إن ما نعانيه ليس مشكلة فقدان الحقيقة والبحث عنها وعن أنواعها، بل المشكلة في اكتشاف الحقيقة والاستبداد بها واحتكارها بصفة مخجلة ومقيتة. (الجزء الأول)
الجدل الدائر بين التيارات الفكرية حول موضوع الحقيقة، هو ذاته يمثل واقعا يجب دراسته وتحليل أسبابه ودوافعه. وأهمية المشكلة محصورة في طرق ووسائل البحث المستعملة، فالمنطلقات والأسس المغلوطة والخاطئة حصيلة دوافع نفسية، مشحونة بخلفيات وعقد نفسية وضغوطات وإكراهات ومكبوتات.
لذا فإن الوسائل البحثية المستعملة تستند غالبيتها على السقيم والعليل (حالة من انفصام بين الحقيقة والواقع كمعطى، وبين النص كتعاليم وبين الحياة كميدان تجربة)، فلا أهمية للمقدس بدون الاجتهاد العقلي والرؤية المختلفة إلى موضوع الحقيقة، فذلك يغيّر من مجرى البحث ليستبدل بالجاهز.
فمن الحركة العقلية إلى الثابت من الأحكام، ومن احتمال اليقين الحاصل بالشك المعرفي إلى عدم التفكير في استعمال الشكّ المعرفي، وبأركونية خالصة الجنوح إلى اللامفكر فيه.
هذه الغفلة المتعمدة في التدقيق والفحص للمنطلقات، واختبارها لأسس موضوع النظام السياسي الإسلامي، أنتج لنا أفكارا ناقصة عن صورة النظام الإسلامي الأمثل، الذي تحقّق فيما سبق في دولة النبوة والخلافة الراشدة كدولة نبي معصوم، تبعتها دولة أفراد غير معصومين نهلوا من القيم والأخلاق السياسية للنبي (ص).
ومن الموضوعية رفض التهمة الموجهة للفكر الإسلامي، هذا المصطلح الحديث الذي “انتشر استعماله في القرن العشرين على وجه الخصوص، لتمييز ما يريده المفكرون المسلمون بديلا أصيلا عما أخذ ينتشر بين المسلمين من عناصر الفكر الغربي الوافد.
“تهمة الفكر الإسلامي بتعمّد تغييب النظرة التاريخية لمراحل تكوّن وتشكّل النظام السياسي، وبأنه لم يدرس آليات النظام الإسلامي ومضمونه بصورة جدية، وإنما يمكن ردّ تغييب هذه النظرة التاريخية، كونها تمّت في غياب البنية المعرفية، التي تقتضي السببية فيه وتقديم آلية وأداة تتم بواسطتها الدراسة، وادعاء صورة المطلق، وإصباغ صفة الكمال على النظام الذي يُسقطُ إمكانية النظر والتمحيص والقراءة التاريخية.
من جهة مقابلة يتخلْل الطرح مغالطات تدّعي الكمال والمطلق للنظام، لتعطيل حركية العقل والبحث وفرض منطق النموذج الواحد المثالي، والتستر على الانزلاقات التاريخية وما صحبته من مظاهر سلبية، تمّ السكوت عنها في سبيل تمجيد الكمال المنشود، داخل الذات المرهقة بإكراهات الواقع.
محاولة السعي لتكرار النظام الإسلامي الأول، محاولة نفسية وجدانية يحفها الكثير من الرغبة والاندفاع والحماس، لكن يعوزها الحفر العميق المتعب، الذي يطرح كثير الأسئلة، ويكشف عن أماكن الهشاشة والصلابة في أرضية البناء الحضاري.
إنها محاولة ناقصة من الموضوعية المعرفية، غير المؤسسة على شروط واضحة، فأمل استعادة النظام الإسلامي الأمثل، أو على أقل تقدير محاولة تحقيق إمكانية الولوج فيه، والتحفيز له دعائيا يحركه دافع خفي لأجل التوظيف الإيديولوجي، الذي يسعى إلى تحويله إلى مجرّد أداة في يد السياسي.
