يشكّل موضوع الذاكرة الوطنية بؤرة للتوتّر بين الدوائر الرسميّة والمجتمع، بل يظلّ الهاجس الذي يؤرق السلطة شعبيّا وديبلوماسيّا. (الجزء الأول)
الموضوع تكتنفه الكثير من المطبّات المتراكمة، والمتداخلة من حيث المصالح الآنية والمستقبلية للدولتين على الصعيدين: الإقليمي والدولي، سواء تعلّق الأمر بمجريات الأحداث التاريخية أم من حيث منهج التناول الذي ما زال يخضع في عمومه لمعايير المدرسة الكولونيالية، لأنها تملك المعطيات الأساس التي بواسطتها استطاعت أن توجّه الباحثين بما يخدم استراتيجيتها المراهنة على مرور الوقت والنسيان.
ولعلّ آخر مطبّة من تلك المطبّات ومن ذلك التوجيه ما تكرّم به علينا السيد بنجاما ستورا وهو يدبّج تقريره لرئيس الجمهورية الفرنسية حول المسارات التي يمكن من خلال تذليل الصعاب حول الذاكرة الجزائرية التي قوّض الاستعمار الفرنسي بناها، ورفس مقوّماتها بهدف تقديم بديل يضمن التبعية المطلقة تنظيميا وإداريا ولغويا وثقافيا لحياة المجتمع الجزائري بالصيغة التي ترضي فرنسا الاستعمار.
فرنسا العمق والتاريخ، ولعلّ ما يلفت الانتباه في ذلكم التقرير أن الجزائر وما قدّمته من قوافل الشهداء، عقيمة النمذجة في العثور على من يمكن للسيد ستورا أن يستشهد به كرمز من رموز مقاومة الاستعمار بكل أبعاده، لا سيما ما تعلّق منه بالهيمنة الاقتصادية والثقافية.
لم يجد في حوزته ما يذكّرنا به سوى بعض الأشخاص الاندماجيّين الذين ينافحون عن جزائر فرنسية، ففي حديثه عن الذاكرة المشتركة وأي ذاكرة مشتركة؛ لأنّ المشترك يكون في الخير والصلاح للبشرية، بينما نحن ها هنا أمام طرف مغتصب لوطن، ومهيمن على مدخراته وخيراته.
وطرف ثان وقع عليه الظلم والجور والطغيان، يطالب بأبسط حقوقه مُمثّلة في اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر من جهة، ومن جهة أخرى تسليمها وثائق تلك الحقبة المظلمة بوصفها ماض أليم ينبغي فرزه وضبطه ووضعه بين أيدي المؤرخين لفحصه وتمحيصه ودراسته بموضوعية وبالتالي فهو جزء من مكوّنات الأمة الجزائرية.
غير أنّ بعض الأصوات الفرنسية المتلبّسة بالفكر الاستعماري، لا تزال تعتبر ذلك جزءا من سيادتها كون الجزائر يومها كانت مستعمرة فرنسية، لذلك فإنّهم يحاولون استثناء الوثائق المتعلقة بالدفاع، وخاصة ما تمّ التأشير عليه (بالسرّي).
والواقع أنّ أرشيف الجزائر له علاقة مباشرة بالجيش الفرنسي، لأن استعمار الجزائر كان عسكريّا وكلّ الإدارات الفرنسية في الجزائر كانت خاضعة للسلطة العسكرية الفرنسية، وبالتالي فإنّ الجزائر بحاجة ماسّة إلى الأرشيف (السرّي) الذي من خلالها يمكننا معرفة ما جرى، وكيف جرى؟ .
وإن كنّا على يقين أنّ فرنسا العميقة لن تسلّم هذا النوع من الأرشيف مهما كلّفها ذلك، بحيث ستظلّ تماطل، وتراوغ، وتراهن على تعاقب الأجيال، والعمل على توجيه الأنظار إلى أحداث أخرى مماثلة، حتّى يتمّ التعتيم على الأرشيف الجزائري الأساس الحسّاس.
