يحسدني” (نشرها في ديوان “البذرة واللهب”، دار امواج -” 2004، وهي غير مؤرخة)، تعتمد التكرار وما فيه من أبعاد صوتية وتركيبية ودلالية.
ويمكن للقارئ أن يستحضر توظيف الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة لصيغة أحسد في قصيدته الخالدة “حيزية عاشقة من رذاذ الغابات”، فيبدو تأثر الشاعر درويش بها وتناصه (من التناص) مع تراكيبها. وإن كان المناصرة يحسد عشاق حيزية (اسم إمراة في قصة حب شعبية جزائرية)، فإن نور الدين درويش يبدع في الكتابة عن حساده في حبه لقسنطينة.
يقول الشاعر عز الدين المناصرة:
أحسد الواحةَ الدموية هذا المساء
أحسد الأصدقاء
أحسد المتفرجَ والطاولات العتاق
أحسد العاصفة
حنايا الفضاء
أحسد الخمرَ منسابةً وعراجينَها في ارتخاء
وابن قيطون أحسده عاشقا
أحسد الخشبَ الصدفي الذي لا مسته أصابعُها
أحسد الشعراءَ الرواة الذين رأوها (22)
ونقرأ من قصيدة نور الدين درويش:
قد يحسدني التاريخ
ويحسدني الزمن الممتد وأحفادي
قد تحسدني الأنهار
وتحسدني إن بحت الوردة والأطيار
….
قد يحسدني الشعراء
ويحسدني الغاوون وأصحابي
…
قد تحسدني المدن الأخرى
قد تمنحني فرصا أخرى
وتبالغ في الإغراء لإبعادي
…
قد يحسدني السلطان فيبعدني
قد يلغي كل مواعيدي
قد يسجنني (23)
ويواصل سفره الشعري ونصه الذاتي المتوهج بروح المكان/ قسنطينة وجلال المعنى /الهوى، وعندما نقرأ شعر نور الدين درويش عن قسنطينة في هذا النص وفي غيره، تتجاذبنا مجموعة أبعاد:
– البعد المكاني الجغرافي والمادي يريد الاقتراب منه لمعرفة راهنه.
– البعد التاريخي بشخصياته وأحداثه، يريد العودة له لتتبع محطات المدينة في الزمن.
– البعد الفني والجمالي،يدفعنا للبحث في عناصره ومكوناته اللغوية والموسيقية والتصويرية لأنها هي جوهر/روح الشعر.
ولا أخفي على القارئ أني تخيلت الفنان التونسي لطفي بوشناق يتغني بهذا النص في لحن طربي جميل، كما سمعت صوتا هامسا يترنم بكلمات القصيدة. هو قريب من صوت المطرب الأصيل الملتزم فؤاد ومان (هل يمنح درويش نصّه للمطرب الملحن لعنا نستمع لأغنية طربية قسنطينية؟؟).
وبالعودة للنص، نقرأ دلالات الحزن على راهن المكان:
ما عاد بوسعي أن أحميك وأحميني
ما عاد بإمكاني أن أصنع من عود سيفًا
وأشق دروبي وسط الأوغاد
البوح يكلفني عمري
فحذار.. حذار
فأخشى ما أخشاه علينا كيد الحساد
نامي إن شئت بذاكرتي
أوفي قلبي
يكفيك حضورا أنك في قلبي،
أن اسمَك في شعري
وعلى شفتي وشهادة ميلادي (24)
قسنطينة والشعر الشعبي
لسنا ندري إن انتبهت سلطات المدينة لكي تكتب على جدرانها بعضا من شعر نور الدين عن مدينته وعن جمالها، وهو الذي كتب الجمال عبر لغة عربية فصحى وعبر الشعر الشعبي كذلك، من خلال نصّه الخالد “قسنطينة نارها قدّات”، وقد وضعها في الديوان.
ولعلّها تجربة لافتة في الشعرية العربية أن نجد ديوانا يجمع بين الفصيح والشعبي، بعد أن نقرانا في الشعر الحداثي توظيفا للعامية بكلماتها وأغانيها في القصائد (البياتي، محمود درويش، عز الدين المناصرة، صلاح عبد الصبور عبد المعطي حجازي..).
إن مطلع القصيدة الشعبية لدرويش هو:
سيرتا نيرانها قدات راه قلبي محيّر
تفكرت أيام الصغر تواحشت القعدات
ياكْ باب القنطرة أدّاتْ عُمري لمخيّر
الله يرحم احبابْنا وجميع اللّي مات (25)
وسيكون هذا المقطع هو اللازمة المتكرّرة في كامل القصيدة، لثماني مرات،علما أن القصيدة قد تحوّلت لأغنية شعبية جميلة، بتلحين وأداء محمد حمدي. وفيها رحيل للتاريخ وحوار عاطفي مع الأمكنة وتفاعل مع الثقافة المادية واللامادية للمدينة.. وإني أدعو لكتابتها بمطار المدينة، وإسماعها لضيوفها في إطار التسويق السياحي الثقافي.
