فواصل

جريدة إلكترونية متخصصة في الشأن الثقافي والفكري
تصدر عن مؤسسة الشعب.

الخميس 23 مارس 2023
  • الرئيسية
  • أسماء وأمكنة
  • فنون
  • حوارات
  • إصدارات
لاتوجد
عرض كل النتائج
فواصل
  • الرئيسية
  • أسماء وأمكنة
  • فنون
  • حوارات
  • إصدارات
فواصل
لاتوجد
عرض كل النتائج

لعنة المتاهة

فواصل - فواصل
2021-07-22
في نصوص
0
لعنة المتاهة
مشاركة على فيس بوكمشاركة على تويتر

الغربة عجوز شعثاء عجفاء، غائرة العينين مجورة الصدغين، مجعدة اليدين لاصبة الجلد، مقوسة الظهر مدببة الأظافر سليطة اللسان خالية الوفاض، تتكأ على عكاز من قصب الخيزران.

تنفخ في نواقير أدخنة الأشجان، تحوم كالبلاء حول أسوار مملكتنا الصغيرة، تفترس نظراتها الشزراء بريق أزميرلادا الأمل الساطع من جبينك الأسيل المتلألئ كسراج متوقد كلما اعترفت لك بلوعة شحارير قلبي لألحان رمان حدائقك وتمرد حسام طاعتي على قضبان زنازينها المسيجة بدفلى الإحنة و بأشواك فلوات الديجور .

سئمت بلابل أمنياتي من التغريد في حناجر المنفى.. وملت فراشات البشائر من الاختباء في شرانق الانتظار، ويبست أغصان شجرة أصابعي من كثرة العزف على أوتار كنارة الأنين، وحفظ حذائي عدد العثرات إلى حي ” البلاكا ” الذي يذكرني طرازه التركي بمكان مهجور بذاكرتي المسجونة داخل جيب أول معطف اشتريته مباشرة بعد وصولنا جزيرة الخيال و الأحلام.

ذهب لونـه الرمادي فدفنته مع دفتر يومياتي في قبو الغبس بحجة أنك تكرهين رائحـة الرطوبة الطالعة من خريف الملابس القديمة، ولا تطيقين رؤية طرقات وجهي الضيقة في مرآة الذكريات العابسة، و تتشائمين من سماع صرير بوابة الماضي الموجع !.

أتحبيـن حقا ” أثينــا ” ؟!.. أم أنك مثلي تبحثين في زحمة الأيام و الشهور والسنين عن حجر يشـب الشباب الذي ضاع منا ونحن نركض خلف عربة خيول هذه المدينة الخرافية .

ضجرت من عادات الرجل الصامت الذي يرافقك إلى حدائق الأحد وهو لا يعرف كيف يتعامل مع الزنابق المتفتحة في شرفة نايك، أو كيف يفك رموز لغة أناملك ولغة قمر همسك.

ولغة نجوم حضورك ولغة أنهار بوحك ولغة مطر آمالك ولغة بواسق طمأنينتك ولغة مروج أفكارك ولغة أشرعة أسفارك ولغة الندى في التفاتاتك ولغة رنة عيدان شذاك ولغة آهات أمواجك هذا الرجل التائه كقارب ضرير لا يعرف كيف يرد التحية على زقزقة كنانير نضارتك البنفسجية أو كيف يرضيك وأنت ترفلين في ثوب دلال الأميرات أو كيف يحسسك بأن الأرض أرضك و السماء سماؤك وحقول البهاء حقولك، و الشمس المشرقة شمسك، وقصر الحياة قصرك، وتاج ملكوت الصفاء تاجك و صولجان الربيع صولجانك وجزيرة أحلام ” أثنيا ” ملكك وحدك..

لم أعد ماهرا في تقمص دور ذلك السجين الأبله السعيد بقضبان الحديد المغروسة في أفئدة أجنحته المكسورة.. ولم تعد تليق بي هالة الجبل الصابر.. لأن الجبال لا تعترف للعواصف بتعبها وبرغبتها في النزول من عرش كبريائها، والنوم قليلا بعيدا عن الصورة العملاقة والهالة الضخمة ..

هل تمكن سهم العجز مني.. أم تراني استيقظت من غفلتي.. فلا أنا ” زيوس ” ولا أنت “ميتس ” !!..

