قرّرت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة أن تكون سنة 2019م، سنة دوليّة للغات الأصليّة، وهذا في خطوة جريئة لرفع مستوى الوعي العالميّ بالمخاطر التي تهدّد لغات الشّعوب الأصلية.
كان الغرض من هذه المبادرة الإسهام في تيسير الوصول إلى لغات الشّعوب الأصليّة والتّرويج لها، وتحقيق تحسّن في حياة هذه الشّعوب من خلال تعزيز أبناء هذه اللغات على التّواصل بلغاتهم الأصليّة. وتكمن أهميّة هذه المبادرة في توفير منبر عالميّ لإقامة حوار بنّاء يتناول فيه المختصّون نماذج لصون المعارف باللغات الأمّ، والتّرويج لها وإتاحتها أمام الباحثين. وكان شعار هذه المبادرة (أهميّة لغات الشّعوب الأصلية من أجل بلوغ التّنميّة المستديمة وبناء السّلام وتحقيق المصالحة). وفي هذا المخاض كان الهدف التّربويّ هو:
1 ـ إتقان الأطفال التّراكيب الأساس للغة الأمّ في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائيّة المبكّرة.
2 ـ تحقيق مستوى عالٍ من التّعلّم الذّاتي، وهذا ما يؤدّي إلى حبّهم للعلم والبحث والإبداع.
3 ـ تأصيل حبّ القراءة لدى المتعلّمين، وسرعة القراءة، وجودة الكتابة وسلامة الفهم. وهذا يؤدّي إلى زيادة التحصيل العلمي والتفوّق الدّراسي.
4 ـ عدم حاجة التّلاميذ في هذه المرحلة إلى النّحو والصّرف، والاكتفاء بالحصص التي تجعل المتعلّم يدرك جمال اللّغة وبلاغتها وتعلّمه التفكير وتسلسل الأفكار والبحث العلمي والإبداع والتّعبير الواضح عن الأفكار، وكلّ أنماط المعرفة بشكل دقيق ومنظّم.
5 ـ إتقان أفضل للمهارات الفنيّة والحركية بسبب إمكانية إعطاء هذه المواد زمناً أطول ممّا هو مخصّص لها في المناهج.
6 ـ ترسيخ التفكير باللغة الأمّ التي هي لغة الكتاب والمعرفة وجعلها هي فضاء المعرفة لدى الأجيال، وليست العاميّة، وهذا ما يخلّص التّلاميذ من فوضى المفهومات، ويساعدهم على التّفكير الإبداعي.
7 ـ إتقان أفضل للغة الأجنبيّة.
في العادة بأنّ اللغة المشتركة هي التي تعمل على الّتنمية البشريّة؛ حيث إنّ القمّة على اتّصال بالقاعدة، والعكس يصحّ، من خلال لغة مشتركة، وتسمى لغة الأمّة. ومفهوم كلمة الأمّة؛ يعني بها ذلك الكيان الأوسع والشّامل في الانتماء الحضاريّ والثّقافيّ المشترك. وهكذا، فالعربيّة مجال مشترك ومثال يحتذى؛ فهي الوحيدة التي يأتي عليها مصطلح (اللّغة الأمّ + لغة الأمّة) بحكم أنّها لغة الأمّ والأمّة لا تعامل معاملة اللّغات الأخرى، فلها التّفضيل؛ لما لها من قاسم مشترك، ولا بدّ أنّ الجانب السياسيّ يُغلِّبها على اللّغات الوطنية واللّغات الأجنبيّة، وهذا يستدعي تدبيراً عقلانياً يراعي التعدّد بحسب المقام والذي يحافظ على التّماسك والتّعايش. ومع ذلك فتجد أحياناً بعض الفئات تطرح أسئلة الهُوية والخصوصيات اللغويّة والثّقافيّة والحضاريّة والقوميّة والروحيّة، فهنا نرى اللّغة الأمّ– لغة الأمّة تأتي في صدارة تلك الأسئلة. ففي واقعنا الجزائريّ هناك لغة مشتركة في التّفاهم بين مُكوّنات الأمّة بمختلف أداءاتها اللغويّة والوظيفيّة، ولكن نطرح هنا سؤال التّنمية الشّاملة، فهل التّنمية الكاملة المتكاملة تأتي من اللغات المحليّة أو من اللغات الأجنبيّة؟
إنّ التّنمية الشّاملة تأتي بنفع عامّ لا شكّ في ذلك، وتفضي إلى تنميّة القدرات الذّهنية، والرّفع من المستوى التّعليميّ والخبرة والثّقافة والوعي، بل إلى زرع الثقّة بين المسؤول والمسؤول عليه، بين الرّاعي والرّعية، بين المسيّر والخادم، ليحصل المزج الكلّي بين العقول التي تفكّر وتخطّط، وبين السّواعد تبني وتعمل. وهكذا، لا يمكن أن تحصل التّنمية البشريّة في غياب التّواصل البيني الذي لا يكون إلاّ بلغة مشتركة، وهذا ما نلمسه بين المريض والطّبيب، فغياب التّواصل اللغويّ يزيد من عقدة المرض، وإذا حصل التواصل البيني يحصل نصف الشفاء. ولذا، فنروم أن تكون اللغة المشتركة ركيزة أساساً في التّنمية الجمعيّة، والتي تعتمد: الرّأسمال البشري+ الرّأسمال المعرفيّ+ توطين المعرفة. وتوطين المعرفة باللغة المشتركة عامل قويّ لمزيد من الإنتاج.