النصيحة بالمزايدة
والسيد ستورا وهو يتناول موضوع الذاكرة لا يتوانى في تقديم النصيحة للجزائريين عندما يقرن ما وقع في الجزائر بما يقع اليوم من أحداث في فرنسا فينسبها إلى الإسلاميين الذين لا يمتون بأي صلة للجزائر.
ثمّ إنّه يختصر مأساة الجزائريين في مجموعة من الفرنسيّين لا سيما اليهود منهم فيذكّرنا، أوّلا أنّ الكاهنة في مقاومتها للعرب المسلمين الفاتحين كانت يهودية الديانة، وأنّ اليهود الذين عادوا من الأندلس كانوا فرنسيين بالتبني.
ويذكرنا في تقريره بمواقف موريس أودان من الثورة التحريرية، الذي أصبح اسمه يحتلّ أهمّ ساحة في قلب الجزائر العاصمة، ومعناه في قلب الجزائريين، وهو اعتراف منهم بمن ساندوهم في محنتهم لاسترجاع سيادتهم وحقوقهم المغتصبة.
غير أنّ هذا الفرز النمطي والتركيز على أصدقاء الثورة وإهمال – عن قصد – الحديث عن أبطال ثورة الجزائر كالعربي بالمهيدي وعميروش ومصطفى بن بولعيد وغيرهم، ما هو إلاّ موقف صارخ يعبّر عن النزعة الاستعمارية التي ترسّخت في الفكر الفرنسي، ولا تزال تستعير جذوتها من حين لآخر، ثمّ إنّه يمْنن علينا لأن هناك جزائريان كانا لهما إسهامات متميّزة في الثقافة العالمية، ويتعلّق الأمر بألبير كامو وجاك دريدا اللذين ولدا وترعرعا في الجزائر الفرنسيّة.
ألبير كامو وهاجس الجزائر- فرنسية
لقد سال حبر كثير من أقلام جزائريين لتلميع صورتي الرجلين في الثقافة الجزائرية لاسيما في السنوات الأخيرة، والواقع أنّ أولئك الذين تكفّلوا بهذا الطرح، إمّا متعاطفين مع الرجلين باسم التوافق السياسي، أو المنبهرين بما يعلّبه الغرب فيصدره للشرق بهدف الاستهلاك، أو أولئك الذين يبحثون عن التوهج الذي سرعان ما تخفت أشعته أمام نور الحقيقة للجزائر المستقلة.
أما ألبير كامو(1913- 1960م) فهو جزائري المنشأ، إسباني الانتماء، لذلك لم يندمج كليّة في الثقافة الفرنسية، ما جعله متمرّدا في كتاباته، فهو من مواليد الذرعان بولاية الطارف حاليا، عرف المعيشة القاسية ببلكور بالجزائر العاصمة.
وعلى الرغم من ذلك فقد حُظي بمنحة دراسية سمحت له بدخول الجامعة، تخرّج فيها بشهادة ليسانس في الفلسفة، ليُعيّن أستاذا سنة 1935، وهي الظروف التي صقلت موهبة الكتابة لديه من صحفي كاتب مقالات، إلى روائي فمسرحي، فقد وُصفت مقالاته الفلسفية والروائية بالعبثية والتمرّد والعدمية، وله العديد من المؤلفات أشهرها رواية الطاعون، والغريب، والمنفى والملكوت، التي عبّرت عن مواقفه الإنسانية المتضامنة مع الجزائريين في محنتهم المعيشية.
غير أنّه ظلّ منتصرا للجزائر الفرنسية، معتبرا الجزائر قطعة فرنسية يستحيل أن تكون غير ذلك، ولمّا كان الفرنسيون يسخرون من الجزائريين فينعتونهم بمختلف صفات القذارة ومنها الجرذان، فقد اختار عن وعي كلمة (الطاعون) لروايته متخذا من الجرذان مطيّة لإهانة الساكنة بوهران، ورمزا لإبراز درجة الهلع التي سببها هذا الوباء (العربي) للمعمّرين، وفي نفس الوقت تنبيها استشرافيّا للقادة الفرنسيّين من ضياع الجزائر.
