كثيرا ما تعالت الصّيحات خلال السّنوات الأخيرة، بضرورة الانتقال إلى الإنكَليزيّة؛ لتدريس العلوم أو اعتمادها أداة للبحث العلميّ، أو لغةً أجنبيّة أولى، وسواء كانت هذه الدّعوة عن قناعة علميّة أو عاطفة جيّاشة، تغذّيها تلك العُقدة التّاريخيّة تجاه الفرنسيّة لغةِ المستعمر.
هي قرار حكيم لو تبنّته السّياسة اللغويّة للجزائر الجديدة، كما تسمُّى في المشهد السّياسيّ الجديد للجزائر، ولكن كيف يجب أن يُعتمَد هذا القرار ضمن هذه السّياسة، أو كيف يتمّ تحقيق هذه السّياسة اللغويّة؟ أو بعبارة أخرى أيّ سياسة لغويّة أنفع لمجتمعنا في ظلّ هذا الصّراع اللغويّ الذي تعرفه البشريّة؟
أوّلا- ديناميكيّة اللغات وضرورة الانفتاح على لغات العولمة:
أوّل ما يجب أن نُلفِت إليه النّظر في مجال السّياسة اللغويّة بالتّحديد؛ هو أنّه إذا كان الهدف من تعليم اللغات الأجنبيّة، هو الانفتاح على العالم، أو بالتّحديد الانفتاح على المعرفة العلميّة التي تتيحها اللغات الأجنبيّة، فإنّه من الضّرورة بما كان ـ على كلّ سياسة لغويّة – أنْ تساير مستجدّات التّطوّر اللغويّ العالميّ، الذي تعرف فيه البشريّة، في كلّ عصر من العصور، لغة سائدة أو غالبة على العلم – بتعبير اللسانيّين المحدثين – تفرض على المجتمع في سياسته اللغويّة توجيه الاهتمام إليها، بالتّعلّم أو التّعليم؛ حتى لا يُفوِّت على نفسه فرصة الاستفادة منها فيما حقّقته أو حقّقه أهلها من نتائج على مستوى العلم. وهنا يمكن أنْ نشير إلى أنّ مسألة استقرار اللغة على وضعية اللغة العالمة أو اللغة العلميّة، أمر لا يحمل من الضّمانات، ما يجعلنا نراهن على المدى البعيد، بضرورة الانتقال الكلّيّ لها، فكثير من اللغات التي سادت على العلم قرون طويلة سارت بمنزلة اللغات الهامشيّة، بعد أنْ تراجع مردودها في إنتاج المعرفة طبعا، وهذا ما يفرض على المجتمعات الدّوليّة أن تهيئ سياستها اللغوية لكلّ طارئ يمكن أن يعترض سيرورة اللغات وانتشارها، وأن تعتبر ضمن هذه السّياسة اللغويّة، كلّ لغة أجنبيّة – مهما بلغ شأنها من المعرفة – لغة أجنبيّة أولى لا لغة بديلة عن لغاتها الوطنيّة، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية؛ لفهم سيرورة هذه اللغات البشريّة أو انتشارها، والتي يفوق عددها 6000 لغة، لا بدّ أنّ نضع في الحسبان – كما ذهب إليه أستاذ اللسانيات بالمغرب والباحث في السّياسة والتّخطيط اللغويّين عبد القادر الفاسي الفهريّ – أنّ هذه اللغات لا تسير اعتباطا أو صدفة، وإنّما هي تسير وفق نظام هرميّ يؤسّس لوظيفتها أو دورها في المجتمع/ المجتمعات الدّوليّة، قاعدته تضمّ ما يسمّى باللغات الهامشيّة/ الرّبضيّة (peripheral) وهي تعدّ بالآلاف وإنْ كان عدد مستعمليها لا يتجاوز 10% من مجموع ساكنة هذه المعمورة، وتستمدّ هذه اللغات صمودها أو بقاءها من كونها لغة مشافهة، مع العلم أنّها ليست لغات كتابة أو تدوين؛ بل إنّ مستعمليها قلّما يستخدمونها