جافتني نياط قلبي لأني لم أعـد أفهم رسائل قلبك ..

انزلي من علية الغطرفة وادخلي في صومعتي المزبرجة بفيروزج الشجن وزبرجد الكدر و زبارج الألم.. ليتك تنفضين وشاحك الفضي في شرفة صدري الموحشة لأن لا شيء يستحق أن تتنازلي من أجله عن مقعدك بماخرة الحرية.. !.

نعم حتى ” أثينــا ” لا تستحق.. !لأنها تحاول أن تصنع منا ومن أمثالنا عبيدا بمعابدها المهجورة، ولأنها لا تفهمني حين أكلمها عن تلك القوة الخفية التي تشدنا إلى جذورنا وإلى وصايا جدودنا..

تعبت أكثر لأنني صرت أصل متأخرا إلى دفء أنهارك، أتعثر بقشابية ظلي وأنا في طريقي إليك و أرى أثلام ضيقي على حيف رخامك، فأسمعك تتنهدين في صدر فسيفساء الظلماء.

و من شدة جزعي يتلعثم الغمام في حنجرة دموعي وتنكمش كنارة ضوء القمر في بحة صوتي، يفزعك سواد قهوة الرماد في فنجان صباحي و شكل الطيور المشنوقة في شرفات وجهي وحشرجة ظهري، و هي تحمل جثة الأرض و قواقع الخلاء و الخواء، أرتعش كالزلزال فتستجير أسوار قلعة جسدي من الرمضاء بالنار، أحبو كالماء هاربا من غطرسة شموع لقاءاتنا الفاترة و من عبير عطر صبوتك المتكبرة ومن أحاديث نظراتك المختزلة ومن هفوات أصابعك الباردة، أكدس قضبان زنزانة الوحدة في فسحة رجائي لعلك تتذكرين عاقبة كل الذين غيروا أسماءهم لينعموا بإكسير النسيان.. أنت بعيدة دائما عن العطش الذي ينهش عظام بئري المحمومة، وبعيدة عن رماح الندامة التي تطارد غزلان ارتياحي الراكضة في برية دمي المقفرة.. وبعيدة عن مناجل اليأس التي تحصد ما تزرعه سواعد آمالي وبعيدة عن مصائد أفاعي غيران الغربة.

وبعدك سرق مني مفاتيح قلاعي وفتح أبوابها لمكائد الرياح، أنا الذي لم أتجرأ على الاعتراف بأنني قد وصلت إلى نهاية الطريق أجر بقايا رجل هزمته زوابع المنفى، تعس كنخلة ستقطع خاصرتها ليصنعوا منها حطبا لمواقد اللئام، و مقهور كفارس ذبح فرسه الأبيض ليستقيم الفرع الأعوج، ومرتعد كطفل ضيع طريق العودة إلى بساتين طفولته، ومنكود كحصان انكسر كبرياء سيقانه الأربعة، ومذعور كمدينة طمست معالمها شحناء الهلاك و الأوحال وسقطت أطلالها في عتو المتناوحة .

دثريني بوشاحك الفضي، و افتحي شبابيك قصرك المغلقة حتى تري ما فعله سعار رمال الهجر ببحيرتنا الزرقاء، وتفقدي روضة تختنا.. كم سنة و أنا أنام على أظافر الحيرة المدببة مكبلا بأغلال الصمت الأجرد، أتنفس ألغاط الحسرة الحامضة و نبض قلبي في قبضة زنابير القلق تلسعه كلما هممت بتخليص روحي من لعنة دهمات الجب.. !.

غسق المسافة المهجورة حجب عن أحاسيسك ضوء شمس الحقيقة.. وأنا لم أخفي عن بجعات فضولك أورام هواجسي الخبيثة.. !

في ” ميدان أمونيا ” مزقت مخالب لبؤاتها الشرسة كل الجلابيب التي كانت تستر عورة النار في جسدي.. و في ساحة ” أيجياس إرينيس ” عرتني سطوة كلاليبها من الماء الذي كان يغلف مستعمرة اللهاب بعروقي..

عرتني حتى من أحجبة جلدي فخجل النرجس والسوسن من دموع التوليب، وخجلت مني لأني كسرت قلب الأقحوان وجرحت مشاعر الأوركيد وتسببت في موت شقائق النعمان ..