محاولة التماهي في النظام الإسلامي ارتكازا على خطاب دعوي حماسي تعبوي، تغذيه عاطفة مندفعة معتمدة على خطاب يغيّب فيه العقل ويعاديه.
فتبحث المحاولة لتجاوز ما هو واقعي إلى المثالي، بتوفير وجود ذهني اعتمادا على مرجعية زئبقية، تتعمّد الخطأ وتخالف العقل وتناقض الواقع.
هذا الفكر المعطى الجاهز الذي سيقابله حتما فكر مخالف يحمل مشروعا يقوم على النقد ورفض الادعاءات، وإعادة التفكيك ثم البناء في دورة غير منتهية بأدوات علمية معرفية في مقابل المحاولة القائمة على خطاب التعبئة الوجدانية.
الفكر الجاهز وموانع التجاوز
الفكر القائم على المعطى الجاهز يهمل الحفر والنقد، ويهمل محاولة القراءات الكثيرة المتعدّدة بغية الوصول إلى الحقيقة، ويعتمد على المتاح الجاهز من الخطابات المفرغة من العقلانية، الخالية من البراهين والأدلة التي تتيح الاختلاف.
فكر الخطاب الرافض للتنازل عن الآراء بمجرد توفر الحجة والدليل، فكر مغلّف مغلق يلجأ إلى مبررات الضعف والعجز هروبا من الحقيقة، التي تعتمد المنطق والعقل أساسا لها، وتتخذ من النقد رفضا للمعطى الجاهز ودراسة لأحوال الواقع على ضوء التاريخ الذي يتوجّب الغربلة.
نقد يتعمد احتضان خطاب تعبوي، ومخابر وكواليس المؤسسات الدينية، المصبوغة بسياسة الشدة والقسوة والاعتداء والإكراه والعنف، التي تقدم الأحكام المغلوطة الخاطئة بغية التضليل والتحريف، والتحييد وتحديد مجال الحرية وتضييقه، وخلق مسحة ضبابية عليه، وطبخه بنكهات العنف وعوامل الإرهاب والتطرّف، الذي يمتص قوته ويأخذها من ادعائه للمقدس الجاهز المغشوش.
إنها مبررات العجز والهروب إلى حيث الخطاب الجاهز الشمولي، الذي يعادي الديمقراطية التي تقوم على ركيزتين، الشعب مصدر السلطات.. ومبدأ المواطنة والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين بصرف النظر عن الدين أو العرق أو المذهب أو الجنس”.
إن ثراء التراكم الفكري الإسلامي قام على صراعات فكرية مختلفة ومعقّدة لأجل السلطة التي خلّفت آثارا كبيرة، فسياسة الحكم تبنى على تحالفات وتشكيلات العصب، فتتقاطع الأهداف والاهتمامات والتوجهات، على اعتبار يصاحب كل حقبة فاعلين إما سلطة أو معارضة.
إلا أن استمرار نظام كل خلافة وسلطة يحتّم على القوة المسيطرة الحاكمة أن تتصرف بما يخدمها من التاريخ في موضوع أحداث الراهن والمستقبل، حيث تسعى جاهدة لصنع تاريخ يخدمها وتبحث لإيجاد الآليات الكفيلة بذلك.
بهذا تُمهد الأرضية لسياستها وتصنع أشخاصا يؤدون هذا العمل، مستعينين بالرواية الخاصة، ودفن الحقيقة من خلال التلفيق والتدليس، ودسّ الأخبار المصنوعة بمزاج وهوى الحاكم لفرض السيطرة أكثر، وإيهام الشعب والرعية بفقدان الصواب لكل معارضة، واعتبارها خارجة عن القانون وتصنيفها ضد الشرع، وتدنيسها بصفة الفسق وإخراجها من الإسلام، واستحقاقها العقوبة من سجن ونفي وقتل، فكل معارضة تقف على رجليها، حاملة شعار التغيير تلقى من العنف الأمرين.
وبذلك فإن الكم الكبير لأحداث التاريخ الطويل يقع في أيدي كل سلطة، نجحت في السيطرة على الحكم وتلاعبت به كما شاءت.