في التّواصل اليوميّ، وعادة ما يضطرّون إلى تعلّم لغة ثانية لأجل تحقيق منفعة خاصّة: كالتّعلم، أو التّجارة أو الإدارة… إلخ، وهي مهدّدة أكثر من غيرها بالانقراض كما تشير إليه إحصائيات هيئة الأمم المتّحدة أو المنظمة العالميّة للتربيّة والعلم والثّقافة (UNESCO). وأوسطه يضمّ ما يسمّى باللغات المركزيّة (centrel) والتي عددها لا يتجاوز المئة (100 لغة) وهي ما يعرف سياسيّا باللغات الوطنيّة أو الرّسميّة، وهي تستمدّ قوّتها أو صمودها من كونها لغة التّعليم، والإعلام، والإدارة، والسّياسة…إلخ، وأعلاه بقليل يضمّ ما يسمّى باللغات فائقة المركز (supercentrel) أو ما يعرف باللغات الكولونياليّة، وهي تستخدم في السّياسة، والإدارة، والمحاكم والتّجارة، والتكنولوجيا والتّعليم العاليّ، وهي التي يبلغ عددها (12 لغة) وهذه اللغات، ينطق بكلّ منها أكثر من مئة مليون ناطق، كلّ منهم يرتبط بلغة مركزيّة، وهي تنطبق على ما يعرف باللغات العالميّة: كالفرنسيّة، والعربيّة والصّينيّة، والرّوسيّة، والإسپانيّة. وفي أعلى الهرم توجد لغة/ لغات عملاقة المركز (hypercentrel) تربط متكلّمي اللغات ذات المركزيّة الفائقة فيما بينهم، وتكون شاملة أو عالميّة كما هو الحال مع الإنجليزيّة حاليا، التي تمثّل لغة التّواصل بين متكلّمي العربيّة، والرّوسيّة والإسبانيّة…إلخ. (عبد القادر الفاسيّ الفهريّ، السّياسات اللغويّة في البلاد العربيّة، ص73-74).
ولتوضيح هذه العلاقة القائمة بين مختلف هذه اللغات البشريّة، يقترح عبد القادر الفاسيّ الفهريّ وصف هذه الدّيناميّكيّة أو الحركيّة التي تعرفها لغات العالم، بالمجرّة اللغويّة العالميّة، تمثّل فيها اللغات الهامشيّة/ الرّبضيّة مجموعة أقمار تلتفّ حول الكوكب، وهو (اللغة المركز) واللغات الفائقة المركز مجموعة الشُّموس، التي تلتفّ حولها كواكبها (اللغات المركزيّة) بينما تمثّل فيها اللغة العالميّة المركز ضمن هذه المجرّة، أو يمكّن اعتبارها بمثابة الأرض بالنّسبة لمجموع الشّموس والكواكب المحيطة بها. (عبد القادر الفاسيّ الفهريّ، السّياسات اللغويّة في البلاد العربيّة، ص73-74). مع العلم دائما أنّ ما يُعرَفُ ضمن هذه المجرّة اللغويّة، باللغات الهامشيّة أو اللغات المركزيّة، أو اللغة فائقة المركز، أو اللغة العالميّة الشّاملة (global) بتعبير الفهريّ، تعيش صراعا دائما فيما بينها لفرض ذاتها ضمن مركزيّة هرميّة أعلى أو على الأقلّ ضمن مركزيّة أقوى، تضمن لها الصّمود والبقاء، في ظلّ هذا الصّراع اللغويّ الذي تعرفه اللغات البشريّة، وهذا طبعا عن طريق فرض ذاتها في مختلف مجالات العلوم أو البحث العلميّ، هذا المجال الحيويّ الذي تأخذ اللغة منه بقدر ما تعطي؛ أو أنّ العلاقة بينه وبين اللغة علاقة أخذ وعطاء دائمة، فهو بقدر ما تسهم اللغة في تطويره بقدر ما يعمل على فرضها بالقوّة في المجتمعات الدّوليّة، باعتبار أنّ المعرفة وحدها من تسهم في تطوير هذه