لكننا نتساءل: لماذا اختار الشاعر في عنوان القصيدة الاسم المعاصر للمدينة (قسنطينة) بينما جاء البيت الأول بالاسم القديم (سيرتا)، وعندما تحوّلت لأغنية تغنى الشاعر والفنان بالاسم المعاصر (قسنطينة). كما أن العنوان جاءت فيه صيغة “نارها” وفي البيت الأول “نيرانها”؟؟.. الجواب في قلب الشاعر، لكن ربما للأمر علاقة بالتسويق الفني والانتشار فقط.
إذا تأملنا القصيدة سنجدها تتوقّف عند معالم وأماكن كثيرة، كما توقفت عند الأحداث والشخصيات التي شكلت ذاكرة المدينة وتحولاتها الحضارية والثقافية والسياسية.
1- الأماكن:
– قسنطينية: باب القنطرة، الجسور، سيدي مسيد،وادي الرمال، جبل الوحش، سوق العصر الفوبور..
-أجنبية: غرناطة
2- الشخصيات:
– من التاريخ القديم في الزمن النوميدي ثم الفتح الاسلامي، ثم العهد التركي: قسطنطين، دينار، عقبة، طارق، عروج، خير الدين، الباي..
– من التاريخ الحديث والمعاصر: ابن باديس، مالك بن نبي، الفرقاني، التومي.
ويحيلنا النص لتفاعل الأديان وللتعايش الحضاري والتسامح الديني الثقافي، نقرأ هذا المقطع:
في سيرتا عاشت الاديان خلال قرون غابره
ناسها غير فلان وفلان صفحة الاعلام ذاكره
تسبي بزينها الانسان بذيك النظره الاسره
رغم الجحود والنسيان تبقى التحفة النادره (26)
ومن ثمّة فإن الرموز تتلاحق أمام القارئ لتنفتح أمامه جماليات الأمكنة والموروث، ليصبح كل حدث رمزا لدلالات متعدّدة، ولا فرق هنا بين الفصيح والعامي.
و”تزخر القصائد الدرويشية بالعديد من الرموز التي دلت في سياقها على دلالة خاصة خلقها الشاعر لتتفق مع السياق العام للتجربة، بما يدل على ابتكار وتعال مع اللغة، بوصفها منهلا بكرا غفلا من الدلالات السابقة” (27).
يصنع الشاعر مدينته في عالم لغوي، والكتابة الشعرية ليست خطابا وعظيا أو فلسفيا، وإنما تخييل، ولا يجب أن نبحث عن المدينة الحقيقة في النص لأننا سنجد مدينة شعرية قد تخالف المدينة الواقعية وقد تلتقي معها. لذلك استعمل درويش جملة “رغم الجحود والنسيان”، فهذا إحالة للبعد النفسي للعلاقة مع المدينة، وقد جاء الشطر الثاني بجملة “تبقى التحفة النادرة”.
تسافر القصيدة في كثير من ملامح الثقافة المادية، وفيها المشروبات والمأكولات والحلويات التقليدية ومنها: القهوة، التاي، المقرود، لغريبيا، البقلاوة زرير، كسرة المطلوع، الجاري، شباح الصفرا.. ونجد الصناعات التقليدية والعادات والممارسات الحرفية المهنية اليديوية،ومنها: سينية النحاس، تقطير الزهر، القفطان..
نقرأ من القصيدة:
سجيوا لضيفها الشهير القهوة والسكر والجوزية الفاخرة
اللاتاي كاسو صغير مقرودْ مشحّرْ
لغْريبييا قنديلاتْ بقلاوة و زْريرْ
سينيا نحاسْ يا نْظيرْ والزهر مقطّرْ
طمينة اللوزْ حاضرة
قًطيفة خيطها حْريرْ قفطان موبّر
هذي العادة السايدة ما لها تغيير(28)
ومن دلائل بحث شعر نور الدين درويش عن دلالات الحياة و الأمل توظيفاته الفنية / الفكرية العديدة لرموز طبيعية فيها الحركة والتفاعل والخصب (النار، المطر، المرأة..)، ويحضر الصوت الرومانسي في شعره الشعبي، نقرأ:
نترك في جبالها الأصحاب سيرتا من بكري حبي
نغلق من خلفي الأبواب لها برك نفتح قلبي
في هواها نشرب الأكواب سكري ما هو من عنبي
بعضي حاضر بعضي غاب ضاع لي في صلاتي حسبي
نقطع لجبال يا مليح والريح تصفّر
ياك العشيق ما تصده نْيابْ اللبًّاتْ
ماحلا لي نوم لا مديح ديما نتحسرْ
قلبي مُولُوع بالهوى ناره ذكرياتْ(29)
أكاد أقول أنه لو مرض الشاعر نور الدين درويش (لا قدر الله المرض، وعافاه ومنحه الصحة) فعلاجه في رحلة عبر أزقة وشوارع قسنطينة. وجلسة مع الأحباب بمقهى حي باب القنطرة، ودلينا النصي اليوم والسياقي غدا في قوله “نغلق من خلفي الأبواب.. لها برك نفتح قلبي”.