ولأن السلطة صراع، فكلما استفرد حاكم بكرسي الحكم إلا انتهج لنظامه خطا، وأرّخ لزمانه بما يخدم مصالحه ومنافعه، وشخصه وتاريخه، إذ ينصّع ويبّيض هذا التاريخ بغرض دوامه وتخدير الشعب من خلاله، وتحييد رأيه وتوجيه اهتماماته وسرقة الولاء منه بحيلة المكر والتلفيق لا بإرادة المستبصر الراشد.
لذا فالنظر بعين النقد في مخلفات التاريخ، وإعادة قراءته قراءة متأنّية، والحفر في أعماقه، ووضعه تحت الأدلة العقلية بما تشابك من الأحداث، وبما حمل من تناقضات.
من الضرورة قراءة التاريخ المخالف لهذا الطرح، والاستماع بإنصات كبير للفئات المقهورة، والاطلاع على أدبياتها بغرض استكشاف حقيقة المصاعب التي واجهتها، والانتهاكات التي ارتكبت في حقها، من خنق للحريات، والقمع والتلفيق والشيطنة.
ولذا تتضح أهمية استدعاء النقد، وممارسة عديد القراءات الجادة والعميقة، والتمسّك بها على مستويات عدة للوصول إلى الفهم، واغتنامه حتى تنجلي الأوهام الكثيرة والمدسوسة في التاريخ.
وحتى نستطيع التفكير والتأمل وحتى “نصوغ قواعد بديلة لتفكيرنا الديني، في سياق عصرنا ورهاناته، والمعارف والعلوم والفنون المستجدة فيه، كما صاغ السلف قواعدهم، التي أمسّت مناهج مزمنة توجّه نمط فهمهم وفهم من جاء بعدهم وفهمنا للدين، في سياق الماضي الذي عاشوه، وطبيعة المعارف والعلوم والفنون المتعارفة لديهم”.
فلا يجب تخطي حقيقة أي نظام حكم والتستر على جوانبه المظلمة، من خلال قصدية مفتعلة في إغفال حقبة بعينها دون الحقبات الأخرى، فمسارات النظام السياسي تختلف من نظام إلى آخر رغم استمرار النمط والخط الواحد، إلا أن هناك انعراجات داخله تميزت بالمختلف.
فكل نظام يتصّف ببنية مغايرة عن سابقاتها ولو شرب منها، إذ يملك خصوصيته المستقلة وهذا إما تحولا إلى الجيد في التغيير، وإما انتكاسا في لامبالاة الحكم وهذا يعني تقهقرا وزوالا، والتاريخ يعجّ بالأمثلة الكثيرة عن الدول والإمبراطوريات المختلفة والإمارات والممالك.
قد تتكرّر الممارسات السياسية وتأخذ وجها آخر، إلا أن أساس كل نظام يقوم على الغلبة السياسية، ويتحقّق بمنطق القوة. فالغالب يفرض توجهاته وشروطه ومبادئه على المغلوب، فعامل الغلبة يوظف في تحديد إستراتيجيته السياسية، وفرض نمط الحكم الذي يرتضيه لنفسه، أو الذي تحدّده الصفوة الداعمة له، ودائرة الحاشية السياسية وحدها من تملي قرار إنجاح إرادة الحاكم أم لا.
ينظر الفكر الجاهز إلى النظام الإسلامي على أساس فكرة الجاهز، من خلال عملية الاستدعاء والتكرار، وإسقاط خاصية إعادة القراءة لهذا النظام، القائم على إقامة سلطة الفهم الواحد لا على مبدأ المفهوم المتعدّدة.
الفهم الواحد الذي يناهض سلطة المعرفة، ويتمخض عنه الإكراه، ويكون ظالما بهذه النظرة على اعتبار إهمال التيارات الفكرية الإسلامية الأخرى، التي كانت سبّاقة إلى تأسيس مدرسة عقلية قامت عليها الكثير من المقولات الغربية ومناهجها.
