قريبا مني توقفت السيارة ذات اللون السماوي اللامع. . كنت على الكرسي الخشبي العمومي أجلس متأملا صف الأشجار الباسقة الممتد على طول الطريق. . وجهت بصري إلى السيارة. . لم أر أحدا فيها. . لم يثر ذلك استغرابي. . ربما نزل من كان فيها دون أن أنتبه إليه، قلت لي، ورحت أواصل تأملي في الأشجار. . وفي العابرين والعابرات. .
الطيب طهوري
تعال، سمعت. . كان الصوت يأتي من جهة السيارة. . نظرت. . باب السائق مفتوح. . ولا أحدا أرى. . لم أعر الصوت اهتماما. . عدت إلى ما كنت عليه. . عدت إلى تأملي. .
أنت، أيها الطيب. . أيها الجالس، تعال. . لم يكن هناك أحد يجلس غيري. .
وقفت. . نحو باب السيارة سرت. .
اركب، قال الصوت. . وركبت. . كيف ركبت؟. . كيف لم أخفْ وركبت؟. . لا ادري. . لم يكن في السيارة أحد وكنت كالمنوَّم مغناطيسيا. .
خذ مفاتيح السيارة. . كانت اليد تمتد إلي. . كانت تجلس على الكرسي الذي بجانبي. . كانت جميلة حد الحقول. .
لم أسألها من تكون؟. . غمرتني ابتسامتها المشرقة. . كان الوقت صباحا. . وكانت صباحيَ المتلألئ. .
عرفني بمدينتك، قالت. . لكنها كانت هي من يعرفني. . هذا حي العصافير. . ذاك مقر جمعية الشروق. . هناك في الجهة اليمنى مبنى مقر الولاية. . في اليسار أماما دار الثقافة. . هكذا راحت تعرفني بمدينتي. . تعرفني بما أعرف وبما لا أعرف. . كنت مشدودا إلى صوتها الفيروزي بكلي. .
حين توغلنا في الأحياء كانت الحفر في كل مكان. . في الشوارع. . في أرصفة الشوارع. . كنت خجولا وهي ترى معي كل ذلك. .
لا تخجل، قالت. . إنها مدينتي مثلما هي مدينتك. .
أنت من هنا إذن؟ سألتها. .
لا. . لست من هنا فقط، أجابت. .
لم أفهم، قلت لها. .
من هنا. . من هناك. . من هنالك. . من الحاضر. . من الماضي. . من المستقبل حتى. . كان صوتها يغوص بعيدا فيَ. . كنت أفهمها. .
جدك يفهمني أكثر، قالت ضاحكة. .
جدي؟. .
جدك زرياب. . لا تنس، بلغه تحياتي. .
تعرفينه؟. .
قل له: الأندلسية تبلغك تحياتها. . قل له: العباسية. . قل له: اليونانية، الهندية، الفارسية. . قل له: الشرقية والغربية. . قل. . قل. . كانت تذكر مختلف القارات والحضارات. .
لنخرج من هنا. . خذني إلى الضواحي. . أسرع. .
و. . كنا في الضواحي. .
حديقة الغرباء، هذه. . غابة المساء تلك. . ذاك نهر الحياة. .
نهر الحياة؟. . ما عادت هناك حياة أيتها الـ. . وتوقف صوتي. . لم أعرف بأي اسم أناديها. .
مدت يدها إلي. . ضغطت على أصابعي. . كل الأسماء لي، قالت فرحة. .
كل الأسماء لك، قلت فرحا مثلها. .
منتصف النهار يقترب. . عد بنا إلى هناك. . أدركت الـ هناك. . وعدت بها. .
ليس اليوم، ردت علي حين اقترحت عليها التوجه إلى مطعم ما للغداء. .
أنزلتني. . واختفت. .
ووجدت نفسي على الكرسي الخشبي مشدودا إلى صف الأشجار التي كانت تداعب الريح أغصانها. .
الأندلسية هنا إذن، صاح جدي سعيدا سعيدا. .
بعد قليل صاح: العباسية هنا، وصاح سعيدا. .
صاح بعدها سعيدا: الصينية هنا. .
ستكون ضيفتنا غدا، لاتنس. . غدا هي ضيفتنا. .
كل الذين كانوا في البيت سألوه وسألوني: من تكون هذه الأندلسية،العباسية، الروسية، الصينية، الـ. . الـ. . . . . ؟
كل اللواتي كن في البيت سألنه وسألنني. .
ستعرفونها غدا، كان جدي زرياب يجيبهم. . أضاف بعد صمت قصير: نادوها باسم الآتية
مرحبا بك في بيتنا، راح جدي يفتح ذراعيه ويحضنها. .