فقد ظلّ في أعماله الروائيّة، وفي تصريحاته ينافح عن شرعنة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فهو استيطاني متمرس ومتميز مثلما يؤكده إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) الذي راح يفضحه من خلال تصريحاته.
قائلا: ((إنّ التصريح السياسي الصارم الوحيد الذي لا مهادنة فيه، الذي يعلنه عن الجزائر في النصّ، يظهر كخلاصة سياسية خالية من التزويق لكتاباته السابقة، بقول: فيما يتعلق بالجزائر فإن الاستقلال القومي صيغة من العاطفة الخالصة، لم يكن ثمّة أمّة جزائرية أبدا، وإن من حقّ اليهود والأتراك واليونانيين والإيطاليين والبربر أن يدّعوا لأنفسهم حقّ قيادة هذه الأمّة الكامنة في الواقع الفعلي، لا يشكلّ العرب وحدهم الجزائر كلّها، وإنّ أهميّة الاستيطان الفرنسي والزمن الذي مضى عليه بشكل خاص لكافيان لخلق مشكلة لا تقارن أيّة مشكلة أخرى في التاريخ، إنّ فرنسي الجزائر هم أيضا بأشدّ معاني الكلمة قوّة أصلانيّون، وعلاوة، فإنّ جزائر عربيّة محضا تعجز عن تحقيق ذلك الاستقلال الاقتصادي، الذي لا يعدو الاستقلال السياسي من دونه أن يكون وهما، وأيّا كانت درجة نقص كفاءة الجهد الفرنسي فلقد كان هذا الجهد من رحابة المدى، بحيث أنّ أيّة دولة أخرى – سوى فرنسا- لن توافق اليوم على تحمّل ذلك العبء)) .
والمتأمل في هذا النصّ على صغر حجمه، وكثافة معانيه، يكتشف أنّ كامو يرتّب كلماته عن قناعة ووعي تامّين:
1- ينفي وجود أمّة جزائرية أصلا.
2- يحصر فئة الجزائريين المطالبين بالاستقلال في العرب فقط، وهذا تدخل سافر في شؤون الأمّة الجزائرية المنصهرة في بوتقة التآلف والوحدة.
3- لا يعترف بحق الجزائريين في الاستقلال والسيادة.
4- يعتبر مطالب الجزائريين بالاستقلال مجرّد صيغة من العاطفة.
5- يضبط المكوّنات التي لها الحقّ في حكم الجزائر فيرتبها ترتيبا مريبا على النحو التالي: اليهود ثمّ الأتراك ثمّ اليونانيون ثمّ الإيطاليون وأخيرا البربر، وهو ترتيب مقصود لدواعي استعمارية.
6- أنّه يقصي البربر من الجزائريين ويعتبرهم خارج المطالبين بالاستقلال، بعدما أدرجهم من ضمن الذين لهم الحق في الحكم. والواقع أنّ كامو كان يعي ما يقول، ويفعل ما يُملى عليه، على سبيل التشظي للمجتمع الجزائري، كونه – وهو المثقف قد اطلع على مشروع هانوتو ونتائج مخابر أجيرون، وهو ابن الجزائر الفرنسية- يعلم علم اليقين أن هناك قادة أمازيغ وطنيين يكافحون الاستعمار باسم جبهة التحرير الوطني التي كان يمقتها، ويعتبرها منظمة تخريبية وإرهابية.
7- بثّ سياسة التشكيك على اعتبار أنّ مطالب الاستقلال مشروع عربي من ورائه جمال عبد الناصر، ثمّ إنّ العرب لا يشكّلون الجزائر كلّها. وبالتالي فإنّهم غير قادرين على تنظيم أنسفهم خارج الإدارة الفرنسية، وحتى إن استطاعوا تحقيق الاستقلال السياسي فإنّه سيظل منقوصا كونهم غير مؤهّلين لصناعة اقتصاد وطني.