يلجأ الفكر الجاهز إلى فرض الإقصاء وتغليب الرأي الواحد، ويعمل للقضاء على الخطاب المتعدّد الغني بالطرح والحوار المعرفي. على اعتبار الخطاب كلام تاريخي، ولكل عصر خطابه الخاص به، وهو كلام متزن وفي محله، وكل ما عداه مشوّش وغير مترابط.
إن الفكر الجاهز يقع في فخّ النظام السياسي الذي يقدّم شبه الحلول للمشكلات، من خلال الشعارات أو من خلال الإجراءات الأمنية المختلفة إذا أقتضى الأمر.
ومشكلة النظام السياسي ليس في ما تقدمه جهة أو ما يخالفها فيه الآخر، إنما في إغفال الإنسان كحقيقة تاريخية واجتماعية وكونه مركز لمجال الاحتمالية التي تعبّر عن المفهوم العلمي العام، ومع فقدان إمكانية معرفة السلطة المشروعة، ومقومات الحصول عليها وآلياتها والتعمّق في مضمونها.
إن الفكر الجاهز يقدّم صورة نمطية واحدة للنظام السياسي الإسلامي، ويعدم فيه الوجه المشرق للعقل، ويسد باب الاجتهاد والرأي في وجه الآخرين على اعتبار تقديس الأولين لا تقديس النص، لذلك فقراءة ومساءلة التاريخ ودراسته بمنهجية يقرّبنا أكثر إلى فهم موضوع النظام وموروثه، ويجنبنا أحادية الفهم والفكر الذي يتبناه خلق كثير يخضعون لنظام حكم يرفض الشورى والديمقراطية والتناوب معا.
لذلك توجّب الجد في قراءة تتيح الفهم الذي ينسجم مع الرؤية الحديثة والأخذ بالمتوافق منها، اقترابا لجوهر الفكر الإسلامي الأصيل الذي يتيح فرصة النقد، والرفض للادعاءات وتفكيكها والتأكد من صحتها.
فالفهم الصحيح يقوي النص على اعتباره سلطة متعالية، يرصد الواقع موضوعيا من خلال محاولة اكتشافه للحياة الكامنة فيه، وانسجامها مع العالم؛ فمحاولة فهم النص الإسلامي يعني العمل من خلاله بإيجابية داخل المجتمع بشكل فعّال، فهو بهذه الكيفية يضخّ الدماء الجديدة لينبض بالحياة، ليشكّل دائما مرجعية تتناغم مع السيرورة التي تبقي العالم غير متناقض معه و “من الممكن للمثقفين أن يشعروا أن المعرفة العلمية كانت منسجمة تماما، بل حتى متوافقة مع إيمانهم الديني”.
الفكر الإسلامي والحاجة للاجتهاد
يقرّ الفقه الإسلامي بالاجتهاد والذي يعرفه الغزالي بـ”أن يبذل الوسع في الطلب حيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب”.
وأطلق الغزالي على المجتهد اسم “المستثمر الذي يحكم بظنه وأطلق على الأحكام الثمرات” والنصوص الإسلامية لاتصافها بصفة العموم وسمة تعليل النصوص فقد فتحت الباب مشرعا للاجتهاد، وفرض الفقه الإسلامي شروط الاجتهاد لإحياء النص الإسلامي وفق مواصفات خاصة.
فالجد في قراءة مختلفة مهمة ضرورية للأخذ بالصحيح وترك السقيم، لأجل مساءلة مشروعة تنتصر لوظيفة العقل كمفتاح للفهم، وتضع مشكلة عدم كفاءة القارئ، وغياب المجتهد كونه أقصى ذاته بلون الطيف السياسي الذي تبناه، كونه نسخة من آلاف النسخ للصورة الواحدة التي ترفض فكرة الاختلاف والمراجعة للنص، وترفض اجتهاد العلماء بدعوى التصدي للانشقاق، وتقسيم الأمة وتجزئتها.
