المخطوطات شاهدة على فترات إزدهار وضعف الدول، فهي كنوزا حري الاعتناء بها، وتُقَدَّر المخطوطات العربية الموزعة في أنحاء العالم بثلاثة ملايين، ومَا وَصَلنا منها قليلٌ، قد لا يتجاوز 10 %، أمَّا الباقي، ففقد في غيَاهِب التاريخ بين الحرق والتخريب سواء من طرف الإنسان أو الطبيعة بسبب الفيضانات.
فالمغولُ حملوا التتار ملايين الكتب الثمينة وألقوا بها جميعا في نهر دجلة وكذلك فعلت محاكم التفتيش في مكتبة قرطبة الهائلة وكذلك في مكتبة طليطلة وإشبيلية وبلنسية وسرقسطة، بعد ترحيل العرب منها.
ويعد مخطوط إبن رزين التجيبي(فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان )للإمام والأديب إبن رزين التجيبي أحد هذه المخطوطات النادرة.
تعتبر قصة البحث عنه وتحقيقه من طرف الباحث المغربي محمد بن شقرون وإخراجه كتابا عن دار الغرب الإسلامي حدثا هاما في التاريخ الإسلامي .
أسرت فكرة نشر كتاب “فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان ” للإبن رزين التجيبي قلب الباحث المغربي محمد بن شقرون، فبحث عنه في الخزائن العامة والخاصة في المغرب وفي إسبانيا، إذ أكد له بعض الباحثين أن الكتاب ما يزال مخطوطا.
ولما علم أن المستشرق الإسباني فرنإندو دي لا غرانخا قد اعتمد على نسخة من المخطوط واستعمله موضوعا لرسالته الجامعية وحققه لنيل درجة الدكتوراه سنة 1959، إزداد عزيمة على تحقيق وإعداد المخطوط لنشره كتابا، فحاول الحصول على نسخة مصورة من النسخة الوحيدة التي توجد بمكتبة الأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد .
كان ذلك مستحيلا، رغم توسط من كان لهم الفضل في مساعدته لتحقيق أمنيته ومشروعه، فكان لا بد له من شد الرحلة إلى هذه المكتبة والقيام بأسفار ضرورية إلى الديار الإسبانية للإطلاع على هذه النسخة ومحاولة الاستفادة منها بعد الحصول على إذن خاص من المسؤولين عن هذه المؤسسة العليا، ولم يكن ذلك يسيرا ومشجعا، بحيث تطلب منه ذلك وقتا طويلا وتكيفا مع شروط وظروف العمل بهذه المكتبة التي كان لها برنامج ووقت معين مخصص لبعض القراء المترددين عليها.
ورغم ذلك لم يستطيع الدكتور محمد شقرون القيام بالمقارنات الضرورية، فاكتفى بما تيسر له من المعلومات التي كانت ناقصة رغم كونها قد ساعدته في كثير من الأحيان على ضبط النص وتكميله.
وكانت نسخة مكتبة الأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد محفوظة في مجموعة كايانكوس تحت رقم (16)مكتوبة بخط مغربي جميل أسود أو أحمر للعناوين، وهذه المخطوطة تقع في 134 ورقة.
ويعتقد الباحث محمد بن شقرون، أن نسخة مخطوط مكتبة الأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد، هي على الأغلب من أصل مغربي فقد كتب على ظهرها :”إشترى كايانكوس هذا الكتاب من مغربي بمدينة تطوان بتاريخ 1850 بما قدره 250 متقالا”.
وفي تقييد آخر تحمله ورقة أخرى إشارة إلى أن هذه النسخة كانت موجودة في المغرب سنة 1118 في بداية عهد السلطان مولاي إسماعيل.
لكن خط تلك المخطوطة سرعان ما تغير إبتداء من الورقة الـ 70 فأصبح رديئا.
ووجد الدكتور شقرون صعوبة في قراءتها وهو ما دفعه للبحث عن نسخ أخرى، فعثر على نسخة أخرى فعلا.
كما عاين الباحث نسخة أخرى محفوظة بمكتبة جامعة توبنجن بألمانيا تقع في 78 صفحة، حيث راسل الدكتور جيورجيه مدير المكتبة يوم 5 أكتوبر 1980 والذي رد عليه بالموافقة في تاريخ 27 نوفمبر 1980 .