8- أنّ الفرنسيّين الموجودين في الجزائر هم كذلك أصلانيّون بحكم المدّة الزمنية التي مكثوها في الجزائر، وما قدّموه من (تحضّر) في التنظيم والعمران، أصبح لهم الحقّ في قيادة هذا البلد.
9- أنّ الجزائر خارج فرنسا لا تساوي شيئا، وأنّ أيّ دولة أخرى- سوى فرنسا- لن تستطيع قيادة هذا البلد/ العبء.
إضافة إلى هذا فقد تعرّف الجزائريون عن قرب أكثر على موقف ألبير كامو يوم تسلّمه جائزة نوبل للآداب سنة 1957 بستوكهولم، إذ ظهرت القضية الجزائرية ثانوية وهامشيّة.
فعندما سُئل عن موقفه من عدالة القضية الجزائرية، كان رده: ((لو تعيّن عليّ أن أختار بين هذه العدالة وأمّي فإنّي سأختار أمّي)) ، ما يؤكّد أنّ مواقفه الإنسانيّة قد تراجعت على ما كانت عليه قبل اندلاع ثورة نوفمبر التحريرية المباركة.
إذ نجده وقد انقلب على تلك المواقف السابقة ((حين وقف كامو في سنواته الأخيرة يجهر علنا، بل وبحدّة معارضا مطالب الوطنيّين الجزائريين بالاستقلال))، ولعلّ هذا ما طغى على أعماله لاحقا.
يقول سعيد: ((وهكذا فإنّ روايات كامو وقصصه تقطر بشكل دقيق جدّا تقاليد مصادرة فرنسا للجزائر))، فقد ظلّت قناعاته متماهيّة مع الطرح الاستعماري بعدما تلبّس فكره بنظرة الأقدام السوداء، التي تعتبر الجزائر قطعة فرنسية يستحيل التنازل عنها.
لذلك ظلّ يدافع عن ((الجزائر فرنسية والإبقاء عليها فرنسية))، وكان هذا عكس صديقه جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الوجودي النزعة، الذي كان موقفه واضحا من الثورة الجزائرية لاسيما في كتابه (عارنا في الجزائر).
الذي يبدأه بقوله: ((إني أرفع لكم صوت التحذير والنذير من وسائل الاستعمار الجديد… فالاستعماريون المحدثون يقسّمون المستعمرين إلى فئتين، فئة صالحة وأخرى طالحة)).
ثمّ يعرّفنا بمخططات الاستعمار ونواياه في الجزائر فقوله: ((إنّ الاستعمار لم يكن محض صدفة، ولم يكن وليد آلاف المشروعات الفردية، وإنّما هو نظام أقيم حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وبدأ يُؤتى أكله حوالي 1880م، ودخل في طور التصدّع والانهيار في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهو اليوم يرتدّ بالوبال على المستعمرين، هذا وأودّ أن تتعرّفوا عليه فيما يتعلّق بالجزائر التي هي – مع الأسف العميق- أبلغ مثال وأبرزه للنظام الاستعماري)).
وكان هذا الخلاف المبدئي بين الصديقين من الأسباب التي عجّلت بالقطيعة بين سارتر وكامو، إضافة إلى خلافه المبدئي مع الفيلسوف الفرنسي فرانسيس جانسون المناصر للثورة الجزائرية بشبكته المتعارف عليها (حَمَلة الحقائب).
وصاحب كتاب: (الجزائر الخارجة عن القانون) الذي أحرج فيه النخب الفرنسية، لذلك يتّفق الكثير من الباحثين أنّ كامو قد سلّم بشرعنة الاستيطان – بعدما أحجم على استعمال كلمة استعمار في كتاباته، لأنه يؤمن أن الجزائر فرنسية- ((كمعطى غير قابل للتجاوز، ولا بديل للجزائر عن السيادة الفرنسيّة إلاّ الموت والخراب)).