” أثينا ” الوقحة تستفز ترس محارب جريح كما تستفز شوكة بغيضة زيتونة عنيدة..

ليتك تفهمين كم أوجعني الوقوف عاريا أمام أساطين زمان ” أثينـا ” وأساطيلها و أنت تتفرجين على مشهد موت كل أحصنتي الصاهلة بلدغات أنياب أفاعي خبثها المسمومة ..

أريدك أن تستري آثـار عضات نوائبها بالياسمين الذي تبقى في دمك، وتدثري كلومي ببلاسم و ترياقات أدعيتك التقية ..

لا تتركي دبابير التعاسة تفسد رونق تقاسيمك الطفولية.. ولا تجعلي مسند ظهرك جدارا قاسيا يشعرني بجبروت الغربة.. ولا تدعي جليده القاسي يفرق بين دفء رواية وجهي ودفء أقصوصة وجهك !..

عتابـك يخنقني..

لم أعد أعرف كيف أدير رحى أساطير مدينة تفترس بريق أمل الغرباء !.. و لم أعد صديقا وفيـا لـ ” هوميروس ” ولجلسات رفقائه !

ضاق بي سحر ترانيم مزامير “جزيرة سانتوريني ” أو” لؤلؤة الحب و الرومانسية ” كما يحلو لك أن تسميها، وخمدت شرارة فتنة مدينة “فيرا” بقلبي، ولم تعد رقصة غروب الشمس الإغريقية المذهلة تغريني، ولم أعد مولعا برحيق زهورها البرية.. مللت حتى أريج جنة الهناء بشواطئها الحمراء و السوداء ذات الأحجار الزجاجية، و كسوة منازلها البيضاء و منحدراتها الشاهقة وماؤها العذب الزلال، وكنائسها ذات القباب الزرقاء، و شوارعها المرصوفة بالحصى الأبيض، وسئمت ركوب الخيل والتلفريك والعبارات من ميناء ” أثينيوس ” والتجول في متاجرها والنوم في فنادقها والجلوس في مقاهيها، وفقدت كل تلك التماثيل والأواني الهيللينية والرومانية الهرمة المعروضة بالمتحف الأثري وهجها بقلبي.

وخسرت لوحة ” القرود الزرقاء ” المصنوعة من الجص مكانتها بروحي وكل الأعمال الفنية المصنوعة من السيراميك المطلي و الأدوات والأسلحة الأثرية المعروضة بمتحف الحقبة ما قبل التاريخ.. وكم تمنيت لو يغضب البركان الذي ينام في أحضان ” كالديرا ” المتوهمة أنها تربعت على عرش الحفرة البركانية الضخمة المليئة بماء البحر إلى الأبد، وضمنت ولاء الينابيع الحارة.. وكم حاولت تغيير طريقي حتى لا أبتلى بوساوس ” موقع أكروتيري الأثري ” وبلعنات ” معابد هلنستية ” ” بثيرا ” القديمة، وبهموم أطلال ” قلعة قمة التل ” بمدينة ” بيرغوس “، وكم مرة قلت لك أنني تمردت فخرجت عن ملة القطيع فلم أعد أشاطر عشاق جبل ” بروفتيس إلياس ” رأيهم حين يتكلمون عن المشهد المبهر من أعلى هذا المكان.. بل صرت أحسهم يبالغون ربما خوفا من الأرواح الخفية التي تحرس تاج مجدر” سانتوريني ” أو لأنهم يعتقدون أن هذا المكان هو الموطن الأصلي للجمال صارت تضحكني طريقتك الغريبة في محاولة إقناعي بأن شاطئ ” بيريسا ” الذي تغطيه الرمال البركانية وتحده أشجار الأثل هو المكان الذي سيستمتع بالجزء الأخير من رواية عمرنا وأن خيمة أحلامنا المخملية ستكون بقرية “بيريفولوس” وسنكون سعداء ونحن نرتشف قهوة المساء الطيبة ذات النكهة الجيدة مع قطع من ” كيكة الروب ” في أحد المقاهي المطلة على شرفات ذكرياتنا.