المجتمعات. وهنا من دون شكّ يبقى المجال مفتوحا أمام جميع اللغات لاعتلاء أعلى مرتبة في هذا الهرم، أو استعادة مكانتها فيه على الأقلّ طالما أنّ مجال البحث في المعرفة مُتَاح للجميع، أو مختلف الأجناس البشريّة على اختلاف لغاتها. وعلى هذا الأساس يرشّح الكثير من اللسانيّين اللغة الصّينيّة مستقبلا، لاعتلاء اللغة العلميّة، لما تحمله من شروط النّهضة طبعا، وهو عدد النّاطقين، والحراك العلميّ الذي يعرفه هذا البلد، وغزوها لمعظم الأسواق العالميّة، في مجال الصّناعات الثّقيلة والخفيفة، وكذا الصّناعات الإلكترونيّة بمختلف أنواعها وغيرها من المجالات، ناهيك على أنّها اللغة العالميّة الثّانية بعد الإنجليزيّة طبعا. وهو ما يجعلنا نعتبر صفة العولمة اللغويّة بالنّسبة للإنجليزيّة أو أيّ لغة أخرى، صفة غير ثابتة أو قارّة على مدار الأجيال طالما أنّ المعرفة مرتبطة بالفكر وليس اللسان، وبقدر ما يفكرّ الإنسان بقدر ما يفرض لغته والتّفكير كما هو معلوم خاصّية بشريّة، وليست حكرا على جنس بشريّ دون آخر.
إنّ هذه الحقيقة المرتبطة بديناميكيّة اللغات أو حركيتها في تبادل الأدوار، تجعلنا نعتبر سيادة لغة ما على العلم أمرا غير قارّ، أو لا يحمل من الضّمانات ما يجعلنا ننتقل إليها كلّيًّا؛ حيث يبقى الاعتماد على هذه اللغة في تدريس العلمّ أمرا يحمل معه من الخطورة ما يجعل المجتمع غير قادر على تحمّل أعباء الانتقال من لغة إلى لغة كلّما سادت لغة أخرى على العلم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يستحيل معها توطين المعرفة فيه؛ لأنّها لغة أجنبية عنه، إذا كان هذا هو الهدف من تدريس العلم في حدّ ذاته. أمّا إذا كانت الغايات ترتبط بمسايرة مستجدّات البحث العلميّ في الخارج، وزيادة مرئية الجامعات؛ باعتبار الإنجليزيّة ممن تضمن مقروئيّة أكبر، أو تحقيق أعلى المراتب في سلّم التّرتيب العالميّ للجامعات؛ فأعتقد أنّ هذه مرحلة/ مراحل تاليّة وليست سابقة؛ لأنّ الأولى في التّعليم الجامعي هو أنْ يسهم في توطين المعرفة، التي لن تتحقّق إلاّ بلغة وطنيّة تساوي في فرص التّعليم، وبعدها تأتي الغايات/ الأهداف الأخرى تِباعا، أمّا أنْ يتحوّل التّعليم الجامعيّ مباشرة إلى مسايرة مستجدّات البحث العلميّ، وزيادة مرئية الجامعات وتحقيق أعلى المراتب في سلّم التّرتيب العالميّ، دون أن يضع توطين المعرفة شغلها الشّاغل أو همّه الأوّل، فهذا أشبه بمن يدّعي امتلاك المعرفة؛ لأنّ المعرفة الحقيقيّة هي التي يتمّ تجذيرها في المجتمع لتصير جزءا منه، يسهم في تطويرها كلّ حين. أمّا المعرفة التي تكون حكرا على من يتقنون الإنجليزيّة أو أيّ لغة أجنبيّة أخرى معتمدة في تدريس العلوم، فهي معرفة حينيّة تزول بزوال النّاطقين بها رغم المحاولات المتكرّرة لنقلها إلى الأجيال المتعاقبة، أو بمثابة إضافة نوعيّة إلى النّاطقين بهذه اللغة؛ لأنّهم في كلتا الحالتين محسوبون على المجتمعات النّاطقة بها.