وبالرجوع إلى التراكم المعرفي الإسلامي الأول نجده كان متنوعا يقرّ بالاختلاف، وشهد ثراء معرفيا ليس بمثل ما يشهده اليوم، فقد تخللته حَلْقات ودراسات، ومناظرات العلماء والفلاسفة لمختلف التيارات الفكرية والسياسية الشائعة آنذاك، لبلوغ الصواب ورفض دعوة الخروج عن النصوص الإسلامية كما يحدث اليوم من جهات كثيرة، على اعتبار الإسلام يرفض الاختلاف.
إلا أن “الإسلام اهتم بتعريف العلاقة مع الآخر والتقنين لها، فقد أعترف بحقيقة الاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري”. من عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليوم.
هناك تيارات كثيرة لها مؤاخذات وتنكر النص الإسلامي، وبخاصة التيار العلماني الذي يحاجج في مداخلاته ونقاشاته، مؤكدا انطلاقه من النصوص الإسلامية في فهم علاقة السياسة بالإسلام، وفي ذات الوقت يرفض الإسلام كمعطى لفهم الواقع، ويدعو لفصله عن السياسة، وفصله عن الدنيا.
فدعوته غايتها إسكات النص، الذي انطلق منه لإيجاد أدلة تجعل الإسلام في دائرة العبادات وحدها؛ وتبعده عن ملامسة ما هو واقعي، رغم أن الإسلام له صلة بما هو إنساني في سياق العصر، ففي لبّ الدين يقبع النفيس من الحلول، إلا أن الجوهر مطلي بطبقات الوحل فلا يرى إلا المظهر.
وفهم الدين هنا عند العلمانيين العرب والمسلمين مأخوذ من السياق الأوروبي، الذي يعني “أنه تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبّر عن نفسها فقط في عقائد وشعائر يؤديها الفرد.. أما الإسلام فأكثر من دين لأنه يحتوي الحياة كلها”.
إن الفكر الذي يتقيد بالفهم الأوحد ويقبل الجاهز، يكذبه النص الديني الإسلامي، لأن الفكر معناه تفعيل الاجتهاد والقراءة الحديثة للدين، والتأويل المنفتح على التأمل الإنساني، فالنصّ الديني الإسلامي دائم الحياة، يحتاج فقط إلى آلية يميز فيها بين الادعاء والعمل، الذي يلامس واقع العصر، ويقدم نفسه فعّالا للعالم الذي يواجه فيه الإنسان الصعاب ويعدم السعادة.
إنه يتحقق بآلية التواصل والائتلاف مع العالم لتبيان النص وإظهاره وإيصاله إلى الآخر. إن النص الديني الإسلامي متجدّد، وحقائقه تغيب عن العقل وتتجاوزه فالعقل يخطأ، وإمكانية نقله الحقيقة أو اكتشافها تكون ناقصة، وهذا النقص يملأه الاختلاف والاجتهاد والنقد من خلال إعادة القراءة والبحث.
محاولة التغيير وأهمية الإسلام في حياة الإنسان
يمكن للنقد طرح كيفية التفكير في استخراج لب جوهر الإسلام، ونقله من عصر بداياته الاشراقية إلى الراهن الخافت، بمراجعة البدايات والأخذ بأصولها، والتعمق في ما أتى بعدها من الاجتهادات، التي ظهرت في سياقات مختلفة بحسب الحاجة إليها، والتعرّف على محتويات النص الديني الثرية، باحثا عن تفسير رموزه الكثيرة التي لم يصل العقل إلى حلها بعد، والمتعلقة دوما بالإنسان وعلاقاته بعصره الذي يحياه، وتبيان دلالاتها التي تتوافق مع روح كل عصر.
فالإسلام يهتم بالإنسان حيثما كان على اعتباره ابن آدم، لا فرق بينه وبين الآخرين، فهو يتجاوز الحدود الاجتماعية والجغرافيا والتاريخية. لقد مرّ الإسلام بمراحل مختلفة، وكان تلقي البشر له بحسب الظروف والسياقات.
لذا فإن الفكر الإسلامي خضع لإكراهات فيما يقدمه من نتاج فكري؛ بمعنى أن النظام الإسلامي شهد أوضاعا مختلفة في طريق التجربة، وهذا دافعا للاعتراف بأهمية الإسلام في مجالات حياة الإنسان.
