في اللقطة النهائية لفيلم “the big short” (إخراج آدم ماكاي 2015)، وهو فيلم عميق وهام يعرض بشكل جميل طبيعة الأزمة المالية التي سرطنت الحياة الاقتصادية في العالم بدءا من عام 2005، والتي أفضت على الأزمة المالية ذات الأصداء المتعدّدة (من 2008 إلى 2016)، تقدم إحدى الشخصيات خلاصة تراجيكوميدية لما سيحدث.
“كنا على علم بأنه بعد السقوط الصاعق لعدّة بنوك بشكل غير مسبوق، وبعد انكشاف خديعة الرهون العقارية غير المضمونة subprimes كنا على يقين أنه لا أحد من الفاعلين سيعاقب لأن سقوط الأشخاص سيؤدي إلى سقوط المنظومة. ولا أحد يملك الشجاعة الكافية لذلك الأمر. وكنا نعلم أن اللوم في الأزمة الاقتصادية سيقع على المهاجرين وعلى المسلمين خاصة. وكنا على يقين بأن حل الثقوب المالية الكبرى سيكون من خلال تفجير حروب جديدة في عدة أماكن من العالم، ومسح الفواتير الباهظة للأزمة على ظهر الإرهاب العالمي.. وذلك ما حدث فعلا”.
منذ شهرين أو ثلاثة ظهرت فضيحة من الوزن الثقيل، فقد ظهر كتاب المحامية كاميل كوشنر “la familia grande” الذي تعرض فيه سرا ثقيلا يجرّ في أعقابه كثيرا من حجارة وادي الجهاز السياسي الحاكم في فرنسا..
التهمة المباشرة موجّهة للسياسي والحقوقي والإعلامي الكبير أوليفيي دوهاميل Olivier Duhamel الذي هو أحد أكبر المحاضرين في القانون في فرنسا. بل إنه أحد أهم المشرعين في البلاد، والذي هو أحد الوجوه البارزة في أكثر المدارس عراقة ومجدا: معهد العلوم السياسية (فقد درس دوهاميل ثلاثين سنة في هذا المعهد الذي يعد مشتلة حقيقة لتفريخ المسؤولين الهامين والساسة المبرزين في الدولة الفرنسية). والذي هو ـ وهذا هو الأهم – رئيس نادي لوسياكل le siècle ذو النفوذ الواسع جدا في ميدان التوجيه الإعلامي؛ أي التوجيه السياسي.
ما مهمة هذه الحلقة (أو هذا النادي) التي لا يدعى إليها إلا خاصة الخاصة، من رجال المال والسلطة بوجوهها المتعدّدة؟
في وجبة العشاء الشهرية لهذا النادي يتمّ التداول بين الصحفيين ورجال البنوك والثروات الأعلى في البلاد وجيوش كثيفة من المدراء العامين والأمناء الهامين، ورجال القانون والمستشارين القانونين ورجال اللوبيات الهامة حول كل المسائل التي ستتحوّل إلى قوانين يتفق حولها الجميع. أو إلى مسائل تملأ الإعلام ويتناولها الجميع..
بين طاولات هذا العشاء الهام يتمّ إملاء مختلف التوجهات الايديولولجية للبلاد التي تريدها أوليغارشيا حاكمة بوجوه متعدّد وإرادة موحدة تبدو صادرة عن قلب رجل واحد على مختلف الممثلين الاعلاميين الناطقين بها، والذين غالبا ما يكونون في غاية السعادة لمجرد دعوتهم إلى ذلك العشاء الهام..
أوليفيي دوهاميل هو رئيس هذا النادي، رجل السلطة الذي سبق له أن مارس مهام النائب الأوروبي، والممثل اللامع للحزب اليساري، وكثيرا جدا من المهام السياسية التي تخوّل للرجل أن يقدّم دروسا في الحياة والتفكير لجمهور تعداده بالملايين.
تفضح كاميل كوشنر في كتابها الصاخب هذا الرجل ثقيل الوزن، وتبين كيف أنه قد ظلّ مطولا يعتدي جنسيا على ابن زوجته غير البالغ، والذي ظلّ صامتا خوفا من تفجير العائلة وجرّ زلازل لا يستطيع تجمل عواقبها.