إنّ الحكمة تقتضي منا؛ أن نفرض ذواتنا كمجتمع متكامل لا كأفراد، عن طريق الفكر لا عن طريق اللغة التي هي مجرّد وسيلة لا أكثر ولا أقلّ، وهذا طبعا لا يتأتى إلا بلغة وطنيّة تساوي في فرص التّعليم وترفع من مستوى التّفكير عند جميع أفراد المجتمع، وأنْ نعتمد سياسة اللغة الجامعة في التّعليم مهما كان نوعه، مع ضرورة الانفتاح على عدد أكبر من اللغات الأجنبيّة، وبخاصّة لغة العولمة أو المرشّحة لأن تكون لغة للعولمة، وإلا تحوّلنا مع سياسة الانتقال الطّوعيّ للغات الأجنبيّة، إلى مجتمع قابل للذّوبان، لا نحن نجحنا معها في فرض ذواتنا، ولا نحن استطعنا أن ننتقل إليها كلّيا، ولعلّ تجربة فاشلة مع الفرنسيّة لمدّة تزيد عن نصف قرن من الزّمن خير دليل على هذه الحقيقة التّاريخيّة.
إنّنا بهذا لا نعادي العولمة اللغويّة التي هي حقيقة ثابتة في اللغات، وضرورة حتمية لتواصل البشر فيما بينهم عن طريق لغة عالمية مشتركة، ولكنّها حقيقة ثابتة في التّاريخ، أن لا تطوّر لمجتمع في غياب لغته، وبهذه الحقيقة نجح الألمان، واليابان، وكوريا، وغيرها من الدّول التي استطاعت أن تستعيد كيانها وتفرض وجودها بعد نصف قرن من الزّمن، من خروجها من حرب عالميّة، وهذا طبعا بعد أن وضعت لغاتها مع اللغات الأجنبيّة أو الإنجليزية بالتّحديد، موقع النّديّة أو في علاقة أخذ وعطاء بينها وبين هذه اللغة العالميّة، فاستطاعت أن تحافظ على وجودها عن طريق اللغة في وظيفتها الطّبيعيّة، اللغة الوطنيّة للتّعليم واللغة الأجنبيّة للانفتاح على العالم أو المعرفة، فأنشأت شعوبا تعتزّ بلغاتها، وتقدّس تعلّم اللغات الأجنبيّة، أو جيلا ثنائي اللغة. فهل نستطيع أن نحذوَ حذوها؟ نعم بكلّ تأكيد ولكن شريطة أن نتبنّى نفس المنهج الذي تبنّته في سياستها اللغويّة، وأن نعمل على تطوير اللغة العربيّة عن طريق معالجة تحديات البحث العلميّ بها طبعا.
ثانيا- تطوير اللغة العربيّة وتحديات البحث العلميّ:
لا شكّ في أنّنا حينما نتحدّث عن دور اللغة العربيّة في تطوير البحث العلميّ؛ فنحن نتحدّث عن أهمّ مرحلة في تاريخ العربيّة، وهي مرحلة العصر العباسيّ الأوّل والثّاني أو العصر الذّهبيّ للحضارة العربيّة؛ حيث عرفت فيهما العربيّة أوجّ تطوّرها في مجالات أو علوم شتّى، منها العلوم الدّينية: كالفقه والأصول، والتّفسير، والحديث، أو العلوم اللغويّة: كصناعة المعاجم، والنّحو، والفقه، والأصول، وكذا الطّب، والفلسفة، والفلك، والهندسة، والرّياضيات، مع علماء عرب أو مسلمين، من أمثال الخليل (175هـ) والخوارزميّ (232هـ) والكنديّ (256هـ) والرّازيّ (311هـ) وابن الهيثم (430) وابن سينا (427هـ) وابن رشد (595هـ) وغيرهم كثير، أو كذلك مرحلة معاصرة فرضت فيها العربيّة وجودها لغةً للبحث العلميّ في بعضٍ من مجالات العلوم الإنسانيّة: كعلم الاجتماع، أو التّاريخ، أو الإعلام بشكل أكبر؛ رغم ما تعيشه من مضايقات، إلا أنْها استطاعت أن تتقاسم هذا الدّور (لغة البحث العلميّ) مع لغات أجنبيّة في الجامعات العربيّة. أمّا حينما نتحدّث