وهكذا تساوي العربيّة لغة التنميّة، ولكن في واقعنا المعاصر الذي تقوم الأمور على المصالح المرسلة من حقّ التّاجر/ المعلّم/ السّائق/ السّائح/ الإداري… أن يسأل عن لغة فيها منفعته، وهي أسئلة مشروعة، فأين هذه اللّغة التي لها وزن في سوق التّداول؟ وهذه الأمور من أسئلة واقع المنفعة، ونحن نعيش هاجس الحضارة والتّقدّم والاستقرار، فيمكن أن يهجر الإنسان لغته ويعزف عن توريثها لأبنائه، فلا تشغله الهُوية بقدر ما يشغله واقع المال والمصلحة، ومن هنا، لا يجب أن ننخدع بالتّشبّث اللّغويّ الداعيّ إلى قبول اللهجات والتي تنشطر إلى محلّيات، وفي الأخير ينتصر من يضرم النّار بين اللّغات الأخوات. ونعلم بأنّ سلاح اللّغة ذو حدين: يمكن أن توظّف من أجل لحمة المجتمع، كما يمكن أن تستعمل لتمزيقه.
ولهذا، ينمو الرّأسمال المعرفي بقدر نمو الثّقافة الجامعة، والوعي الجمعيّ، ولا تحقّقه إلاّ اللغة الوطنيّة المشتركة القادرة على تعميم التّعليم، وإنتاج المعرفة ونقلها وتبسيطها وتوطينها وتعميق جذورها في المجتمع؛ لأنّ المعرفة لا تستورد كلّها، بل يمكن استيراد بعضها، وما دام أنّه يستورد بعضها فإنّه عالة على الآخرين أو في حكم غير الموجود، فالمعرفة تُستنبت في بيئتها وفي عقول أبنائه، بلغتهم المشتركة لأنّ استيراد المعرفة مكلفة جداً، ثمّ هي متطوّرة دائماً، فما هي المعرفة التي تستورد؟ وكذلك فإنّ استيراد المعرفة يمكن أن تحصل بصورة سطحيّة، وما هو ليس متجذراً يكون سهل الاقتلاع والزّوال واستيراد المعرفة بلغاتها؛ بمعنى توسيع تلك اللّغة في وطنك على حساب اللغات الوطنيّة؛ ويعني ذلك تبعية لغويّة، كما يعني خلق نخبة وفئة تتقن اللغاتِ الأجنبيّةَ.
إنّ استيراد المعرفة يكمن في خطرين: أولاً خطر التّماهي مع لغة واحدة تأخذ منها، ويدخل هذا في الاستعمار اللغويّ. وثانياً خطر الأخذ من كلّ اللّغات (العلم يوجد في كثير من اللغات، فأيّة لغة يؤخذ منها؟) وهنا يحدث الانشطار أو الانفصام الشّخصيّ للمجتمع الذي يستورد المعرفة، والطّريق الأمثل هنا هو نقل المعرفة إلى اللغة الوطنيّة المشتركة؛ بتكثيف حركة التّرجمة وفق برامج مخطّطة تواكب حركة الإنتاج المعرفيّ، والرّفع من عدد البعثات، وهضم المعرفة العلميّة بلغاتها الأصل ثمّ ترجمتها وصدق بيرم التونسي الذي قال: “إذا علّمتَ شخصاً بلغته نقلت العلم إلى تلك اللغة، أما إذا علّمته بلغة أخرى فلم تزد على أنّك نقلت ذلك الشّخص إليها”. وإنّه ليس هناك من وسيلة لتعميم المعرفة وتطوير سلوك المجتمع إلاّ استعمال اللغة الوطنيّة المشتركة، حيث التّنمية بعمومها لا تحصل إلاّ بتماسك اجتماعيّ، والمجتمع المنسجم لغوياً هو الأقوى، وغير المنسجم يصبح منحلاً، ويساعد على خلق جو من التّبعية، بل ومن الشّرخ الجمعي الذي يؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه، وهذا بسبب غياب الانسجام الفكريّ والثّقافيّ والسّياسيّ بين المجتمع. وكلّما حدث انسجام وتناغم بين النّاس ازداد تحقيقُ التّنمية والوحدة اللغويّة، وارتفعت نسبة الانسجام الجمعيّ. ولهذا فإنّ اختيار اللغة الرّسميّة للوطن تراعى فيه مجموعة من الشّروط التي لا تحدث الخلل في