وإذا كان هذا حال ألبير كامو الذي يّتخذ منه البعض منا نموذجا في المواطنة، والدفاع عن حقوق الإنسان، والذود عن المقهورين، في ظل الآلة الاستعمارية الغاصبة، فمن هو الرجل الثاني الذي يتباهى به السيد ستورا ويعتبره من الرموز المشتركة بين الجزائر وفرنسا، ومن النخب العالمة المرموقة عالميا في الدراسات الفلسفية والنقدية لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية؟
ولم يكن شخصا آخر سوى جاك دريدا، فيلسوف القرن العشرين، ذي التوجّه العبثي والتفكيكي، إذ يعتبره الكثير من النقاد أنّه الأب الروحي لمقاربة التفكيكية كاستراتيجية قرائية للنصوص.
دريدا وخلفيته المعرفية للتفكيك
ولد جاك دريدا في 15 جوان 1930 بحي الأبيار بمدينة الجزائر إبان الجزائر المستعمرة فرنسيا، التحق بثانوية بن عكنون بمدينة الجزائر 1941- 1947 وفي 1948 انتظم بشعبة الفلسفة وانشغل بالإبداع.
غير أنّ مساره الدراسي عرف تذبذبا بين الجزائر وفرنسا، خروجا ودخولا، وعقب نجاحه في السنة الثانية تعرّف على ألبير كامو، ودرس على يديه، الذي ساعده في الاطلاع على أعمال جان بول سارتر ((وسيمون فيل في دراسته الكاشفة للعناصر العاطفية في التصوّف المسيحي، وهي التجارب الروحية الغامضة)).
من هنا ((تشكّلت ميوله القويّة تجاه الفلسفة، حيث قرأ لكيركغارد وهايدغر قراءة عميقة)) كما انجذب إلى أفكار هوسرل، ما أهّله لربط علاقات صداقة متعدّدة مع كلّ من ميشال فوكو، وألتوسير، وباشلار، وجاك لاكان، ورولان بارت، وكلود ليفي شتراوس وبول ديمان وغيرهم.
وكان لأحداث الشباب الفرنسي سنة 1968 دور أساسي في ظهور دريدا كمتمرّد مساند لتلك الأحداث المناهضة للحكومة الفرنسية، بعدما ((رفض لوي ألتوسير وكلود ليفي شتروس الانضمام إلى الحركة والنزول إلى الشارع))،ما فسح المجال أمامه ليتصدّر المشهد، فينال الشهرة في فرنسا وخارجها.
لقد ظلّ جاك دريدا من المثيرين للجدل في مشروعه القرائي للفلسفة الغربية، سواء من حيث منهجية التناول،أم من حيث أسلوب الطرح، أم من حيث غموض المقصدية والأهداف.
وعلى الرغم ممّا عُرف عنه من دفاع مستميت عن تلك المقاربة التي تسعى إلى تقويض النصّ بغرض إعادة ترتيبه من منطلق التشكيك في المعنى النهائي له، لأنّ مقاربته البحثية تتحدّى أسس الفكر الغربي الممجّد للميتافيزيقا، في محاولة فحصه بحثا عن المستتر المختبيء، الذي انغرس مع الزمن في النصّ وخارج وعي الكاتب.
لذلك فاستراتيجيته تتخذ من القراءة المتعدّدة والمختلفة سندا لمساءلة النصّ من خلال الثنائيات، التي ترتكز عليها الميتافيزقا الغربية، لاسيما ما تعلّق منها بمفاضلة الحضور القائم على: الصوت، والأصل، والمسلّمات، والثبات، والكلمة الفصل، والمرجع، والمعنى النهائي، أي الاكتفاء بما تمّ التوافق عليه واعتماده والتسليم به ليظلّ مستقرا، ومستمرّا كونه ينسجم مع اللوغوس أو العقل الغربي.
ويرى دريدا في ذلك إجحافا من حيث التماهي مع مسلّمات الماضي/الحضور لتظلّ مسيطرة على المستقبل/الغياب، ولا تسمح للعقل البشري من الابتكار في الكلمة والإبداع في النصّ، ومطاردة معانيه بما يجعله متشظّيّا عن طريق القراءات التأويليّة المتعدّدة.