ومن هذا المنطلق فإن الاختلاف يكون بالقراءة الحديثة المختلفة التي ترفض النظرة الأحادية الجاهزة المكرّرة بالنسخ والتلقين، ورفض الفهم الواحد إلى تعدّد الفهوم.
فالإسلام متجاوز لحدود المدارس، وللمقولات القديمة وللاجتهادات الفقهية ومناهجها المعروفة، بل يتعداها إلى مدارس جديدة، وإلى مقولات جديدة، وإلى مناهج جديدة كونه يقوم على مصدر إلهي أبدي ـ القرآن ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى نصوص السنة، فهما أساس الأصول، وبذلك فإنه يقبل الإنصات للمقولات الأخرى المستندة على آليات النظام المعرفي، وبذلك فهو متجاوز لحدود الأحادية.
جاء الإسلام في الأساس لتغيير السائد كما جاءت من قبله المسيحية واليهودية إلا أنه مختلف عنهما، ليغيرّ الواقع ويتجاوز الحالة السائدة، وما هو قائم فيها من تجاوزات على الإنسان من طرف أخيه الإنسان، جاء لينتصر للإنسان على الإنسان، ويقيّده أخلاقيا ليتحرّر ويحطم صنم الذاتية ويستعيد إنسانيته.
فالإسلام يحوي داخله نزعة إنسانية كبيرة تتواءم مع كل عصر، لذا فالحاجة ملّحة إلى بناء معرفة جديدة، وفهم جديد يتماشى مع العصر، بغية الوصول إلى مكانة الإنسان الحقيقية، وصلته بالخالق مصدر الحقيقة المطلقة.
يعبّر النص الإسلامي (قرآن وسنة) عن الشريعة جيدا، لأنه كلام الله منزّه بالتعالي، منزّل مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منزه عن الخطأ، وكل نظرة عابرة لمعانيه هي نظرة بائسة من الريبة والجهل.
فالمطالبين بإقصاء الإسلام والملصقين به تبعات سلوكات بشرية منحرفة، بجعله على هامش مجالات الحياة، هم في الغالب لا يجيدون الاستماع إلى نبضه وحركته، ويجهلون قراءة إمكاناته في إيجاد الحلول للقضايا الجديدة، ومعاصرته لها، إنهم يصادرون النص ويعملون على إسكاته.
يقدمون الأحكام من خلال الفهم الخاطئ له، ليفكرون نيابة عن النص القرآني المنزّل بأحكام وتعاليم إلهية كاملة تامة، ولأن التفكير خارج النص ودون التعمق في باطنه، ومعرفة أصوله ودون الوقوف على إعجازه ومعانيه لن يحقق انكشاف المنحجب، ولن تتاح المعرفة الحقيقية للنص، وهؤلاء في الأساس إما لم يفهموا الحداثة “في تجلياتها الحالية سواء كحدث تاريخي أو كمفهوم نظري كونها إنتاج غربي في الزمان والمكان.
حيث شهد الفكر الإنساني تحولا لم يشهده من قبل وكان له أثر كبير على كل مناحي الحياة الإنسانية.. ولأول مرة التحمت الدعوة إلى احترام إنسانية الإنسان دون التمييز وإلى ترسيخ العقلانية كحكم في تقييم الأفهام والأفعال وتجسد ذلك في نظام ديمقراطي يحترم الرأي الآخر ويحتكم إلى رأي الأغلبية، وإلى جعل التجربة معيار المعرفة”.
وإما أنهم طبّقوا سياقات الحداثة على بنية مختلفة كل الاختلاف على البنية الأصلية. لذا لم يفهم بعض أنصار العلمانية حقيقة العلمانية وسياقاتها التي ظهرت فيها، وأصحاب هذه الدعوة قد تفسّحوا في النصوص الإسلامية دون التدبّر العميق في الآيات والتعاليم والأحكام وإنما أخذوا بسطحية البحث.