واعتمد الشاعر تقنية معروفة في الشعر الملحون والشعبي وهي ذكر اسمه وسيرته، وأرفق معها اسم المغني الذي سيتغنى بالقصيدة:
صاحب لبيات يا مليح من أهل الهمه
حياة الرياس صارمة
كتبتْ الملحون والفصيح راس ماله كلمه
في بحر عميق هايمه
حمدي مولوع بالمديح عايش بالحرمه
عَرصَاتْ الدار قايمه
فنان صحيح ما يطيح سَجَّى لمْرمَّه
جْميعْ الجهات عالمه (30)
وقد سجلنا ملاحظة هامة وهي أن المقطع الأخير من القصيدة قد عاد لزمن الأزمة الجزائرية في التسعينات، وكنا نفضل أن لم يغامر شاعرنا في هذه المساحة الزمنية الدموية، لأن القصيدة تنشد البشائر والجمال والحركة في المكان، ويأتي مقطع الألم / الدم ليحوّل معانيها ودلالاتها نحو الثبات والجمود والحزن.
جاتنا بسمومها الريح غمتنا أزمه
كل الأجواء غايمه
هذا طريح هذا جريح في نفس الحُومه
ناضَتْ الأجيال ناقْمَه (31)
كما لم نجد توقفا عند زمن الثورة التحريرية رغم ما في هذا المشهد من بطولات وأمجاد، ومع هذا يبدو أن الفنان محمد حمدي انتبه لهذه المسألة وتجاوز تراكيب / معاني الألم عندما كرّر في الأغنية السطر “خرجت لبلاد سالمة” ثلاث مرات.
كما أننا وعند الاستماع للأغنية ووجدنا مقطعا جديدا لم يضعه نور الدين في قصيدة الديوان المنشور، ولسنا ندري لماذ؟؟
وعند التواصل مع الشاعر درويش أخبرنا بأن المقطع هو من قصيدة أخرى مستقلة فصيحة عنوانها “أرض الجدود”، منشورة في ديوانه للأطفال الموسوم بـ”روضة التلميذ”.
وبهذا يكون الشاعر قد مزج الشعبي والفصيح في نص واحد، وهي ممارسة شعرية تجريبية تُعدِد الأشكال والموضوع واحد، وهذا الأمر صعب إبداعيا، كما يصعّب القراءة والأداء اللحني الموسيقي عند الغناء، فيكون درويش قد اتعب القاري والمطرب، بخاصة عند حدوث التغيير الإيقاعي والانتقال البنوي الفني، لكن المستمع للأغنية قد لا ينتبه للتحوّل الموسيقي، لأن المعاني المكانية – الوطنية واحدة.
وفي المقطع المضاف للأغنية فيه عودة لبعض تجليات المقاومة الشعبية والثورة التحريرية والحركة الاصلاحية بذكر بعض الرموز الوطنية (الأمير عبد القادر، العربي بن مهيدي، مصطفى بن بو العيد، زبانة رضا حوحو، البشير الابراهيمي، ابن باديس). وفي المقطع تأكيد للعروبة والاسلام بالجزائر.
من أبيات المقطع المضاف للنص الشعبي:
هذه أرض الجدود أرض أمي وأبي
أرض أفذاذ أسود أرض أحباب النبي
نحن حراس الوطن في الرخا والنوّب
نحن جربنا المحن لا نهاب الأجنبي
إذن قصيدة “قسنطينة ناراه قدات” هي قصيدة الحنين للمكان والتاريخ والثقافة الشعبية، ويكون الحنين للتاريخ المجيد في زمن أزمة الهوية في المجتمع، عندما يكون الشعور الجماعي بحالة الضياع الثقافي الحضاري. وبحالة استشعار زمن سقوط الوطن وانهيار قيمه ومؤسساته،فيلجأ الشاعر للتاريخ/ الأجداد بحثا عن العلاج الفردي – الجماعي.
ويحتاج القارئ هنا لمعرفة كبيرة بالتحوّلات الراهنة وبالمآلات السابقة في أزمنة قديمة، ليتمكّن من معرفة طبيعة التوظيف التاريخي والحكم عليه بالنجاح أو الفشل وبحضوره السطحي أو الرمزي، ومساحات الحقيقي والمتخيل في الإبداع الأدبي.