عن دور البحث العلميّ في تطوير اللغة العربيّة؛ فنحن نتحدّث عن مرحلة هي العربيّة فيها أحوج مما مضى، إلى هذه الوسيلة في تطوير ذاتها، بعد أن تراجعت عن ركب التّطوّر سنين طويلة؛ لأسباب خارجة عن إرادتها؛ وهذا لأنّ علاقة البحث العلميّ باللغة العربيّة، لم تكن علاقة دائمة ومتبادلة بينها وبين هذه العلوم؛ ولهذا انتقلت العربيّة في هذا العصر تحديدا – بعد أنْ قطعت علاقتها بهذه الوسيلة في تطوير ذاتها – من لغة مُنتجة للمعرفة إلى لغة مستهلكة، وهي الآن في مرحلة استعادة لدورها الرّياديّ في ممارسة البحث العلميّ أو على الأقلّ مشاركة اللغات الأجنبيّة الأخرى: كالإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو الإسبانيّة أو الرّوسيّة، في بناء المعرفة أو الحضارة الإنسانيّة؛ بعد أن صارت تتقاسم فيه هذا الدّور مع مجمل هذه اللغات العالميّة.
وأوّل ما يجب أنْ نتّفق عليه في موضوع دور البحث العلميّ في تطوير اللغة العربيّة، أنّ البحث العلميّ لا يعدّ وسيلة لتطوير اللغة فحسب؛ بل هو وسيلة لتطوير مختلف مجالات الحياة بصفة عامة؛ باعتباره أداة لتحصيل المعرفة، ونحن نعلم يقينا ما للمعرفة من دور في تنظيم شؤون الحياة أو تيسيرها لدى الإنسان؛ كما أنّه قبل حديثنا عن دور البحث العلميّ في تطوير اللغة العربيّة، لابدّ أنْ نحدّد أهمّ التّحدّيات التي تواجهها اللغة العربيّة في هذا العصر، حتّى نستطيع أنّ نحدّد دور البحث العلميّ في تطوير هذه اللغة، وطبيعة البحوث العلميّة الخاصّة بتطويرها؛ حيث تعرف اللغة العربيّة كغيرها من اللغات الوطنيّة للمجتمعات الدّوليّة عدّة تحدّيات كبرى هي: الانفجار المعرفيّ للعلوم، بفضل ما تدرّه مختلف مراكز البحث العلميّ من معرفة علميّة، وباللغات الأجنبيّة، والتّدفّق السّريع للمعلومات؛ بفضل تكنولوجيا الإعلام والاتّصال الحديثة، وقلّة التّمويل المادّي للمشاريع الخاصّة بتطويرها، أمام حاجة بعض المشاريع الخاصّة بتطويرها إلى ميزانيات تقدّر بملايير الدّولارات على غرار المعجم التّاريخيّ، أو مشروع الذّخيرة اللغويّة، أو التّرجمة كمشروع حضاريّ تتبناه المجتمعات العربيّة لتطوير لغتها/ لغاتها، ورابعا وأخيرا العولمة اللغويّة أو الإنجليزيّة؛ باعتبارها لغة جاذبة، وخامسا -إنْ شئنا أن نعتبره تحدٍّ أكبر تواجهه العربيّة في مجتمعاتها- وهو تأخّر القرار السّياسيّ القاضي باعتماد اللغة العربيّة أداة لتدريس العلوم في الجامعات العربيّة. وهنا من دون شكّ أنّنا حينما نتحدّث عن دور البحث العلمّيّ في تطوير اللغة العربيّة؛ فنحن نتحدّث عن أهمّ وسيلة لمواجهة التّحدّي الأوّل، وهو الانفجار المعرفيّ للعلوم، فما طبيعة البحث العلميّ الذي يمكّننا من التّحكم في المعرفة أو الانفجار المعرفيّ للعلوم بتعبير آخر، وأيّ التّخصّصات العلميّة يقع عليها الرّهان في تطوير اللغة العربيّة؟