و سنحتفل في كل ليلة بالنصر الذي حققناه في مدينة يبلغ تاريخها خمسة آلاف سنة، وفي أقدم مستوطنة أوروبية، وسنأكل أشهى الأطباق المطهية بسحر زيت الزيتون والنعناع وجوز الطيب والثوم والشبث و بهار الأوريجان والقرنقل وورق اللوري، وأنك ستشاركينني حبي الكبير للخبز اليوناني الهش و” البيتزا ” و ” الباستا “و” البشاميل ” ولزيتون ” الكالاماتا ” وأجبان ” الفيتا ” و” الكاسيري ” و “الكيفالوتري ” و “الجرافييرا” وأوراق العنب وطبق ” سباناكوبيت ” الذي يحتوي على مزيج بين السبانخ والجبنة، و” اللاشانوريز ” المكون من الكرنب والبصل و” السوفلاكي ” أشهر المشاوي اليونانية، ولن تحرميني من وليمة الأخطبوط بالعسل والكركند والمحار والحبار والروبيان والقريدس و الكالاماري رغم تحذير الأطباء لي بعدم الاقتراب من خطوط عوالمهم المحرمة علي .

أنت مازلت تنظرين إلي على أنني ذلك السجين المطيع الذي لا يتذمر من ثقل سلاسل العبودية، ومن قتامة طلاسم الكهوف ومخاوف الأخربة و المدافن، و من غيهبان ألغاز الدهاليز و السراديب والتعاويذ والخرائط والأحاجي، ومن تبلخ اللهجة الدورية، و تعنت الاركادية، وعناد الأيونية وغطرسة الأتيكية ..

كم مرة سأعيدها على مسامعك بأن منتجع ” فيديما ” المحاط بالمياه الفيروزية المتلألئة لبحر “إيجه” لم يعد وجهة هادئة تسكت جلاجل ذاكرتي المتوترة..

ينسيك الجاكوزي الجذاب و حوض السباحة وعودك لي فاضطر إلى نفض سنابل ذاكرتك في بيادر أوجاعي حتى تظل كل حواسك مستيقظة ومستعدة لانتشالي من فخاخ تاريخ يشبه ألغاز الرمال المتحركة في الربع الخالي، و أفتقدك في قرية ” أويا ” حين يلتهمك وهج فنادق البوتيك الأنيقة، كم مرة خسرت الجولة الأولى في حضرة المعلم ” كريستيان لاكروا ” و الجولة الثانية أمام ” جورجيو ارماني ” و الجولة الثالثة ضد ” فالنتينو غارافانى ” و الجولة الرابعة على مرأى ” مايكل كورس ” و الجولات المتبقية خسرتها أمام نفحات ” كوكو شانيل ” الدافئة والمثيرة وأمام جبروت عطر” شاليمار “و ” جاك غيرلان ” عدوي اللدود ! .

لم تعد رموش المدينة تصلي فوق سجاجيد نظراتي، ولم يعد نسيمها يهش بعصاه أوراق الخريف المتناثرة فوق قرميد أفكاري.. ولم تعد حجرات صدرها تتسع لبنات صدري.. ولم تعد أوتاد ظهرها تسند بناية ظهري الواقفة في مهب الفراغ.. ولم يعد شدو ” الآولوس ” يحرك أوكتافات أشجاني . قلبي يرقص منفردا على وقع نحيب مطر أمنياتي الرخيم و أصابع ” الليرا ” الأربعة تهدهد أوتار كمنجة أصابعي المذبوحة ..

تعلقت عرائس حرائقي بحبال ” الماريمبا “، كأني أحاول أن أجمع أجزائي المبعثرة في هذه الآلة النقرية، تقربت أكثر من قضبانها الشبيهة بمفاتيح ” الاكسلفون ” كم سنة وأنا متشبت بقبضة مخترعها ” بورتون ” لأنها تذكرني بالرجل الحر الذي حارب مردة الأوهام من أجل فتح أبواب مدينة الحقيقة.. وكنت أهيم في عوالم ” الجاز الجاد ” مع ” فلتشر هندرسون ” و ” ديوك الينجتون ” و ” سيسل تايلور ” وكنت أرقص من شدة ألمي في حضرة أحد أبرز عازفي الساكسفون في تاريخ الجاز.