وهو سلوك فضحه الأطفال (الضحية وأخته التي كان قد وضعها الفتى المعتدى عليه في دائرة السر محاولا الاستعانة بها لجعل زوج الأم يكفّ عن فعله المشين) أمام أمهم التي فضلت تهدئة الأمور، قبل أن يخبروا خالتهم التي هي الممثلة الفرنسية الشهيرة “ماري فرانس پيزيي” التي انتحرت في أعقاب هذه الأزمة. قبل أن يخبرا أباهم الذي هو الطبيب الوزير الذي ساهم ضد بلاده في الحرب على العراق ذات عام بعد استوزاره عدة مرات، برنارد كوشنر.. ولكن الأب فضّل التستر على الأمر أيضا لتجنّب الفضيحة.
من الغريب الذي فجّره كتاب المحامية أن جميع معارف العائلة كانوا على علم بالأمر، وأن الأغلبية الساحقة لهؤلاء الذين هم من علية القوم ومن الأوساط السياسة النافذة فضّلوا المحافظة على علاقاتهم بالمجرم دوهاميل وبالأب المتواطئ بصمته..
ردود الفعل في الوسطين السياسي والإعلامي وفي وسط الأعمال الفرنسي كانت صادمة جدا، لأن معارف العائلة هم الطبقة السياسية الفرنسية جمعاء.
في ظلّ هذه الفضيحة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، متغلبة في مواقع التواصل الاجتماعي على هلع الكوفيد وعلى الموجات المتعاقبة للفيروس وضحاياه، وجاعلة كتاب كاميل كوشنر أفضل المبيعات لشهرين متتاليين.
في ظلّ كل هذا كان على محركي الإعلام في فرنسا أن يجدوا في موضوع عداء المسلمين – والخوف من الإرهاب “الإسلامي” المدعى الذي مضت فترة طويلة دون أن تظهر له آثار صاخبة ـ مخرجا مناسبا للجدل الإعلامي حول لفساد الأخلاقي العميق للطبقة الحاكمة في أجلى وجوهها وأعلى مراتبها.
صدفة وبسرعة ودون أية مقدمة منطقية ظهر مقتل أستاذ فلسفة في مدينة داخلية تشهد أعدادا كبيرة من المسلمين المتطرفين (من مناطق الظل الفرنسية) من قبل “إسلاميين” يسكنون في مدينة يشكل المسلمون فيها خطرا كبيرا (حتى أن شيخ البلدية مسلم متعاطف مع ذلك الجمهور، حسبما تردّده وسائل الإعلام التي تركت فضيحة دوهاميل صدفة)..
وصدفة وبغرابة كبيرة أصبح أهم حدث في الإعلام الفرنسي هو مشاركة رجل السياسة المعارض المعتدل جان لوك ميلونشون Jean-Luc Mélenchon في مسيرة نظمتها الجاليات الإسلامية في فرنسا ضد “عداوة المسلمين”، والتي فضل هذا السياسي اليساري المحترم ذو الأصول المغاربية أن يدعمّها معارضا تعيين المسلمين كمسؤولين عن كل أصناف الإرهاب بلا تمحيص ولا تدقيق.
وها هي النخب الفرنسية تدعّم مسعى ميلونشون، مما جعل الجهاز الحاكم في فرنسا يقوم بتصعيد إجراءاته، لكي تعلن وزيرة التعليم العالي وسط استغراب الجامعيين جميعا بأنها ستفتح تحقيقا حول اختراق اليسار الإسلامي الفرنسي للجامعات الفرنسية.
للملاحظة فقط، فإن الفضيحة الأخلاقية الثقيلة لأوليفيي دوهاميل هي الثانية على التوالي بعد شهر ونيف من ظهور قضية “جيفري إپشتاين Jeffrey Epstein” الميلياردير الذي يعمل في ميدان الموضة وعرض الأزياء، والذي تخصّص في تقديم خدمات جنسية خاصة جدا من خلال تقديم صبايا قصّر على جزيرة أحلام يملكها الميلياردير. الذي يعد من ضمن أصدقائه كل كبار هذا العالم ( ترامب، كلينتون، بيل غيتس، أعضاء كثر من العائلات الحاكمة في عدة بلدان أوروبية، الممثلون، صناع السنما… الخ لخ).
الظاهر أن الجزيرة كانت تعجّ بالكاميرات في كل مكان، الشيء الذي جعل توقيفه والإطلاع على حواسيبه يظهر إلى العلن مئات آلاف الصور التي قد تقض أكثر من مضجع..
في ظلّ كل هذا يمكننا فهم الجملة التي افتتحنا بها هذا المقال والمأخوذة من فيلم “كتاب الأزمة العالمية” كنا على يقين أن الثمن سيدفعه المهاجرون وأن الحل الوحيد هو إعلان حرب على ضعفاء هذا العالم.