نعود مرّة ثانية لنراهن على دور البحث العلميّ في تطوير اللغة العربيّة، ولكن في صيغته الجماعيّة أو ما يسمّى بالعمل الجماعيّ إلى جانب التّرجمة طبعا، – والتّرجمة الآليّة بشكل أكبر- لأنّ البحث الفرديّ لم يعد وحده قادرا على مواكبة هذا التّطوّر الذي تعرفه العلوم في شتى المجالات، أو التّخصّصات المعرفيّة، كما أنّ التّرجمة البشريّة لم تعدّ وحدها قادرة على تغطية كلّ ما تنتجه مختلف مراكز البحث العلميّ من معرفة علميّة باللغات الأجنبيّة، وبشتى اللغات الأجنبيّة. وهنا يمكن أنْ نشير إلى دور وزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ في تطوير اللغة العربيّة، من خلال ما يسمّى بالعمل الجماعيّ، وإنْ كان على مستوى العلوم الإنسانيّة فقط، في اعتمادها نظام المخابر في تسيير البحث العلميّ بداية من الألفيّة الثّالثة (2001) معتمدة عدّة صيغ في تسيير بحوثها العلميّة، منها مشاريع البحث الوطنيّة (PNR) أو (CNEPRU) أو مشاريع البحث التّكوينيّ الجامعيّ (PRFU). كما يمكن أن نذكر جهود المجلس الأعلى للغة العربيّة، في تطوير اللغة العربيّة من خلال عقده لعدّة اتّفاقيات شراكة أو تعاون بين مختلف القطاعات الوزاريّة، ومراكز البحث العلميّ، منها: وزارة التّربيّة، ووزارة الدّاخليّة والجماعات المحليّة والتّهيئة العمرانيّة، ووزارة النّقل والأشغال العموميّة، ووزارة البريد والمواصلات، ومركز البحث العلميّ والتّقنيّ لتطوير اللغة العربيّة، وكذا مركز البحث في الإعلام العلميّ والتّقنيّ (CERIST)، بالإضافة إلى تأسيسه عدّة فرق لتحقيق مشاريعه الخاصّة كمشروع تحسين الأداء اللغويّ للقطاعات، وإعداد موسوعة الجزائر والمعجم التّاريخيّ للغة العربيّة وبناء المعجم والقواميس المصطلحيّة، وأدلّة المحادثة اليوميّة في مختلف المجالات، على غرار قاموس السّياحة أو دليل المحادثة الطّبيّة… إلخ، إلى جانب عقد الملتقيات الوطنيّة والأيام الدّراسيّة بالشّراكة مع مختلف مؤسّسات البحث العلميّ، والجامعات الجزائريّة بشكل أكبر. وكلّها مشاريع يستند فيها المجلس على العمل الجماعيّ بما يتّفق مع طبيعة البحث الأنسب لتطوير اللغة في عصرنا الحاليّ.
هذا عن طبيعة البحث العلميّ الأنسب لتطوير اللغة العربيّة أو مواجهة التّحدّي الأوّل، وهو الانفجار المعرفيّ للعلوم، أمّا عن طبيعة المجالات أو التّخصّصات العلميّة التي يمكن أنْ يقع عليها الرّهان في تطوير اللغة العربيّة؛ فهي المجالات الأكثر نفعا للبشريّة في عصرنا الحاليّ، والتي هي الطّب؛ والطّب الخاصّ بعلاج الأمراض المستعصيّة بشكل أكبر: كالإيدز، والسّرطان، ومختلف الأوبئة الّتي يواجهها إنسان هذا العصر، على غرار الڤيروس التّاجيّ أو ما يُعرَف عالميّا بكوڤيد-19. والفيزياء أو بالتّحديد الطّاقة النّوويّة، والطّاقات المتجدّدة باعتبار توجّه المجتمعات إلى استخدام الطّاقة البديلة أو الطّاقة الصّديقة للبيئة، وثالثا الهندسة باعتبارها مجالا للتّعمير؛ ورابعا وأخيرا، المعلوماتيّة (الإعلام الآليّ) نظرا لتوجّه معظم المجتمعات الدّوليّة نحو الرّقمنة، باعتبارها أيسر السّبل للتّواصل وهي عمليّة تتطلّب من اللغة أنْ تتضلّع في مجال البرمجة الحاسوبيّة والذّكاء الاصطناعيّ.