وكانت نسخة مكتوبة بخط مشرقي واضح إلى غاية الفصل الثالث من القسم السابع ، وبذلك فهي فاقدة لجزء كبير منها ورغم ذلك فقد اعتمدها بشكل أساسي رغم البتر الذي لحق بها، و نسخ هذا المخطوط حمزة الفقير في الخامس من شهر ذي الحجة سنة 1211 .
وإعتمد الدكتور بن شقرون على نسخة ثالثة والتي حصل عليها من صديق أجنبي، وهي عبارة عن مجموعة أوراق مبعثرة لا تمثل إلا جزءا من كتاب إبن رزين التجيبي، وإستفاد منها بالأخص من القسم السادس إلى نهاية القسم العاشر وكتبت بخط مغربي .
وإطلع محمد بن شقرون على الإنتاج الأدبي العربي في مجال الطبخ خلال الفترة المرينية في القرن السابع الهجري، لتكوين فكرة عامة تساعده على تقييم وتجليتة لمعرفة اهمية كتاب” فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان “لإبن رزين التجيبي، فإتضح له أن هذا الفن قد حظي بعناية بعض المؤلفين ونال إعجاب قرائهم وعدد من المستفيدين من إنتاجهم، بينما اكتفت أخرى بالتكرار والإجترار وإضافة وإعادة التجربة بتقليصها أو بتحريفها.
فكان عصر الازدهار، ثم لحقه عصر الإنحطاط الذي خسرت فيه المكتبة العربية كل إنتاج قويم يرمي إلى صيانة الأبدان والأذهان عن طريق تحديد الأغذية وكيفية إستعمالها وطرق إستهلاكها وتبين مضارها من نفعها مما نجده في كثير من المؤلفات الخاصة وغيرها من كتب الأدب والفهارس والتراجم والرحلات والحسبة والشعر، وخصوصا كتب الطب التي ربطت موضوع التمريض والمعالجة بموضوع الأغذية والأشربة حيث كان التزاوج بينها واضحا والتماسك قارا.
وكتب محمد بن شقرون عن ظاهرة إهتمام العرب بالتأليف في مجال الأغذية التي تعد ذات أهمية كبرى لصحة الأبدان: “تلك ظاهرة إجتماعية ثقافية سادت المجتمع العربي قبل ركوده وجموده، وقبل الإستلاب الإستعماري الذي إبتلي به، والأدلة على ذلك قائمة ثابتة نلمسها بكل سهولة في المصادر التي أشرنا إليها وفي المراجع التي عنيت بوصف هذه الظاهرة وعرض مراحل تطورها في البيئة العباسية وغيرها.
ونقصد بالضبط هنا البحث القيم الذي أنجزه (م.رودنسون ) حول الوثائق العربية المتعلقة بالطبخ والذي نشره في مجلة الدراسات الإسلامية سنة 1949، ويتعلق الامر بدراسة تاريخية وصفية في كثير من الأحيان وتحليلية في أحيان أخرى لأول مرة حسب علمنا تصدر مثل هذه الدراسة في الموضوع الذي نحن بصدده.
لقد استغل المؤلف فرصة تحقيق كتاب “الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب “، فكانت مناسبة ثمينة إستثمرها فأعطانا فكرة عن أهم المنجزات الأدبية التي اهتمت بالطبخ من قريب أو بعيد ثم أورد كثيرا من أسماء المؤلفين والمؤلفات المخطوطة والمطبوعة إنطلاقا من عصر الجاحظ إلى بداية القرن العشرين، ففي تلك كفاية لمن يريد التزود بمعلومات أساسية تاريخية في الموضوع لعلها تعفينا من التكرار والاجترار.”
وخلال عملية البحث رأى محمد بن شقرون أن هناك بعض المصادر الأصلية أو المراجع التي تهم البيئة المغربية والتي لم ترد في بحث الأستاذ رودنسون، وهي مراجع تهم المجتمع العربي بصفة عامة ومنها:
(كتاب الطبخ) للحارث بن بسخنر.
(كتاب الطبخ) لإبراهيم بن المهدي.
(كتاب الطبخ )لإبن ماسويه.
كتاب( الطبخ) لإبراهيم بن العباس الصولي.
كتاب الطبيخ لعلي بن يحي المنجم.
كتاب( أطعمة المرضى) للرازي وله كذلك كتاب( الطبيخ).
وخلال بحث محمد بن شقرون في خزانة برلين عثر على قائمة تحتوي على أسماء كتب أغلبها كان في تلك الفترة أي في الثمانينات تعتبر مفقودة أو لا تزال في طي المخطوطات النادرة وهي:
( إكرام الضيف )لإبراهيم بن إسحاق.
( أدب القرى) لإبراهيم بن إسحاق الحربي.
( رسالة في أنواع الأطعمة وكيفية طبخها) لتاج الدين بن زكرياء بن سلطان النقشندي.
(رسالة في أحكام القهوة) للحافظ السيوطي.
كتاب آخر عن الطبخ معاصر لكتاب التجيبي:
(كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس) ، تحقيق ه.ميراندا في مجلة المعهد المصري بمدريد سنة 1962 ـ و1961 ،وآخر صدر في بداية القرن السابع الهجري ،في العصر المريني:
(كتاب الطبيخ) لشمس الدين محمد بن الحسن الكاتب البغدادي المتوفى سنة 637 ،1239 والذي نشره الدكتور داود حلبي في الموصل سنة 1352 ،1933
وعثر محمد بن شقرون أثناء عملية التحقيق والإعداد لكتاب إبن رزين التجيبي “فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان “على كتاب آخر في الطبخ في البيئة الأندلسية المغربية لمؤلف مجهول هو كتاب نشره ه.ميراندا في مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد المجلدان التاسع والعاشر سنة 1961 ـ 1962 وهو كتاب وجده محمد بن شقرون غني بمحتواه رغم كونه مبتورا ورغم كون ناشره لم يعتمد إلا نسخة واحدة لنشره ، وهو الكتاب الذي أعانه على فهم محتوى كتاب التجيبي، وصدر مخطوط التجيبي محققا من طرف محمد بن شقرون عن دار الغرب الإسلامي اللبنانية سنة 1984 تحت عنوان ” إبن رزين التجيبي،فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان: صورة فن الطبخ في الأندلس والمغرب في بداية عصر بني مرين”.
من هو مؤلف الكتاب إبن رزين التجيبي؟
يعرفه إبن جابر الوادي آشي في كتابه (البرنامج ):”الشيخ المحدث الكاتب البليغ المؤرخ الأديب أبو الحسن علي بن محمد أبي القاسم بن رزين التجيبي ـ رحمه الله ـ مولده في حدود عام خمسة وعشرين وستمائة في بدايات الربع الثاني من القرن السابع الهجري بمرسية “.
وعاش في عهد الطوائف الثلاثة أي في زمن كانت فيه شمس الإسلام تؤذن بالغروب، وقد إرتبطت سنوات صباه بضياع بلدان الأندلس ،وجلاء أهلها عنها قسرا في ظروف صعبة ، وفجع إبن رزين التجيبي في صغره بموت والده ،وتكفله نبيل مولى جده وإبن عمته في نفس الوقت.
وهو المعروف بأبا القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل ،وذكره إبن رزين فقال فيه:” القاضي العدل أبو القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جدي للاب أبي القاسم بن محمد التجيبي رحمهما الله وهو إبن عمتي الذي تولاني بعد أبي رحمهما الله صغيرا، وإختصني إختصاص بنوة أوجب من حقها كبيرا “.
وذكر إبن الزبير في كتابه صلة الصلة والذيل والتكملة لعبد الملك الأنصاري المراكشي أن هذا القاضي عاش في مرسية وولي القضاء في عدد من مدن شرق الأندلس، منها مرسية، ودانية، ولقنت، قبل الجلاء الذي كان بعد سنة 640 هجري، ثم إنتقل بعد هذا التاريخ إلى سبتة مع المهاجرين من أهل الأندلس ،وأصبح فيها قاضيا “.
وإستمرت ولايته على القضاء بها محمود السيرة ،مرضي الطريقة ،عدلا في أحكامه إلى أن توفي عام تسعة وستين وستمائة “.
وهذا يعني أن إبن رزين قضى فترة طفولته وشبابه في تلك المدن الأندلسية ،حيث إحتفظ في ذاكرته بأحوال بلده وأوصافه وعوائده التي دونها في كتابه “فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان “.
وترك إبن رزين وطنه قبل أن يتجاوز العشرين ورحل مع جده إلى سبتة، وكانت هذه المدينة المغربية ملجأ لعدد كبير من المهاجرين الأندلسيين الذين غلبوا على بلدانهم ، ولاسيما من أهل شرق الأندلس، يقول إبن رشيد متحدثا عن خروج إبن رزين من بلدة مرسية ولجوئه إلى سبتة “وإنتقل منها ـ فيما أراه ـ قبل الدجن القديم بمرسية وكان هذا الدجن في شوال عام أربعين وستمائة وسكن سبتة مدة مع إبن عمته القاضي العدل أبي القاسم أحمد بن أبي الحسن نبيل مولى جد الشيخ أبي الحسن “.
وينبغي أن يكون الانتقال المذكور في حدود سنة 645 هجري، إذ هو التاريخ الذي كان إبن رزين موجودا في سبتة، ونستفيد ذلك من لقائه بإبن عميرة المخزومي بسبتة، ونحن نعرف أن أبا المطرف كان بهذه المدينة في سنة 646 هجري”.
و يذكر إبن رشيد أن إبن رزين إنتقل إلى بجاية عام ثمانية أو تسعة وأربعين وستمائة، وأقبل إبن رزين بمجرد حلوله ببجاية على ما كان بصدده من السماع والرواية والدراسة، وساعده على ذلك وجود عدد من أعداد العلماء وفي طليعتهم إبن الأبار الذي كان منفيا في بجاية منصرفا إلى التصنيف والتدريس.
أما الرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي إستقر بها في تونس وهي تمتد من سنة 657 هجري إلى وفاته سنة 692 هجري.
وهذه هي مرحلة نضجه العلمي وخصبه الفكري، وفي هذه المرحلة تزوج ـ فيما نحسب ـ وفيها تقلد بعض الشهادات المخزنية، وخلالها ايضا ألف مجموعة من المؤلفات القيمة ،التي لم يصلنا منها ـ فيما يبدو ـ إلا مؤلفه في الطبيخ، ومع ذلك فقد إستمر على نهمه العلمي في نشدان الروايات، وإستدعاء الإجازات، وله تواليف منها “نظم الفريد في منتخب الأدب الطارف والتليد ” و” جنى الزهر وسنا الزهر”، والأخبار التونسية في الأخبار الفرنسية” و”الدرر الثمينة في خبر القل وفتح قسنطينة “.
وكانت وفاة إبن رزين حسب ما أرخه الوادي آشي في عصر يوم الجمعة الثاني عشر شعبان عام إثنين وتسعين وستمائة بحضرة تونس .
أهمية الكتاب
أشار إبن رزين التجيبي في مقدمة كتابه “فضالة الخوان ..”إلى ضرورة الاهتمام بالأغذية لأنها تعد قوام الأبدان كما أنها من الأسباب التي تساهم في إعتدال مزاج الإنسان، ودعا إلى ضرورة التأنق في طبخها .
وكتب :”وقد ألفت كتابي هذا من أنواع الطبخ في هذا الشأن، وإستوفيت فيه وإستحسنت أوإخترعت من كثير من الألوان، أثبت فيه من الأندلسيات بكثير، وإقتصرت من المشرقيات، على المنتخب اليسير، وأضفت إليها من المعلوم المشهور كل ما يدخل في أصناف الطبخ أو يتعلق به على الخصوص والعموم…”، ويرى الباحث المغربي محمد بنشريفة أنه قد يكون ثمة أكثر من باعث على جمعه، فربما ألفه بطلب من بعض بلدييه، أو برسم أحد مخدوميه في تونس، وقد يكون انبعث إلى تصنيفه بدافع الحفاظ على تراث الأندلس والمغرب خشية الضياع ومخالفة النسيان.
كما ذكر نوع الأواني التي يستحب الطبخ فيها وتلك التي يجب تجنبها، فأكد عل أنه لا يجب الطبخ في قدر الفخار مرتين، مشيرا إلى أن الأطباء قد حضوا على ذلك، وذكر أن الطبخ في أواني الذهب والفضة لو أمكن فالشرع أباحه، ونهى عن الطبخ في أواني النحاس لرداءة جوهرها وإستحب الطبخ في آنية الحديد إذا تعوهدت بالغسل والتنظيف والتحفظ من صدئها.
وأشار إلى أن الأكل والشرب في أواني الزجاج والطبخ لو أمكن أمر مستحسن، ونهى التجيبي يغطى الطعام بالصحاف بعد طبخه إلا بما يخرج منه البخار مثل المنخل، فتلك الأبخرة إذا ترددت ولم تخرج أحدثت في الأطعمة قوة سمية وخاصة السمك وكل ما يؤكل مشويا وكذلك يجب تغطية القدور وغيرها عند الطبخ فيها بأغطية مثقوبة.
و إستعرض إبن رزين التجيبي الأواني الفخارية والنحاسية والقصديرية والذهبية والزجاجية وغيرها ذاكرا محاسنها ومساوئها، ومبينا ظروف صلاحيتها، وكأنه طبيب يشخص الداء فيذكر العلاج، فموضوع التغذية مرتبط بموضوع الصحة البدنية والنفسية عند الأطباء.
إن غاية المؤلف هو تقديم نصائح طبية نفسية في موضوع شديد الحساسية وعظيم الخطورة يتعلق بصحة الابدان مادامت الوقاية أحسن من العلاج ،كما ان رزين التجيبي الأندلسي فخور ومعجب بنفسه وقدرة إبتداعه كونه تفوق على كثير من المشارقة الذين ألفوا الكثير من الكتب في مجال الطبخ إلا أنهم لم يكونوا في المستوى المنشود.
أما محمد بن شقرون فقد أشار إلى أن إبن رزين التجيبي استعمل في كتابه كما تتضح في مقدمته منهجية دقيقة وهي مقدمة تتميز بخطتها المحكمة وبوضوح عناصرها، وبتسلسل هذه العناصر حسب ترتيب معين، ذلك الترتيب الذي نكاد نجده في سائر الكتب المؤلفة في عصر الكاتب وفي عصور أخرى سابقة أو لاحقة.
وكتب محمد بن شقرون في ص 14 في تقديمه لكتاب فضالة الخوان ..:” فمقدمته هذه طويلة نسبيا على عادة معاصريه ـ يغلب عليها السجع ويثقلها التكلف والتصنع فجاءت حاوية لألفاظ وعبارات تكاد تكون فارغة لا غاية من ورائها سوى أنها تهذب الكلام وتنمقه وتبعده عن النثر المألوف فتحسنه، فتظهر براعة المؤلف في الكتابة الأدبية، وقدرته على معالجة المواضيع المختلفة بأسلوب فني يذكرنا من بعيد بأسلوب كتاب القرن الرابع ومن قريب بأسلوب إبن الخطيب وإبن الحاج النميري وغيرها من بني جلدة”.
و أكد محمد بن شقرون أن بنية الكتاب محكمة التخطيط ودقيقة العناصر، فقسمه المؤلف إلى فصول ومصاغة بشكل جيد يتفق والأهداف التي قصدها إبن رزين التجيبي، ويتشكل من توطئة مشوقة أوجز بدقة المحاور الأساسية التي اهتم الكاتب بذكرها.
جاء الكتاب في إثني عشر قسما، ويتضمن كل قسم فصلا أو فصلين أو عدة فصول حسب أهمية الموضوع، ففي الكتاب وصفات لأطعمة معقدة غنية تحتاج إلى وقت طويل للتهيئة والطبخ، إلى جانب أطعمة أخرى تمتاز ببساطتها وسهولة تحضيرها من الصنف الأو ، كوصفة “طعام الملوك “الإبراهيمية” و”الجوذابة “و”ورأس ميمون “وخصوصا اللحوم المشوية أو الحيوانات المحشوة كالكبش المحشو والدجاج والحمام والعصافير والزارزير ..
وقسمه إلى اثني عشر قسما: القسم الأول: الأخباز والثرائد والأحساء وطعام الخبز وغير ذلك، والقسم الثاني: في أصناف لحوم ذوات الأربع، والقسم الثالث: في لحوم الطير، والقسم الرابع: في اللونالمسمى بالصنهاجي وفي طبخ اللسان والكرش، والقسم الخامس: في الحيتان والبيض، والقسم السادس: في الألبان وكل ما يكون منها، والقسم السابع: في البقول وما ينسب إليها، والقسم الثامن: في أنواع الحبوب من الفول والحمص وغيرهما، والقسم التاسع: في المعسلات وأنواع الحلوى، والقسم العاشر: في الكوامخ وما ينضاف إليها من عمل الخلول وأنواع المري واستخراج الأدهان وإصلاح الزيت عند فساده وإصلاح الأطعمة، والقسم الحادي عشر: في طبخ الجراد والقمرون، والقسم الثاني عشر: في الغاسولا
وصفات وألوان طعام تشهد عن عمق التمازج الثقافي بين العرب والبربر في الأندلس :
وإهتم المؤلف إبن رزين التجيبي بذكر الأطعمة المغربية ، فذكر منها عددا في كتابه فإستحسن وإستقبح منها ما لم يعجبه وقارن بين أطعمة بلاده بلنسية في شرق الأندلس فقيمها وعلق عليها ومن هذه الأطعمة: (كسكسو)الذي أطنب في وصفه والعصيدة والقلية، والمرقاس، والخبيزات، والاحرش ،والبرانية، والسنبوسك، والإسفنج، والبديعة والكنافة والقطائف والتي وضعها إبن رزين في صنف المسمنات ..وغيرها من الألوان التي قد تحمل أسماء تخفي وراءها محتوى مغربيا أو تشير إليه إشارة خفيفة، كالجلجلانية البيضاء والرخامية والقاهرية وهو لون شبيه بالبريوات.
ونجد في الكتاب وصفة كعب الغزال وهي الوصفة المنتشرة في المغرب والجزائر وتونس وبقيت بنفس التسمية وهي تشبه التشاراك الذي يقال أن أصله تركي.
ويذكر إبن رزين أن شكلها كان مستطيلا في عهده ويوضع فوقها اللوز والسكر والصنوبر، واليوم هي وصفة تتخذ شكل نصف دائرة أو هلال دقيق وفي طرفيه غليظ وفي وسطه يغبر بدقيق السكر الناعم.
تكمن أهمية كتاب إبن رزين التجيبي أيضا في أنه يميط اللثام على حقيقة أن الكثير من الوصفات في الألوان والأطعمة والتي هي رموز ثقافية هي أيضا بمثابة طيور مهاجرة تسافر مع الناس إلى بيئات جديدة فيتكيف الإنسان مع تلك البيئة الجديدة ويضيف لها عناصر غذائية ويقدمها بطرق أخرى تختلف عن بيئته.
فكتاب التجيبي يخبرنا فعلا عن هذه الحقيقة التاريخية، فالعرب والأمازيغ حين فتحوا الأندلس أخذوا معهم ثقافتهم من أنواع الطعام وألوانها والتي إمتزجت مع البيئة الثقافية في الأندلس فتحورت قليلا ثم عادت هذه الأطباق إلى بيئتها الأولى بالمغرب مع سقوط غرناطة آخر معقل للمسلمين بالأندلس.
ومع التواجد التركي بالجزائر ازداد أيضا هذا التنوع الثقافي في الجزائر في مجال الطبخ أو حتى في اللباس .
في الكتاب أيضا يرسم إبن رزين التجيبي هذا التنوع في الطبقات الإجتماعية بالأندلس من خلال الأطعمة التي يحرص الأغنياء على أن تطبخ لهم من طرف نساء ماهرات في مجال الطبخ يتم إستقدامهن خصصا من إفريقيا والتي تقدم في الولائم إضافة إلى أطعمة العامة.
والمؤلف يعطينا لمحة عن بعض الألفاظ والعبارات التي كانت تستعمل في العهد الذي عاش فيه بالأندلس واليوم هي مستعملة في مفرادتنا اللغوية في حياتنا اليومية في المغرب كله، والتي كنا نعتقد أنها من العامية في حين أنها من الفصحى على غرار كلمة “غدوة”.
ونظرا لغنى كتاب التجيبي فقد اعتمده العديد من الباحثين ليس فقط الغربيين، بل أيضا الطلبة الجزائريين والمغاربة في بحوثهم المختلفة، على غرار مذكرة مكملة تدخل ضمن متطلبات نيل شهادة الماستر في تخصص تاريخ العصر الوسيط بعنوان :” الفلاح الأندلسي من القرن (2ـ 6هجري ،8 ـ12 ميلادي) للطالبتين غزالة زروانة ونبيلة الغول من جامعة الشهيد حمة لخضر الوادي.
وناقشتا المذكرة في 2019، إضافة لمذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجيستر في التاريخ الوسيط، تخصص تاريخ وحضارات بلاد الأندلس،من إعداد الطالبة مريامة لعناني، من جامعة قسنطينة، تحت عنوان :”الأسرة الأندلسية في عصري المرابطين والموحدين”، ومذكرة “الغذاء والتغذية في الغرب الإسلامي:الخضروات والفواكه أنموذجا من القرن الثاني إلى القرن التاسع ميلادي ” من إعداد الباحثة رقية مويسات في2019،من كلية محمد بوضياف المسيلة، قسم التاريخ، بالإضافة لمقال للباحث المغربي محمد عمراني زريفي ، ونشر بموقع أسطور في سنة 2016 تحت عنوان:” وحدات القياس في المجتمعات الإسلامية : الأصبع، القبضة، والفتر والشبر”.