ما أفضى إلى تحجّر الفكر الغربي حول الذات،((ففي التفكيك لا مجال لما يسمّى بالأصلي المسلّم به في النصوص))، وقد عالج دريدا ذلك في كتبه: (الصوت والظاهرة)، (الكتابة والاختلاف)، و (في علم الكتابة (الغراماتولوجيا).
وهي مقاربات بحثية وممارسة نقدية تأويلية تعتمد على قلب موازين الأشياء ومفهوماتها سواء من حيث ثنائيات التقابل والإزاحة والتبادل أم من حيث المفاضلة والتراتبية، وأولوية الصدارة والهيمنة، التي يقوم عليه الفكر الغربي المتمركز حول اللوغوس.
والواقع أن التفكيكية خرجت من صلب البنيوية التي((بالغت في مفهوم البنية ومشتقاتها اللسانية من أنساق محايثة، ونظام مركزي منضبط إلى انقلاب معرفي وصم البنيوية بالتجريد والاختزال والانغلاق….، فكان ذلك مطيّة لقيام حركة معرفية جديدة على أنقاضها سميت ما بعد البنيوية))، ما دفع بعض أقطابها على غرار: رولان بارت وجاك لاكان وميشال فوكو وجاك دريدا التمرّد على البنيوية في مسعى تحرير الفلسفة واللغة من مركزية الفكر الغربي القائم على الحضور.
والتفكيكية كفكرة كانت على لسان ((مارتن هيدغر حول التحليل التقويضي)) فتلقّفها جاك دريدا وباركتها نخبة من البنيويين المنشقّين عنها، وعلماء من أمريكا ومنهم بول ديمان.
فعلى الرغم من ازدرائها بفرنسا في بداية أمرها باعتبارها عملا غامضا وتخريبيّا للمنظومة الفكرية الغربية، فإنّها لقيت ترحيبا ورواجا في أمريكا من خلال مخابر البحث لاسيما (بجامعة ييل)، ما جعل جاك دريدا محطّ أنظار من خلال مؤلفاته التي ظلت تثير الريبة والشك والجدل، والتي انقسمت بشأنها النخب العالمة إلى فئتين.
فئة اعتبرته من فلاسفة القرن العشرين وأخرى وسمته بالتخريف والدجل، كونه يشكّك في كلّ ما هو أصيل ومستقر وثابت المعنى، ليجعله قابلا للهدم والتقويض والتفكيك والتشريح والنقض والتأويل، بمعنى أنّ كلّ نصّ، ومهما توضّحت مقصديته ومصداقيته وموضوعيته فإنّه ينطوي على نصوص مفارقة إلى درجة التعارض والتناقض من خلال اللوغوس المتمركز حول الصوت/الحضور، الذي يكبح حرية التفكير، ولا يسمح بالخروج عن المألوف. إذ لا يوجد – من منظوره – نصّ يقيني، غير أنّ الفكر الغربي المتماهي في اللوغوس، ومن خلال اللغة بتفضيلهم الملفوظ على المخطوط يجعل من ذلك عقلانيا وثابتا، وغير قابل للطعن.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف ترسّخت هذه الفكرة لديه لتصبح مقاربة إجرائية في قراءة النصوص بهدف تفكيكها، وما هي الأسس المرجعية التي بلورت هذه المقاربة في فحص النصوص؟ .
وللإجابة على هذا، يرى كثير من الباحثين أنّ دريدا المهوس بالشكّ في الفكر الغربي القائم على الميتافيزيقا، إنّما ترسّخ لديه ذلك – كما أسلفنا- من ميوله للفلسفة التي مكّنته من التعمّق في قراءة التراث الفلسفي الغربي من أفلاطون إلى هيدغر مرورا بهيغل وماركس ونيتشة وهوسرل، بالإضافة إلى اهتمامه بالتصوّف المسيحي ذي العلاقة بالتصوّف اليهودي في القبلانية.