إذن هذه أهمّ المجلات التي على العربيّة أنْ تلجها لتفرض ذاتها كلغة للبحث العلميّ، وتكون في موضع الأخذ والعطاء بالنّسبة لهذه العلوم، وموقع النّدية بالنّسبة للغات العولمة، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ منظّمة اليونسكو (UNESCO) حسب آخر إحصاء لها ضمن أطلس اللغات المهددة بالانقراض الصّادر عام 2010، اعتبرت من خلاله أنّه بحلول نهاية عام 2100، لن يبقى من مجموع عدد اللغات سوى بضع مئات من مجموع ستة آلاف (6000) لغة، بمعنى أنّ اللغات المهدّدة بالانقراض ستموت لا محالة، أمّا اللغات المتبقيّة فإنّها ستتحوّل من صراع وجوديّ أو صراع بقاء إلى صراع نفوذ، والعربيّة واحدة من اللغات التي ستواجه هذا الصّراع في القرن المقبل على الأقلّ، بناء على هذا الافتراض، وأنّه لا بدّ لها بذلك أنْ تعدّ العدّة لذلك. فما الحلول التي تمكّن من تفعيل دورها الرّياديّ كلغة للبحث العلميّ؟ ما دور المؤسّسات اللغويّة في ذلك؟
يذهب الكثير من الخبراء والباحثين وحتى الإعلاميّين إلى التّساؤل حول جدوى المؤسّسات اللغويّة في تطوير اللغة العربيّة، وممارسة البحث العلميّ؛ بل أبعد من ذلك حينما يطرح التّساؤل بشأن ما تنجزه مختلف مراكز البحث العلميّ والمؤسّسات اللغويّة بشأن تطوير اللغة، إلى أنّ مصير هذه البحوث عادة ما يكون مجهولا أو حبيس الرّفوف، ولكن لتوضيح هذه المسألة، لا بدّ أن نعي جيّدا دور المؤسّسات اللغويّة من جهة، ودور بقيّة المؤسّسات من جهة ثانية، فبالنّسبة لدور المؤسّسات اللغويّة، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن المؤسسات اللغويّة ليس لها سلطة تنفيذ أو إلزام بالنّسبة لمستعملي اللغة، ولكنها تقترح المشاريع والأفكار التي من شأنها أن تعزّز مكانة اللغة العربيّة في مجتمعها، أو تقوم بحمايتها من تهديد الانقراض، أو حتى بعض السّلوكات اللغويّة المشينة: كالأخطاء اللغويّة الشائعة مثلا، ليبقى الدّور الرّيّادي في تطوير اللغة هو مستعملها بالدّرجة الأولى، وهنا يقع الرّهان في تطوير اللغة بعد المؤسّسات اللغويّة على المدرسة بالدّرجة الأولى، ثمّ الجامعة؛ باعتبارها مؤسسة للبحث في قضاياها الرّاهنة والمستقبليّة، ثمّ الإعلام، باعتباره مؤسّسة ممارسة، والمؤسّسات العموميّة؛ باعتبارها مؤسسة منفّذة، وأخيرا المجتمع المدني باعتباره شريكا للمؤسّسات اللغويّة، أو همزة وصل بينها وبين أفراد المجتمع.
وبهذا يمكن أن نحدّد دور البحث العلمي في تطوير اللغة العربيّة، وطبيعة هذه البحوث العلميّة التي يجب اعتمادها في تطوير هذه اللغة، وكذا أهمّ المجالات التي يجب على العربية أنْ تلجها لتفرض ذاتها كلغة للبحث العلميّ، وأخيرا علاقة المؤسّسات اللغويّة بباقي المؤسّسات في تطوير اللغة العربيّة.
د. ياسين بوراس
أستاذ اللسانيات بجامعة محمّد بوضياف بالمسيلة