ومن الذين اتبعوا أسلوب ” فري جاز” صديقي “جون كولتران ” أو ” ترين ” كما يحلو لي أن أسميه وهو الذي يحب أن يرى الناس من حوله يرقصون وهو يعزف، ولم أستغرب قرار الكنيسة الأرثوذوكسية الإفريقية التي حولته بعد موته إلى ” القديس جون وليام كولترين ” وضمته إلى قائمة القديسين.. في مدينة ” نيو أورلينز ” تعرفت جيدا على مناخ و تضاريس قارة الوحدة التي سكنت مسكني الضيق الغريب بشرفات حديدية بمنطقة ” فيو كاريه ” وهو الحي المعروف “بالربع الفرنسي ” وسكنت صقيعها الشاسع وكنت أسكت زيزيم جانها وأزيز نيرانها و قطقطة مطرها و غطغطة أمواج بحار غضبها بمعزوفات ” ترين ” . وحده سحر الجاز جعلني أتحمل غلاظة قلب الوحدة، و وحدها أجواء ” مهرجان ماردي غرا ” جعلني أتحمل خشونة جلد فصل الصيف، كنت انتظره بفارغ الصبر للتمتع بالجو الاحتفالي الرائع بوجود الملك ” ريكس ” و الألوان الثلاثة المميزة من الذهب و الأرجواني و الأخضر و رسومات الريش و الخرز الملون و النقود المعدنية التي تحمل وجه ” ريكس ” و كعكته و دمية الطفل الصغير.. وعلى طول ثلاث سنوات لم يثبت لي برج الحظ أنني رجل محظوظ.. في كل سنة كنت أقول سأحصل على العملة لما لها من سحر الحظ !!.. تغلبت بأعجوبة على ضجري حتى أبلغ ما عجز عنه غيري في ” أبرشية جيفرسون “، وكنت دائما أتخيلك تجلسين بالقرب مني و أنا بحديقة ” جاكسون سكوير ” تحملين بين يديك منديل من الدانتيل الأزرق مليء بالياسمين الأبيض، ونحن نستمتع بعرض موسيقي روحاني ” لترين ” و زوجته ” أليس كولترين ” عازفة البيانو، و ابنهما ” رافي كولترين ” العازف على الساكسفون وكأن ” ترين ” يريد أن يوصل لنا رسالة أن موسيقاه مازالت تحافظ على أهازيج الزنوج العبيد الذين كانوا يعملون في حقول القطن ويتعرضون لأبشع أنواع العذاب، وكانت طبول ” بامبولاس ” الضخمة وسيلتهم الوحيدة في التعبير عن معاناتهم الشرسة رغم إلغاء نظام الرق و العبودية.. هل تفهمين همس ذكرياتي المتمرغة في تراب الوجع القاسي، و هل تدركين معنى أن يكسر الفرس الألمظ ساقه حتى لا يواصل السفر في غيمة الأحلام الغريبة، ومعنى أن ألتمس لنفسي ألف عذر و أنا عائد من صحراء اللاجدوى حاملا على ظهري هوادج الخطايا و الخيبات، كان بإمكاني أن أزرع شجيرة صبري ” بمتحف الحرب الأهلية” أو ” بدار الأوبرا “، أو ” ببيت جاز نيو أورليانز التقليدي ” أو بحديقة حيوانات ” أوديبون ” أو بمنتزه ” ولدنبرغ ريفرفرونت “، كنت كالمسكون بك.. أتصور غناء الشحارير غناؤك و وجه الماء وجهك ورقة الزنابق رقتك و رحيق البشائر رحيقك و ضحكة زركون الضوء مع تسابيح الفجر ضحكتك و بوابة مدينة خيالي لا تفتح إلا بمفتاح قصر خيالك فاقتربت أكثر من الممر المؤدي إلى مقصورتك.. فإذا بك قمر الرحلات الذي كان يرافقني أينما حللت، و الجنية المهووسة بقفاطين الحرير و بلون الفوشيا التي كانت تحررني من كل أصفاد زنازين الغربة، وهي تعلم أنه لا توجد جنية تنافسها في استدراج أسراب النجوم إلى الساحة المحوطة بشموع الغبطة والمرح لمشاركتنا بهجتنا برقصة ” البولكا “، و تكسير أوتاد خيمة المشقة و الشجا على مرأى جنيات نهر المسيسبي .