سعيدة جدا جدا بلقائك، راحت تفتح ذراعيها وتحضنه. .
بجانبه أجلسها على الأريكة وراحا يتحدثان. .
بالعربية تحدثا. . بالفرنسية. . بالإنجليزية. . قالت: هذه لغة الروس. . لغة الصين هذه. . وهذه الألمانية. .
من أين لجدي زرياب بمعرفة كل هذه اللغات؟. . كنا نتساءل مندهشين. .
من أين لك بمعرفة كل هذه اللغات؟ سألتها. .
كل هذه اللغات لغاتنا، كان جدي يجيب. . وكانت تجيب. .
فجأة، صاح جدي ومد ذراعيه إلى أقصاهما وهو يراني مشدودا إليها: هذه من كنت أريدها لك يا حفيدي. . قال ذلك وراح يضمني إلى صدره بكل قواه. .
أطلقني وضمها هي الأخرى إلى صدره: هذا من كنت أريده لك أيتها الآتية. .
اسم جميل هذا الذي اخترته لي يا جدي زرياب. . الآتية. . وضمته إليها أكثر. .
قرأنا الفاتحة. . كان جدي زرياب الإصفهاني وليَ أمرها. . وكان أبي خلدون الرشدي وليَ أمري. .
رفضتْ في البدء. . قالت لي: لسنا قاصرين ليكون لك ولي أمر، ويكون لي. . قالت ذلك بأعلى صوتها. . قالته متحدية. . جدي وافقها. . أبي لم يوافق. . قال: لن نخسر شيئا. . نحن نراعي فقط ما تعارف عليه المجتمع. . ولم يقل بأن ولي الأمر ركن من أركان الزواج في مجتمعنا. . أبي كان مقتنعا دائما بان أساس العلاقة الزوجية هو رضى الطرفين. . كان يقول: نحن في القرن الواحد والعشرين. . ظروف الواقع تغيرت يا أبنائي. . لم تعد امرأة اليوم هي جدتها. . المرأة تحررت اقتصاديا ومعرفيا. . نحن في عصر المساواة. . نحن في عصر المساواة يا أبنائي، يكرر. . و. .
تزوجنا. . كان حفل زواجنا بسيطا. . لكنه كان رائعا. .
جدي قال لنا: الزواج علاقات لا شكليات. . حب لا مظاهر. .
في الليلة الأولى من زواجنا صارحتني: لن ننجب إلا بعد سنوات. . ووافقتها. .
قبل نهاية الأسبوع الأول من زواجنا أخرجت من خزانة الجدار لباسا رياضيا لها وآخر لي. . قالت: لا أقبل العيش في واقع الخمول. . لا أقبل أن أكون مثل نساء الأسرة. . جدك رياضي. . يبدو أصغر من أبيك رغم كبره. . ووافقتها. .
كنا نخرج صباحا. . يوما بعد يوم. . كنت وحدي. . كانت معي ولم تكن. . كنت أراها ولا يراها الآخرون. . كانت مضطرة إلى فعل ذلك. . ما يزال مجتمعنا بعيدا، تقول لي. . وأفهمها. . كنا نتحدث أحيانا ونحن نعدو. .
كان البعض ممن يعْدون يسألونني: مع من تتحدث يا طيب؟. .
وكنت أجيبهم: أتخيل آخر يعدو معي، أنافسه وأتحدث معه. . يجعلني ذلك أعدو أكثر. .
صاروا هم الآخرون يتخيلون ويعْدون. .
في كل عدْو كانت تجاور أحدهم. . تظهر له للحظات وتختفي. . تظهر صينية مرة. . مرة أخرى تظهر أوروبية. . سمراء مرة ومرة بيضاء. .
حين نلتقي مساء يخبرني الواحد منهم بما رأى. . أضحك ويضحك معي. .
ابن عمي الذي رأى حديث جدي معها بمختلف اللغات أصر على ان تشتغل معه في وكالته السياحية. . قال لي: زوجتك صيد ثمين، لن أفرط فيه. . ستجعل الآتية من وكالتي أكبر وكالة سياحية في كل البلاد. . ستكون الآتية المرشدة السياحية في وكالتي. . وكان الأمر كما أراد. .
بعد شهور قليلة من زواجنا قال جدي صباحا ونحن على مائدة الإفطار: نريد منكما طفلا يا الآتية. . قال ذلك ووضع كفيه على كتفينا. . يمناه على كتفي الأيسر ويسراه على كتفها الأيمن. . سنسميه الآتي، أضاف. . ورحنا نضحك جميعا. .
مبتسمة نظرت الآتية إلي ثم إليه:
ننتظر الآتي يا جدي. . ننتظر الآتي. .