1- القبلانيّة: لقد استفاد دريدا من أفكار القبلانية باعتبارها فلسفة لاهوتيّة تعتمد على القراءة التأويليّة للنصوص، بما فيها النصّ اليهودي المقدّس، كونه يحمل في طيّاته أفكارا غامضة تتطلّب الحفر، لأنّ القبلانية من جملة ما تسعى إليه، الكشف عن النصوص المعتّمة، وهو ما يتطابق والتفكيك عند دريدا.
2- هيغل: أمّا تأثّره بنظرة هيغل الفلسفية فتتجلّى في المتعارضات الثنائيّة بالضدّية من حيث التركيب الذي يهدف إلى نفي الاختلاف عند هيجل، كون الذات تتحقّق داخل الحضور، وأنّ المفهومات خالية من صيغ التعدّد، ولا تركن إلى الاختلاف.
من هنا فهما (هيجل-دريدا) يتّفقان في تفسير الأشياء بالضدّية، لكنّهما يختلفان في كيفية معالجة اجتماع الضدّين، إذ يرى هيجل أنّ الكون وحدة متناسقة ومتناغمة لها معالم ثابتة غير قابلة للغيير، بينما يعالج دريدا اجتماع الضدّين عن طريق الاختلاف الذي يحيلهما إلى تعدّد المعاني.
وبالتالي فإنّ القراءة المتعدّدة الناتجة عن الاختلاف تفضي إلى تأخير المعنى النهائي المتفرّد عند هيجل، إلى معان متعدّدة عند دريدا، ممّا فسح المجال له بالطعن في فلسفة هيجل بوصفها فلسفة جامدة تعتمد اللوغوس، وتنتمي إلى الميتافيزيقا الممجّدة للأصل والثابت ضمن مفهوم الحضور.
3- ماركس: إذا كان ماركس يدعو إلى رفض الميتفيزيقا الغربية الداعمة لتمركز الفكر الغربي، ورفضه للحقيقة والمسلّمات، فإنّه ظلّ ينادي بضرورة تقويض الرأسماليّة وتفكيك الحقائق الموروثة بما في ذلك النصّ المقدّس، وهو ما يتّفق وتفكيكية دريدا في الكثير من جوانبها.
4- نيتشة: تقوم فلسفة نيتشة على تحرير الدال من التبعيّة المطلقة، ونقد الميتافيزيقا الغربية، معتمدا على مذهب الشكّ في كلّ شيء، الذي يتطلّب البحث عن الحقيقة في مسعى تحرير الفكر الغربي من كلّ ما هو ثابت ومقدّس، والتي كانت سببا في تصلّب هذا الفكر وتعصبه للجنس الأوروبي الأبيض باعتباره الأقوى والأفضل، غير أنّه يظل فكرا متمركزا حول اللوغوس، وهذا ما يتوافق وطروحات دريدا، فقد لعبت أفكار نيتشة ومنهجه دورا حاسما في صقل مقاربة دريدا التفكيكية.
5-هوسرل: لقد كان لأدموند هوسرل الفضل على دريدا في بناء مشروعه التفكيكي انطلاقا من صداقتهما، ثمّ تمكينه من الاطلاع على المنهج الفينومينولوجي.
إذ يقول دريدا: ((لا شيء ممّا أفعله كان ممكنا بدون الاتجاه الفينومينولوجي، وبدون ممارسة الرد الفينومينولوجي …هوسرل بالنسبة لي هو من علّمني تكنيكا ومنهجا وانضباطا، وهو الذي لم يتخلّ عنّي قط، وحتّى في اللحظات التي اعتقدت فيها أنّه يلزم مساءلة بعض افتراضات هوسرل حاولت أن أقوم بذلك مع بقائي مخلصا للمنهج الفينومينولوجي)).
وهذا بعدما تناول دريدا هوسرل بالدراسة والنقد في نظرته للغة، فاللغة عند هوسرل إنسانية قائمة على الأنا، فهي أصوات وكلام، بينما يرى دريدا في كتابه (الصوت والظاهرة)، أنّ اللغة مستقلّة قائمة بذاتها ويمكن انتظامها من خلال الكتابة، كون الكتابة هي الأخرى لغة أساسيّة مستقلّة قائمة بذاتها، وموجودة بالقوّة أما العين على الورق، ومعنى هذا أنّ مقاربة التفكيكية عنده استفادت من أفكار هوسرل لاسيما من الفينومينولوجيا.