المجتمع، ولا تنزل اللغات الوطنيّة منزلة واحدة، فلكلّ لغة حمولة وثقافة وإرث وتراث وحضارة، فيقع الاختيار بين أثقل اللغات الوطنيّة، ولا يمكن التّسوية التامّة بين اللغات الوطنيّة، فإذا قبلنا بهذا؛ فإنّنا نروّج لديماغوجيّة عمياء بعيدة عن الواقع. ويجب التّأكيد بأنّ اللغات الوطنيّة ليست على درجة واحدة من الكفاءة والتّجربة، وبالتّالي ليست كلّ اللغات الوطنيّة صالحة للقيام بكلّ الوظائف، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا يتسابق النّاس لتعلّم لغة دون أخرى، ولهذا فإنّ اختيار اللغة الرّسميّة للوطن لا تؤخذ هكذا، بل هناك مبرّرات تأخذها الشّعوب، وهي:
1 ـ أن تكون اللغة الأكثر انتشاراً من حيث الاستعمال، والأكثر تجذّراً في وجدان المجتمع.
2 ـ أن تكون حاملة للمعرفة أو مؤهّلة لذلك أكثر من غيرها.
3 ـ أن تكون ذات حمولة ثقافيّة ورمزيّة وتاريخيّة وحضاريّة عميقة، وتجربة طويلة.
4 ـ أن تكون الأكثر من بين اللغات المستعملة قدرة على مواجهة اللغات الأجنبيّة والوقوف في مواجهتها نِداً للنِّد، وذلك حتى لا يسهل افتراسها والقضاء عليها، كما حدث لعدد من اللغات الصّغرى في أفريقيا وغيرها من البلاد حين عجزت تلك اللغات عن الصّمود في وجه لغات الاحتلال من مثل الفرنسيّة والإنگليزيّة، فانتهت إلى الخضوع التامّ والاستسلام الكامل.
5 ـ أن تكون صالحة للتّواصل بين أكبر عدد ممكن من أبناء الوطن الواحد، وبين أبناء الوطن الانتماء أو الأمّة الانتماء.
6 ـ أن تكون صالحة للاستعمال في التّعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام، وكلّ مرافق الحياة العامّة والخاصّة.
7 ـ أن تكون مُؤهّلة للاستعمال لتستعمل في توطين المعرفة وإنتاجها وتوليدها.
8 ـ أن تكون بمثابة الأمّ الحاضنة للجميع والبيت المشترك الذي يسكنه الجميع، وكأنّهم أفراد أسرة واحدة متضامنة، ويتساوى فيه الجميع دون إحساس أحد منهم بالتّهميش أو النّقص أو الإبعاد. ومن المأثور عن الفيلسوف الألماني (مارتن هيدجر) أنّه كان يقول: اللغة هي بيت الإنسان الذي يأوي إليه ويقيم فيه”.
مرّة ومراراً أقول: إنّ اللغة الوطنيّة المشتركة هي البيت المشترك، فلها مقامها ووظائفها التي تقوم بها، وكان علينا صونها والعمل على حمايتها بكلّ ما أوتينا من جهد وقوانين، وأما اللغات الأجنبيّة نحتاجها عند الضّرورة، ونلجأ إليها في ربط المجتمع بالعالم الخارجيّ لمواكبة التّطوّر، ومعرفة الحاجات الملحّة والإفادة منها، شرط أن تتمّ إعادة إنتاج ما يستفاد من اللغات الأجنبيّة إلى اللغات الوطنيّة بإعادة التّعبير عنها باللغة الجامعة. ونقول: بأنّ التنمية الشّاملة تكون باللغات الوطنية، ولم يثبت عن أمّة في العالم ارتقت بغير لغاتها الوطنيّة.
البروفيسور صالح بلعيد
رئيس المجلس الأعلى للغة العربية
مراجع
ـ عبد العلي الودغيري، لغة الأمّة ولغة الأمّ عن واقع اللغة العربيّة في بيئتها الاجتماعيّة والثّقافيّة. بيروت: 2014، دار الكتب العلميّة، ص 19-37.
ـ عبد العلي الودغيري، لغة الأمّة ولغة الأمّ عن واقع اللغة العربيّة في بيئتها الاجتماعيّة والثّقافيّة. بيروت: 2014، دار الكتب العلميّة، ص 35. بتصرّف.