الخاتمة
تتحوّل الأمكنة في الإبداع لأمكنة حيّة متحوّلة، ويمنحها الشعر القيم والعواطف الوهج، ويزداد الوهج مع الوطن، وجماليات الوطن كثيرة عديدة، ويستدعيها الشعراء بأشواق الكلمة وتحنان المعنى، لكتابة صورة جديدة للأجيال، تؤكد الارتابط بعطر تربة المجد والشرف، بخاصة في المكان الجزائري الثائر عبر الأزمة والرافض لكل محتل غاصب.
ندعو القارئ لمواصلة تأمل وتأويل النصوص في الديوان، ففيها ملامح جمالية وفكرية وتاريخية لم نتوقف عندها، وفيها رمزيات الخلود والبقاء، وفيها النفس السردي وفيها الانتقال بين التقرير / المباشرة والترميز/ المجاز، وفيها محطات التاريخ القديم للمدينة..
تجربة الشاعر الجزائري نور الدين درويش متميزة في تاريخ الشعرية الجزائرية، لأنه كتب نصوصا بأدوات التعبير الموسيقي التقليدي والحر،وأبدع في الفصيح والعامي. وحقّق حضوره البهي باقتدار ليس في عوالم الأساليب والمتخيل فحسب بل في فضاءات المشهد الثقافي بمدينته قسنطينة وكتب حبه لها كما كتب دفاعه الأصيل عن هوية وطنه ومرجعياته الثقافية.
د – وليد بوعديلة / جامعة سكيكدة
المراجع:
1 – بن حليمة صحراوي: مفهوم المدينة بين السوسيولوجية الغربية والعمران الخلدوني، مجلة فكر ومجتمع، عدد2، أفريل 2009، ص49.
2 – المرجع نفسه، ص51.
3 – انظر صالح فركوس: المختصر في تاريخ الجزائر من عهد الفنيقيين إلى خروج الفرنسيين،دار العلوم، عنابة، الجزائر، 2002، ص14 وما بعدها..
4 – نور الدين درويش: تحسدها النساء.. والمدن، منشورات فاصلة، عين اسمارة – قسنطينة 2017.
5 – الديوان،ص15.
6 – محمد الصالح خرفي: جماليات المكان في الشعر الجزائري المعاصر، أطروحة دكتوراه،مخطوط، جامعة منتوي قسنطينة 2006،، ص113.
7 – الديوان، ص16.
8 – انظر قادة عقاق: دلالة المدينة، اتحاد الكتاب العرب، سوريا،2001،ص23 و ما بعدها.
9 – محمد الصالح خرفي، جماليات المكان، ص115.
10 – الديوان، ص17.
11 – انظر صالح فركوس: المختصر في تاريخ الجزائر من عهد الفينيقيين إلى خروج الفرنسيين،دار العلوم، عنابة، الجزائر، 2002،ص 14 و ما بعدها.
12- الديوان،ص18.
13- الديوان، من ص 18 الى ص21.
14- صلاح عبد الصبور:قصيدة أحلام الفارس القديم،من الموقع الالكتروني موسوعة الشعر العربي.
15- المرجع نفسه.
16- تغليسية آسيا:فعالية النص الغائب في الخطاب الشعري عند نور الدين درويش،مجلة المخبر-أبحاث في اللغة والأدب الجزائري-جامعة بسكرة،عدد6-2010،ص109.
17 – لم يشر كتاب جمال مباركي عن “التناص وجمالياته في الشعر الجزائري المعاصر”،منشورات جامعة باتنة 1997، لقصائد نور الدين درويش.؟؟
18 – الديوان 22-23.
19 – انظر عبد العزيز فيلالي: مدينة قسنطينة في العصر الوسيط دراسة سياسية عمرانية ثقافية، دار البعث، قسنطينة، دت، وانظر كذلك عبد الله حمادي: دراسات في الأدب المغربي القديم، دار البعث، ط1،1986،
20 – حبيب مونسي: فلسفة المكان في الشعر العربي،اتحاد الكتاب العرب ، سوريا، 2001، ص127.
21 – الديوان، ص24.
22 – عز الدين المناصرة، الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،لبنان،2001 ص535 – 536.
23 – الديوان، ص25 – 26.
24 – الديوان، ص27 – 28.
25 – الديوان، ص64.
26 – الديوان، ص 67.
27 – بومالي حنان: حضور الرمز في شعر نور الدين درويش، مجلة العلوم الاجتماعية والانسانية، جامعة تبسة، مجلد 10، عدد3، ص203.
28 – الديوان، ص68.
29 – الديوان، ص69.
30 – الديوان، ص73
31 – الديوان، ص74