6- هيدغر: لقد كان لهيدغر التأثير المباشر في نحت مصطلح التفكيك أوّلا، وفي تطوير فكر دريدا من حيث الطرح وأسلوب التناول في إرساء مشروعه التفكيكي ثانيا.
إذ يقول دريدا: ((إنّ ديني لهيدغر هو من الكبر، بحيث إنّه يصعب أن نقوم هنا بجرده والتحدّث عنه بمفردات تقييميّة أو كميّة، أُوجز المسألة بالقول إنّه هو من قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا، وعلّمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيّا يقوم على التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل)) .
فقد أعجب دريدا بفلسفة هديغر القائمة على نقد مرتكزات الحداثة، باعتبارها فلسفة ميتافيزيقيّة لوغوسيّة تسعى إلى إثبات الإنسان لوجوده من خلال سمات: الذاتية والعقلانية والحرية، فقد ظلت (الأنا) مقولته الرائجة: (أنا أفكّر إذن أنا موجود).
ومعنى هذا، التسليم بالوعي بحقيقة الإنسان وبيقينية وجوده، وهذا يؤدي إلى أنّ الإنسان بهذا المفهوم هو كائن حرّ، وحريته مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإرادة والقوّة، ممّا جعل هيدغر يشكّك في تلك السمات والمقولات معتبرها تؤسّس لمركزية اللوغوس، وفلسفة العقل والهيمنة، وترفض الحوار، ولا تقبل بالنقاش المعدّد الحرّ، فهي إذن من مرتكزات الميتافيزيقا، لذلك هاجمها في مسعى هدم أركانها، وتقويض مرتكزاتها.
فعلى الرغم من التقارب الذي كان بينهما لاسيما في المفاهيم التي استقاها دريدا من هيدغر كالتفكيك والتقويض والتجاوز، واتفاقهما على تقويض أسس الميتافيزيقا بعد التموقع داخلها، فقد انتقد هيدغر ((الميتافيزيقا بعد أن اتّهمها بأنّها نسيان للوجود، كونها تهتمّ بالموجود، وليس بالوجود نفسه، وترى أن الوجود هو ما يكون حاضرا أمام العقل)).
غير دريدا تجاوز الطرح برفضه للتراث الغربي والتشكيك فيه جملة وتفصيلا، لأنه متمركزا حول العقل ومكْتف بالحضور، يرفض الاختلاف، من هنا فالرجلان يخلتفان حول النتيجة، فإنّهما يتّفقان في الرفض والاختلاف وفي تقويض الميتافيزيقا الغربية المتمركزة حول العقل من خلال اللغة/الصوت، ما جعلها تحاط بهالة من القداسة المفضية إلى الهيمنة.
7- دو سوسير: إذا كان دريدا يتفق مع سوسير والبنيويين في تفسير الأشياء عن طريق الثنائيات غير أنّه يعارضهم في الدال والمدلول الذي انغرس في الوجدان مع الزمن، لأنه يقوم على الاعتباطية وغير متجانس في مختلف اللغات.
فإذا كان المدلول عندهم يقتضي معنى ثابتا ونهائيا، فإنّه عند دريدا يتحوّل إلى دال يبحث عن مدلول في لعبة دلالات لا تنتهي؛ مبرّرها الوحيد تعدّد القراءات، ما يجعل المعنى النهائي مؤجلا، لذلك اتّهم سوسير بالمركزيّة الصوتية وبتفضيله الكلام على الكتابة.
فراح ((يحاول أن يبيّن من نصّ سوسير ذاته أن كلاّ من الكلام والكتابة يفترضان مسبقا نوعا معينا من الكتابة)) ، وإذا كانت هذه هي بعض مرجعيات جاك دريدا التي أنضجت مفاهيمه الفلسفية والنقدية، فما هي مرتكزات مقاربته القرائية في التفكيكية؟
يتبع ..