كم مرة ولدت على يديك.. ورقة بيضاء تحن إلى شهد شفتيك، وكم مرة قررت ألا أكبر كي لا تخسري الرهان، أنني طفلك العنيد الذي تمرد على كل أكاسرة و أباطرة إمبراطورية التاريخ .

من أجلك فررت من معركة ” نيو أورلينز ” تاركا خلفي أحصنة حلمي وحيدة، و تحملت لسعات جذوات الهزيمة، وحملت من أجلك في صدري خيبة الجندي الذي رمى سيفه ودرعه و ترسه و قوسه و كنانته وانسحب متسترا بأجنحة رخ الظلام كي يلحق بالقطار الذي يوصل إلى ديارك..

ومن أجلك صبرت على جهامة ” كليو ” ربة التاريخ و على غواية ” يوتيربي ” ربة موسيقى الناي وعلى لهو ” ثاليا ” ربة الملهاة وعلى قنوط “ميلفوميني ” ربة المأساة وعلى غموض ” إيراتو ” ربة الشعر الغنائي و الأناشيد وعلى عبث ” تريفسيخورى ” ربة الرقص و على جنون ” فوليمني ” ربة فن التمثيل وعلى عجرفة ” كاليوبي” ربة الشعر البطولي وعلى جسارة ” يوراني ” ربة الفلك.

و من أجلك جازفت ففتحت بوابة مدينة ” اسبرطة ” على مصراعيها وقرأت كتاب حروبها ونبشت قبور أبطالها وفتشت في حاجيات ” لاكديمون ” و والده ” زيوس “، وسمحت لنفسي أن أفتح علبة نحاسية مفضضة صغيرة تعود لزوجته التي سمى المدينة باسمها تيمنا به فعثرت على رحيق المحبين، خاتم من الذهب فصه من الفيروزج وبقايا أوراق النبتة النبيلة ” دافني ” المخلدة للحورية ” نيمف دافني ” التي هربت من الإله ” أبولو ” وتحولت إلى شجرة غار.. والتي كانت تزين هامات القياصرة والأبطال و الفائزين في الألعاب الأولمبية.

مقتطف من نص مطوّل

سميرة بولمية

وسوم : آثيناقصةلعنة المتاهة
سابقة

الحاج ملياني: هذه علاقة يهود وهران بالأغنية الرايوية

موالية

وفاة الفنان عبد المالك بوساهل متأثرا بفيروس كورونا

فواصل

فواصل

مشابهةمقالات

المساءلة النقدية لمفهوم الميتافيزيقا في فضاء اللغة عند مارتن هايدغر
رئيسي

المساءلة النقدية لمفهوم الميتافيزيقا في فضاء اللغة عند مارتن هايدغر

2023-02-25
جائزة نوبل للأدب.. نجيب محفوظ وآخرون؟
رئيسي

جائزة نوبل للأدب.. نجيب محفوظ وآخرون؟

2023-02-04
جان فرانسوا ليوتار.. نقد الفكر الشمولي
رئيسي

جان فرانسوا ليوتار.. نقد الفكر الشمولي

2023-01-07
إشتراك
الاتصال عبر
دخول
أسمح بإنشاء حساب
بموافقتك سيتم إنشاء حساب في موقعنا بناءا على معلوماتك الشخصية في حسابك الإجتماعي.
إلغاءموافق
نبّهني عن
guest
أسمح بإنشاء حساب
بموافقتك سيتم إنشاء حساب في موقعنا بناءا على معلوماتك الشخصية في حسابك الإجتماعي.
إلغاءموافق
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
فواصل

فواصل جريدة إلكترونية متخصصة في الشأن الثقافي والفكري تصدر عن مؤسسة الشعب.

© 2020. جميع الحقوق محفوظة ليومية الشعب.

تطوير واستضافة شركة رانوبيت

لاتوجد
عرض كل النتائج
  • الرئيسية
  • أسماء وأمكنة
  • فنون
  • حوارات
  • إصدارات
wpDiscuz
موقع الشعب يستخدم نظام الكوكيز. استمرارك في استخدام هذا الموقع ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط. تفضل بزيارة سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط .