يرى أنور مغيث أن دريدا بنقده للفكر الفلسفي الغربي إنّما يتموقع في الفئة الرافضة لميتافيزيقا اللوغوس والحضور التي يقوم عليها تمركز الفكر الغربي.(الجزء الثاني)
فهو ((يمثّل استمرارا لهذا النقد من جهة، ودفاعا عن الفلسفة من جهة أخرى، فهناك مشروعان رئيسيان لإحياء الفلسفة في القرن العشرين، المشروع الأول يمثّله نيتشة وديلوز، والمشروع الثاني يمثّله هيدغر ودريدا، ويشترك المشروعان في رفض الهيمنة الهيجيلية والبنيوية وفي بلورة النقد انطلاقا من الميتافيزيقا وضدّها في آن، وفي اللجوء المشترك إلى مفهوم الاختلاف)).
لأن الاختلاف لا سيما القرائي منه يمنح اللغة السلطة المطلقة في ممارسة حريتها من خلال التأويل والخروج من شرنقة الحضور التي تجعلها مكبلة وجامدة، ولعلّ من أهمّ تلك المرتكزات التي شرعنت مقاربته القرائية في التفكيكية نجد:
1-الاختلاف:
يرى يوسف وغليسي أن مصطلح الاختلاف صناعة سوسيريّة ((لقد استوحى دريدا – أصلا- فكرة الاختلاف من دوسوسير الذي يرى أنّ العلامات لا تدلّ بذاتها وإنّما باختلافها عن غيرها)).
ثمّ إنّ الاختلاف يتساوق ومذهب الريبة الذي تلبّست به أفكاره، ((بنفيه لوجود يقين ما، وإرسائه دعائم الشكّ في كل شيء)) ، والاختلاف لا يتحقّق إلاّ من خلال القراءة المتعدّدة، ممّا يؤكد ترابط الكتابة بالقراءة عنده إلى حدّ التلازم، التي لا تقرّ المعنى الثابت. إنمّا تجعله مُرجأ ومُؤجّلا ليصبح النصّ الأساس عبارة عن أثر بعدما يتحوّل عن طريق التناص الداخلي إلى نصوص متفرّعة تتطلّب قراءات أخرى متعدّدة، تتداخل فيها الخلفية المعرفية للمتلقي وقصديته.
وهذا الأسلوب القرائي التفكيكي المتعدّد هو ما يحقّق الاختلاف لتقويض الثابت والأصيل وجعله قابلا للنقاش والتشريح والتأويل لمعان متعدّدة، إذ لا يكتفي بالحضور بل بتمجيد الغياب الناتج عن التناص المتفرّع عن النص الأساس، خاصّة بعدما تنبّه دريدا إلى أنّ الميتافيزيقا الغربية لا تهدف إلى فرض المعاني الموجودة والمعتمدة بوصفها حضورا، بل تتعدّى ذلك إلى التسليم بها مستقبلا، أي اعتبار المستقبل الاستشرافي مشمولا في الحضور، لأنه مطلقا وغير قابل للنقاش والتأويل والتجاوز.
ومعنى هذا أنّ المفاهيم والمدلولات تظلّ أزليّة ما يؤدّي إلى إلغاء عمليات البحث والتفسير والجدال ومن ثمّة إلغاء الاختلاف بتفضيل الحضور على الغياب، وهو ما عكسه دريدا بتفضيله الغياب على الحضور كون ((عملية استحضار الغائب تفيد في تحويل القاريء إلى منتج للنصّ، ممّا يجعلها مضاعفة الجدوى.
فهي من ناحية تثري النصّ إثراء دائميّا باجتلاب دلالات لا تحصى، ومن ناحية أخرى تفيد في إيجاد قراء إيجابيّين يشعرون بأنّ القراءة عمل إبداعي)).
ومن هذا المنطلق فالغياب يسمح بالإبداع في اللغة بحسب السيّاق، لهذا اعتبر دريدا أنّ المشكل الأساس إنّما يكمن في اللغة ((بوصفها متوالية لا نهائيّة لتعدّد المعنى واختلافه، وقد كان لهذا أثره الواضح في الخطاب الأدبي)) عكس الفكر الغربي الذي بتمركزه حول الكلمة ((إنما ينتصر للوحدة الصوتية على حساب الوحدة الكتابية ويعطي الأولوية للمنطوق أمام المكتوب أي يفضل الحضور على الغياب)) ، لأنّ الطرح الغربي القائم على ((تمركز الذات الأوروبية حول الصوت هو تمثيل واضح لتمركزها حول اللوقوس، حول العقل، حول عقل حاضر في قلب ذاته لا ينفعل إلا بذاته)) ، وهذا ما جعل دريدا ينتصر للكتابة.
2-الكتابة:
لقد مرّ بنا أنّ التمركز حول العقل أفضى إلى منح الكلام السلطة المطلقة في التعبير عن الذات، مما جعل الكتابة وفق هذه التراتبية تحتلّ مرتبة ثانوية مهمّشة بعدما فضّلوا عليها الكلام/الصوت كون((الكلام يفترض حضور المتكلّمين.
وهذا يفترض الوضوح والمعاني ولا يترك مجالا للتأويل والأخطاء في عملية الفهم، ولهذا كانت له الأولويّة والأفضلية)) فقد ازدرى أفلاطون الكتابة لأنّها تقدّم صورة زائفة عن العالم، ووصفها جان جاك روسو على أنّها ((تقنية مضافة إلى الكلام)) ، ونظر إليها ليفي شتراوس على أنّها وسيلة للهيمنة.
وهي عند سوسير ((حاملة لوظيفة تضييق الكلام وانحساره وتحريفه لأنّ هذا الأخير يتماهى بالضرورة مع اللسان، واللسان له تقليد شفوي مستقل عن الكتابة)) ما جعل دريدا يتّهمه على أنه متلبّس بميتافيزيقا الحضور الناتج عن ((التمركز العقلي في تصوّر سوسير عن الكتابة ومكانتها الثانوية بالمقارنة بالكلام)) .
والواقع أنّ سوسير انطلق في مشروعه اللساني من التراكم المعرفي الغربي الذي يرى أنّ ((نزعة العقل المركزية هي نزعة الصوت المركزية، فهناك تقارب بين الصوت ومعنى الوجود، بين الصوت ومثالية المعنى)) ، فالعقل الغربي أهمل الدال واحتفى بالمدلول/المعنى.
وكان ذلك نتيجة حتميّة بعدما ((مُجّد المعنى/ المدلول، وأُبعد الدال عن مركز العناية المعرفيّة، فحازت الكتابة مرتبة دونية في علاقتها بالكلام)) ، لهذا لم تتجاوز نظرة سوسير للكتابة ما ظلّ سائدا فكانت نظرته تفاضلية: كلام/كتابة ((فاللغة والكتابة نظامان متميّزان من الإشارات والهدف الوحيد الذي يسوّغ وجود الكتابة هو التعبير عن اللغة)).
واعتبر أنّ الكتابة تحرّف حقيقة اللغة المنطوقة التي تعبّر بصدق عن نوايا المتكلّم، بقوله: ((إن الكتابة تطمس المعالم الحقيقيّة للغة، فهي ليست رداء للغة، بل شيء تتنكّر به)).
من هذا المفهوم السوسيري راح دريدا ينتقده مبرزا ((أن الكتابة تنوب عن الكلام وتكمّله، ذلك لأنّ الكلام ينطوي على الخصائص التي ننسبها عموما للكتابة كالغياب وإساءة الفهم)) ، ليؤكّد دريدا ((أنّه لا توجد لغة لم تمسّها الكتابة، وذلك بحدّ ذاته كتابة على الدوام، بل كتابة أصليّة)).
والكتابة عنده ((ليست مجرّد مفهوم أو تصوّر بقدر ما هي عملية إجرائيّة لا يمكن من دونها فهم فكر دريدا التفكيكي وأثره في تفكيك العقل الغربي وخطابه)).
لهذا فإنّ الكتابة عنده ((يتم تصوّرها من خارج ميتافيزيقا الحضور، لأنّها تهدف إلى إعادة ترتيب علاقاتنا مع الحقيقة في حدّ ذاتها، حقيقة تفكيكية لا تستند إلى أصل ثابت ومطلق)).
ثمّ إن الكتابة الدريديّة لها صلة مباشرة بالقراءة وبالاختلاف، والأثر الذي يظل من أهمّ مرتكزات الكتابة، فهو ((مبدأ أساسي للكتابة)) ، كون الأثر عنده يعتبر ((ثورة على الحضور لأنّه محو للحاضر واستحضار للغيّاب))، ممّا يؤكّد أنّ ((القراءة والكتابة رئتان متلازمتان في الدرس التفكيكي تلازما عضويّا فلا وجود لهذا بغير ذلك)).
فمن خلالهما تتمّ عملية التفكيك، فإذا كانت الكتابة عبارة عن بصمة شخصية تترك أثرا لتفضح صاحبها بعد أن تكشف عن أيديولوجيته، ((وتسمح بكشف المسكوت عنه)) فإن القراءة المتعدّدة تسهم في تحقيق التناصّ من خلال انشطار النصّ الأساس إلى نصوص متفرّعة ومتعدّدة مؤجلة المعنى النهائي الثابت.
وتسمح للقارئ من ممارسة حرية التصرف في النص للتعبير عن وجهة نظره، فيصبح منتجا مبدعا من جهة، وتمكّنه من جهة أخرى من تحيين رصيده المعرفي، وهذا ما يؤدّي إلى نشر الوعي الثقافي بتحرير النصّ من مركزيته المستمدّة من القراءة الأُحادية، فهذا التأخير والإرجاء الناتجين عن التعدّد القرائي من خلال التفكيك هو ما يحقّق الاختلاف المتساوق مع نظرية التلقّي التي تتقاطع ورؤية دريدا، في مقاربته التفكيكة.
والتفكيكية كما يراها ليتش ((تعمل من داخل النصّ لتبحث عن الأثر وتستخرج من جوف النصّ بناه السميولوجية المختلفة التي تتحرّك داخله كالسراب)) لأنّ النصّ التفكيكي لا يعتمد منهجا واضحا يمكن الوثوق به مثلما يؤكدّه دريدا بقوله: (( إنّ التفكيك بأية حال – ورغم المظاهر- ليس تحليلا ولا نقدا)) كما أنّه ((ليس منهجا ولا يمكن تحويله إلى منهج)) .
لذلك انتقده إدوارد سعيد قائلا: ((إن أعمال دريدا تنطوي على الكثير مما يثير البلبلة وإطلاق العنان للأهواء بدل المحاولة الجادة للانخراط سياسيا في بعض قضايا الساعة الكبرى، مثل: فيتنام وفلسطين والأمبريالية))، لأنه ظل يراوغ ولا يعطي أهميّة لقضايا الاستعمار، ((فقد بدت لي نصوصه أكثر عددا مما ينبغي، وكانت تدور في نطاق أكثر إفراطا من أن يكون مفيدا)).
وعلى هذا الأساس يصدر سعيد حكمه حول إنتاج دريدا قائلا:((والآن فإن موقف دريدا وكلّ إنتاجه كانا مكرّسين لاستكشاف كلّ من التصوّرات المغلوطة والأفكار المكرورة عشوائيّا بالشكل الذي يلعب فيه دورا مركزيّا في الثقافة الغربيّة)).
وما يمكن الإشارة إليه في الأخير أن هذين الرجلين: (ألبير كامو وجاك دريدا) ليس لهما أي فضل على الجزائر المستقلة، فقد ولدا على تراب الجزائر المستعمرة فرنسيا، أي تحت الراية الفرنسية، وتعلّما بلغتها وفي مدارسها، وحياتهما ارتبطت ارتباطا وثيقة بالاستيطان الفرنسي.
فكامو على الرغم من جذوره الإسبانية ظلّ ينافح عن جزائر فرنسية، أما جاك دريدا فقد انتدب لتعليم أبناء الجيش الفرنسي سنة 1959 عندما كان في الخدمة العسكرية، وهذا بحد ذاته له أبعاد أخرى يمكن الحفر فيها، كونهم أبعدوه من جبهة القتال لأسباب تظل مجهولة، وهذا له علاقة بحياته، فقد ظل تائها غير مستقر.
ونستشفّ ذلك من الحوار الذي أجرته معه مجلّة الكرمل إذ يقول:((أنا يهودي جزائري، يهودي، لا، يهودي بالطبع، ولكن هذا غير كافِ، لتفسير العسر الذي اتحسّسه داخل الثقافة الفرنسيّة، لست منسجما إذا جاز التعبير. أنا إفريقي – شمالي بقدر ما أنا فرنسي، وأنا أقول هذا واعيا)) .
وبالتالي فالرجلان المعنيان لم يقدما شيئا يذكر لصالح الجزائر.
الفيلولوجيا والتفكيك وجهان لمقاربة تقويض النصّ المقدّس
ومهما يكن فقد لقيت هذه المقاربة القرائية – على غرار الفيلولوجيا- رواجا في الوطن العربي بين رافض ومتأثّر ومنساق ومتماه، لاسيّما أولئك المشكّكين في النصّ القرآني، والذين وجدوا في تفكيكية دريدا ما يعزّز طروحاتهم التي راكمتها الحضارة الغربية من حيث الانبهار، والانغماس، والتمثّل، فتحوّل بعضنا إلى معاول لهدم مرتكزات الهوية والموروث الثقافي، والتشكيك فيه بما في ذلك النص القرآني المقدّس.
وهذا في حدّ ذاته انتصار للتفكيكية بعدما استطاعت أن تسهم في انشطار النخب، التي تلوّثت أفكارها بالريبة والشك في ماضيها لترهن مستقبلها، إذ أصبح من الصعب تقريب وجهات نظرها، ورأب الصدع الذي أحدثته الفيلولوجيا قبل هذا، بوصفها وسيلة لتحليل حضارة الشعوب الشرقية.
وترسّخ في الستشرقين أنه ((من غير الفيلولوجيا لن يكون العالم الحديث كما هو عليه الآن، وقد مثلت الفيلوجيا الفارق الأبرز بين القرون الوسطى والعصر الحديث)) ، وبذلك أصبحت الفيلولوجيا ((المهمة الرئيسة للمستشرق هي دراسة تاريخ الشعوب الشرقية وثقافتها بأداة الفيلولوجيا سليم)).
والواقع أن الفيلولوجيا والتفكيكية وجهان لعملة واحدة من حيث الأهداف، فهما صناعة غربية غرضهما البحث عن الاختلافات والتناقضات في المفاهيم والتفسيرات التي تسمح بتأويل الكلمة أو النص بما يخدم التوجهات الغربية بهدف الهيمنة.
مما يجعلنا نهيب بشبابنا العالم، والمثقّف المهتم التنبّه إلى تلك الطروحات الاستشراقية المفخّخة التي تتعمّد التعتيم على الحضارات الأصيلة، والسعي إلى تقويضها تحت مبررات: العولمة، والشمولية، والتكنولوجيات، والعصرنة، والتحضّر وغيرها، والحطّ من قيم المجتمعات ومكانتها في أعين ساكنتها قبل غيرهم ((بإبقائها ضمن دائرة التبعية أو بتجزيئة قوّتها البشرية والمادية والروحيّة، وفرض النموذج الفردي عليها، وتعميم هذه الفكرة بوساطة الاستشراق))، الذي تسعى أقطابه بكلّ ما تملك من وسائل للهيمنة على المجتمعات من خارج النموذج الغربي، وبخاصّة تلك التي تحاول التملّص من النمذجة الغربية.
وهي استراتيجية تمّ التخطيط لها منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر وأتت أكلها في القرن التاسع عشر، ولا تزال سارية بأساليب مغايرة وخارج الآلة الحربية، بل وبأدوات أكثر شراسة ممّا كانت عليه في السابق، وأقوى تأثيرا ونفاذا.
يأتي في مقدمتها الهيمنة الإعلامية والتكنولوجية، وفي هذا المقام يجدر بنا التذكير بمخلّفات أحد أقطاب الاستشراق الفيلولوجي الذي كان لأفكاره – مثلما كان لدريدا- التأثير المباشر في الثقافات والحضارات الغربية، وعلى مسوّغات استعمار الشعوب، للسيطرة عليها وإخضاعها لتظل في خدمة الرجل الغربي الأبيض، إنّه – بدون منازع – المستشرق جوزيف إرنست رينان.
هذا الذي يدّعي الموضوعية في مقارباته البحثيّة، غير أنّ المطّلع على أبحاثه يجدها تقطر كراهية على الإنسان الشرقي بما في ذلك الإفريقي، لاسيّما ما تعلّق منه بمكوّنات الهوية، ممثّلة في اللغة العربية والإسلام، فقد ظلّت نظرته حاقدة على الشعوب من خارج أوروبا، فهو ((صاحب النظريّة العنصرية التمييزية بين السامية والآرية، بما تضمّنه من هجاء للغة العربية، بأنّها لغة مفتّتة متذرّرة، لا علمية، عاجزة عن استخلاص الكلّيات والتجريد الذهني)).
وقد راجت هذه النظرية عربيّا بعدما احتضنها أحمد أمين ونشرها في كتبه، ويبرّر موريس أولندر موقف رينان بقوله: ((لقد اعتبر رينان الشعوب الساميّة شعوبا مكرّسة للجمود بحكم تصلّب أرائها، وتحجّر لغاتها، التي هي وليدة ذهنية، لا ينجح فيها أي مسعى تطوّري)).
إنّ حنق رينان على العربية واتهامها بالجمود يرجع بالأساس إلى أصالتها، وثراء قاموسها، وعدم انجرافها مثلما وقع لبعض اللغات التي أسهمت في تشويه الديانات السابقة كالتوراة والإنجيل، بعدما تمّ التلاعب بمفاهيمها، وتحريفها بما يخدم المصالح الآنية للمركز الحاكم يومئذ، لذلك لم يجد رينان في العربية تلك المرونة والطواعية التي تسمح للمستشرق من ابتكار المصطلحات التأويلية التي تمكّنهم من اختراق النصّ القرآني لتحريفه وتزييفه في مسعى تقويض مرتكزات الإسلام بما يخدم الغرب.
ولعلّ هذا من بين تلك الأسباب التي جعلته يصبّ جام غضبه على الإسلام، الذي يحفظ للغة العربية ديموتها لتظل لغة حيّة غير قابلة للفناء، كونها أهمّ وسيلة لممارسة الشعائر الإسلامية، فراح يقدح فيها وفي الإسلام جملة وتفصيلا.
فدعا إلى هدم أركانه وتقويض بنياته، إذ ((كان رينان يعتبر الإسلام أكثر رجعيّة من بين الديانات التوحيديّة الثلاث)) ، وهذا ما أكده موريس أولندر في كتابه: (لغات الفردوس) بقوله: (( أمّا فيما يتعلّق بالإسلام، فغالبا ما أظهر رينان عنفا بشكل لا يصدّق على الإسلام)). بالإضافة إلى هذا القول، فقد فضحته حفيدته هنرييت بيسكاري عندما نشرت مذكراته.
إذ يجد القارئ بين طيّاتها الكثير من تلك النصوص التي تؤكّد حقده الدفين على الإسلام ومنها قوله: ((أنا المعروف بوداعتي مع جميع الناس، … وتعاملي بشيء من الكياسة، أعلن أنّني لست أشفق على الإسلام، وأنّي أتمنّى للإسلام الموت المخزيّ. أتمنى إذلاله، أجل؛ يجب ردّ الشرق إلى المسيحيّة لا من أجل مسيحي الشرق، بل لمصلحة مسيحية الغرب)).
فرينان لا يتصوّر الشرقيّين ولا الأفارقة خارج المسيحيّة الأوروبية وفي خدمتها، ولا يعترف للمسيحيّين المشارقة بمسيحيتهم، والفارق ها هنا ليس دينيّا أو مذهبيّا بقدر ما هو نزعة عرقيّة تمييزية وإقصائية أوروبية متعالية، ((كما أنّه يحصر البشرية المتفوّقة في بلدان القارة الأوروبية، التي يعتبرها حاضنة لفكرة الحضارة المشتركة، والمكان الوحيد الذي تحقّقت فيه المساواة بين الأفراد)).
وبالتالي فإنّه لا يعترف بالحريّات ولا بالمساواة لغير أوروبي إذ يقول:(( إنّنا نرفض بالتأكيد المساواة بين البشر والأعراق على حد سواء، ونعتبر ذلك خطأ فادحا، يقينا منّا بأنّ أقسام البشريّة العليا يجب أن تتحكّم بأقسامها الدنيا)).
ما يؤكد تكامل المناهج الغربية في أهدافها الرامية إلى الهيمنة من خلال الاستشراق الفيلولولجي إلى تفكيك النص بصفة عامة والنص المقدس على وجه الخصوص، بل تفكيك المجتمعات تحت مسوغ (الخراب العربي) الذي من عرّاب الشرسين على الأوطان العربية المدعو برنار هنري ليفي وهو ممن درسوا على يدي جاك دريدا.
فممّا سبقت لإشارة إليه، فإنّه يتوجّب علينا العمل وبجدّ لضبط إستراتيجيتنا الخاصة بثقافة وطنية متعالقة وثقافة الغرب، تراعي الخصوصيات الهوياتية، بعد فكّ الارتباط مع النمذجة الأوروبية ومعياريتها، القائمة على الاحتكار، والاحتقار للغيرية من خارج الثقافة الغربية، سواء من حيث تمركز الذات الغربية، أم حيث نمطيّة التفكير، أم حيث الهيمنة بالتبعية أو التشظّي، وذلك بالتأسيس:
– لمنهج تاريخي أصيل يناقض في معياريته المناهج الكولونيالية وفلسفتها، وفي مقاربتها للمراحل التي مرت بها الحركة الوطنية، والثورة التحريرية، والتاريخ الأصيل للمجتمع الجزائري؛
– التأسيس لمنهج نقدي يستفيد ممّا هو واقعي؛ وموضوعي؛ وقائم؛ آخذا في الاعتبار أساسيّات الهوية ونفائس التراث بعد تحيينهما؛
– بناء منظومة تربوية وثقافية تنشد القيمة المضافة في مختلف المجالات المعرفية وفي الفنون والآداب.
د.جيلالي علي طالب
المراجع:
– 1 إبراهيم السكران، التأويل الحداثي للتراث، دار الحضارة للنشر والتوزيع- الرياض، ط1، عام 1335هـ
2- أحمد عبد الحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك دار الفرابي بيروت ط1 2010.
3- إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية،ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب للنشر والتوزيع بيروت ط4 2014.
4- ألبير كامو غير محبوب في الثقافة الجزائرية، ترجمة محمد الجرطي، مجلة الثقافة الجزائرية 21/3/2018.
5-جاك دريدا الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2000.
6-جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمة أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط2، 2008.
7- جان بول سارتر، عار علينا في الجزائٍر الدار القومية للنشر بيروت، ص:3
8- سامر الأسدي البنيوية وما بعدها النشأة والتقبل الدار المنهجية للنشر والتوزيع، ط1، 2018.
9- صالح هودي، المناهج النقدية الحديثة،دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع،دمشق، ط1، 2015.
10- عبد الله الحيمر، موقع القدس الإلكتروني، ليوم 13مارس 2021 بتصرف.
11-عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، 1998.
12- فردينان دي سوسير، علم اللغة العامة ترجمة، يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، الأعظمية – بغداد، 1985
13- محمود العشيري، الاتجاهات النقدية والأدبية الحديثة، ميريت للنشر والتوزيع، القاهرة، ط2، 2003. 14 – موريس أولندر، لغات الفردوس، ترجمة جورج سليمان، هيئة البحرين للثقافة والآثار، ط1، 2016،
15-يوسف عليمات،النقد النسقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن،ط1، 2015،
16- يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، منشورات الاختلاف،ط1، 2008.